رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأول
يوما آخر من أيام حياتي يبدأ، يوما مسالما رائعا، يوما أخطو خطواته المرسومة ِ بدقة، أشعة الشمس الدافئة تغرق وجهي تنبهني أن بداية جديدة قد أهلت عليكِ فاغتنميها، انهضي من فراشك أيتها المتكاسلة فاليوم أمامك طويل، بأهله و أصحابه، بلحظاته و نبضاته...
نهضت حنين من فراشها تتمطع بدلالٍ تمنحه لنفسها، اتجهت إلى نافذتها ذات الستائر الناعمة، مبتسمة ابتسامتها الجميلة مغلقة عينيها وهي ترفع وجهها الصبوح لأشعة الشمس الساخنة لتغسله بها متنعمة بتلك اللحظة الخاصة بها من كلِ يوم، ففي جوانب غرفتها البسيطة تحظى بتلك الخصوصية التي تتلهف للعودة اليها كل ليلة، بين جدرانها تظهر، حنين رشوان، بكل جنونها و ثورتها، لا حنين المسالمة التي يحبها الجميع لبساطتها، حسنا، ليس الجميع تماما، فهناك من تتمنى خنقها لا تعلم لماذا...
لكن بخلاف ذلك، فهي راضية تماما عن حياتها، كانت لتكون قاسية ضائعة لولا عمها الغالي رحمه الله، الحاج اسماعيل رشوان، والذي جلبها الى أحضانه بعد وفاة والديها معا إثر حادثا فظيع أودى بحياتهما في الحال.
كانت في العاشرة من عمرها حين فقدت والديها، للحظة عادت اليها ذكريات هذا اليوم وهي جالسة في أحد أركان الغرفة ذات الجدران المتهالكة و القشور المتساقطة، في البيت القديم، بيت الحاج رشوان الكبير، والذي كانو يسكنوه قديما، قبل الانتقال الى الحي الراقي الذي هم فيه الآن...
تذكرت تلك الطفلة الصغيرة وهي تجلس أرضا رافعة ركبتيها الى صدرها، لا تبكي مثل هؤلاء النساء المتشحاتِ بالسواد، قلبها يخفق بعنف و عيناها متسعتانِ بشدة، مافهمته هو أنها لن ترى والديها مرة أخرى، وهذا هو أول تعامل لها مع الموت، تلك الكلمة التي كانت تعرف معنها الحرفي لكن دون أن تلقي به بالا، الى أن عايشته فجأة و بصدمةٍ منعت دموعها من التساقط حتى، كان الخوف يفوق الحزن بل أنها تتذكر جيدا أن الحزن كان متواريا تماما بسبب تلك الصدمة الخاطفة...
والدها الذي تتذكره بتفاصيلٍ قليلة، الأخ الأصغر للحاج اسماعيل صاحب التجارة المتوارثة أبا عن جد، بينما كان والدها المساعد الأمين للأخ الأكبر، ما ورثاه عن والدهما الحاج رشوان لم يكن كثيرا من تلك التجارة البسيطة و قد اختار والدها بيع نصيبه لأخيه الأكبر، حين لم يملك مهارته في التعامل معها مثله، لكن حين انتهى ما ورثه في وقتٍ ضئيل بسبب ظروف الحياة القاسية عاد الى أخيه الأكبر ليعمل لديه كمساعد، و الحق يقال أن الحاج اسماعيل كان هو السبب في النهوض بالتجارة و القفز بها درجة درجة، الى أن أصبح الحاج اسماعيل رشوان، بينما ظل والدها في الخفاء دون تحقيق ما يذكر، قد يكون تكاسلا ربما أو أن هذه هي مقدرته، لا تعلم تماما...
بعد وفاة والديها والتي كانت وحيدتهما سارع عمها الى ضمها الى أسرته، وقد احتضنتها زوجة عمها كواحدة من أولادها تماما، الحاجة روعة، نعم هذا هو اسمها روعة، فكانت الأم الثانية لها، تتذكر جيدا تلك الأيام التي مرت عليها وهي تحاول التداوي بين أسرتها الجديدة، في البيت الكبير القديم و الذي رفض الحاج اسماعيل بيعه تماما أو الإنتقال منه...
الى أن جاء الفقد الثاني في حياتها بعد عامٍ واحد فقط، بطريقةٍ مفزعة مختلفة تماما عما سبقتها، حالة، مجرد حالة حدثت فجأة أمام أعينهم الصغيرة، تركت أثرا غائرا في كلا منهم الى الآن لم يستطيع أيا منهم مداواته، إن كانت هي، أو حور، أو مالك...
لا، لا، ليس هذا وقت تلك الذكريات الحزينة الآن، لقد تأخرت على تحضير الإفطار ولابد أن زوجة عمها الآن ستسارع الى تحضير كل شيء، بينما تلك هي مهمتها كما أيضا الاهتمام بمعظم شؤون المنزل فالحاجة روعة لا تسمح بأن يقوم غيرها بشؤون البيت، الا حنين، وهي ليست تتذمر أبدا بل هي تفعل ما تفعله حبا لعمتها و إكراما لعمها رحمه الله و الذي ستظل تترحم عليه طوال حياتها، يكفي أن عاصم قد وافق على عملها والذي لا يتجاوز ساعاتٍ قليلةٍ من النهار، على الا يؤثر ذلك على مساعدتها الزوجة عمها و التي أصبحت صحتها في تراجع مستمر، ليست المساعدة عملا مضنيا في وجود سيدة و ابنتها رضا، لا تحتاج أسرة رشوان الى خادمةٍ اضافية، لكن زوجة عمها في حاجةٍ لها هي على وجه الخصوص والكل أدرك ذلك، حنين هي المتبقية لها من زمن الحاج اسماعيل نوعا ما، لذا فالكل أراح ضميره بوجود حنين بجانب أمهم ليعوضونها عن انشغالهم...
