رواية المشاكسة المتمردة للكاتبة منال سالم الفصل الأول
تجاوزت البوابات الأمنية للمطار محاولة البحث عن سيارة أجرة لانتقل بها إلى منطقة المقابر؛ لكن فور أن وطأت للخارج وجدت أحدهم يقوم باعتراض طريقي. رفعت بصري لأنظر إليه بإمعانٍ لا يخلو من الضيق، فوجدته يفوقني طولًا، وضخامة، تبرز عضلاته المنتفخة من قميصه الأبيض الذي يرتديه على ذلك السروال الأسود الضيق. نظرته الماجنة إلى أوحت أنه لعوب وخطير بشكلٍ يستحث دواخلي على الحذر التام منه.
في البداية ظننت أنها مجرد معاكسة سخيفة منه بعدما لعب الخمر برأسه لاجتذاب انتباهي، والتودد إلى بصورة غير لائقة، حاولت تجنبه، وتجاوزه في هدوء؛ ومع ذلك واصل سد الطريق على ليستفزني بسماجته الثقيلة، سرعان ما تصاعدت الدماء الحانقة بداخلي، وأوشكت على التشاجر معه؛ لكنه أجبرني على ابتلاع الكلمات في جوفي عندما بادر بالكلام بهذه اللهجة المتسلطة:
-آنسة آن! تعالي معي، الجميع في انتظارك.
للحظة وقفت مشدوهة في مكاني، أتطلع إليه بذهولٍ مصدوم، فلا أحد يعرفني هنا، وقد جئتُ سرًا، دون ترتيبات مسبقة، تداركت نفسي، وتراجعت خطوة للخلف مع هذه النظرة الدهشة التي تحتل حدقتي، ما لبث أن استعدت زمام السيطرة على حالي الذاهل، وسألته في تحفزٍ، وقد اتخذت قسماتي طابعًا جادًا مشوبًا بالانزعاج:
-من أنت؟ وكيف تعرفني؟
رأيت ابتسامة مغيظة تتشكل على زاوية فمه وهو يجيبني بسمةٍ من الغرور محسوسة في صوته:.
-أنا أعرف عنكِ الكثير...
وقبل أن أنتقل لسؤالي التالي، تابع بطريقته المتحكمة مشيرًا لي بيده لأطيعه قسرًا:
-هيا بنا، لا أريد إضاعة المزيد من الوقت بالثرثرة هنا، فمازال أمامنا طريق طويل.
تمسكت بعنادي، وتحديته في ازدراءٍ بائن في نظرتي الاحتقارية إليه:
-أتظن الأمر بهذه البساطة لأستجيب لشخصٍ أجهله كليًا؟
تابعت التراجع للوراء وأنا لا أزال أنعته:
-أأنت مجنون؟
أوليته ظهري تمهيدًا لذهابي في الاتجاه المعاكس، ولكني شهقت في صدمة عندما انقض بغتةٍ على ذراعي ليمسك بي منه، احتدت نظراتي تجاهه، وتلون وجهي بحمرة غاضبة وهو يكلمني بلهجةٍ استثارت عصبيتي ضده وهو يجبرني على السير معه:
-يبدو أنكِ مشاكسة مثل شقيقتك، تحركي.
إشارته المقصودة عن شقيقتي أكدت لي أنه ينتمي لذلك التنظيم اللعين، تفقه ذهني إلى كون زعيمهم قد قام بتتبع خطواتي، وأرسل لي من يأسرني، بالطبع لم أكن لاستسلم لما يُفرض على بسهولةٍ، قاومته بأقصى طاقتي لأعيقه عن دفعي نحو سيارة رباعية تنتظرنا على بعد عدة أمتارٍ وأنا شبه أصرخ:
-توقف، اترك ذراعي.
العجيب في الأمر أن كل من يمر من حولنا كان ينظر إلينا بفضولٍ دون تدخل، وكأن الجميع قد ارتضى بالبقاء في دور المشاهد الصامت! استخدمت قبضتي الأخرى الممسكة بحقيبة يدي لألكز بها ذلك الفظ في صدره ووجهه، فتفاجأ بما أفعل، وحاول تفادي ضرباتي الموجهة إليه بقوةٍ، ليقول بعدما نجح في انتزاع الحقيبة مني بشيءٍ من الإعجاب:
-أوه، لديك عدة مهارات، هذا مثير!
