قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع

رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع

رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع

لذهول. الرعب، الصاعقة، أم أنه التوقع الكامن لكل مجرياتِ حياتها و التي لم تعد صادمة بعد الآن، لذا لم تصاب بالإغماء، لم تصرخ بهيستيريا، لم تضربه و تضرب نفسها، كل ما استطاعت فعله هو أنها همست تهز رأسها نفيا (لا، لا، لا).

مد يديه في لحظةٍ خاطفةٍ ليحيط بهما وجهها بقوةٍ ليرفعه اليه ضاغطا على وجنتيها بقوةٍ وهو يقول بشراسة (بلى، أنتِ لا زالتِ زوجتي و أنا لم أطلقك، فليفسخو ألف عقد و ليمزقو الف ورقة و لكنك أمام الله زوجتي)
ظلت تحدق في حدقتاه تريد أن تقرأ بهما الكذب، لكن القوة الصريحة في عينيه صدمتها فعادت لتهمس وقد تعالى بكاءها قليلا وهي لازالت تهز رأسها نفيا (لا، لا).

شدد قبضتيه أكثر على وجنتيها وهو يقول بكلِ وضوح وقوةٍ (بلى، بلى)
حاولت دفعه في صدره وهي تصرخ عاليا فجأة باكية بشدة (لا، لا، لا أصدقك، ابتعد عني)
ظلت يدا ممسكة بوجنتها بينما لفت الذراع الاخرى حول خصرها لتمنعها من الحركة وهو يقول بقوةٍ غير عابىء بمقاومتها المستميتة (سأكررها ألف مرةٍ إن أحببتِ).

ترك وجنتها ليمسك شعرها بقوةٍ يجذب رأسها للخلف لتنظر اليه حتى صرخت ألما لكنه لم يهتم لألمها وهو يسألها صارخا بقوةٍ جعلتها ترتجف خوفا و ألما (من هو؟، ومنذ متى تعرفينه؟ لقد أحكمت المراقبة من حولك جيدا، فمن هو؟، من هو الحقير؟، انطقي قبل أن أزهق روحك).

أغمضت عينيها من منظره المرعب وهي تبكي و تشهق عاليا بينما شعرت بنفسها تسقط غير قادرة على الوقوف، لكنه لم يسمح لها بالسقوطِ أرضا وهو يشدد ذراعه حول خصرها ليرفعها واقفة مرة أخرى، ليصرخ دون هوادة (من هو ياااا حنين؟).

ظلت تشهق و تبكي عاليا مغمضة عينيها بقوةٍ لاتريد أن تنظر اليه، علها تفتح عينيها بعد فترةٍ لتجد أن كل ما كان، كان مجرد كابوسا و استيقظت منه. لكنه لم يمنحها الفرصة و هو يعيد صراخه مرة بعد مرة حتى كاد أن يصم أذنيها و يحطم خصرها بذراعه مع كل صرخة، وفي غمرة رعبها صرخت من بين صرخاته المتتالية (لم أعرف أحدا من قبل، أقسم، أقسم).

لم يتابع سؤاله الصارخ لعدة لحظات لكنها لم تجرؤ على فتح عينيها المطبقتين وهي لازالت تشعر بصدره اللاهث يطرق صدرها بعنف مما أخبرها أنها بالفعل قد تسرعت في اثارة ذلك المجنون. ظلت تبكي عاليا و تشهق و قد وصلتها الصدمة متأخرة، بينما هو لم يتكلم و لم يتحرك بل ظل ممسكا بها بقوةٍ وكأنه يخبرها بقوة الذراع أنها زوجته بالفعل. ظلت تهذي وهي مغمضة العينين من بين شهقاتها؛ (لا، لا، أرجوك، هذا ليس، صحيحا).

ترك شعرها ليضمها بذراعيه معا يكاد يرفعها عن الأرض حتى باتت قدماها تقريبا تلمسان الأرض بصعوبة، انخفض رأسها كزهرةٍ ذابلة ٍ وهي تبكي، فاسند ذقنه على قمة راسها وهو لايزال يلهث قليلا ثم قال اخيرا بتعب (بلى صحيح، و إن جعلتني أشك في أي لحظةٍ أن لكِ علاقة بأي رجل، فستكون نهايتكما معا، من حسن حظك أن عيني كانت تتبعك كظلك، لذا أنا أصدقك، لكني لن أمنحك فرصة التفكير في أي مخلوق مرة أخرى).

تجرأت على أن تفتح عينيها الحمراوين المنتفختين و رفت بهما قليلا وهي تنظر اليه بالرعب الذي لا يجد حدود لتزايده لحظة بعد لحظة و صدمتها النظرة العاصفة في عينيه حتى تحول في لحظةٍ من الجاذبية و الوسامة إلى مظهر الإجرام القديم حيث كان تراه كالقرصان منذ سنوات عديدة في طرقاتِ الحي الضيقة. حين كانت تراه يختال فاتحا أزرار قميصه مشمرا أكمامه إلى أعلى ذراعيه، و سلسالا فضيا متعلقا في عنقه. كم كانت حمقاء غبية حين رسمته حلما في خيالها منذ سنوات. ليتحول الحلم الى كابوس بأبشع صوره و ها هي تعود لشباك العنكبوت التي نسجت من حولها من جديد. همست مرتجفة تبكي مذهولة (م، ماذا، تقصد؟).

ظل ينظر الى عينيها بعينيه القاسيتين الضاربتي أعماقها بلا رحمة ثم قال ببطء (لم يعد هناك داعٍ للإنتظار أكثر من ذلك، ستظلين هنا معي و لن ترحلي، الى أن أحضر المأذون و أعقد قراني عليكِ)
فتحت شفتيها المنتفختين الحمراوين بشهقةٍ لم يسمع صوتها و لم تخرج حتى النفس الذي احتبس في حلقها، ثم همست دون صوت (لا)
رد عليها مبتسما بشراسة (بلى).

ثم أكمل أمام عينيها المرعوبتين (لن تخرجي من هذا البيت الا وزواجنا موثق رسميا، بل لا داعي لخروجك أصلا)
ظلت عيناها متسعتانِ على أقصاهما وهي تنظر اليه كأنها لم تفهم كلمة مما نطق به للتو، مرت لحظة، لحظتين، ثلاث، الى أن استوعبت أخيرا شيئا مما قاله، فهمست تبتسم بارتجاف و ترجي يائس (أنت تمزح، اليس كذلك؟، أنت فقط تقول ذلك لتخيفني، اليس كذلك؟).

حين ظل صامتا يتطلع الى عينيها بتملكه الصامت الذي يثير رعبها أكثر من صراخه، وحين طال صمته فقدت القدرة على السيطرة وهي تقبض بكفيها على مقدمتي قميصه وهي تصرخ برعب (أجبني، لا تصمت هكذا، أجبني أرجوك)
أجابها بخفوت وهو يبتسم دون أي أثر للمرح (لقد سمعتِني جيدا، لن تخرجي من هنا الا وانتي زوجتي رسميا).

ضربت وجنتها بيدها بقوةٍ وهي تشهق عاليا، لكنه أمسك بيدها يرفعها عن وجنتها لينحني اليها يقبلها دون أي عاطفةٍ، فقط حركة تملكية أخبرتها بوضوح أنه يتكلم بجدية، ابعدت وجنتها عن مجال شفتيه منتفضة تهتف بصوتٍ مهزوز مرتجف (لن تستطيع، لن تستطيع أن ترغمني على ذلك، ما من مأذون سيسمح بذلك الزواج غصبا).

اتسعت ابتسامته القاسية وهو يقول (لن يكون هناك أي غصب، ستبقين هنا الى أن توافقي بإرادتك الحرة، يوم، اثنين، ثلاثة، اسبوع، لديكِ كل الوقت الذي تحتاجينه)
صرخت برعب هيستيري وهي تحاول يائسة التملص من بين ذراعيه (هذا مستحيل، هذه جريمة، اختطاف، الجميع سيبحثون عني، لن تستطيع).

ضحك عاليا بجنون دون أثرٍ للمرح ثم قال مشددا ذراعيه عليها محبطا مقاومتها الواهية (لا تقلقي حبيبتي، لن أعذبهم في البحث أبدا، بل سنهاتفهم معا لنعلمهم بزواجنا)
صرخت تتلوى بعنف (لااا، أنت مجنون، مجرم، حيوااان، ليس هناك قانون يقر بما تفعله)
جذب شعرها بقسوةٍ جعلتها تصرخ ألما وهو يصرخ عاليا (أقسم بالله إن لم تحترمي نفسك و تصوني لسانك و أنتِ تخاطبيني فسترين وجها لم تريه حتى الآن).

ابتلعت كلماتها برعب وهي ترتجف بين ذراعيه بشكلٍ مخيف حتى أنه بدأ يخشى عليها من الصدمة التي تفوق قدرتها على التحمل إلا أن الغضب المسيطر عليه حاليا كان مسيطرا على أي مشاعر أخرى، ظلت تنشج و تختنق و صدرها يلهث بعنف، وإن تركها في تلك اللحظة فستسقط لا محالة عند قدميه، استمرا على تلك الوقفة عدة دقائق و كلاهما لا يجرؤ على الحركة خوفا من ردة فعل الآخرلم تدري متى تحديدا ارتمت رأسها على صدره أثناء ارتجافها و نشيجها المؤلم، ومتى ضمها هو إلى قلبه بكل قوته و يده تتحرك على ظهرها لتهدىء من روعها، تحول النشيج المرتجف بعدها الى بكاءٍ صافٍ لتنفجر دموعها على قميصه وهو يشدد على ظهرها، الى أن قال أخيرا بصوتٍ أجش جاف؛ (لم أكن أنوي أن تعرفي بتلك الطريقة، لكن أنتِ من تسببتِ في ذلك بتلك الحماقة التي تفوهتِ بها للتو).

عادت لترتعش قليلا فشدد عليها أكثر وأكثر و صمت لحظة، ثم عاد ليقول (حمقاء و لم تدركي خطورة ما رميتهِ في وجهي، وأنا الذي كنت أظن أنني قد فعلت الصواب برحيلي، لأفاجأ أنكِ تريدين بدء حياتك بمنتهى البساطة).

عيناها الساكنتان الجافتانِ رغم تبللهما بدموعٍ أبت أن تنحدر كسابقتها و صدرها الذي سكن بعد السباق اللاهث الذي خاضه للتو، و يديها المفرودتانِ على صدره تستشعر ضرباتِ قلبه العنيفة، حالةٍ من الجمود قد أصابتها فجأة وهي تستمع إلى كلماتٍ لم تفهم أغلبها، و حين طال بهما الصمت همست دون أن ترفع رأسها اليه (عشر سنوات، عشر سنوات، و أنت تحيا حياتك بمرها و حلوها).

انقبض صدره حين سمع تلك الجملة الجامدة الخافتة، أخذ نفسا عميقا ولم يجد ما يرد به و قد ظنها سكتت، الا أنها تابعت بنفس لهجتها الغريبة (عشر سنوات، كان من الممكن أن أكون متزوجة الآن، كان من الممكن أن يكون لدي أطفالٍ الآن)
أعتصرها بين ذراعيه وهو يشعر بغضبٍ مهزوم ليقول بعد لحظة (لم أكن لأسمح لكِ، و لم تكن حياتك تصعب الأمر حقا، فلا منافس طرق بابك من قبل لأتمكن من تمزيقه).

أغمضت عينيها وهي تبكي بصمت لتهمس (أيها الأحمق. الغبي، المجنون، أتعلم أنه كان من الممكن أن أتزوج عاصم يوما؟)
رفع راسه ليهتف وهو يشدد من الإمساكِ بها (ماذا؟)
وكانت نفس اللحظة التي استوعبت للتو ما قد نطقت به لترفع رأسها ناظرة اليه مذهولةٍ مما حملته كلماتها من واقعٍ مفجع لتهتف بصدمةٍ و ذهول (عمي؟، عمي!، هل كان يعرف؟، كيف استطاع، لقد، لقد كان، كيف أراد أن يزوجني من عاصم إن كان).