و هي لا تريد ترك عملها البسيط أبدا، فبالإضافة أنها تتحمل نفقاتها الواهية براتبه البسيط موهمة نفسها بأنها تحافظ على كرامتها بهذا الشكل، الا أن السبب الحقيقي، هو وجوده...
الرعشة المعتادة ضربت قلبها، حبيب القلب، حلمها، حلمها البعيد المنال، سبب أحزانها و ألامها، ذلك الوغد الذي لم يشعر بحبها يوما، بل كما تظن أنه لا يتذكر اسمها أصلا ما أن يغادرها، في الواقع لم تبدأ في رؤيته سوى من سنةٍ واحدة...
سنةٍ واحدةٍ من حبٍ عنيف طاحن، من طرفٍ واحد، طرفها هي، بينما الطرف الآخر يبدو وكأن طبقةً من الصدأ قد صنعت سدا منيعا حول قلبه الأعمى و الذي لا يراها أصلا...
تنهدت حنين بيأس...
لازال صدىء القلب كما المعتاد، لم يحدث أي تقدم يذكر، حتى أنه بالأمس مر بجوارها و لم يلقي على التحية ككل صباح، حتى تحيته الباردة استصعبها، يبدو أنه لا أمل...
توجهت الى مرآتها و هي تتطلع الى نفسها طويلا، هل من الممكن أن يشعر بها صدىء القلب يوما، لكن ماذا إن شعر؟، لا فائدة، لا يجب أن تمني نفسها فلتعرفي قدر نفسك يا حنين، وإياك و التعلق بالنجوم، صدىء القلب يستحق الأفضل، لأنه الأفضل، لكن لماذا هي ليست الأفضل؟، هل هي انعدام ثقةٍ بنفسها؟، أم أنه بالنسبةِ لها الشمس و النجوم؟..
نظرت الى نفسها و هي تسألها، هل أنتِ جميلة يا حنين، أيشفع جمالكِ لكِ، نظرت إلى شعرها الأسود المعقود بإهمال في عقدةٍ متراخية خلف رأسها، فرفعت يديها لتحلها، فانساب شعرها كشلالٍ اسودٍ ناعم متموج بجنون وصل الى آخر ظهرها، لطالما ظنت أن شعرها هو أجمل ما فيها، هو الشيء المشترك الوحيد بينها و بين، حور ...
لكن شتانِ بينهما، لا مجال لمقارنةٍ ستكون خاسرةٍ فيها لا محالة، عادت لتنظر إلى عينيها العسليتين للناظر من بعيد، أما من ييقترب منهما فسيجد شعيراتٍ زيتونيةٍ خضراء تخطط الحدقتان.
نظرت الى شفتيها المكتنزتين، إنهما منتفختين بشكلٍ زائد، هل يعتبر هذا جذابا أم أنه مضحك، لقد قال لها شخصا لزجا في الطريق ذات يوم أنهما تبدوانِ شهيتين للغاية، بالطبع احمر وجهها لهذا الغزل الفاحش وتعثرت أثناء سيرها، لكنها عادت لتسأل نفسها، هل هما جميلتين أم مثار سخرية، هل عينيها جميلتين أم ساذجتين، هل نظر الى شعرها يوما أم لم يرها كلها أصلا؟، لا تملك سوى ما يراه، لأنه لا يعرف ما بداخلها، لم يرى ما بقلبها تجاهه، و تشك في أنه لاحظها إطلاقا...
لم تهتم يوما بشكلها بهذه الطريقة، لم تتسائل عن مواصفاتها قبل أن تعرفه، فهو الوحيد الذي تلهفت شوقا ليمنحها نظرة، الوحيد الذي طعن قلبها بتجاهلله لها مرارا، وحتى أنها لم تهتم أبدا بتجاهل الناس لها، الا هو، هو فقط، عمر...
عمر بطلها الخفي و الذي يداعب خيالها منذ عام، لا تعلم لماذا هو تحديدا، ليس أكثر الرجال وسامة، لكنه بالتأكيد ذو جاذبيةٍ خارقة يلاحظها الجميع...
أغمضت حنين عينيها بحزنٍ مضني، الى متى ستظل معلقة بالسراب، أما من سبيلٍ للتحرر، ثم عادت لتنظر لنفسها بدفقة الأملِ المعتادة التي تأتي بعد لحظةٍ من شعور اليأس، وهمست لنفسها بتحدي
لن تبدأي اليأس الآن، سيشعر بكِ صدقيني، أنتِ فقط تحتاجين الى المهاجمة بدلا من الإكتفاء بدور المتفرجة و الذي لعبته طويلا...
ثم تحول الهمس إلى كلامٍ واضح وهي تخاطب صورتها في المرآة، وعينيها تحدتدانِ ببريقهما المجنون المختبء خلف واجهتها الهادئة و التي حاولت جاهدة رسمها طوال السنين (بيدكِ أن تحولي السراب الى حقيقة، ومن هو حتى لا يراكِ؟، إنه مجرد شخصٌ بالغ الجاذبية، شديد الرجولة، عميق الصوت، قوي البنيان و الشخصية، عيناه ذات سحرٍ أحمق، حتى حواجبه، يالهي لديه حواجب من أروع ما رأيت، سميكة حادة وكأنها مرسومة، تكمل نظرته ليبدو كالصقر، أستطيع المتابعة الى مالا نهاية، لكن ليست تلك نقطتنا الآن، النقطة الأساسية في الوضع أن تنتزعي طبقة البلاهة الفطرية التي تصيبك ما أن يقترب منكِ، تعقلي فأنت في الخامسة و العشرين، لست مراهقة، ماذا إن مر بقربك شابٌ رائع، عادي جدا، مجرد رائع في قوافل الرائعين، لكن مع ذلك في النهاية يظل رجلا).