هددته وأنا أجاهد لاستعادة ذراعي من بين أصابعه:.
-سأستدعي لك الشرطة!
لم يتأثر للحظة بتهديدي، كنت وكأني ألقيت بمزحةٍ طريفة عليه لأسليه، استدار كليًا ليواجهني، وخاطبني بهذه النظرة المغترة المماثلة لنبرته:
-حسنًا، يبدو أن الطريقة المسالمة لا تجدي نفعًا مع نساء عائلة فاليريو، لنتحول للأخرى المعتادة.
قبل أن أفكر في سؤاله عما يقصد، وجدته ينحني نحوي، ليحملني على كتفه، فصحتُ في ذعرٍ ممزوجٍ بالحرج:
-ما الذي تفعله؟
ركلت بقدمي في الهواء، ووكزته في ظهره بقبضتي وصوتي الصارخ يهدر:
-اللعنة عليك، اتركني.
استخدمت كامل قواي لأتمكن من رفع جسدي، فممارسة الرياضة وخاصة بعض المهارات القتالية، قد أعطتني بعض الأفضلية في التعامل مع مثل هذه المواقف. أمسكت برأسه بقبضتي لأشده بقسوةٍ من شعره، وبيدي الأخرى خمشت وجهه وعنقه بأظافري، حينئذ قام بخفضي قليلًا دون أن يحررني، فأتت إلى الفرصة لألتصق به كالعلقة، حتى أتمكن من قضم شحمة أذنه بشراسةٍ، صدمه ما فعلت وأوجعه بشدة، فطرحني أرضًا وهو ينعتني في حرقةٍ، ويده تتحسس أذنه المتورمة:.
-أيتها ال...
آلمتني السقطة القاسية، ومع ذلك تحاملت على الوجع الذي عصف بجسدي وأطرافي لأنهض، وأفر منه؛ لكن محاولتي البائسة فشلت قبل أن تتم حينما حاصرني من جاءوا معه، وعندما التفتُ لأنظر إليهم لم أشعر به وهو يلحق بي، ليقوم بعدها بتطويقي من الخلف. أصبحت عاجزة تمامًا عن الفكاك منه، أحسست بثقل رأسه على كتفي، قبل أن يأتيني صوته الهامس في أذني حين قال:
-أنتِ أكثر جراءة!
دبت قشعريرة عظيمة في بدني، فقمت بمحاولة أخيرة بالصراخ رغم يقيني بأنها لن تشكل أدنى فارق في إنقاذي منه:
-النجدة! إنه يختطفني!
ارتفعت يده لتكمم فمي، فشعرت باختناق أنفاسي، والمزيد من موجات الرعب تتدفق في أوصالي، وهو يخاطبني على نفس الوتيرة الهامسة:
-إن واصلتِ الصراخ صدقيني لن يعجبكِ ردة فعلي.
انتفضت شعيرات جسدي دفعة واحدة، خاصة عندما تابع مهددًا:
-فمن الأفضل أن تلزمي الهدوء، وإلا لأذيتُ أحباءك!
لم يزح يده عن فمي، ظل يكتم صوتي، وكأنه لا يضمن خضوعي لأمره، أجبرني على السير معه لمسافة تقترب من المترين، حيث تصطف السيارة الرباعية –ذات اللون الأسود الطاغي حتى في زجاجها- بمحاذاة الرصيف. تولى أحدهم فتح الباب الخلفي، ودفعني بقدرٍ من الخشونة للداخل، لأصبح أسيرة ذلك الغامض، بشكلٍ غريزي اندفعت نحو الباب الآخر لأفتحه؛ لكنه لم يستجب لي، سمعت صوته الساخر يقول:
-لا تحاولي!
كان على أن أجرب حظي وإن كنت غير واثقة من نجاح المحاولة، استدرت برأسي تجاهه، ونظرت إليه شزرًا، فوجدته يبتسم لي باستفزازٍ، ليقول بعدها بنبرة جعلت دبيب قلبي يتسارع في رهبةٍ متزايدة، وتلك النظرة اللعوب تتراقص في مقلتيه:
-يبدو أن القدر أرسلك لي في الوقت المناسب!