كانت تهذي بوضوح، وهو كان ينظر اليها صامتا غاضبا بجنونٍ و فكرة زواجها من عاصم لم تطرأعليه يوما، كان دائما ما يشعر بالقلق من مالك، لكن معرفته بأن مالك يعيش في عالمٍ من الهذيان عاما بعد عام طمأنه أن حنين لن تكون له أبدا، أما عاصم!، شعر بحياته تتهدد من حوله، صحيح أنها لم تكن لتصل أبدا لمرحلة الزواج من أي أحد، لكن أن تكون تحت سقفٍ واحد مع من يريدها بينما هو يقبع خلف القضبان لا يملك أن يتصرف أزاء مشاعرها التي قد تنمو تجاههبينما حنين كانت في عالمٍ آخر من الصدمة و الذهول، لا تعلم من تصدق ومن لا تصدق بعد الآن، دفنت وجهها بين كفيها لتصرخ باكية بصوتٍ مختنق و كأنها ابنة الرابعة عشر و ليست شابة في الخامسة و العشرين (ماذا فعلت لكم؟، ماذا فعلت لكم لتفعلو بي ذلك؟، أنا أكرهكم كلكم).

لم ترى عينيه في تلك اللحظة، لم تشعر سوى به يسحبها اليه من جديد لكنها تلوت منه تهتف باكية (؛ ابتعد عني، اتركني)
لكنه لم يرضخ لها و سحبها اليه ليقول بصرامة (انسي الماضي بكل ما فيه، من اليوم ستكون لكِ حياة جديدة، ستسعدين بكلِ يومٍ منها، فقط ثقي بي)
رفعت وجهها من كفيها لتهمس بترجي (القي على يمين الطلاق الآن إن كنت صادقا، أرجوك، أرجوك).

نظر اليها و كأنما ينظر لمجنونة و هو يجيبها بغضب (هل أنتِ غبية؟، صدقا، هل أنتِ غبية بالكامل؟)
صرخت وهي تضربه في صدره بقوةٍ (؛ بل أنت الغبي، غبي و مجنون، وحيوان أيضا).

أغمض عينيه يحرك رأسه بتهديد حتى أنها سمعت هسيس أنفاسه فانتهزت الفرصة لتفلت من بين ذراعيه لتتجه إلى الباب جريا وهي تشعر بأن الشيطان يلاحقها، لكنها لم تكد تصل الى مقبض الباب حتى كان قد وصل اليها ليحملها على كتفه في حركةٍ واحدة ليرجع بها وهي تتلوى بساقيها صارخة، ليلقي بها على الأريكة الضخمة الوثيرة وما أن حاولت النهوض حتى صرخ بها بصوته الجهوري وهو ينحنى اليها (ابقي مكااانك).

فتحت فمها وهي تبكي بعنف الا أنه صرخ مجددا قبل أن يخرج صوتها (اخرسي).

انكمشت مكانها بين وسادات الأريكة وهي ترفع ذراعها تحمي وجهها من أي ضربة محتملة من هذا المجنون المرعب التي ساقتها حياتها اليه بشتى الطرق. ابتعد عنها شاتما بغضب ليرتمي على الكرسي المقابل وهو يخرج علبة سجائره و يشعل منها واحدة نافثا دخانها بغضب، بينما ظلت حنين ممددة على الأريكة تبكي بشدةكم مر من الوقت بعدها، قد تكون ساعة أو نصف ساعة، و يبدو عليه النية في احتجازها بالفعل، تحاملت حنين بعد أن هدأت قليلا و استوعبت فظاعة المصيبة التي وقعت فيها دون سابق انذار ككل مصائب حياتهانهضت تتعثر قليلا بضعف، فرفع عينين شرستين مهددتين اليها، فتوقفت مكانها ترتجف وهي ترمقه بخوفٍ من أي هجومٍ محتملٍ منه وحين لم تبدر منه أي حركةٍ، بدأت تتحرك تجاهه بحذر وهو يتبعها بعينيه الى أن وقفت أمامه مباشرة، رفع رأسه اليها ينظر اليها دون تعبير، فهبطت ببطءٍ شديد حتى ركعت على ركبتيها أمامه واضعة يدها على مسند مقعدهظلا ينظرانِ الى بعضهما طويلا، الى أن همست حنين أخيرا بصوتٍ يمس القلب (جاسر، أرجوك دعني أذهب، أرجوك، و إن كنت صادقا فالقِ عليا يمين الطلاق لننهي كل تلك المسألة، أعرف أنك لا تنوي أن تؤذيني، اليس كذلك؟).

مد يده يتحسس فكها الناعم، فأغمضت عينيها متحملة غصبا ذلك الإنتهاك كغيره من انتهاكاته لها منذ أن عرفته، شعرت بأنفاسه تلامس وجهها بنعومةٍ بعد أن مال عليها ليقترب من وجهها دون أن تجرؤ على فتح عينيها، ثم سمعته يقول بعد فترة (اسمعيني جيدا، نحن الأثنان مصيرنا معا، فلا تعاندي).

ضغطت على جفنيها تمنع المزيد من الدموع من الإنهمار، لكنها لم تستطع منع اهتزاز كتفيها، همست وهي تشعر بأصابعه تغلغل في خصلات شعرها (ذلك مستحيل، ما تريده مستحيل، سفرك قبل الزفاف جعل الأمر مستحيلا).

صمتت قليلا تحاول امتصاص ألمها المبرح لتكمل بصوتٍ مبحوح (ماذا أخبر أهلي بعد ما تعرضو له من ذلٍ أمام الناس؟، أن ذلك الشاب الذي ارغمتموه على الزواج مني منذ عشر سنوات و الذي ابتعد قبل الزفاف بأيام دون حتى رسالة اعتذار، يريد أن يسترجعني الآن، لا بل الأروع أنه يدعي أنني لا زلت زوجته).

فتحت عينيها لتواجه عينيه القاسيتين بعينين دامعتين لكن ظهر فيهما الألم القاسي مع بريق الدموع لتتابع بنبرةٍ أشد (هل تدرك مقدار الخزي الذي نلته منك؟، مرة بعد مرة، والآن بمنتهى البساطة تريد أن تسترد حقك الذي تخليت عنه من قبل؟، تريد أن تلحق بي المزيد من الذل؟، ماذا فعلت لأستحق كل ذلك؟، أخبرني بصراحة ماذا فعلت لأستحق ذلك؟).

كان سؤالها الأخير قد خرج شديد اللهجة و الألم، تضغط على كلِ حرفٍ منه بعينين تلمعانِ قسوةٍ بقدر القسوة التي غلفت قلبها في تلك اللحظة، ينظر اليها بلا تعبير تقريبا، وكأنها كانت تكلم صنما لا يشعر، فقط حنجرته التي تحركت قليلا في ظاهرة آدمية جعلتها تتأمل أن تكون قد لمست بقايا الإنسان بداخلهظلت تنتظر و تنتظر، وجهاهما متقاربان وهو منحني اليها ممسكا بذقنها، وعيناهما لا تحيدان، قلبها يضرب صدرها بعنف وكأنها تنتظر لحظة نطقه بالحكم، إما ببرائتها أو باعدامهاقال اخيرا بجمود أوهن أطرافها (يبدو أن نواياي السليمة تجاههك تنتصر دائما).

التقى حاجباها بحيرةٍ وهي تنظر اليه دون فهم ليتابع بعد لحظات (سأمنحك المزيد من الوقت يا حنين، يبدو أن الوقت هو كل ما أملكه لأمنحه لكِ).

اتسعت عينيها وهي لم تفهم بعد فتابع يقول كمن اتخذ قرارا لا رجعة فيه (سنؤجل العقد الرسمي قليلا يا حنين، الى أن تأتين إلى برغبتك، لكن عودي نفسك منذ الآن أنكِ ستظلين تحت أنظاري علنيا منذ هذه اللحظة، لن أسمح لأحدٍ أن يقترب منكِ، و لن أسمح لأحدٍ أن يشغل أي حيز من تفكيرك غيري، هل يرضيكِ ذلك صغيرتي؟).

ازداد انعقاد حاجبيها و معهما انعقاد حنجرتها الا من شهقة مضنية وهي تدمع غضبا، ألما، و رعبا من جديد وهي تهتف همسا باستجداء (الم تسمع كلمة مما قلته لك؟، الم تهتز بك شعرة من انسانية؟، القي اليمين أرجوك و دعني أرحل، أرجووك)
قال قبل أن تنتهى كلماتها (لن يحدث، أترغبين في إثارة غضبي مرة أخرى لأقسم الا تمر الليلة الا وأنتِ زوجتي من كل النواحي الرسمية و الفعلية؟).

ابتلعت باقي كلماتها وهي ترتجف بعنف و كلماته ضربت أعماقها بعنفٍ خاصة مع نظرات الجوع المستعرة في عينيه، ابتلعت ريقها وهي كل ما تريده في تلك اللحظة أن تخرج من هذا المكان لتهرب من تلك المصيبة الجديدة، تريد أن تكون في اللحظة التالية مدفونة تحت غطاء سريرها. في غرفتها الآمنة، لعلها لا تستيقظ أبدا، أومأت ببطءٍ خاضعٍ بذلٍ و مهانة، ثم أحنت رأسها لتقع خصلات شعرها و تغطي وجهها تماما وهي تهمس باختناق (دعني أذهب الآن، أرجوك).

اقترب عليها أكثر وهو يزيح جانبي شعرها عن وجهها بكلتا يديه ليهمس لها ملامسا وجهها بأنفاسه الدافئة (امنحيني سببا معقولا يجعلني أتركك الآن دون أن أشبع ذالك الجوع الذي عدتي لتهديني أياه بعد تلك السنين الطويلة).

ابتلعت ريقها وهي تشعر بنفسها في حقل ألغام لم تعرفه قبلا، بلى عرفته مرة، واثنتين، على يد رجل واحد داعب أنوثتها رغما عنها و دون إرادتها، تلك المراهقة المتأخرة التي تعيشها تجعلها حساسة لكلِ كلمةٍ مغوية منه، تمنت أن تسمع كلاما مماثلا ككلامه لكن ليس منه هو، و أثناء تلك الأفكار المجنونة المنبعثة بداخلها شعرت به يجذبها اليه وقبل أن تتمكن من مقاومته كان هو هجم عليها لينهل من شفتيها بشوقٍ أرعبها، حاولت دفعه بذراعيها الا أنه أمسك بذراعيها بقوةٍ ليرفعهما و يلفهما حول عنقه بالأمر و القوة، ممسكا بهما خلف عنقه وهو يضيعها في أشواقه المجنونة الى أن استسلمت في لحظةٍ خائنة منها، وما أن شعر باستسلامها حتى ترك ذراعيها ليضمها الى قلبه بكل قوته، وقد تاه بهما العالم من حولهما لثوانٍ أو ربما دقائق، جذبها وهو يضمها شغفا اليه من على الأرض ليجلسها على ركبتيه وهو يقبل عنقها الناعم من تحت ستار شعرها الطويل فمالت برأسها قليلا و هي غائبة تماما، همس يزمجر في أذنها بعد فترةٍ (تعالي معي الى الطابق العلوي).

رمشت بعينيها عدة مرات وهي ترفعهما إلى عينيه و كأنها أفاقت للتو من سباتٍ عميق وكأنها عدت مراهقة في الرابعة عشر و كأن الزمن عاد بها عند نفس اللحظة من جديد، وهي تتعرض للإغواء على يد نفس الشخصٍ الذي يدرك تلك الحياة بكل ما تحمله بكل واقعها، بينما هي، انتفضت واقفة في اللحظة التالية قبل أن يستطيع الأمساك بها، ناظرة اليه برعبٍ من نفسها قبل أن يكون رعبا منه. لتقول متلعثمة بعد فترةٍ طويلة متوترة من الصمت (أرجوك أعدني الى البيت، لقد وعدتني).

كان جالسا مكانه دون أن يتحرك كالأسد الساكن بشموخ، الا أن ارتفاع و هبوط صدره بسرعةٍ اخبرها عن عمق المشاعر التي لازالت تلهو به بقوة، قال بصوتٍ عميق يتناقض مع العنف البراق في عينيه (وهل تثقين بوعدي؟).