قطعت كلامها وهي تخفض كتفاها إحباطا ثم تتابع بقنوطٍ هامسة (خرافي)
تركت مرآتها و ذهبت لتجهز نفسها فلو تركتها على هواها لن تكف عن محادثة صورتها في المرآة ككل يوم، متبحرة في جمال سيادته...
فارتدت ملابسها المعتادة و المكونة من بنطالها الجينز و السترة الرياضية التي تعلوه، ثم جمعت شعرها في عقدته المعتادة، لتنتهي بوضع نظارتها المعتادة، نظرت الى نفسها في المرآة بحنق وقالت وهي تمط شفتيها كأمٍ تؤنب ابنتها (استمري في ارتداء هذه الملابس، ثم قابليني إن عبّرك أو القى اليكِ نظرة).
زفرت بغضب وهي تعد نفسها بأن غدا هو يوم ارتداء ثوبا كباقي المصنفاتِ كفتيات ثم اتجهت لتحضر حاسوبها المحمول و حقيبتها...
خرجت حنين من غرفتها الموجودة في الطابق الثاني من منزل اسماعيل رشوان المبهر في روعته من الخارج فقط، أما في الداخل فهو يبدو أقرب قليلا للبيوت البسيطة حتى يكاد أن يكون شعبيا، بسجاده الأمر قديم الطراز، النجف المبهرج و المتدلي من كل مكان تقريبا في المنزل، اللوحات الفنية الرخيصة التي تزين الجدران، حتى أن بعضا منها كان عبارةٍ عن لوحات كانافا لقططٍ و بطاتٍ مشغولة يدويا ليدِ أمٍ حانية شعبية الذوق، ثم قام أحدهم ببروزة هذه اللوحات بإطارتٍ غالية الثمن مذهبة لتنتشر على جدران أروقة المنزل...
كانت حنين تسير في الرواق الطويل حتى سمعت من أوله صوت الموسيقى الشرقية الصاخبة و التي تنبعث كل يومٍ في نفس الموعد، من نفس الغرفة، غرفة حور...
أكملت حنين سيرها حتى وصلت الى الغرفة ذات الباب المفتوح جزئيا، فتوقفت و نظرت من على بعد، كانت تتمايل بخصرها على النغمات الشرقية التي توازيها سحرا، عقدت حنين حاجبيها وهي تتأملها صامتة، إنه العرض اليومي لحور في الصباح، لو كان بيدها لكانت نامت حتى وقت الظهيرة، لكن القرار الوحيد الذي أصر عليه اسماعيل رشوان في هذا المنزل هو أن يستيقظ الجميع في وقتٍ واحد قبل اتجاهه الى العمل حتى يتناول الجميع الإفطار سويا، نظرا لأنه لم يكن يعود هو و ابنه الهمام عاصم الا في وقتٍ متأخرٍ من الليل...
لذا فقد أصر الحاج اسماعيل على رؤية ابنائه صباحا من كل يوم، فبهذا يعتقد أنه قد لم شمل تلك الأسرة المشتتة، ومن بعد وفاته واظب عاصم على نفس العادة، ومن يجرؤ على مخالفة عاصم رشوان...
من يصدق أن ذلك القوام المتمايل قد حمل طفلا يوما، و أما شعرها فهو ليلة طويلة سوداء يصل الى خصرها بنعومةٍ قاتلةٍ كحد السيف، و بالرغم من أن حنين و حور قد تشاركتا في الشعر الأسود الخلاب، الا أن حنين ترى فارقا ضخما بين شعريهما، لا تعرف ما هو هذا الفارق، قد يكون لأنه مجرد شعر حور؟، لا تعلم حقيقة، ها هي قد عادت لنفس النقطة، كيف تبدو؟..
حور رشوان، في السادسة والعشرين تكبرها بعامٍ واحد، منفصلة (على وشكِ الطلاق منذ سنتين)
ولديها طفل في الثالثة، معتز، أحب افراد هذه العائلة الى قلب حنين...
حور لازالت الى الآن مثار إعجاب كلِ مجتمعٍ تذهب اليه او تختلط به، إنها حالة غريبة من الإغراء و الأنوثة و العذوبةِ و الدلال الملاوع، منذ صغرها وهي قادرة على لف من تريد حول إصبعها بغمزة، بحاجبٍ يتلاعب مع نظرتها اللعوبة...
اختلطو جميعا ليكونو تلك المخلوقة الراقصة أمامها وهي مغمضة عينيها ولا تشعر بما حولها...
رنين أساورها الذهبية له مفعول السحر ليكمل تلك الصورة الحية أمامها، بالرغم من أن حور خريجة أحد أعرق المدارس الخاصة في البلد و اتقانها لعدة لغاتٍ حية، ملابسها على أرقى مستوى وتواكب أحدث صيحات الموضة، الا أن سحرها الخاص يتمثل في بعض الرتوش الشعبية المتوارثة، مثل رنين الأساور الذهبية التي تصر على ارتدائها، ضحكتها الرنانة التي تتنافى مع مجتمعات النوادي الراقية و افراد الطبقة المخملية التي تخالطها، ألوان ملابسها الصاخبة الحارقة، حركة حاجبها المتلاعب أثناء كلامها، حركات يديها المتراقصةِ مع كل كلمة ٍ وكل نظرة، العجيب في الأمر أن لا أحد يمتعض منها أبدا، الجميع يسحرون بها و طبيعتها التي لا تميل للتمثيل في أي شيء، وكأنها أدركت أن اسلوبها الشعبي الفطري هو سر انجذاب الكل اليها، فأتقنته و زادته لفا ولوعا...