لم يكن لديها سوى أن تومىء برأسها ببطء دون رد، لكنه ما ان نهض من جلسته حتى انتفضت الى الخلف خطوتين، فابتسم ساخرا من تلك الثقة الواهية الكاذبة، تابع اقترابه منها الى أن وقف بمحاذاتها ليمسك فجأة بذقنها يرفع وجهها اليه ليقول ناظرا لعينيها (تعلمي أن تثقي بنفسك أولا، فكل مرة اقتربت منكِ منذ عشر سنوات والي هذه اللحظة، لم تقاوميني جديا).

ترك ذقنها ليضرب جانب رأسها بسبابته وهو يقول ساخرا (فكري في ذلك جيدا و الى أن تجدي الحل، سأفي بوعدي لكِ).

تركها ليخرج متجها إلى سيارته متوقعا منها أن تتبعه، بينما تسمرت هي مكانها ترتجف من كلماته التي تردد صداها بداخلها لتقلب أعماقها رأسا على عقب، وكأن صدمة كونها لازالت متزوجة لا تكفيها، ليكافئها بتلك الصدمة الجديدة التي شلت أطرافها، بينما هو، توقف مكانه للحظةٍ خاطفةٍ لم تلحظها، معطيا ظهره اليها و عيناه تبرقانِ شررا، هناك شخصا ما في قلبها، إن كان جسدها قد استسلم له الا أن عيناها اللتان لا تعرفان الكذب اخبرتاه ان هناك شخصا قد احتل قلبها، تابع تحركه تاركا إياها خلفه و بداخله نارا تهدد بحرق من سيعترض طريقه الأيام الماضية، لكن فليعرف من هو قبلا، أمسك بالبوابة الحديدية المزخرفة ليدفعها و يدخل، إنها آمنة، هكذا كان يقنع نفسه دون جدوى، لا، لا، إنها ليست آمنة على الإطلاقمنذ أن ألقت قنبلتها المدوية في وجهه وهو يشعر أنها قد وضعت نفسها على حافة فوهة البركان استعدادا لأن تلقي بنفسها بين الحمم في أي لحظة. لم يهزه رفضها للزواج منه على قدر ما هزته حماقتها فيما تنتويه، أخذ نفسا عميقا وهو يدفع باب البيت الذي كان مفتوحا جزئيا وهو يردد في نفسه (زواج، سأتزوجك يا صبا، لكن قبلا سأعمل على محو كل تلك الحماقات المتغلغلة في رأسك).

دخل إلى البهو الواسع ليجد عامل يهبط السلالم مصفرا بمزاجٍ مرتاح وبنطالٍ جينز مغطى ببقع دهانات ملونة، وآخر يصعد السلم حاملا دلو معدني في يد و في الأخرى كوب زجاجي به الشاي الداكن، دون أن يبالي كلاهما بوجوده، أخذ نفسا آخر أكثر غضبا ليصعد السلالم كل درجتين معا، أمسكت بأحد كتب والدها أو الأصح ما تبقى منه، وتتدلى من يدها سبحته العاجية التي جلبها معه بعد عودته من الحج، مرت أصابعها الرقيقة الطويلة و الملتفة حولها السبحة على الغلاف الجلدي المحروق تتلمسه بحبٍ حزين وقد تشوشت عيناها بالدموع، ابتسمت من بين دموعها لبعض ذكريات والدها التي نجحت في النجاة بها من قذارتهم، اتجهت الى التحفة الخشبية المنحونة و التي تستخدم في تعليق السترات عليها، ضحكت برقةٍ مشبعة بالألم وهي تتذكر أنها كانت تحملها صارخة وهي تنتوي النجاة بها هي الأخرى بالرغم من أنها تفوقها طولا، لولا ذلك الغوريلا الضخم الجثة الذي هجم عليها يحملها حملا بأحدى ذراعيه و علاقة الملابس بالذراع الأخرى لينزل بهما وهي تتلوى صارخة فيه أن يتركها لتنقذ ما تبقى من أغراض والدها الغالية على قلبها، أغمضت عينيها وهي تقسم بأنها ستريهم أياما تجعلهم يتمنون يوما لم يعرفوها فيه، وقف في أطار باب الغرفة المحترق والملطخ بالسواد، منذ دقائق وهو واقفا يراقبها تتلمس بعض الأغراض المحترقة بعينين دامعتين، شعر بقبضةٍ ثلجية باتت مألوفة لديه مؤخرا، لم يكن يظن أن مجرد مشهدا كهذا سيؤثر عليه بهذا الشكل، و يشعره بالغضب الخانق في نفس الوقت أيضا، لماذا يجب أن تكون غبية الى هذه الدرجة؟، وعنيدة الى هذا الحد، لم يكن يوما يطيق النساء العنيدات لمجرد الغباء، فأي سيطرةٍ قد احكمتها عليه لتجعله كارها لعندها الأحمق، و في نفس الوقت أسيرا لشراسة نظراتها، كم تبدو لذيذة طريفة في تلك اللحظة، ببنطالها الجينز الملطخ ببعض بقع الدهان، و سترة فضفاضة رجالية رياضية تكاد تصل الى ركبتيها، بينما تغطي شعرها اللذي لمح بعض خصلاته قبلا بوشاح عقدته خلف عنقها، لتكشف عن عنقها الطويلة البيضاء في وقاحة، و خصلة أكثر وقاحة تفلت بانسيابية من طرفِ وشاحها، تحرك ببطءٍ يقترب منها حتى وقف خلفها تماما، يعلوها بطوله الفارع، يريد لتلك اللحظة أن تستمر طويلا و هي أمامه مطرقة برأسها في نعومةٍ، يخدع نفسه بأنها مدركة لوجوده و لا تمانع، بل تقف ساكنة تستمع لضخات قلبه القوية، لكن اللحظة انقضت بسرعة البرق حين استدارت فجأة لتصطدم بصدره الضخم، فتراجعت الى الخلف صارخة بخوف الى أن أبصرته و أدركت هويته، فاشتعلت غضبا وهي تضع يدها اللاهث خوفا ثم صرخت (ماذا تفعل هنااا؟، وكيف تجرأت على الدخول و التجول وكأنه بيتك؟).

لم تهتز فيه شعرة وهو يحدق في غضبها الصارخ بلا مبالاة، وما أن انتهت حتى قال ببرود (وهل هذا أصبح بيتا؟، والعمال يخرجون و يدخلون بمنتهى الحرية)
صرخت به و قد استبد بها الجنون من شدة وقاحته (اخرج من هنا حالا والا طلبت لك الشرطة لترميك خارجا).

ابتسم شبه ابتسامة لا مرح فيها وهو يقترب منها خطوة لبتعد هي الأخرى خطوة ظهرها الى الحائط وهي ترفض أن يرهبها بمظهره القوى و وجوده الوقح بداخل منزلها، قال ببرودٍ قاس (بالتأكيد، خاصة بعد أن وصلني استدعاء إلى قسم الشرطة، لأمضي على تعهد بعدم التعرض)
رفعت حاجبا متحديا وهي تنظر إلى عينيه لتقول بثقة (هذا أقل ما تستحقه، والآن أخرج من هنا).

اقترب خطوة أخرى، حتى أصبح على بعد خطوة واحدة منها، ثم قال بغضبٍ بدأ يظهر في صوته قليلا (اللطيف أنني الوحيد الذي تلقى أمر بعدم التعرض، بتوجيه منكِ للشرطة)
رفعت ذقنها بشجاعةٍ وهي تقول (أنت من تسببت في ذلك لنفسك، أنت من تملك الأراضي المحيطة و أنت صاحب التعامل المباشر معي، لذا لم يكن لدي سواك، أنت من رضيت ذلك لنفسك حين رضيت أن تكون مجرد تابعا لأشخاصٍ تعلم جيدا مدى قذارتهم).

ضاقت عيناه و هما تبعثانِ شررا غاضبا حتى شعرت أنه على وشك أن يتهور و يضربها، الا انه كان هادئا مسيطرا على أعصابه على غير العادة لكنه ظل ينظر الى عينيها العسلتين الخضراوين طويلا، حتى اضطرت أن ترمش بهما غير قادرة على جرأة النظر إلى عينيه طويلا، فقال بصوتٍ خافت جاف (على كلٍ، هذا ما أفضله، أنا راضٍ تماما أن تكون حربك كلها معي يا صبا، سأسمح لكِ باستخدام كل أسلحتك، فقط على أن تكون حربك كلها معي دون غيري).

قالت بصوتٍ ثلجي جمده نقمتها عليه؛ (ومن أخبرك أنني قد أهتم لما يرضيك؟، سأفعل ما يمليه على ضميري فلا تتعب نفسك، اليس لديك ما يلهيك عني؟، رنين هاتفك لم يتوقف للحظة حتى كدت ان اصاب بالانهيار من شدة الحاحك، و بدأت أشعر بأنك مرعوبا مما قد احمله ضدكم).

قست عيناه أكثر، وصمت طويلا يتطلع اليها بقسوة فأبعدت نظرها عنه متذمرة بصمت، تبا له، ويجرؤ أن يوجه لها نظراتٍ لائمة معاتبة، لكنها عادت لتنظر اليه بعداء حين تكلم أخيرا بهدوء خطير (أخبرتك أن تحاربيني بكل أسلحتك، لكن ابتعدي عن الآخرين)
هتفت بغضب و عينينِ تقدحانِ شررا (هل تدرك مبلغ سوء صورتك في نظري الآن و أنت تترجاني أن أن أبتعد عنهم، لن أبتعد يا سيد عاصم، و سأسقطكم واحدا واحد).

هتف بها و قد ظهر انفعاله الذي كبته طويلا (أيتها الغبية، هل أنتِ من الحماقة بحيث تتصورين أن لكِ القدرة على مواجهتهم؟، سيسحقوكِ كبعوضةٍ قبل حتى أن يلاحظ أحد)
كتفت ذراعيها أمام صدرها وهي ترمقه بتحدٍ غير آبهة بانفعاله وقالت (اذن فيما انفعالك؟، حينها ستنتهي كل مشاكلكم)
اتسعت عيناه للحظة وهو يقول بذهول (تنتهي كل!).

أغمض عينيه ليأخذ نفسا عميقا ثم فتحهما وهو يصرخ ليتردد صدى صوته بين جدران الغرفة الفارغة الا من بعض الأشياء الصغيرة الناجية (ألم يصلك أيا مما قلته يوما؟، أريدك حية كقطعة واحدة على قدمين لأتزوجك).

جاء دورها لتتسع عيناها ذاهلة بغضب من تلك الحماقة المزيفة التي ينطق بها و التي أصبحت كهاجسٍ له في الأيام الماضية، فقالت تشدد على كلِ حرفٍ (هل تتخيل للحظة أنني أصدق عرضك المبتذل ذلك؟، يحتاج الأمر أن تنمو لي قرون أولا قبل أن أصدق نيتك الشريفة)
عاد ليميل عليها وعيناه تقدحانِ شررا وهو يقول غاضبا (هل أصل الى هذا السن و أمزح أو أزيف في عرضٍ كهذا؟، أخرجي معي الآن و سأعقد قراني عليكِ حالا).

ظلت صامتة تنظر إلى عينيه بسخريةٍ وهي تستمع الى كلامه وما أن انتهى حتى قالت باستهزاء (طبعا من المفترض الآن أن أصاب بالإغماء من عرضِ السيد الذي لا يمكن الا لمجنونةٍ أن ترفضه، لكن مع الأسف فقد أوقعك حظك مع مجنونة و أنا أرفض عرضك بل أعتبر مجرد سماعه إهانة لي، أنا وأنت لن يجمعنا رابطا أبدا، أمثالك وجِدوا ليحاربهم أمثالي).

رفع يده يوشك أن يتجرأ ليمسك بذراعها من جديد، الا أنه عاد لينزلها وهو ينظر اليها دون أن يجد ما يرد به عليها، ظل الصمت هو رفيقهما الثالث وهي تشعر بغضبٍ من ذلك الشعور الخائن بالذنب من قسوتها المبالغ فيها تجاه شخص غريب، كل المفترض أن تقوم به هو أن تخرجه من هنا دون الحاجة الى كل هذا القدر من الكلام المهين، فهذا ليس بطبعها. أخفضت رأسها وهي لازلات مكتفة ذراعيها لتقول بخفوت هادىء حازم (من فضلك أخرج من هنا).

مرت عدة لحظات دون ان تنظر اليه ودون أن يتكلم الى أن سمعته يقول أخيرا بصوتٍ حزين يماثل صوتها خفوتا (حسنا، أعتذر إن كنت قد ضايقتك، سأنصرف، لكن قبلا أريد أن اسألك، هل ترين أنه من المناسب أن تتواجدي في البيت مع العمال وحدك؟).

لم ترفع رأسها و أستمرت مطرقة بإباء رغم حيرتها الداخلية التي رفضت أن تظهر شيئا منها على ملامحها، تنهدت يأسا بدون أن تفهم ذلك الشخص الغريب لكنها آثرت أن تريحه ليذهب (لست وحدي، فتحية بالأسفل تعد لهم الشاي)
قال بغضب (وهل تشكل فتحية حماية كافية؟).

رفعت عينيها اليه لتقول بملل رغما عنها اختلط بنبرةٍ حزينة مريرة (حماية من ماذا؟، من بعض العاملين ممن يجرون على أكل عيشهم؟، كم أنت غريب وأنت تبدي خوفك منهم بينما منذ عدة أيام أقدم شركاؤك على حرق منزلي وكنت من الممكن أن أكون محروقة مع أغراض والدي).

رفع يده بسرعة ٍوكأنه يريد أن يضعها على شفتيها لتصمت عما كادت أن تتفوه به، حيث ذكرته باللحظات السوداء التي ظنها من الممكن أن تحترق فيها أو أن يصيبها مكروه، توقفت يده على بعد شعراتٍ من شفتيها دون أن تلمسهما، لكنها ظلت هناك لتمنعها من ان تكمل كلماتها القاتلة له، أخفضت صبا عينيها الى أصابعه القريبة منها و توقفت عن الكلام بالفعل، لترفع نظرها اليه لتلتقي عينيهما، عيناه القاسيتان نبع منهما دفء يظلله خوفا لم تشأ أن تحلله، بينما عيناها العسليتان الخضراوان يظللهما البرود و الرفض نجحت تماما في تطويعهما حتى لا تخذلها طيبتها أمامه. قال بصوته الخافت (كيف هي حروق يدك الآن؟).

أرادت الا تجيبه بعند، الا أنها قالت أخيرا بإيجاز (بخير).

أخفض يده وهو يتطلع اليها بحنان ليقول بعد فترة (صبا، أنتِ تدركين جيدا أن لا دخل لي بما حدث، والا لما كنتِ واقفة أمامي الآن تتكلمن معي كل هذا الوقت دون أن تبلغي الشرطة بعد محضرك اللطيف، أو أن تبلغيني بما تنتوين فعله بكل حماقة تجاههم و تلك الأوراق التي حصلتِ عليها، بداخلك تدركين أنني لست منهم بالرغم من لسانك الذي يشبه مبرد الخشب و الذي يتفوه بكل ما هو وقح).

فتحت فمها تريد ان تلقي بما يعتمل في نفسها من غضب، لكنه سبقها ليقول مبتسما برقة (لكنني أسامحك، صغيرة متهورة تدفعك روح الشباب لذا مضطرا لأن أسامحك)
اتسعت عينيها ذهولامما تسمعه، وقبل أن تتسنى أن تجيبه سارع هو ليتابع بهدوء مع ابتسامته التي بهتت قليلا (لكن لن أسمح لكِ بأكثر من ذلك، لن أدعك تعبثين معهم يا صبا، لا خيار لكِ، و أنا من سأتصدى لكِ شخصيا الى أن تبيعي البيت و ننتهي من كل علاقتنا بهم).

ازداد اتساع عينيها حتى بدت مذهولة وهي تراه يبتعد الى الباب الغرفة لكنه قبل أن يخرج استدار اليهاليقول بصلفٍ وهو يضع نظارته السوداء فوق عينيه لتحجبهما عنها (و أثناء ذلك، أثناء ذلك سنتزوج و تكوني تحت أنظاري في كل لحظة).

ثم خرج بعنفوان قبل أن تتسنى لها فرصة الرد تاركا إياها واقفة مكانها بنفس نظرات الذهول والتي بدأت تتلاشى تدريجيا لتحل محلها نظرات الغضب المجنون و هي تهمس (كيف لم أرد عليه؟، كيف انعقد لساني؟، سأظل في تكلك الحالة الى أن أراه المرة القادمة، وأنا لن أتحمل هذا أبدا).

خرجت جريا من غرفة والدها الى أن وصلت الى سور السلم تتشبث به بقبضتيها صارخة بغضبوهي تراه قد وصل الى آخر السلم متجها الى باب البيت (أنت مجنون، مجنون يا عاصم رشوان و أنا لا أريدك في بيتي مرة أخرى).

توقف مكانه ليستدير اليها رافعا رأسه اليها مبتسما وهي لا تستطيع رؤية عينيه، وفي تلك الأثناء خرجت فتحية من المطبخ مسرعة على صوت صراخ صبا من فوق، لتفاجأ بوجود عاصم واقفا عند الباب شامخا مبتسما، فاقتربت منه بسرعة وهي تنقل عينيها منه الى صبا الواقفة أعلى السلم تبدو عليها إمارات الجنون، فقررت أن تحاول التدخل قبل أن تطلق صبا لسانها الذي ينطلق دون رادع في حالات غضبها، ابتسمت متلعثمة وهي تقول (مرحبا يا سيد عاصم، لما لا تبقى قليلا لتشرب شيئا).

و قبل أن يجيبها صرخت صبا مرة أخرى بغضبٍ أشد (فتحية، اصعدي الى هنا حالا)
لم تفارق الابتسامة اللا مبالية وجه عاصم الجامد التعابير و هو يتطلع الى صبا التي بدت على وشكِ الجنون ومنها إلى فتحية الواقفة بارتباك تحدج صبا شزرا و كأنها تنبهها لأصول الأدبقال عاصم بهدوء (وقتا آخر يا فتحية، فربما تكون شربات صبا حينها).

وكما توقع وهو مديرا ظهره للسلم، سمع من خلفه صوت خطواتٍ تنزل السلالم جريا ونيران غضبها تكاد تلفح ظهره، الى أن وصلت خلفه تماما وهي تقول بشراسة (لقد تجاوزت حدودك، لآخر مرة يا سيد عاصم أطلب منك الخروج من هذا المنزل، والإبتعاد عني نهائيا و الإ فسيكون لي تصرفا آخر).

استدار اليها ليرمقها بإستهزاء ثم احنى رأسه قليلا ليصل الى طولها الذي يقل عن طوله بما لايقل عن خمس وعشرين سنتيمتر ليقول ببرود (حين نتزوج، سأقص لكِ لسانك هذا، و على فكرة هناك بقعة دهان على أنفك ستضطرين لإزالتها بالبنزين).

ثم اعتدل ليغادر وهو يبتسم الى فتحية دون أن يهتم بصبا إطلاقا و التي أغلقت الباب بعد خروجه بعنف اهتز له زجاجه حتى كاد أن يتحطم، ثم التفتت الى فتحية تكاد أن تهجم عليها من شدة غضبها وهي تقول ضاغطة على أسنانها (كيف تتساهلين معه في الكلام بهذا الشكل؟).

ازداد ارتباك فتحية وهي تفرك يديها في قماش جلبابها لكنها بعد لحظةٍ رفعت نظرها رافضة هذا الارهاب لتقول بغضبٍ و شجاعةٍ مهتزة (ما الأمر الذي يستحق كل هذا الغضب؟، لمجرد أنني عرضت عليه أن يشرب شيئا؟).

توقفت قليلا و خافت من نظرات صبا التي تحولت إلى نظراتِ ساحرةٍ شريرة الا أنها تابعت بحزم زامة شفتيها؛ (لن ترهبيني يا صبا، الرجل لم يفعل شيئا خاطئا، و نحن الآن في حاجةٍ لحماية رجلٍ و نحن بمفردنا وقد اشتريتِ عداوة الكثيرين).

لكن ما ان اشتعل الشر في نظرات صبا أكثر و أكثر حتى فقدت فتحية شجاعتها و استدارت مهرولة تكاد تجري عائدة إلى المطبخ بينما صبا تصرخ من خلفها (تعالي إلى هنا يا فتحية، لم يكن ينقصني سوى أن أتحامى في ذلك المدعو عاصم رشوان، بنت محمود عمران تحتاج إلى حماية شخص مثله، بنت محمود عمراان تحتاج الى حماية من يريد الإستيلاء على بيت عمران بشتى الوسائل، فتحية، تعالي هناااااا وواجهيني).

كانت فتحية في هذ الوقت واقفة في المطبخ و اثنان من العمال وافقين معها يستمعان الى صراخ صاحبة المنزل، الى ان قالت فتحية بصوتٍ خافت تخاطبهما و هي تهز رأسها بغضب (هكذا هي منذ صغرها، هادئة ومتزنة في معظم أوقاتها، لكن ما أن يواجهها أحدٌ بالحقيقة التي ترفضها تتحول الى غبية).

هز أحد العمال رأسه أسفا بينما أموأ الآخر موافقا على كلامها وهي تتابع مغتاظة (ماذا حدث إن عرضت على الرجل أن يبقى قليلا؟، وهل هذا رجلا ترفضه انسانة عندها ذرة عقل؟)
صمتت فتحية حين اندلع صوت صبا من خلفها كقذائف مدفعية (فتحية، ماذا تفعلين هنا؟ و فيما تثرثرين معهما؟)
تلعثمت فتحية وهي تقول بخفوت (لست أثرثر، ها قد كتمت أنفاسي حتى، هل ارتحتِ الآن؟).

زفرت صبا بغضب وهي تستدير لتغادر بعد أن رمقتهم بنظرةٍ ناريةالتفتت فتحية إلى العاملين وهي تشير الباب قائلة بغضب (هل رأيتما؟، هل صدقتما كلامي؟، ستظل هكذا حتى لن نجد من سيرضى بها يوما)
همهم العاملان مدعمانِ لفتحية، بينما هي تتابع بيأس (هل هذا رجلا يُرفض؟، هل هذا رجلا يُرفض يا ناس؟).

التفتت الى عملها وهي تتنهد بحزن و قلبها يحدثها أنه هو من تمنته دائما لصبا، رغم كلِ اختلافهما الا أنها تكاد أن ترى نصيبهما معا، تنهدت مرة أخرى بضيقٍ شديد لا تعرف سببه و جفنها الأيسر يرف في إشارةٍ لا تحبها الأمهات عادة.

ظلت حور واقفة مكانها بملامحٍ باردةٍ غير مرحبة، جمدتها القسوة طوال الايام السابقة، هل بلغت بها الجرأة أن تأتي الى بيتها و تمسك معتز بيدها وكأنها ابنها يقوم معها بزيارةٍ اجتماعية، لم تستطع حتى الإبتسام، أو التزحزح من مكانها للسماح لها بالدخول، لكن الإحراج لم يعرف طريقه الى ملامح علية الجذابة و هي مبتسمة ابتسامتها التي اقرت حور رغما عنها أن لها سحرها الخاص، قالت علية بصوتٍ جميل (ألن تدعيني للدخول يا حور؟، أم أكون قد جئت في وقتٍ غير ملائم؟).

كانت حور على وشك أن تضرب بكل الأصول بل و بتهديد نادر عرض الحائط و تجيبها بنعم بل و تخبرها أيضا أنها جائت دون سابق انذار، لكنها في اللحظة الأخيرة آثرت النجاة من غضب نادر إن شكت له علية من سوء تصرفها و هي في غنى عن غضبه في تلك الأيام المعقدة بينهما، لذا ابتعدت ببطءٍ وعلى مضض من الباب لتسمح لها بالدخول دون حتى ابتسامةٍ أو كلمةفدخلت علية بعبائاتها السوداء الهفهافة و التي زادتها جمالا و زاد حور غضبا، جلست علية على الأريكة البسيطة وهي تأخذ معتز تلقائيا على حجرها، وهو على ما يبدو أنه معتادا على هذا، فلم تستطع حور السيطرة على غيرتها أكثر وهي تقترب منهما لتنحني قليلا فاتحة ذراعيها مبتسمة بإهتزاز قائلة بقلق (معتز حبيب ماما، تعال حبيبي، اشتقت اليك).