نعم، إن كانت حور تتميز بشيءٍ واحد، فهو أنها منطلقة على طبيعتها، لا تتصنع أبدا لكنها تضيف المزيد و المزيد من طبيعتها حتى باتت حالة خاصة مسماة. حور، لا يقمعها شيء، لا تهاب آخر...
ماعدا ذلك الضباب الأسود الذي غطى روحها منذ ذاك اليوم، انطفأ بداخلها شيئٌ و كأنها تدور كالمهووسة في الدنيا تبحث عن شيءٍ ولا تجده، توهم من حولها بأنها مسيطرة على نفسها تماما، بينما بداخلها ضياعا لا يراه أو يفهمه الا حنين ومالك، أما عاصم فلا يرى أبعد من تهورها الأهوج لذا يعاملها بقسوةٍ توازي قوة ذلك التهور
قالت حنين بصوتٍ عالٍ ليعلو فوق صوت الموسيقى الصاخبة (صباح الخير يا حور).
لكن حور كعادتها كل صباح لا تكترث للرد، وهي تتابع تمايلها الخلاب مغمضة عينيها...
تحركت حنين بتذمر وهي تترك التحليل اليومي لطبيعة حور المحيرة، ثم اتجهت تلقائيا الى تلك الغرفة الحبيبة إلى قلبها، غرفة ذات رسومٍ كرتونيةٍ على الحائط الأزرق و الأخضر، أين هو الصغير الحبيب، ها هو يجلس في نفس الركن الذي يحبه من الغرفة، لا أحدا يعلم أبدا سر اختياره لهذا الركن تحديدا، فهو يجلس فيه معطيا ظهره للغرفة، ناظرا الى الحائط...
ابتسمت حنين الى المربية الخاصة التي تلازم معتز منذ عامين، ثم دخلت حتى وصلت اليه و هبطت لتتربع بجواره ككل صباح
انحنت لتقبل وجنته وهي تلاعب شعره الأسود الناعم
لم يتحرك معتز ولم ينظر اليها، الا أنه بدأ في الإستجابة المعتادة عند إحساسه بحنين، فقد أخذ في التمايل الى الأمام و الخلف. ناظرا اليها مبتسما قليلا...
شعرت حنين بغصةٍ محرقةٍ في حلقها فضمته بشدة ٍ الى صدرها ككل يوم، فهو يشعر بها ويفهمها...
أخذ معتز ينادي اسم حنين باشارة يده و التي علمته اياها، فابتسمت حنين و ردت عليه ردا مطولا بأصابعها، قد لا يفهم معظم ما تقوله، لكن بالتدريب سيستطيع...
ظلت تلعب معه وتغني له بيديها العشر دقائق التي تخصصها له من كل صباح، وهي تشعر بتأنيب الضمير لأن بإمكانها أن تقضي معه مزيدا من الوقت، لكنها تنشغل عنه دائما، فما أن تعود من عملها تضيع في واجبات المنزل، فيأتي موعد نوم معتز قبل أن تستطيع الذهاب اليه، لكن ذلك لا يمنع أن في معظم الأيام تحاول جاهدة انجاز ما عليها بسرعة لتذهب الى غرفته قبل نومه و تحكي له قصصا مرتجلة من مخيلتها وهو مختبىء في أحضانها...
نهضت على مضضٍ وهي تبتسم له بحزنٍ مودعة فالواجبات الصباحية لن تنتظر، وهي لا تريد استفزاز عاصم المتذمر اصلا من عملها، بدعوى انها لا تحتاجه و ان كل طلباتها مجابة، لكن السبب الحقيقي هو ان الحاجة روعة لا غنى لها عن حنين، نزلت حنين الدرج بسرعة قافزة كل درجتين معا الى أن اصطدمت بالكائن الضخم الذي يلوح لهم في المنزل كل صباحٍ فقط...
عاصم رشوان، الأخ الوسيم و الحبيب الغالي لأمهم دون منافس، بالرغم من سنوات عمره الثلاثة و الثلاثين، الا إنه لا يزال مدللها الأول، لكن الحق يقال أن هذا الدلال لم ينقص من رجولته يوما، فعاصم رشوان مثال الرجولة الخشنة، وهذا ليس إطراءا، فياليت دلال أمهم كان منح قلبه الجليدي بعضا من الرقة أو الحنان...
عاصم رشوان من أشرس مقاولين سوق المعمار، لا يرحم أبدا، في ظرف سنواتٍ قليلة كان السبب في زيادة ثروتهم الى ما وصلت اليه الآن بعد ان اقنع والده بالبدء في اعمال المقاولات والمعمار بالاضافة الى التجارة القديمة، بالرغم من أن الحاج اسماعيل رشوان كان قد كون ثروة لا بأس بها، الا أن عاصم رشوان كان له نصيب الأسد في الزيادة الأخيرة...
صحيح أن لا غبار على سمعته لكن شراسته و قساوة قلبه كانت السبب في القفز فوق المنافسين، إن لم نقل دهسهم، لكن كلا بالقانون...
نظر اليها عاصم بغضب بعد أن اصطدمت به مبعدا نظره عن الأوراق التي كان ينظر اليها وقال بفظاظة (انظري أمامك يا حنين، وكفي عن احلام يقظتك)
ثم تركها و أكمل طريقه وأصابعه تتلاعب بحباتِ السبحةِ التي يمسك بها، بينما يعاود النظر إلى الأوراق في اليد الأخرى...
سبحة عاصم رشوان، السبب الظاهري لكل الخلافات بينه و بين خطيبته الموقرة دانا، ابنة الحسب و النسب و التي كان ارتباطها بعاصم هو أعظم ارتباطٍ بين المال و السلطة...
لكن الخلافات الجوهرية بين عاصم ودانا أصبحت تصيب الجميع بالملل، لكن بالطبع ليس هناك من أملٍ في فسخ الخطوبة، بالنسبةِ له، عاصم لن يسمح حتى بالتفكير في الموضوع، كما أنه يعاملها بطريقةٍ تجعلها تلهث خلفه...
و آخر كل خلافٍ يتحدد أن دانا تريد عاصم أن يتخلى عن الإمساك بالسبحةِ التي لا تلائم وضعه بين معارفها، لكن عاصم لم يستسلم و لم يترك سبحته، فهو إن كان يتميز بشيءٍ واحد، فهو أنه تماما كحور لا يتصنع شخصا غير شخصه...
ولا تعرف كيف من الممكن أن تنجح حياته مع تلك المدعوة دانا والتي لم تتوانى عن افهامها قدرها جيدا في هذا المنزل، لذا فهي تحاول تجنبها، فمكانة دانة كزوجة عاصم المستقبيلة، مكانة لا تمس، لذا يجب أن تأقلم نفسها على عدم تجاوز حدودها التي تعرفها جيدا...
همست بفتور وهي تنظر اليه (صباح الخير لك أيضا يا عاصم).
لكنه طبعا لم يسمعها، أو لم يهتم، تنهدت وتابعت نزولها لكن بعد عدة درجات سمعت صوته يقول بهدوء (صباح النور يا حنين)
التفتت اليه لتجده يتابع صعوده دون أن ينظر اليها، تفكر في نفسها بوجوم...
هل حزنت حين دخل عاصم المنزل يوما ليعلن بمنتهى الهدوء انه قد وجد شريكة الحياة المستقبلية؟..
ربما، لا تعلم حقا لماذا آلمها هذا الموضوع، كانت طوال سنوات تواجدها في هذا البيت، لا تسمع من زوجة عمها سوى كلمة.
يا زوجة ابني البكر، وترى ابتسامة عمها المصدقة على اللقب، لم تكن تظن نفسها يوما من النوع العاطفي، لكنها كانت مقتنعة بان عاصم هو قدرها، قدرها المناسب تماما لإعطاء الصبغة الرسمية لوجودها هنا بين أسرتها الوحيدة التي لم تعرف غيرها، عاما بعد عام، كان الحرج يستبد بها أكثر، من وجودها بينهم دون مقابل، لذا كانت تحاول جاهدة أن يكون المقابل هو تفانيها في خدمة الجميع، حتى تحولت تلك الخدمة الى أمرٍ مفروغٍ منه...
لكنها لم تكن مستاءة أبدا، بل على العكس كانت تفعل بكل حب لكل فرد من أفراد أسرتها، منتظرة زوال الإحراج نهائيا بزواجها من عاصم فيصبح بيتها عمليا ككلِ فردٍ هنا، لم يكن ذلك الزواج المرتقب ليكون مكلفا لها سوى في أن تنتقل من غرفتها البسيطة الحبيبة، الى غرفة عاصم، لطالما ظنت أن الأمر ما كان ليكون صعبا أبدا، لكن حين أعلن عاصم نيته في الخطبة، أبعد بذلك فرصتها الأخيرة في الحياة بكرامة في هذا المنزل...
حين نزلت حنين الى طاولة الطعام المهيبة، وجدت مالك، أخاها الحبيب قبل أن يكون ابن عمها، التفت اليها ما أن سمع صوتها فنظر اليها مبتسما يقول برقة (صباح الخير حنونة)
نظرت طويلا الى عينيه المنطفئتين و المبتسمتين، فابتسمت بشقاوةٍ لترد عليه (صباح النور يا مالك، دائما مبكرا)
ابتسم مالك وهو يومىء برأسه قائلا بتشدق (بالتأكيد يا رأس الوخم، فأنا لست مثلكما أنتِ و سيدة الصبايا).
امتعضت حنين هي تريح كتفها من حقيبة حاسبها لتضعه على الكرسي المجاور لتقول بتهكم (لا تجرؤ على أن تقارنني بالفنانة، فأنا مستيقظة منذ زمن)
قال مالك مبتسما (وأين هي؟، ألم توقظيها؟)
مطت حنين شفتيها وهي تنظر اليه رافعة حاجبها دليل الاستهزاء و هي تهز كتفيها و ذراعيها في حركةٍ راقصة لتعلمه بما تفعل حور ككل يومٍ في هذا الوقت.
لم يملك مالك نفسه من الضحك على منظر حنين و هي تخبره دون كلام بما تفعل حور، ثم سأل (العرض اليومي؟)
أومأت حنين برأسها، ثم قالت بحنق (أشتهي مرة انزل لأراها قد سبقتني الى المطبخ ولو من باب المجاملة، على الأقل لتتعرف على تلك الغرفة المجهولة بالنسبة لها)
قال مالك بخفة (لا اريد النصح فيما لا أعرف، لكن على ما أتذكر ان حور أوشكت يوما على أن تحرق المنزل بساكنيه ذات يوم، وكانت فقط تقوم بقلي البطاطس).
شردت عينا حنين الى ذلك اليوم التاريخي، ففكرت وهي تومىء برأسها ثم قالت بعد تفكير عميق (نعم، معك حق، اذن فلنمحي تلك الأمنية المتعلقة بدخولها المطبخ، حياتنا أهم من القيمة المعنوية للمشاركة، الرقص أفضل لنا)
أومأ مالك برأسه غامزا وهو يقول (ها قد الزمتك الحجة)
قالت حنين تمط شفتيها (نعم مالك، اشكرك على الإفادة العميقة)
فقال مالك برقة (هلا دخلتِ الى أمي وكففتِ عن الثرثرة، لقد تعجبت من تأخرك في النزول اليوم).