لكن معتز لم يبد عليه أنه فهم كلمة مما قالته على الرغم من أنها فتحت ذراعيها فظل مكانه ينظر اليها بوجوم وكأنه لا يعرف ما هي الخطوة التالية، والأدهى أنه مال بظهره الى الخلف ليستند الى صدر علية في إشارة لعدم نيته من التحرك تجاه حورأنزلت حور ذراعيها ببطء وهي تشعر و كأنها قد تلقت لكمة في صدرها، خاصة أمام علية، أسبلت علية جفنيها قليلا وهي تداعب شعر معتز الناعم هامسة في اذنه؛ (هيا حبيبي اذهب الى ماما).

و أثناء همسها في أذنه كانت تدفعه برقةٍ عن رجليها، حينها التفت اليها لينظر الى ما تقوله، فقالته مرة أخرى لكن بيديها هذه المرةلكنها ما أن انتهت حتى دفن وجهه في صدرها و كأنه ينهي الحوار، و علية المبتسمة بحنان تحثه هامسة مع دفعة يديها (؛ هياااا).

لكن لا فائدة، فقبلته على جبهته دون أن تحاول الضغط عليه بينما كانت حور تتعرض إلى ضغطٍ أقوى من أن تستطيع تحمله لذا اقتربت باندفاع وهي تسحب معتز من ذراعه بالقوة بينما تفاجىء بتصرفها كلا من علية و معتز الذي اتسعت عيناه و أخذ يقاومها تلقائيالكنها جذبته رغما عنه وهي تقول ببرودٍ قاسٍ وملامحٍ شريرة لعلية التي اختفت ابتسامتها محاولة التمسك بمعتز المتشبث بها (بعد اذنك، لابد أن يأخذ حمامه الآن، فرائحته سمك وهي لا تُحتمل).

همست علية (حسنا، انتظري عليه للحظات، إنكِ تخيفينه)
جذبته حور بشدةٍ الى أن حملته بالقوة بين ذراعيها وهو يلوح بساقيه و قد بدأ في البكاء، لكن حور لم تكن ترى دموعه لم ترى سوى ملامح علية الغاضبة وهذا كان كفيلا بتهييج غضبها أكثر، من تلك لتجرؤ على أن ترمقها بمثل تلك النظرات، الا تعلم الى من تنظرفقالت وهي دون القدرة على التحمل (من فضلك يا سيدة علية، هذا ابني و أنا لا أقبل أن يقيم أحد تربيتي له).

نهضت علية من مكانها وهي تجمع عباءتها واقفة بإباء امامها لتقول بهدوء (حين يحتاج اسلوبك الى تقييم فالأفضل أن تكوني شاكرة حين تتلقيه)
اتسعت عينا حور وهي لا تصدق ما سمعته للتو، فأنزلت معتز الباكي الى الأرض الا أنها ظلت متمسكة بذراعه بقسوةٍ وهي تنظر بذلكح الذهول الشرس ثم ما لبثت أن قالت بصوتٍ خافت خطير (كيف تجرؤين على مخاطبتي بتلك الطريقة؟، ومن أنتِ أصلا لتتدخلي في اسلوب تعاملي مع ابني.؟).

لم تهتز ملامح علية ذات الكبرياء الموروث وهي تقف أمامها دون أن تهتز لها شعرة بينما حور تنتفض و تغلي بداخلها، فقالت علية بهدوءها المستفز (أعتقد أنني أعرف عن ابنك أضعاف ما تعرفينه أنتِ أو حتى ما قد تهتمين لمعرفته، و بالمناسبة لقد تأخرتِ كثيرا، بالنسبة لحالته لذا الأفضل أن تطلبي المساعدة قبل أن تشني الهجوم على كل من يحاول الإقتراب منه).

صرخت حور و أصابعها تشتد على ذراع معتز الذي يحاول الهرب دون جدوى (اخرسي، اخرسي، ليس لكِ الحق في التدخل بحياة ابني، الا تملكين أي مشاعر لتكلميني أنا عن حالة ابني؟، أراهن أنكِ لم تعرفي الأمومة يوما).

لأول مرة اختلفت ملامح علية قليلا و قد بان الألم في عينيها و في قسماتِ وجهها حتى باتت كصورةٍ حيةٍ للألم لكن حور شكت فيما رأته للحظةٍ حين عادت علية إلى كبريائها و استرجعت قوة قسماتها و هي تقول بهدوء (ابنك لا يعيبه شيء حتى أخشى التحدث عنه، الكثيرون يتمنون ظفره، المهم أن تدركي أنتِ ذلك)
لم تستطح حور التحمل أكثر وه يتجر معتز الباكي خلفها الى الباب لتفتحه وهي وتقول بقسوة (عن اذنك، لا وقت عندي).

مشت علية باتزان دون إبطاء إلى الباب لكنها قبل أن تخرج توقفت للحظةٍ على محاذاة حور لتلقي نظرة على معتز ثم إلى حورقالت بعد لحظة (لا داعي لأن تحمميه، فأنا أحممه كل يوم بعد أن يخرج من محلي، حتى لا تصبح رائحته كرائحة السمك).

لم ترد حور و لم تنظر اليها حتى، الخطأ ليس خطأها أن تجرأت عليها إلى هذا الحد، الخطأ خطأ الذي سمح لبائعة سمك باحتلال كل هذه المساحة من حياة ابنها، وما أن خرجت علية حتى اغلقت حور الباب بقوةٍ، ثم التفتت الى معتز الذي احمر وجهه بشدةٍ فجثت على ركبتيها أمامه لتمسك بذراعيه تهزه قليلا وهي تهتف و قد انسابت دموعها هي الأخرى (كفى، كفي، الا تعرف سوى البكاء؟، الا تفعل في حياتك سوى البكاء؟، لماذا لست بهذا الشكل مع الآخرين؟، الكل يراك مثاليا و لا يرون كيف تتعامل معي، كفى، كفى).

تركته أخيرا وهي تستند بظهرها إلى الباب مغلقة عينيها تشهق باكية بعنف، رفعت يديها تغرزهما في خصلات شعرها وهي تنحنى برأسها حتى لامست ركبتيها بإنهيار، تستمع إلى بكاء معتز العالي ممتزجا ببكائها و هو يبتعد الى الأريكة ليدفن و جهه بين وسائدها، أثناء بكائها الذي اعتادت عليه مؤخرا في الأيام الماضية سمعت صوت طرق على الباب من خلفها و على مستوى منخفض، رفعت حور رأسها وهي تسكن قليلا عاقدة حاجبيها فوق عينيها المتورمتين فرفعت يدها لتمسح الدموع من على وجهها وهي تقول بصوتٍ مختنق مبحوح (من؟).

صمت ساد عدة لحظات ليأتي بعدها صوت رفيع طفولي (مصطفى)
ازداد انعقاد حاجبيها ثم قالت بصوتٍ أعلى قليلا (ومن تكون يا مصطفى وماذا تريد؟)
جائها الصوت من الخارج (أريد أن العب مع معتز).

اغمضت حور عينيها وهي ترجع رأسها الى الخلف تسنده على الباب، المزيد ممن يريدون معتز، بينما هي ملقاة هنا بين الجدران كتلك الكراسي القديمة ذات الأغطية المتهالكة، تحاملت حور على نفسها و نهضت متثاقلة تمسح وجهها وهي تأخذ نفسا عميقا ثم فتحت الباب على مضض، لتجد طفل صغير أحمر الشعر قد يكون في طول معتز تقريبا الا أنه بالتأكيد أكبر منه سنا، أطل اليها الوجه المليء بالنمش مبتسما بطرافة وهو يقول (مرحبا).

أجابت حور بفتور (مرحبا يا مصطفى، معتز وصل إلى البيت للتو بعد يوم طويل من اللعب، لذا لا أعتقد أنه يستطيع النزول مرة أخرى اليوم)
قال الوجه المبتسم ذو الشعر الذي يبدو كلفائف الكنافة (نعم أعلم، لقد كنا كلنا نلعب عند الخالة علية، و قد تعودنا بعد أن نتحمم أن نلعب على السلم كل يوم).

علية، علية مرة أخرى، هدرت أنفاس حور من بين شفتيها، وهي تنظر شزرا الى مصطفى لتتمكن من القول بالقدر الذي تستطيعه من الهدوء (على السلم؟، ماذا لو وقع أحدكم من على درجات السلالم؟، لا أعتقد أن الوضع آمن يا مصطفى)
رد عليها مصطفى بصبر و كأنه يقنع طفلة من سنه؛ (وماذا في هذا؟، لقد وقعنا كثيرا من قبل، بعض الجروح نضع عليها ذلك الدواء الأحمر و تطيب بعدها، نحن نلعب على السلالم كل يوم).

تنهدت حور بتعب وضغطت اعلى أنفها بين عينيها بأصابعها وهي تقول (حسنا يا مصطفى، اذهب لتلعب مع باقي أصحابك، لا داعي لوجود معتز اليوم)
رد عليها مصطفى و قد أصبحت ابتسامته جادة و عينيه لا تمزحان بل أصبحتا تحملان نظرة تهديد مباشر؛ (أنا المسؤول عن معتز، و أنا أريد اللعب معه كما أفعل كل يوم، إنها الأجازة).

ظلت حور واقفة ممسكة بالباب تنظر اليه و ينظر اليها في معركة تحدي للإرادة، الى أن زفرت أخيرا وهي تقول بنفاذ صبر (حسنا، حسنا، لكن إن أردتم اللعب فلتلعبو هنا أمام باب الشقة، مفهوم؟)
عادت ابتسامة مصطفى الى وداعتها وهويقول بأدب (مفهوم يا خالة حور، سأنزل لأنادي البقية).

استدار ليستعد للنزول جريا الا أن حور انحنت في لحظةٍ لتمسك به من قميصه و تديره اليها ممسكة بياقته وهي تنحنى إلى مستوى نظره لتقول بلهجة تهديد غير مصدقة (ماذا دعوتني للتو؟)
نظر اليها مصطفى بهوتا وهو يتطلع الى عينيها البراقتين بخطورة ليقول هامسا بتوجس (خالة حور).

شددت حور على قبة قميصه وهي تقربه أكثر من وجهها وهي تهمس أمام عينيه (خالة تلك تنادي بها بائعة الفجل الجالسة على أول الطريق، أو تنادي بها خالتك علية في محل أسماكها، لكن أنا لست بخالتك أو خالة أحد تلك الشياطين الصغيرة من أصحابك، مفهوم؟)
ظل مصطفى ينظر اليها بعينين متسعتين وهو يومىء برأسه ثم همس (بماذا أناديكِ اذن؟)
قالت حور بتشديد على حروفها كما التشديد على ياقة قميصه (حوور، فقط حوور، اتفقنا؟ ).

أومأ مصطفى برأسه مندهشا وهو يشعر بأن من الأفضل أن يجاريها فتركته أخيرا وهي تستقيم واقفة، فجرى نزولا على السلالم قبل أن تغير رأيها. اتجهت حور إلى الأريكة حيث كان معتز، لكن ما أن اقتربت منه حتى تسمرت مكانها وهي تنظر اليه راقدا على بطنه و قد راح في سباتٍ عميق تاركا فمه مفتوحا وقد غاب تماما عما حوله بعد تعب اليوم من اللعب و البكاءظلت حور واقفة لا تدري كم من الوقت مر عليها وهي تطلع اليه، لربما تكون هذه أطول مرةٍ وقفت تراقبه وهي تشعر بقبضةٍ ممسكةٍ بقلبها دون أن تدري سببا لشعورها اليائس تجاه ابنها، كان الوقت متأخرا ليلا حين عاد نادر من عمله، وكانت حور مستلقية في فراشها تقلب صفحات الشراء في هاتفها الى أن سمعت الصوت الحبيب على قلبها وهو صوت مفتاحه يفتح الباب في سكون الليل، مهما كان جفاء قلبها و حزن روحها المكسورة منه الا أن صوت مفتاحه وهو يشق قسوة وحدتها ليلا يجعلها تشعر بأنها أعيدت للحياة من جديد، تركت هاتفها ونهضت قفزا من فراشها لتجري إلى باب غرفتها لكنها ما لبثت أن عادت الى مرآتها لتتأكد من شكلها وهي تنظر إلى جانبها الأيسر ومنه الى الأيمن لتتأكد من أنها كعادتها لازالت جميلة من كلِ زواياها، اقتربت أكثر من المرآة وهي تهمس بإحباط (لقد خف انتفاخ عيني قليلا، هل كان من الضروري أن أبكي اليوم، لكن كل ما حدث كان بسببها هي، تلك المستفزة علية).

ربتت على وجنتيها قليلا و تخللت خصلات شعرها بأصابعها لتنثره من حول وجهها بفوضوية، ثم سوت قميص نومها الحريري بلون القهوة، ثم ابتسمت لنفسها لكن للعجب لأول مرةٍ لم تنظر اليها صورتها بنفسِ ثقتها المعتادة، بل كانت صورة مبتسمة باهتزاز وكأنها خائفة من كسر خاطرها الذي لم يعد قابلا للإصلاح من كثرة ما كُسِر، تجاهلت صورتها الحزينة و اتجهت جريا إلى حيث قلبها، وقفت تنظر اليه وهو يضع مفاتيحه على الطاولة المجاورة للباب و لم يكن قد تنبه بعد لوجودها لذا أخذت وقتها في التطلع الى هيئته الحبيبة المجهدة على الضوء الخافت المنبعث من الممر الجانبي، ترى هل ترى كل الزوجات أزواجهم بنفس الجمال أم هي عينيها فقط من ترياه بأجملِ من رأت من الرجال، كل مرة تنظر اليه تبدو وكأنها أول مرة، تماما كما رأته في حفل الزفاف الذي غير حياتها للأبد، أبصرها نادر أخيرا واقفة مكانها تتطلع اليه بإشتياق، خلع سترته وعيناه لا تحيدانِ عن عينيها بلا تعبيرٍ يعلو وجهه، شعرت بانقباضٍ في قلبها من نظرته اليها لكنها ابتسمت له ابتسامة مرتجفة وهي تراه يقترب منها، قال نادر بصوتٍ بارد (هل نام معتز؟).

أومأت حور وهي تقول مبتسمة بفخر؛ (نعم، اليوم ولأول مرةٍ نام دون إزعاج، من كثرة الجري و اللعب)
خفت صوتها تدريجيا الى أن صمتت تماما متوجسة منه، وصل اليها حتى أصبح على خطوة منها وفي لحظة أمسك بذراعها بأصابعٍ من حديد كادت أن تحطم يدها فصرخت ألما لكنه تجاهلها وهو يسألها و قد بان الشر في عينيه (ماذا فعلتِ لعلية اليوم؟).

انعقد حاجبيها وهي تقول غضبا و انفعالا رغم خوفها منه (هل شكت اليك بهذه السرعة؟، أرأيت أنها ليست سليمة النية، أي أمرأة تذهب لتشكو الى رجلٍ من زوجته الا إن كانت نيتها سيئة؟)
شدد نادر على ذراعها أكثر وهو يقول بغضب (لمعلوماتك علية لم تقل لي شيئا، كل ما قالته أنها تشعر بالحرج من أخذها لمعتز منكِ كل يوم، ومن ملاحها عرفت أنها قد تعرضت لإهانة لا تليق بها خاصة وأنا أعرف أنها جائت لزيارتك اليوم).

أطرقت برأسها وهي تلعن غباءها، ثم رفعت رأسها بعد لحظةٍ لتواجه عينيه الغاضبتين و تقول (كل ما قلته أنني في حاجة لقضاء وقتا أكثر مع معتز، لم افعل أكثر من ذلك، لكنها لم تقدر كل تلك المرات التي تركته لها وما أن شرحت لها وجة نظري حتى ذهبت اليك جريا لتمثل دور المظلومة).

شدها اليه لترطم به وهو يهدر غضبا رغم خفوت صوته (لا أصدق كلمة مما تقولين، لا أصدق أي شيء مما تنطقين به، الكذب و اللوع يجريانِ في دمك، حتى حيلتك القذرة في العودة إلى قد انكشفت لتعزز ظني بكِ والذي لم يخب كالعادة)
اتسعت عيناها رعبا وهي تدعي عدم الفهم لتقول بتلعثم مرتجفة (أي خدعة؟، أنا لم أفعل شيئا، أنت من طلبت مني أن آتي أنا ومعتز معك).

ظهر الإزدراء على وجهه جليا وهو يرمقها من أعلاها لأسفلها، ثم قال بغضب (لازلتِ تمعنين في الكذب وكأنه سبيلك الوحيد للحياة، أمك اتصلت بي اليوم لتطمئن عليكِ لأنك لم تهاتفيها لأكثر من اسبوع، ومن بضع كلمات استطعت تجميع القصة كلها، من تستغل أخاها بهذه الطريقة الحقيرة يسهل عليها استغلال أيا كان).

أغروقت عيناها بالدموع و هي تتطلع الى الكره المطل من عينيه و تشعر بالغضب على أمها ذات المقدرة المنعدمة في تقدير الصائب من ما قد يدمرها، لطالما أفسدت عليها الكثير بسبب لسانها. هتفت حور بانفعال (لقد رأيت بنفسك آثار صفعاته على وجههي، هل أكون قد زيفتها هي الأخرى؟، كيف تستطيع لومي بعد أن ضربني بمثل هذه الوحشية؟).

ترك ذراعها ليمسك وجهها بكفيه يرفعه اليه يتطلع اليها قبل أن يقول بهدوء قاتل (لو تعرفين يا حور مقدار رغبتي في ضربك الآن، على الرغم من كل شيء يبدو أن هناك نساء مثيلاتك لا يفهمن الا تلك اللغة).

انسابت دمعتين على وجنتيها لتلامسانِ كفيه فابتلعت ريقها، ثم همست باستجداء وهي تغطي كفيه بكفيها فوق وجهها (حسنا اضربني، اضربني إن كان ذلك سيصفي كل ما تحمله ضدي و لنبدأ من جديد، لقد تحملت الضرب من أجلك، فلما لا أتحمله منك؟)
نفض يديها بقسوةٍ طوحت بوجهها جانبا وهو يتطلع اليها بإزدراء ليقول (يالهي مما أنتِ مصنوعة؟، أنتِ وباء يخرج أسوأ ما في من حولك في سبيل سعادتك الشخصية).

صرخت باكية وهي تتشبث بذراعه (أنا احبك، أنا زوجتك وأحبك، لذا أفعل كل ما أفعله من أجل الحفاظ على حياتنا معا، فقط ساعدني، أعطني إشارة أن هناك أملا بيننا، ارجوك. أرجووك)
استدار اليها ليمسك بذراعها و يقول (لا أمل بيننا يا حور، لقد اجتهدت و تحايلتِ لتأتين معي الى هنا، وها أنتِ بالفعل هنا، لكن نسيتِ أن كل حيلك لا تستطيع شراء مودة مزيفة أحملها تجاهك).

بكت بصمتٍ وهي تغمض عينيها عن منظره علها تستطيع محو كلماته القاسية، لكن الكلمات تبعتها بقسوة (غدا ستأتين معي لتعتذرين الى علية).

فتحت فمها وعينيها بشراسةٍ تنوي الصراخ على الرغم من دموعها الا أنه قال بصوتٍ جمد الدم في عروقها وهو يمسك بذقنها يشد عليه (إما ان تفعلي وإما سأعيدك إلى بيت أهلك دون رجعة، وأقسم بالله يا حور أن أول بادرة منكِ لإهانة أي شخص هنا من سكان الحي و خاصة علية ستجعلني أرميكِ خارجا دون ذرة تفكير وحينها ستدركين ما قد كسرته بينك و بين أسرتك حين تعودين اليهم).

ظلت تنظر اليه بعينين مذهولتين و صدرها يرتفع و ينخفض وهي تلهث بشدةٍ من هولِ ما سمعت، ظل الصمت رفيقهما وهما يتطلعانِ الى عيني بعضهما، الى أن تمكنت حور من الهمس بذهول جريح من بين دموعها؛ (بهذه البساطة يا نادر؟)
رد نادر بعد لحظة بفتور قاسٍ (بل و بأكثر منها بساطة، لقد انهيتِ كل ما يشفع لكِ عندي يا حور، ووجودك هنا لأنك أم ابني لا غير).

ظلت تتنفس بصعوبةٍ وهي تنظر اليه تحمل ألم خنجرٍ مسموم غرزه في صدرها مرة بعد مرة، الى أن همست أخيرا وغصةٍ تؤلم حلقها (حاضر يا نادر، سأعتذر لها)
قال نادر متابعا قسوته دون أن يأبه لوجهها الشاحب و عينيها المبللتين (و ستتصلين بوالدتك كل يوم بدءا من الغد)
همست و دموعها تنساب في صمتٍ على وجنتيها (حاضر).

رمقها بنظرةٍ صارمة ٍ أخيرة ثم تركها ليبتعد الى غرفته بينما وقفت هي مكانها لا تعلم كم من الوقت طالت بها وقفتها وهي تشعر بشيءٍ هزها من جهته ربما للمرة الأولى بطريقةٍ مختلفة، عند الصباح أوقف نادر سيارته الى جانب محل علية ثم التفت إلى حور الجالسة بجواره صامتة بوجهٍ ذو ملامح جامدة كالرخام وهي على تلك الحالة منذ أن استيقظت صباحا، قال لها بصوتٍ هادىء (هيا).

نزلت حور بصمت دون أن ترد عليه بينما هو خرج لينزل معتز من مقعده الخلفي وأمسك بيده ثم مد ذراعه الأخرى لحور فاتجهت اليه ببطء حتى وضع يده خلف ظهرها ليدخلها إلى المحلما أن شاهدتمها علية حتى بانت الدهشة عليها للحظة الا أنها نجحت في اخفائها بمهارة و هي تنهض من كرسيها مبتسمة لتقول؛ (و أنا التي أقول لماذا يبدو اليوم سعيدا منذ بدايته، اهلا بالغالي و ابن الغالي).

جرى معتز اليها متعثرا الى أن التقطته وحملته بين ذراعيها لتتنشق رائحته و هي تقول مبتسمة و قد اشرق وجهها اشراقا (آآآه، ما أجملها رائحة)
قال نادر مبتسما (صباح الخير يا علية)
ردت عليه مبتسمة بسعادة ؛ (صباح الرضا للغالي، لحظة واحدة، سيحضر الصبي كرسيين لكما)
رفع نادر يده وهو يقول (لا، لا يا علية لن أستطيع البقاء طويلا، لقد تأخرت بالفعل، لقد جئنا لأن حور كانت تريد أن تقول لكِ شيئا).

ثم دفع حور برفق بيده على ظهرها لتتقدم الى الأمام في مواجهة عليةنظرت علية بحيرة ٍ إلى حور التي وقفت ساكنة بملامح متجمدة لكن رغم اللا تعبير المرتسم على وجهها كان فيه ما يثير الشفقة دون سبب، حين ظلت حور صامتة مطرقة برأسها، أحاط نادر كتفيها بذراعه ليشد عليهما قليلا وهو يقول بصوتٍ خافت (هيا يا حوور).

حملت نبرته رفقٍ لم تعتده حور منه كثيرا، أو بما كانت تتوهم فقط، لكنها بعد عدة لحظات رفعت رأسها لتجد أن بعض العاملين ينظرون بفضول الليهم، تمكنت من النطق همسا أخيرا (أردت، أردت أن، اعتذر اليكِ، عما بدر مني بالأمس).

ارتفع حاجبي عليةٍ بدهشةٍ أكبر بينما بان في عينيها عدم الرضا عن ذلك الموقف ابدا، بل حتى رمقت نادر بنظرةٍ صلبة ثم التفتت الى الصبيان في المحل لتقول لها بحزم (يا حسين اذهبا لتحضرا الطلبية الآن)
قال لها الصبي الذي يعمل لديها (لكن يا خالة الوقت لا يزال)
ردت عليه بصوتٍ أكثر حزما (الآن يا حسين).

بعد انصرافهما التفتت علية الى نادر لتقول له بنفس الحزم الذي خاطبت به صبيانها (من قال أنني غاضبة أو أن حور قد أساءت إلى في شيء؟)
نظر نادر الى حور التي كانت تنظر إلى الأرض بوجهٍ منحوتٍ كالصخر وكانت ذراعه لاتزال تحاوط كتفيها، قال نادر بصوتٍ هادىء دون أن يدري أن ذراعه تضمها قليلا اليه. (أعرف أنكِ لستِ غاضبة يا علية، لكن إن أرادت حور النجاح هنا، فلابد لها أن تتأقلم مع الوسط المحيط بها).