أدت حنين التحية العسكرية وهي تقول اثناء توجهها الى المطبخ (ذاهبة على الفور، سيد مالك)
ها هي الحاجة روعة مثالٍ لشكل الأم التقليدي بجسدها الممتلىء قليلا و شالها الملفوف حول رأسها و وجهها الحاني المبتسم، ونظاراتها الحنونة، جائت حنين من خلفها لتحاوط خصرها الممتلىء بذراعيها، و تقبلها على وجنتها فشهقت زوجة عمها بفزع وهي تضع يدها على صدرها، ثم قالت تضحك (الن تكفي عن شغبك هذا أبدا، لقد كبرت يا حنين).
قالت حنين وهي تتمتع باحتضانها ككلِ يوم (ولو صار عمري سبعين، سأظل طفلتك دائما)
تنهدت الحاجة روعة و قالت مبتسمة بحنان (ومن سيكون حيا وقتها، فليعطك العمر الطويل يا ابنتي)
انقبض قلب حنين وهي تسمع صوت الفراق من جديد، لكنها رفضت الاستسلام له، هذا اليوم سيكون سعيدا و هي قادرة على ذلك
فقالت بتصميم (كفى كلاما وهيا الى العمل، نريد أن نطعم الشعب الجائع).
شمرت حنين كمي سترتها وهي تضع براد الشاي على النار متجاهلة مسخن الماء الكهربي، فالحاجة روعة مؤمنة بأن طعم الشاي لا يكتمل ولا يضبط المخ الا حين يُعد في البراد...
و اثناء خفقها للبيض، سمعت حنين صوت مربية معتز تهتف غاضبة و صوت خطواتها يضرب السلالم، فرفعت رأسها وهي تعقد حاجبيها بفزعٍ ناظرة الى الحاجة روعة المفزوعة هي الأخرى، فهتفت حنين بخوف (ليس مجددا).
ثم تركت ما بيدها وهي تخرج من المطبخ جريا، ولديها فكرة واضحة عن المشهد الذي ستراه و بالفعل ما أن خرجت حتى لمحت طيف معتز الصغير و هو يجري عاريا مبللا بالماء بعد استحمامه، بسرعةٍ لا تتناسب مع خطواته المتعثرة.
فزادت حنين من سرعة جريها عبر بهو المنزل الكبير وهي تراه بفزع يخرج من بابه المفتوح دائما لا تعلم لماذا، لطالما أخبرتهم أن الوضع قد تغير ولا أحد يترك أبواب البيوت مفتوحة هكذا مثل الزمن الزمن القديم و خاصة في وجود طفل...
صرخت حنين بفزع وهي تلحقه مع المربية الراكضة خلفه (يالهي، سيبرد إن خرج مبللا في الهواء).
لكن هيهات أن يسمعهم معتز الذي تمكن من الوصول إلى الباب قبلهم و خرج منه إلى الحديقة، وكانت حنين خلفه في لحظةٍ واحدة وتمكنت من التقاطه في أحضانها وهي تكبل حركته منحنية عليه و شعرها الأسود الطويل المفكوك من ربطته بسبب الجري يتطاير من حولها بجنونه ليكمل من جنون المشهد المجاني في الحديقة صباحا...
حملت حنين معتز الذي كان يضرب بساقيه معترضا متلويا يريد أن يكمل طريقه الى خارج الحديقة من بابها المفتوح بكلِ غباء ساكني المنزل الذين يظنون أنفسهم لازالو يسكنون الحي القديم حيث الأبواب تترك مفتوحة للجيران عادة...
كانت المربية قد وصلت إلى حنين في تلك اللحظة لاهثة وهي تلف معتز بالمنشفة المزغبة البيضاء من رأسه الى أقدامه، فرمقتها حنين بغضب وهي تلقي على رأسها باللوم بينما المربية تتلعثم وتخبرها أنها ما أن تستدير لتأخذ ملابس معتز اثناء استحمامه حتى يغافلها ليخرج من الحمام جريا منذ أن تعلم نزول السلم...
عادت حنين تصعد الدرجات القليلة أمام باب البيت لتدخل حاملة معتز الملتف بالمنشفة في أحضانها، و الحاجة روعة تقف في الباب مرعوبة من أن يكون معتز قد التقط البرد...
و وصل مالك حينها ليلتقط معتز من بين يدي حنين ليرفعه عاليا وهو يضحك قائلا (ستتسبب في اغماء الفتيات من بنات الجيران بما تفعله كل مرة)
قالت حنين بغضب و نفاذ صبر، (هذا ليس مضحكا يا مالك، فلندخل قبل أن يمرض)
.
ابتسم وهو ينظر اليها بجنونها و شقاوتها، تجري خلف طفلٍ ضاحك عاري تماما...
عيناها تبرقانِ غضبا، و شعرها الهمجي يسرح من حول رأسها بفوضى محببة، اتسعت ابتسامته وهو يراها تنجح في مهمتها المنشودة و تقبض على الصغير العاري بغير تهذيب، عيناه تبرقانِ في مضاهاة لبريقِ عينيها، شاردتانِ فيها و شفتاه منفرجتانِ قليلا بنفسٍ خافت...
ودون وعيٍ منه أخذت يلامس بابهامه. الخاتم الفضي الملتف حول اصبع الوسطى، رآها تبتعد حاملة الطفل بين ذراعيها وهو متعلق بعنقها ملتفا بمنشفته، للحظةٍ أراد أن يسأله عن عطرِ عنقها الطويل...
عاد ليلف الحلقة الفضية المنقوشة حول إصبعه، هامسا بحركةِ شفتيهِ دون صوت، خطيبتي، زوجتي!
ثم وعت عيناه لاختفائها عن عينيه فابتسم اكثر وعيناه تلمعان محركا سيارته الواقفة على الصف الآخر من الطريق أمام منزلهم، لينطلق بها ناهبا الأرضا بصوتها العالي...
كان الإفطار تماما ككل يوم، عاصم يقرأ أوراقه أو ينظر الى هاتفه الخاص، الحاجة روعة منشغلة بإضافة أشياء مختلفة الى طبق كلا منهم، حور تتلاعب بمحتويات صحنها عينيها تسبلانِ بشرودٍ في البعيد، مالك ينتاول طعامه بهدوؤه الذي يجعل هذا العالم مكانا أفضل بوجود أمثاله...
بينما تظل حنين تراقبهم في صمت، تهوى قراءة ما بداخل كلا منهم، دون أن يستطيع أحدا منهم قراءة ما بداخل الآخر، وبالطبع قراءة ما بداخلها...
التفت اليها عاصم ليقول بصرامة (هيا ياحنين لآخذك معي)
هزت حنين رأسها نفيا دون أن تنظر اليه وهي تقول بحذر (لا، سأستقل المواصلات)
أوشك على أن يسمعها بعضا من حماقته المعتادة لكن مالك أمسك بذراعه وهو يقول برفق (اتركها يا عاصم، فلتفعل حنين ما تحبه).
ابتسمت حنين وهي تنظر الى مالك الحبيب بامتنان و الذي بدوره ابتسم لها، فلوحت له وهي تجري الى الباب يرافقها صوت عاصم من خلفها يقول بغضب (لا أفهم لماذا تصر على استقلال المواصلات العامة، الن تكف عن مظاهر الكفاح تلك؟، ماذا تريد أن تثبت، وماذا سيقول عنا الناس ونحن نتركها تستقل المواصلات العامة بينما نمتلك أكثر من سيارة).
لكن حنين كانت قد أغلقت الباب خلفها دون أن تسمع رد مالك، وكان سببها الحقيقي الا يراها عمر فيظن أنها مرتبطة، خاصة وأنه إن سأل فسيعرف بأن لا أخوة لديها في الواقع، وهي تريد أن تمنحه كل الظروف الملائمة ليتقدم بالخطوة الأولى...
أملا واهيا جديدا يليق بمراهقة، لكن اليس هذا هو الحب؟، يجعل الجميع مراهقين...
أثناء مشيها اليومي المعتاد الى محطة الحافلات، و ما أن خرجت من حيهم الراقي و دخلت إلى الطريق العام حتى سمعت صوت أقدامٍ خلفها، ارهفت السمع وهي تتباطأ فتتباطأ معها الخطوات التي كانت لاهثة خلفها، لم تمنح نفسها الفرصة للخوف فليس هناك ما يخيف، الشارع مكتظ في هذا الوقت من النهار و لا سبيل لأحدٍ أن يقوم بشيءٍ متجاوز، لا بد أنه شخصٌ يسير خلفها بالصدفة، لذا أخرجت الأمر من بالها وهي تعود الى الإسراع في خطاها، لتجد أن الخطوات تسرع خلفها من جديد...
الآن بدأ قلبها يخفق خفقة زائدة، إلى أن سمعت صوتا يهمس من خلفها و الذي اقترب كثيرا من أذنها دون أن تدري (أتعلمين أنكِ جميلة؟)
اشتعلت غضبا وهي تتأكد أنه مجرد سمج ممن لا عمل له على الأرجح الا أن يستيقظ من يومه صباحا ليضيق على الفتيات حياتهن و كأن هذا هو ما ينقصهن...
سمعت همسة أخرى منه وهو يلهث خلفها (مقوماتك في هذا الجينز تبدو).
حينها لم تتمالك نفسها و هي تلتفت اليه وقد فارت بداخلها النزعة الغير متحضرة القديمة، و تناست تماما التصرف كأي أنثى محترمة خاصة و هي متأكدة تماما أن الحركة التالية له ستكون مد يده، لذا سبقته هي قبل أن يفعلها و مدت يدها دون تفكير لتصفعه بكلِ قوتها صارخة بكلمةٍ قديمة من أيام الحي الشعبي...
للحظة لم يصدق نفسه وهو ينظر الى تلك القصيرة أمامه والتي صفعته للتو، والتي لم تمنحه الفرصة ليفعل شيء بل قفزت في أول سيارة أجرة مرت أمامها في تلك اللحظة كإنقاذٍ من السماء...
صفقت الباب خلفها وصدرها يخفق بانفعال، عاقدة حاجبيها بغضب، لو كان هذا السمج قد فعل فعلته في حيهم القديم لربما كانو الرجال قد طحنوه بسبب ما قاله، فهي تتذكر أشياء مشابهة من هذا القبيل فيما مضى...
أخذت نفسا عميقا وهي تحاول أن تنسى هذا الموقف السخيف كله، لكم تمنت لو كان عاصم موجودا معها على غير العادة، فهو لا يتفاهم، يفكر بقبضته أولا ثم يسأل عما حدث، ابتسمت وهي تهدأ قليلا متخيلة هذا الموقف و عاصم يتصرف معه...
كان لا يزال واقفا وهو يغلي حنقا من تلك القزمة التي ضربته و هربت، استدار و هو يتوعدها في سره، لكنه اصطدم بصدرٍ صلبٍ ضخم، رفع رأسه ليواجه عينين شرستين بريقهما غريب مريب، لكن بملامحٍ جامدةٍ كالصخر
ارتبك للحظةٍ ثم قال بسفاقة (ماذا تريد يا هذا؟، ابتعد عن الطريق).