أخذت علية نفسا غير راضٍ وهي تحدجه بنظراتٍ صارمة، لكن نادر اختار تغيير الموضوع وهو يقول لها مبتسما (حسنا، هل تريدين معتز اليوم معكِ أم أنه عذبك كعادته؟)
ابتسمت علية رغما عنها وهي تشدد من احتضان معتز لتقول برقة (يا ليت كل العذاب في الدنيا كعذابه، هيا اذهبا من هنا و اتركاه لي).

خرج نادر ممسكا بيد حور الى أن دخلت السيارة، و أثناء المسافة البسيطة حتى بيتهما لم يحاول أيا منهما الكلام، أوقف نادر السيارة أمام البيت و التفت الى حور يقول لها بهدوء (سأصعد معكِ)
تكلمت حور للمرة الأولى بعد مغادرتهما دون أن تنظر اليه (لا اذهب انت إلى عملك سأصعد وحدي، وإن اصبت بالدوار سأعتمد على حاجز السلم).

ثم التفتت اليه قبل أن تخرج لتقول هامسة دون دموع (كنت تتكلم عما كسرته أنا في أسرتي بالأمس، و اليوم أخبرك أنك قد كسرت في شيئا لن تستطيع إصلاحه).

ثم خرجت و اغلقت الباب خلفها لتدخل الى البيت بينما ظل هو ينظر في إثرها فترة بوجوم، حين عاد اليها معتز في المساء مع أحد صبيان علية، كانت حور قد أخذت وقتها في البكاء طويلا طوال النهار حتى هدها التعب، حين طلبت منه بالأمس أن يضربها كانت مستعدة أن تتقبل ذلك في سبيل أن يصفى قلبه لها و كانت صادقة النيةأما اليوم، شيئا ما قد تغير وهي تشعر بذلك. و ذلك ما جعلها تحس بذلك الفراغ المؤلم في صدرها. أخذت حور معتز من الصبي وهي تشكره بهمس ثم أغلقت الباب، زفرت حور بضيقٍ بداخلها وهي تنظر الى معتز الذي اتجه الى الأريكة ليجلس عليه نائما على بطنه دون أن ينظر اليها اتجهت حور اليه، ثم انحنت لتجلس على الأرض بقربه وهو ينظر اليها دون أي تعبير، قالت حور بعد فترة (هل تريد أن تأكل؟).

لم يرد عليها معتز، بل ظل ينظر اليها دون أن يبدو عليه أن يراها اصلا، حاولت حور و أشارت بإصبعها الى فمها وهي تقول (أكل، هل تريد أن تأكل؟)
لم يرد عليها أيضا فقط ينظر دون أي تركيز، زفرت حور وهي تقول (من المؤكد أنها قد أطعمتك طوال اليوم).

تنهدت مرة أخرى و هي تمسك بكرةٍ كانت ملقاةٍ الى جانبها تنظر اليها بشرود وتلعب بها بين أصابعها، نظرت اليه مبتسمة على أمل ثم رمتها عليه لتسقط بجوار وجهه، لم يتحرك لفترة ثم التقطتها بعد عدة لحظات ليضرب بها وجهها و قد أصابه مباشرة، دون أن يضحك، فقالت حور بغضب وهي تلتقط الكرة (عيب أن تعامل امك هكذا، إن لم ترد أن تلعب فلا تلعب، لكن لا تتصرف بهذا الشكل).

تنهدت بيأس وهي تعلم أن كل كلامها ذهب هباءا وهو لا يفهم منها شيئا، فرمته بالكرة مرة أخرى لترجع ظهرها و تستند الى المقعد من خلفها بيأس مغمضة عينيها، فجأة ضربت الكرة وجهها مرة أخرىفتحت عينيها بغضب والتقطتت الكرة لترميه بها وهي تهتف (معتز كفى، لا تضرب ماما).

التقط الكرة و رماها اليها وقد أخطأ وجهها تلك المرة، التقطتت حور الكرة بين يديها وهي تنظر اليه بذهول قليلا أخذ يتزايد تدريجيا ثم همست بعد فترة (هل تريد اللعب؟)
لم يرد عليها معتز، فقط ينظر اليها. فهمست حور بإستجداء وهي تشير الى الكرة (هل تريد اللعب مع ماما؟).

مد معتز يده وهو نائم على بطنه على الأريكة و كأنه يريد أخذ الكرة، فالقتها اليه بذهول لتجده ينهض قليلا يمسكها و يرميها على وجهها ثم يعود لينام على بطنه من جديدشهقت حور من جديد وهي تضحك بينما عينيها تفجرتا بالدموع وهي تلقي اليه بالكرة ليعيد تمثيل ما فعلأخذت تضحك و تبكي وهي تهمس غير مصدقة؛ (لقد فهمت شيئا أخيرا، يالهي، لا أصدق أنك تجيبني).

اندفعت بعد عدة رميات لتلاعب شعره وهي تطبق بفمها على خده الناعم و هي تهمس، (ستكون هذه لعبتنا، لن يشركنا فيها أحد أبدا، أبدا).

، مستلقية في فراشها، تحدق الى سقف غرفتها المظلم بعينين متسعتين، فمها مفتوح قليلا و أنفاسها تبدو كشهقاتٍ لاهثة و يدها مفرودة على قلبها النابض بعنف علها تهدئ من روعه دون جدوى، كم مضى عليها وهي على نفس الوضع؟، لا تعلم حقا، كل ما تعلمه أنها من بين ضباب عقلها سمعت صوت زوجة عمها تقول بصوتٍ خافت لا يخلو من التأنيب و الريبة ما أن دخلت الى البيت (أصبحت تتأخرين هذه الأيام يا حنين عن موعد عملك، عاصم ومالك لن يرضيهم هذا الحال).

لا تتذكر بماذا أجابت، لا تتذكر همهماتها ولا صعودها السلم لكنها شعرت بعيني الحاجة روعة تنفذ الى ظهرها تكاد تقرأ ما بداخلها، هل كان ما حدث بعد ظهر اليوم مجرد حلم؟، لا بل هو كابوس فظيع، هل حقا كانت في قصر ٍ بعيد عن هنا، مع ذلك الذي احتل كوابيسها لعشر أعوامٍ كاملة، هل أخبرها،؟ أنها لا تزال زوجته؟، تعالت شهقات تنفسها دون بكاء، كانت تبدو كمن يحاول النجاة من الغرق، على سطح السقف المظلم رأت الصورة المضيئة لذكرياتها، حيث كانت تجلس على مقعدٍ ضخم يكاد يبتلعها من صغر حجمها، شعرها ممشط في أمواجٍ ناعم، و شفتيها مصبوغتين بلون أحمر قان، عينيها اللتين تحملانِ نظراتِ طفلة مكحلتين بخطين اسودين لا يناسبانِ سنواتِ عمرها التي لم تتجاوز أربعة عشر عاما، نفس العينين بنفس اتساعهما وهي تنظر بفراغ الى النساء الجالسات من حولها و ملابسهن المبهرجة البراقة تكاد تعميها، اغانٍ صاخبةٍ و زغاريد عالية، ترافق دقات قلبها التي تبدو كالطبول رفعت نظرها الى زوجة عمها الواقفة بجوارها والتي كانت تنظر اليها بعطف و تربت على كتفها، بينما نظرات والدة جاسر ترمقها برفضٍ وكراهية، كان ذلك يوم عقد قرانها، او العقد ايا كان اسمه، تلك الليلة دخل عمها الى الغرفة المجتمع فيها النساء يتبعه جاسر، اقترب عمها منها لتنهض من مقعدها واقفة امامه وهي تنظر الى عينيه الهاربة من عينيها اللائمة، فانحنى عليها ليقبل جبهتها ثم ابتعد ليدع جاسر يقترب منها، لم تكن مؤهلة لنظرة التقييم التي رمقها بها من اولها لآخرها دون أن يغفل عن شبرٍ واحد منها، لتطيل عيناه النظر في نقاطٍ محددة ونظرة الاستخفاف اخبرتها بوضوح أن البضاعة لم تنل اعجابه، طبعا كيف لشابٍ في مثل فحولته يمكن أن يعجب بفتاة لا تزيد قليلا عن طفلة، حتى أن منظرهما معا لا يبدو متكافئا بالرغم من أن فارق السن ليس هائلا لكن المرحلة العمرية التي كانت فيها كانت تجعلها تبدو كطفلةٍ تلهو بزينة والدتها وقد لطخت وجهها بها، خاصة وأن طولها بالكاد يصل الى كتفيه، أخفضت رأسها تشعر بذلٍ لم تشعر به من قبل، لتفجأ به يمسك بذقنها ليرفعه اليه وهو ينظر إلى عينيها بسخريةٍ ثم اقترب من وجهها ببطء ليطبع شفتيه على وجنتها بحرارةٍ كادت أن تقتلها من صدمة ما تشعر به حيث أن لا صبيا قد اقترب منها بهذا الشكل من قبل، لكن قبل أن تبتعد شفتيه عنها و في غمرة مشاعرها الطفولية المنهارة عاطفيا سمعته يهمس في اذنها حيث لا يراه أحد، (لقد حاولو جاهدين في رسم امرأة على وجهك، لكنك لن تبدين أبدا كأبنة عمك التي ترفع عن تزويجها لي).

رفعت وجهها منتفضة اليه بعينين مذهولتين و قلبٍ تلقى لكمة للتو، لكن الابتسامة القاسية لم تفارق وجهه أمام النساء الناظرات اليهما بفضول و اهتمام، ثم ابتعد عنها تحت انظارها المصعوقة، أغمضت حنين عينيها وهي تتذكر تلك الكلمات التي قتلتها على الرغم من تفاهتها و أنها كانت مجرد كلمات صدرت عن شابٍ أهوج أرغموه على الزواج منها كما ارغموها دون أن تكون لديه الرغبة فيها أو في حور حتى، لكن الكره و الغل بين الجميع جعلو منها المتأذية الوحيدة من بين الجميع، ولا زالت تتأذى حتى تلك اللحظة، بعد ذلك لم تكن تواجهه أبدا، بل كانت تتهرب منه دائما حتى تنجو من سهامه المهينة، الى أن جاءت المواجهة الثانية بأسرع مما تتخيل حين استدرجها الى غرفته!، بعد الذل الذي نالها من كلماته الحقيرة في اذنها لم تستطع مقاومة احساس الانوثة الطفولية الذي شعرت به و قد ظنت أنه بدأ يراها كامرأة فعلا و بأنها تفوق حور جمالا و أنوثة، بالرغم من الرعب الذي كان يجتاح اعماقها في اثناء هجومه عليهاكل تلك المشاعر المتناقضة جعلت من استسلامها المرعوب أمرا متوقعا و مثيرا للشفقة، حتى أنها ظنت أنها قد رأت بعض التعاطف في عينيه الجائعتين الى براءتها و طفولتها، لكنها أفاقت من تلك الدوامة بأبشع الطرق، حين دخلت والدته لتفاجئهما بهذا الوضع المذل و تضع حدا لما كان سيفعله بها حيث كان حتما سيتابع ما ينتويه، و بالرغم من الذل الذي شعرت به الا أنها ستظل ممتنة لها طوال العمر والا لكانت فقدت ما فقدته ليتركها و يسافر بعد ذلك دون اتمام الزفاف، همست حنين بعد أن وجدت ما يشبه صوتها مهتزا خرج من شفتيها (لماذا أنا؟، لماذا أنا؟).

كم الساعة الآن؟، لا يهم، انتفضت جالسة بقوةٍ مفاجئة و قد قررت شيئا لا رجعة فيه و إما أن تتأكد من حقيقة مشاعره الآن و أما أن تفقد الأمل نهائيا، همست وهي تلتقط هاتفها (إن كان يحبني سيتقبل كل ما مررت به في حياتي، وإن لم يفعل فهو لم يحبني أبدا).

وضعت الهاتف على اذنها ويدها الأخرى لا زالت ممسكة بقلبها خوفا من أن يتوقف من شدة ضرباته المعذبةبدت الثواني القليلة كدهرٍ الى أن سمعت صوته أخيرا وكأنه دواءا لكل جروح قلبها، همست من بين دموعها (عمر، عمر، أنا، أنا أحتاج اليك بشدة).