حاول أن يتفاداه ليمر لكن ذلك الجدار لم يتزحزح وهو يسد عليه الطريق، فرفع السمج رأسه استعدادا للشجار لكن نبرة هادئة صدمته (هل تعرف ماذا فعلت للتو؟)
عقد السمج حاجبيه وهو ينظر بريبةٍ الى ذلك الغامض أمامه و الذي تابع بنفس الهدوء (لقد تحرشت بزوجتي)
اتسعت عيناه خوفا ناقض ثقته المقززة التي كان يتحدث بها منذ لحظات، وتابع الجدار كلامه مبتسما قليلا دون مرح (وهذا عندنا ليس له سوى تصرف واحد).
وفي لحظةٍ خاطفةٍ أمسك بقبضتيه الضخمتين بمقدمة قميص السمج ليبعد رأسه إلى أقصى الوراء، ثم يعود بها بمنتهى السرعة لينطح بجبهته جبهة السمج المذهول، أو بمعنى أصح الذي كان مذهولا قبل هذه النطحة، والتي سقط بعدها ككومةٍ على الأرض...
نفض الرجل يديه ثم ركل ساق المتكوم أمامه ليعبر من فوقه وسط ذهول المتجمهرين ممن بدأو في التجمع حول ما يحدث، و في لحظةٍ اختفى...
سارت الى داخل مقر عملها و الذي تخصصت فيه كمصممة رسوم متحركة، مطرقة برأسها كالعادة بعد أن حيت حارس الأمن بإيمائة وابتسامة ودودة، سارت إلى المصعد لتقف عنده منتظرة، عيناها متعلقتانِ بأرقامه...
الى أن سمعت وقع الخطواتِ الرزينة من خلفها، كيف يمكن لصوتِ خصواتِ هادئة على الأرض الناعمة المصقولة أن يكون لها تأثير مدوي بداخل قلبها، خطوة، خطوتين، ثلاثِ خطوات، ثم العطر الصادم المميز، نعم، إنه هو، تستطيع تمييز خطواته دون أن تراه، و قف خلفها مباشرة، و سمعت الصوت العميق الرنان وهو يقول (السلام عليكم).
ردت عليه بكلمةٍ لم يسمع حروفها حقا، دون أن تلتفت حتى، إن التفتت الآن فستفضح نفسها بوجهها الذي يكاد أن ينفجر الآن من شدة سخونته، يالهي ماذا أصابها، إنها ليست مراهقةٍ لتشعر بمثل ما تشعر به الآن...
سيستقلانِ المصعد معا؟، أنها على وشكِ الإغماء من شدة الدوار التي أصابتها، ليست المرةِ الأولى التي يستقلانِ المصعد فيها سويا، وكل مرة تبدو أكثر حماقة من المرة التي سبقتها، مرة تتعثر ومرة تسقط ما بيدها، ومرة خطت فوق قدمه وهي تسبقه للخروج بسرعة، بالرغم من أنه كان يحاول أن يفسح لها الطريق لتتقدمه...
زفرت بصمت وهي تفكر بالتظاهر بانها نسيت شيئا ما لتهرب من هنا، الا أن وصول المصعد قطع عليها خطتها و هو يفتح أبوابه، ظلت متسمرة مكانها لا تعرف كيف تتصرف، الى أن جاء الصوت العميق من خلفها يقول بما يشبه التسلية (تفضلي، أنتِ أولا)
استطاعت بوضوح سماع تلك التسليةِ المختلطة بصوته الرزين، هل تذكر ذاك الموقف وهي تدهس قدمه و كأنها طفلة حمقاء مصصمة على الخروج أولا، لا تعتقد أنه يتذكر أي شيءٍ يخصها...
أخذت نفسا عميقا وهي تحاول جاهدة السيطرة على عضلاتِ جسدها التي تبدو على وشكِ التفكك، دخلت متثاقلة و كأنها تمن عيه بدخولها، ثم لم تجد بدا من أن تستدير ما أن دخلت، ليقع نظرها عليه...
للحظاتٍ توقف الوقت كالعادة، و طافت عيناها الحنونتين بحنينٍ دافىء فوق ملامحه القريبة الى القلب، انه طويل. جذاب جاذبية رجولية خارقة، عيناه، عيناه حين تصطدمان بعينيها تبدوانِ كلحنٍ يسافر بها الى البعيد، للحظةٍ واحدة تعلقت عيناهما، للحظةٍ واحدة تلكئت عيناه لا تبتعدانِ ككل مرة، ثم انخفضت العينانِ العسليتانِ لتمسحا وجنتيها الحمراوين، انتفضت بشدةٍ وهي تشعر و كأنه قد لمس وجنتيها بالفعل، أطرقت برأسها سريعا وهي تحاول جاهدة التنفس دون جدوى، وفي أحدى محاولاتها لأخذ نفسا عميقا سعلت بشدة، تبعتها عدة شهقات متتالية، حتى دمعت عيناها، فمدت يدها لتبعد النظارةِ عنهما...
شعرت به يقترب منها خطوة، فالتصقت بمرآة المصعد و سعالها يزداد بغباء، وما كاد أن يوقف قلبها هو انحنائه اليها قليلا وهو يهمس بقلق، (هل أنتِ بخير، حنين)
توقف سعالها، و اتسعت عيناها فبدتا بجمال بدرينِ مكتملين وهي تنظر اليه بصدمة، إنه يعرف اسمها، صدىء القلب يعرف اسمها، عمر لفظ باسم حنين...