، أمسك بالصحيفة بين يديه يكاد أن يمزقها من شدة ما يشعر به من غضب و رعب و هو يطالع الخبر المتسرب الى الصحافة عن قضية اليوم، القضية التي زجت باسم عثمان الراجي الى المحاكم، حيث فضيحة امتلاك عددا من أراضي الدولة لمعارفه بتراخيصٍ و سعر ٍ لا يكاد يبلغ واحد على مئة من ثمن المتر الحقيقي، لتنشأ عليها مشروعاتٍ سياحيةٍ ضخمة ذات سعرٍ خيالي للمتر. دون حتى وجه حق في امتلاك مثل هذه الأراضي التي لم تكن للبيع أصلا، لكن بواسطة سلطة منصب عثمان الراجي تم منح هذه الأراضي لراغبيها، كاد عاصم أن يفقد قلبه وهو يحاول عبثا استيعاب اسمها المخطوط أمامه و بضع كلمات مموهة أخبرته بصعوبةٍ أنها من تقدمت بالدعوى تبعا لما قدمته من أوراق للنيابة العامة، صورة كبيرة تحتل أعلى الخبر لعثمان الراجي وهو متجها برفقة بعض الحرس الى مبنى النيابة، يكاد الشرر أن يصل اليه من الصورة التي تمثل ذلك الرجل الذي لا يقهر، المحامية صبا محمود عمران، صبا، ضم الجريدة بين قبضتيه ضاربا بها على سطح مكتبه وهو يشعر بدوارٍ خفيف من هدير ضغطه الذي ارتفع لأقصى درجاته، كيف لم يبادر بإيقافها قبل أن تفعل مثل تلك الكارثة، وكيف تحركت بمثل هذه السرعة، كان يظن أنه يملك الوقت ليحاول اقناعها، بل ظن بكل غرور أنها مسألة أيام قبل أن توافق على الزواج منه ليبعد حينها عن تفكيرها كل ما له علاقة بمثل هاؤلاء البشر، أغمض عاصم عينيه وهو يتنفس بصعوبة، تلك القضايا لن تطول عثمان الراجي وحده بل ستطول عددا من الأسماء لا حصر له و كلهم على استعداد ربما الآن لدفنها حية إن اقتضى الأمر، ما العمل الآن؟، وكيف سيتمكن من اخفائها، بل كيف سيتمكن من اقناعها بالتنازل عن الخوض في تلك القضايا؟، غرس أصابعه في خصلات شعره وهو يدور و يدور دون جدوى من الإهتداء لحل، يضاعف عدد الرجال؟ لكن بأي صفة وهي على وشك طردهم من أمام بيتها اصلا حتى أنها حاولت أكثر من مرة. هل يوظف أفراد من شركة أمن خاصة؟، لكن أيضا بأي صفة؟ لا بد أن تتقبلهم لتستطيع التعامل معهم، زفر بحنقٍ بالغ وهو يهتف غضبا؛ (اللعنة، اللعنة عليها الغبية، فقط لو أحصل عليها بين قبضتي لاستطعت إحكام الطوق من حولها).

التقط هاتفه وهو يعاود الإتصال برجله منصور ليطمئن ككل يوم، لايهمه أن الوقت متأخر، لكن اليوم مختلف وقد قرأ الخبر البائس في الجريدة مثله مثل أي غريب ليس له حق التدخل، ما أن رد عليه منصور حتى سأله عاصم بقلق (كيف الأحوال لديك يا منصور؟، هل هناك أي شيءغريب عند بيت عمران؟).

لحظات صمت بين جهتي الإتصال كانت كفيلة لإحراق أعصابه أضعافا مضاعفة وهو يشدد على هاتفه يكاد أن يحطمه و قبل أن يجد صوته كان منصور قد سبقه وهو يقول متلعثما قلقا (لست أفهم يا سيد عاصم، متى أمرتنا بالعودة اليه؟)
نهض عاصم ببطء شديد من كرسيه و كأنه تصوير بطيء، ليهمس بصوتٍ أجوف بعد عدة لحظاتٍ بدت كالدهر (العودة من، أين تحديدا؟).

تلجلج منصور وهو يقول بعدم فهم (الم تأمرنا بالعودة إلى مشروع شرق المدينة حيث لم يعد لنا أهمية بعد الآن عند بيت عمران؟، لقد هاتفتني بنفسك يا سيد عاصم في ظهرا هل نسيت؟)
اتسعت عينا عاصم وهو ينظر أمامه في اللا اتجاه، ليهمس قلبه قبل لسانه (يالهي، يالهي)
أفاق من غيبوبته على صوت منصور القلق وهو يقول (ما الامر يا سيد عاصم؟، سيد عاصم؟).

الغريب أنه لم يجد القدرة على الصراخ كعادته، كل ما فعله هو أن همس بصوتٍ حمل كل تهديد العالم مختلطا بخوفٍ لم يسمعه رجله من عاصم رشوان من قبل، (في غضون عدة لحظات أريدكم أن تدخلو البيت، ولو اقتضى الأمر حطموا الباب لتتأكدو من سلامة أصحابه)
و بعد لحظةٍ صرخ عاليا (حااااالااااا).

أغلق الهاتف وهو يتنفس بصعوبة، عدة لحظات؟، ظهرا؟، عينيها البراقتين، خضار البحر و صفاؤه فيهما و غمازتيها، تبتسم للجميع الا هو، أيعقل أن يصيبها مكروه، لم يصدق حظه حين وجدها أصلا بعد هذا العمر، أيعقل أن تضيع منه؟، و كان سباقه مع الزمن في تلك اللحظة هو سباقا من أجل حياته، فكم يستطيع المرء أن يسرع من أجل الحفاظ على حياته قبل أن تضيع منه؟..

كانت صبا ممدة في سريرها تراجع أوراقها مستغلة اللحظات التي تركتها فيها فتحية لتعد لها شراب الشوكولا الساخن كما تحبه، بعد أن أصرت عليها لتكف عن العمل أو الجنون المطبق كما تطلق عليه، وبعد الحاحٍ شديد من جانب فتحية استسلمت لها و وافقت أن تعد فتحية الشراب لهما معا بنفسها و رفضت أيضا ان تعده صبا، ظلت صبا تتابع الأوراق أمامها بدون تركيز قليلا الى أن شردت عيناها بعيدا، منذ ساعاتٍ قليلة سمعت صوت سيارةٍ ضخمة جاءت أمام البيت وحين أطلت من النافذة وجدت رجال عاصم رشوان قد استقلوها ليبتعدو بها، ولم يعودو الى الآن، أمسكت خصلة من شعرها العسلي الطويل وهي تلفها على إصبعها بشرود، هل انتهى من تلك التمثيلية الرخيصة التي تدعي حمايتها بعد أن شنت الحرب على شركاؤه؟، كانت عيناها كقطعتي جليد وهي تنظر بهما الى السقف، بالطبع وضعته في موضع حرج أمامهم بعد أن وعدهم بالسيطرة عليها ليفاجأ بأنه لم يفلح، و فتحية المسكينة كانت تبدو كأمٍ ساذجة الأيام الماضية وهي تحاول جاهدة إقتاعها بقبول الزواج منه، حيث أنه ابن بلد و شهم و وهو أصلح من تعتمد عليه، الى آخره من تلك الأوهام التي عششت في رأسها منذ أن رأته للمرة الأولى فدخل قلبها و عقلها و رسمت عليه كعريسابتسمت صبا بسخريةٍ حزينة وهي تشفق على حال فتحية التي تعدها كأمٍ لها و تتمنى أن تراها كعروسٍ اليوم قبل الغد، تظن أن صبا لا تتمنى ذلك ايضا في غمرة انشغالها، لكن الحقيقة أنها تفكر في ذلك الموضوع أيضا طويلا، تحب أن تكون لها أسرة و يكون لها طفل أو طفلين على الأكثر، تقوم بغرز كل ما ورثته عن أبيها يوما، تهديهما ابتسامة أمها التي ورثتها عنها بشهادة كل من يعرفها، ستنشئهما على أن الصواب لا يحتمل كلمة ربما، أن الحق لا يقبل الفصال، ستشبعهما لعبا و مرحا كما نالت هي في طفولتهما لكن دون أن تشبع من أمها التي رحلت سريعا تاركة في نفسها كل ما هو جميل و كل ما ترغب أن تمنحه لطفليها، ابتسمت صبا مرة أخرى لكن بحبٍ حزين تلك المرة وهي تفكر في شكليهما، تريد صبيا و فتاة ليكونا قرة عينيها. يأخذانِ عينا أمها في جمالهما، دون أن تدرك أنها قد ورثت نفس جمال هاتين العينين، سيأخذان أيضا شجاعة جدهما، لن يهزمهما أحدا على غير حق أبدا، كم سيكونا رائعين، ستكون سلالة نادرة لا مثيل لها، ضحكت صبا بمرح رغم الدموع التي بللت عينيها النديتين و هي تهمس جذلا (هذا هو عيب الوحيد في عدم الزواج الى الآن، من الظلم حرمان العالم من أطفالي).

ضحكت أكثر وهي تنهض لتتجه الى المرآة و تنظر إلى نفسها بنظرة تقييم الى جسدها الرشيق في بنطال النوم الفضفاض ذو المكعبات و المربعات، و القميص القطنى ذو الحملات الرفيعة و الذي يظهر جمالها المخفي على الدوام، شعرها العسلي منسابا في موجاتٍ طبيعيه على ظهرها وأكتافها، رأت في تقييمها أنها تبدو طريفة أكثر منها جميلة، بموجاتٍ شعرها وعينيها اللتين تشبهان عيون القطط كما يقول الجميعثم ما لبثت أن قالت بحزمٍ و تذمرٍ زائف (حسنا يا والد الأطفال، من الأفضل أن تظهر الآن على التو واللحظة لننقذ العالم بواسطة أطفالنا، و لأرتاح من الحاح فتحية التي باتت لا تفكر في شيءٍ آخر هذه الأيام).

ظلت مبتسمة قليلا، ثم زوت ابتسامتها تدريجيا وهي تنفض عن رأسها صورةٍ ما بغضب، تنهدت بعمق لتقول بعد فترة (لماذا تأخرت فتحية كل هذا الوقت؟).

بعد دقائق سمعت صوت بدا وكأن جسما ما قد سقط أرضا، نظرت إلى باب غرفتها و هي تتسائل إن كانت قد توهمت سماع ذلك الصوت المكتوم، اتجهت الى الباب و قد بدأت تشعر بالقلق على فتحية، هل تعبت؟، إنها تجهد نفسها أكثر من اللازم و تتدللها أيضا بأكثر مما تسمح به طاقتها، تضاعف قلقها في ظرف لحظات وهي تخشى أن تكون فتحية قد أصابها الدوار أو الإغماء، عند هذه النقطة اتجهت جريا الى السلم لتنزل بسرعة وهي تنادي بقلق (فتحية، فتحية).

شيئا ما أوقفها على آخر درجةٍ وهي تتشبث بحاجز السلم لتهمس (ما الذي).

لكن قبل أن تكمل اتسعت عينيها وهي ترى شابا مفتول العضلات بصورةٍ مبالغا فيها وكأنه بطل رفع أثقال يخرج من باب المطبخ ليقف ناظرا اليها من بعيد بعينين تحملانِ شرا و اجراما، أخذ صدرها يعلو و يهبط وهي ترى شابا آخر بنفس المواصفات يتبعه من داخل المطبخ، ليتبعهما ثالث!، لم تتحرك و هم أيضا لم يتحركو من مسافتهم البعيدة عنها، فغرت شفتيها دون صوت وهي تتطلع الى الثلاثة أجساد الضخمة و القادرة على سحق جدار وتحويله الى تراب، تنظر اليهم و ينظرون اليها دون صوت، تقف مكانها دون حركةٍ وهي تنظر بعينين متسعتين و كأنها في مواجهة ثلاثةِ كلابٍ شرسة يقفون في حالة تأهب استعدادا للقفز عليها في أي لحظة، ثلاثةِ كلابٍ بعيونِ ذئابٍ جائعة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة