رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل السابع
يبدو أن رفيقتها استغلت الفرصة لتحصل على عطلة طويلة الأجل امتدت لأيامٍ متعاقبة دون أن تكبد نفسها مشقة المجيء لتفقد مالها، ووحدها من باتت مسئولة عن كل ما يتعلق بالعمل، لم تمانع "فيروزة" بالقيام بمسئولياتها على أكمل وجه، ربما أكسبها ذلك المزيد من الخبرة حين تدير عملها الخاص في المستقبل، انتهت من توضيب صندوق آخر مليء بالمطلوب لأحد الزبائن، راجعت محتوياته لمرة أخرى حتى تتأكد من عدم إغفالها لما يخص العميل، اتجهت بعدها لمكتب "علا" لتخرج دفتر الفواتير منه، انتبهت للفاتورة التي لم تحصل بعد، رفعتها لتقرأ الاسم، كانت مسجلة باسم "تميم سلطان"، تبدلت تعبيراتها للضيق، حكت مقدمة رأسها وهي تتساءل في حيرة:
-مش معقول، ده فاتورته لسه هنا؟
اعتصرت ذهنها لتستعيد سبب غفلتها عنها، بدت وكأنها تتناقش مع نفسها بصوت مسموع حين تابعت:
-أيوه.. من ساعة حادثة "آسر"، معنى كده إن الفلوس مادفعتش.
ضربت جبينها وهي تتابع بنبرة لائمة:
-ده الموضوع راح من بالي خالص، العمل إيه دلوقتي؟
أسندت الفاتورة على سطح المكتب، ونقرت بأصابعها عليه في لزمة متكررة لتفكر مليًا في حلٍ ملائم لتلك المعضلة، خاصة بعد أن مر على انقضاء حفل السبوع ما يقرب من ثلاثة أيام، رددت مع نفسها في ضيقٍ حرج:
-ما هي لو كانت فلوسي كنت عديت الموضوع، ودفعت الفرق حتى من جيبي، بس الفلوس اللي معايا ماتكفيش ربع المبلغ ده .. المفروض اتصرف إزاي؟
أراحت ظهرها للخلف وقد ظهرت عليها أمارات الحيرة أكثر، نفخت في استياءٍ قبل أن تقول لنفسها:
-بيتهيألي مافيهاش حاجة لما أفكره بده، أكيد هو زيي ناسي..
ثم ابتسمت لنفسها وهي تعلق بتهكمٍ:
-ما هو كان معايا أصلاً!
طوت "فيروزة" الفاتورة ووضعتها في حقيبتها وقد باتت شبه حاسمة لأمرها بعد تفكيرٍ عميق، ستذهب إليه خلال فترة استراحتها عند دكانه في زيارة ودية، قصيرة وسريعة تطالبه فيها بسداد ثمن البضائع دون حرجٍ .. هكذا أقنعت نفسها ببساطة!
قدمت خطوة وأخرت الثانية وهي تسير في اتجاهها نحو الدكان، نظرة مدققة ألقتها على من يمرون أمامه علها تجده بينهم، لم تتمكن من إيجاده فتابعت تقدمها نحو المكان وهي تعيد ترتيب أفكارها، كانت متحرجة من الموقف برمته، فليس من المفترض أن تطالبه بسداد شيء ما وهي في الأصل تدين له بمال المشفى، وإن كان ينكر ذلك، لكنها متيقنة من كونه الوحيد الذي راوغها خلسة وخدعها بطريقة ما لا تعلمها ليعيد بها المال المال، أفاقت "فيروزة" من سرحانها السريع في أفكارها على صوت أحد العمال المنادي لزميله، تنبهت لوجودها أمام المدخل، استعادت زمام أمرها، والتفتت برأسها للجانب لتجد الحاج "بدير" يتطلع إليها بوجهه البشوش، هتف الأخير مرحبًا بها:
-صباح الخير يا بنتي.
بادلته ابتسامة ودودة وهي ترد:
-صباح الخير يا حاج..
ثم ألقت نظرة عابرة على من بالداخل وهي تواصل القول:
-هو المعلم "تميم" موجود؟
أجابها نافيًا:
-لأ .. في مشوار.. خير في حاجة؟.
مطت شفتيها في حيرةٍ، فأصر عليها "بدير" بنظراته الجادة المسلطة عليها:
-قولي ماتتكسفيش.
تشجعت لتقول بحذرٍ:
-أصل الحكاية ومافيها إنه كان اشترى حاجات من المحل اللي أنا شغالة فيه عشان سبوع حفيدك، والفاتورة.. لسه مادفعتش.
سألها مباشرةٍ:
-هي فين؟
أخرجتها من حقيبتها لتعطيه إياها، نظر لها بإمعانٍ بعد أن تناولها منها، شعرت "فيروزة" بمزيدٍ من الحرج مع تدقيقه الواضح فيها، وقالت:
-أنا مكسوفة من حضرتك أوي.
رد عليه بابتسامةٍ عادية:
-حقك يا بنتي، أنا بس بأراجع الحسبة عشان لو في غلطة ولا حاجة، متأخذنيش اتعودت على كده.
علقت عليه بتوترٍ طفيف مستخدمة يدها في الإشارة:
-المشكلة دي فلوس ناس، ومش بتاعتي، وأنا المفروض كنت أخد بالي.
قال ببساطةٍ:
-الاتفاق اتفاق.. هو كلام عيال ولا إيه؟
نهض من جلسته مستندًا على عكازه، ثم دعاها بترحابه الودي:
-اشربي حاجة عقبال ما أجيبلك الفلوس.
ردت بتهذيبٍ وهي تجاهد لتحافظ على بسمتها العملية قبالته:
-مالوش لازمة.
ألح عليها بجديةٍ:
-لأ إزاي.. مايصحش، تبقي عندي وتتعاملي زي الغريب..
هزت رأسها بإيماءة موافقة، فأضاف في حماسٍ:
-وبعدين أكون وصيتهم يجهزوا كام حاجة يبعتوها على البيت.
شعرت بحرجٍ أكبر من كرمه الزائد، واعتذرت منه بلباقةٍ:
-خيرك سابق يا حاج، مافيش داعي و...
قاطعها "بدير" بإصرارٍ مشيرًا لها بنظراته:
-ده واجب عليا، ده إنتو من العيلة..
ثم رفع من نبرته ليأمر أحد عماله:
-كرسي بسرعة يا وله.
أحضر لها العامل مقعدًا خشبيًا بعد تلميعه لتجلس عليه، ابتسمت وهي ترد:
-شكرًا يا حاج "بدير".
غاب في الداخل لبضعة دقائق، وانتظرت "فيروزة" بترقبٍ تتابع في فتور حركة المارة العابرين من أمامها، استرعى انتباهها أصوات الشاحنات التي تنقل البضائع من وإلى الدكان، وكأن العمل لا يتوقف للحظة، عاد إليها "بدير" يمد يده ناحيتها أولاً بمفتاحٍ معلق به ميدالية فضية موضحًا:
-دي نسخة من مفتاح الشقة عشان أما تروحوها في أي وقت.
ضاقت عيناها مرددة في استغرابٍ:
-شقة؟!
تعجب من الحيرة الظاهرة عليها، وقال بمزيدٍ من الإيضاح:
-بتاعة أختك.
الآن تفقه ذهنها للأمر، ووضعته في حقيبتها لتقول متصنعة الابتسام:
-أيوه.. تمام.
استرسل في الحديث ليضيف من تلقاء نفسه:
-كانت الحاجة قالتلي إنكم عاوزين نسخة تبقى معاكو، وأنا كنت مستني قرب ما العمال تخلص شغل فيها عشان اخلي النجار يغير طبلة الباب وتبقوا معاكو النسخ الجديدة.
ورغم دهشتها من ذلك الطلب إلا أنها ردت مادحة إياه، فإذ ربما دار الحوار بينهما في عدم وجودها:
-مش مشكلة، كفاية اللي حضرتك عامله عشانا.
على الجانب الآخر، هبطت كلتاهما الدرجات الرخامية من تلك البناية – حديثة الطراز في تصميمها- بعد انتهائها من الكشف النسائي بعيادة الطبيب الذي قررت المتابعة معه، تأكدت "خلود" من سير حملها في مراحله الأولى بشكلٍ طبيعي من خلال نتائج التحاليل الرقمية التي أجرتها، حينها فقط قررت الإفصــاح عما تحمله أحشائها، اتجهت مع والدتها التي لازمتها إلى الطريق الرئيسي حيث ستنحرف منه عند الناصية للزقاق الجانبي لتصل منه إلى الدكان، بدا الوجوم بائنًا على ملامح "بثينة" التي عاتبتها بضيقٍ:
-بردك مصممة تعملي اللي في دماغك يا "خلود"؟ خلينا نرجع البيت، وابقي قوليله هناك.
أصرت عليها بحماسٍ، والسعادة تتراقص في حدقتيها:
-فرصة يامه واحنا خلاص بقينا قريبين من الدكان، عاوزة أطل عليه، وبالمرة أفرح حمايا، ويعرف إن حفيده الحقيقي جاي.
ضاقت نظرات والدتها بشكٍ نحوها، وكأنها تنفذ إليها لتكشف عن أغوارها، تنهدت تسألها في مكرٍ:
-حماكي بردك؟ ولا عاوزة تفتشي ورا جوزك؟
ثم مصمصت شفتيها لتدافع عنه بصدقٍ:
-مع إنه مالوش في اللف ولا الدوران.
تطلعت إليها ابنتها بنظرة غامضة، فوالدتها الوحيدة التي تقرأها بوضوح وتعرف نواياها، حاولت التهرب من إجابتها بصراحةٍ، وقالت.
-أنا عارفة، بس هوديني وخلاص، مش هنخسر حاجة.
زفرت ترد على مضضٍ:
-أما نشوف أخرتها إيه، بس عاوزين نجيب الفيتامينات والمثبتتات اللي قال عليها الضاكتور ده
ابتسمت قائلة لها:
-هنعدي على الصيدلية في طريقنا..
وقبل أن تنحرف الاثنتان عند الناصية لمحت كلتاهما "بدير" وهو يمد كفه بمظروف به نقودٍ ليعطيه لـ "فيروزة"، على ما يبدو كان يحصيهم قبل غلقه للتأكد من العدد، شخصت أبصارهما في ذهولٍ، وفي لحظة اختفت علامات الفرحة لتظهر مكانها القتامة والكراهية .. كزت "خلود" على أسنانها في غيظٍ كبير، وهتفت بأنفاسٍ شبه منفعلة تشكو والدتها:
-شوفتي، أهوو أنا قلبي كان حاسس، بنت الأبلسة واقفة هناك أهي!
تساءلت "بثينة" في فضولٍ متزايد، وعيناها تلمعان بشكلٍ مقلق:
-ودي جاية ليه؟
أجابت نافية وشعورها بالغيرة قد تعاظم بداخلها:
-مش عارفة، بس أكيد عاوزة تشغل جوزي، أنا إحساسي ما بيكدبش.
أضافت عليها والدتها في امتعاضٍ حاقد:
-لأ وشوفي حماكي بيطلع بواكي فلوس ويديها، وهي ما هتصدق تغرف طبعًا، ما هو مال سايب وأتة محلولة.
ردت عليها "خلود" بنبرة عبرت عن غِلها:
-أكيد جاية تبلفه بكلمتين وتضحك عليه بوش العقارب ده.
أيدتها الرأي، وأضافت عليها في حنقٍ:
-أومال إيه؟ لزوم تكاليف توضيب الشقة، ويبقى ما صرفوش حاجة، وابني عمال يدفع ويصرف على البت دي.
شحذت "خلود" قواها الغاضبة لداخلها، ونطقت من بين شفتيها تتوعدها:
-أنا رايحلها أعرفها مقامها.
حذرتها والدتها بجديةٍ وقد شدت على رسغها لتوقفها:
-اوعي تعملي حاجة مجنونة يا بت، ماتبوظيش الطبخة على شوية ملح.
استلت يدها من أصابعها، وقالت بكل غيظها المتجمع بداخلها:
-سيبيني يامه، لازم أوقفها عند حدها.
اعترضت طريقها بجسدها، وحذرتها من جديد بلهجة صارمة وهي تشير لها بعينيها الخبيثتين:
-ماتخليش واحدة زي دي تعلي عليكي وتكسب الراجل ده.
صاحت بها في عصبيةٍ:
-حاسبي يامه، كله إلا جوزي.
دفعتها لتواصل تقدمها وشرارات الغضب تنطلق من حدقتيها المشتعلتين، دمدمت والدتها من ورائها:
-استر يا رب.
نفخت كتل الهواء من جوفها طوال سيرها المتعصب نحو الدكان، ثم استنشقت دفعة أخيرة بعمق لتحجم بها انفعالاتها الثائرة، للحظة تداركت نفسها ومنعتها من التهور برعونة، حاولت أن تبدو لطيفة، طيعة، ودودة حين قالت بابتسامة لطيفة:
-سلامو عليكم، إزيك يا عمي؟
استدار نحوها "بدير" ليتفاجأ بوجودها، تساءل بعفويةٍ:
-"خلود"، خير يا بنتي؟ جاية هنا ليه؟
ضغطت على كل كلمة تتلفظ بها وهي ترد، وعيناها تنظران إلى "فيروزة" بحقدٍ رغم وداعتها المصطنعة:
-جاية أبشرك بأخبار حلوة، بس "تميم" جوزي فين؟ عاوزاه يسمع معاك يا عمي.
أجابها "بدير" بتمهلٍ:
-وراه مصالح بيخلصها.. عاوزة تقوليلي إيه؟
احتدت نظرات "بثينة" التي أتت ركضًا من خلفها، همست لنفسها برجاءٍ آملة في نفسها ألا تفسد ابنتها ما تخطط له:
-اوعي يا بنت المجنونة! كده هتبوظي كل حاجة!
ماطلت "خلود" في حديثها قائلة:
-أصل أنا كنت تعبانة اليومين اللي فاتوا دول أوي يا عمي، مكونتش قادرة أقف على حيلي أبدًا، والحمدلله اطمنت وعرفت السبب.
انتبه لجملها الغامضة، وتساءل والفضول مرسوم على ملامحه:
-خير يا بنتي؟ إن شاءالله مافيش حاجة خطيرة.
ابتسامة ماكرة احتلت شفتاها وهي توضح:
-يا عمي كلها كام شهر وتبقى جد لحفيد من صلبك، أنا قولت أبشرك قبل أي حد..
هلل "بدير" بفرحة حقيقية:
-اللهم لك الحمد والشكر، إنتي متأكدة يا بنتي؟
ردت بابتسامة أكثر اتساعًا:
-أيوه، حتى جوزي الغالي لسه مايعرفش.
رددت "فيروزة" مع نفسها بنبرة متهكمة ساخرة منها وهي تصغي لكم الزيف في حديثها الأجوف:
-أه طبعًا جوزي حبيبي قرة عيني.
تابعت "خلود" حديثها قائلة بتملقٍ مليء باللؤم:
-البشارة يا عمي لازم تكون عندك الأول، ده إنت الغالي عندي.
وكأن سعادة الدنيا قد تجمعت في نظراته نحوها بعد أخبارها المشوقة تلك، امتداد اسم عائلته سيكون من خلال الحفيد المنتظر، عبر "بدير" عن فرحته العارمة قائلاً:
-اللهم صلي على النبي.. هي دي الأخبار اللي تفرح، يا خير ما عملتي.. ربنا يكملك على خير..
ربتت "بثينة" بيدها في قوةٍ ملحوظة على كتف "فيروزة" تستحثها بنبرة ذات مغزى:
-مش تباركلي لـ"خلود" يا حلوة.
نظرت لها الأخيرة شزرًا من طرف عينها قبل أن توجه نظراتها نحو ابنتها السمجة، وقالت باقتضابٍ:
-مبروك.
ردت عليها "خلود" بترفعٍ، كأنها تجبر نفسها على الحديث معها:
-متشكرة.
تنحنح "بدير" مقترحًا:
-ما تمشوش، أنا هابعت معاكو حد يوصلكم البيت عشان بهدلة المواصلات، وأول ما "تميم" يرجع هبعته عندك تفرحيه.
ردت "خلود" تشكره بتعبيراتٍ مبتسمة:
-كتر خيرك يا عمي.
ابتعد "بدير" للحظاتٍ لتفرغ الساحة لثلاثتهن حيث تتكشف الأقنعة وتظهر الأوجه الحقيقية، ألقت "خلود" نظرة احتقارية شملت "فيروزة" من رأسها لأخمص قدميها قبل أن تنطق بوقاحةٍ:
-عقبالك إنتي وأختك... ولو إن مافيش حاجة مضمونة اليومين دول، صح يامه؟
دعمتها "بثينة" في حديثها السمج، وقالت:
-أيوه.. كله مغشوش يا بت، وياما كتير اتغفلوا أونطة
تحفزت "فيروزة" في وقفتها لتنظر لكلتيهما باستخفافٍ، دلت كلماتهما على حقدها الدفين، بدت أكثر ثباتًا وغرورًا عن زي قبل وهي تعمق من نظراتها نحوهما، ثم علقت حقيبتها على كتفها لترد ببرود استفزهما:
-معاكو حق.. حتى الحامل نفسها، مش مضمون يكمل حملها ولا لأ.. وخصوصًا لو كانت منفسنة وبتغِل في نفسها كتير.
استشاطت "خلود" غضبًا، وردت عليها بحدةٍ، وكأن الدماء تكاد تنفجر في عروقها:
-إنتي بتقولي إيه؟
تابعت "فيروزة" القول بنفس البرود الهادئ دون أن تتبدل تعابيرها:
-خافي على صحتك يا .. مدام وبلاش هري كتير، مش كويس عليكي.. إنتي لسه في الأول!
أتبعت جملتها بضحكة مستهزأة بها، فاغتاظت "خلود" أكثر من نبرتها الهازئة، وهمَّت بلعنها بصوتٍ محتد:
-يا بنت الـ...
منعتها والدتها من التفوه بحماقة لتهمس في أذنها:
-اهدي يا "خلود"، ليها يومها
ردت عليها بنظراتها المشتعلة:
-إنتي مش شيفاها يامه؟
توعدتها بكلمة حاسمة كانت واثقة أنها ستنفذ ما تنتويه:
-اصبري، ماتبوظيش الدنيا.
ضغطت "خلود" على أسنانها هامسة بسخطٍ:
-عقبال ما نعزي فيها قريب.
خطت "فيروزة" مبتعدة عن الاثنتين قبل أن تتورط معهما في مشكلة حتمًا ستنتهي في القسم الشرطي بعد ضربهما بشراسة، اتجهت إلى داخل الدكان لتقول لـ "بدير" الذي كان مشغولاً بالحديث في هاتفه:
-هامشي أنا يا حاج عشان لسه ورايا شغل.
أبعد الهاتف عن أذنه ليرد:
-استني ده أنا جاي أقعد معاكي.
اعتذرت بلطفٍ:
-تتعوض وقت تاني، ومبروك ..
قال في ابتهاجٍ:
-الله يبارك فيكي.
تعمدت "فيروزة" أن تخرج من الباب الآخر للدكان لتتجنب رؤية تلك الوقحة وأمها، اتجهت صوب الشارع الفرعي لتختصر المسافات لتعود إلى عملها، في حين انتظرت "خلود" بالخارج وحقدها متفشي فيها، تساءلت في مكرٍ محاولة إخفاء غضبها حين عاد إليها حماها:
-أومال أخت عروسة أخويا جاية ليه؟
رد "بدير" متهربًا من الإجابة لكون الأمر لا يعنيها:
-كانت جاية في مصلحة كده وانتهت.
ابتلع ريقها على مضضٍ، وقالت ونيران غيظها تكاد تنفث من أذنيها:
-أنا هاقوم يا عمي، هارجع بيتي بقى، لأحسن تعبانة.
رد في تفهمٍ:
-ماتعمليش حاجة، وأنا أول ما "تميم" يرجع هابعته عندك.
ابتسمت بودٍ زائف وهي تقول:
-بإذن الله.
استندت على ذراع والدتها لتسير معها وقد تبددت اللطافة الظاهرة عليها، وبختها "بثينة" بوجهها العابس:
-اتسحبتي من لسانك وقولتي قصادها ليه؟ دي ممكن تحسدك!
نفخت قائلة في سأمٍ:
-أهوو اللي حصل..
ما لبث أن تحولت نبرتها للحقد عندما تابعت:
-وبعدين كان لازم أوقف البت دي عند حدها يامه، عشان لو بترسم على جوزي.
زجرتها أمها قائلة:
-وأنا مليون مرة أفهمك جوزك مالوش في الملاوعة، وشغل الحريم الصيع.
ردت بإصرارٍ وقد امتلأ صدرها بأضعافٍ مضاعفة من الغل والكراهية غير المبررة ناحيتها:
-لأ يامه إنتي مش فاهمة البت دي...
غامت عيناها أكثر وعكست حدقتاها ظلامًا واضحًا عندما أكملت:
-زي الحرباية، بتتمسكن لحد ما تتمكن!
ألقت بنفسها في أحضانه بمجرد أن عاد إلى المنزل -بعد يوم مرهق كالعادة- مغلقًا الباب من خلفه، مرغت "خلود" رأسها في صدر زوجها، وضغطت على جسده بذراعيها لتُشعر نفسها بأنه يحتويها ويضمها إليها رغم كونه لا يزال جامدًا في مكانه، رفعت رأسها لتنظر إليه بعينين يملأوهما الشغف، ابتسمت قبل أن تتنهد بعمقٍ لتقول له باشتياقٍ:
-حبيبي، وحشتني أوي.
هز "تميم" رأسه مبتسمًا، وكأن الكلمات تأبى الخروج من جوفه لتنطق كذبًا معبرة عن مشاعر لا يشعر بها نحوها، ما زال عالقًا في منطقة الحياد فيما يخص أمرها .. خللت أناملها في أصابعه لتسحبه خلفها وهي تتابع بحماسٍ:
-تعالى عشان هافرحك.
تساءل في اهتمامٍ قليل وهو يتبعها:
-خير، أبويا قالي إنك عاوزة تقوليلي حاجة مهمة.
أجلسته على الأريكة القريبة وجلست في حجره، مسحت بيدها على ذقنه النابتة وعيناها المسبلتان تتجولان على تفاصيل وجهه، بادلها نظرة حائرة مستغربًا مما تفعله، فاستطردت تقول بابتسامة عريضة أظهرت نواجذها:
-أنا .. حامل.
تأهب في جلسته وردد مصدومًا:
-حامل؟!
أومأت برأسها مُسهبة في الحديث معه:
-أيوه، روحت للدكتور واتأكدت، والحمدلله ربنا كرمنا، وهتبقى أب يا حبيبي.
للحظة ظل على حالةٍ من الذهول الصادم، مزيح من المشاعر العجيبة اقتحمته فجأة، حلمًا لم يكن تحقيقه في الحسبان بعد، لم يعرف كيف يعبر عما انتابه في تلك اللحظة، أو حتى يوصف حالته في مثل ذلك الموقف.. راقبت "خلود" ردة فعله الفاترة، وسألته بتوجسٍ وقد خبت سعادتها نسبيًا من صمته المستريب:
-هو إنت مش فرحان ولا إيه؟
أخفض "تميم" يده ليتلمس بطنها ومسح عليها برفقٍ، ثم نظر إليها مبررًا ربكته:
-فرحان طبعًا، أنا بس مش مصدق، يعني مش عارف أقولك على اللي جوايا، بس أنا مبسوط يا حبيبتي.
رغم انزعاجها من رده العادي الذي خالف ما تخيلته في عقلها من حماسٍ مفرط فور تلقيه ذاك الخبر السار، أو حتى قيامه بالرقص ابتهاجًا وتعبيرًا عن فرحته، وربما تقبيلها بعشرات القبل الحميمية إلا أنها أخفت ضيقها منه، ابتسمت مستأنفة حديثها معه:
-ولسه لما تشيله بين إيديك، مش هتصدق نفسك، هيبقى حتة منك.
لجأت كذلك للحيلة لتطلب منه:
-مش عاوزاك تزعلني بقى، الزعل مش حلو على اللي زيي، وإلا هاشتكيك لعمي "بدير".
سألها في اهتمامٍ:
-أبويا عرف؟
ردت مؤكدة وذلك البريق الغريب يكسو نظراتها:
-أيوه، وطاير من الفرحة، ده الحفيد اللي بجد يا حبيبي.
هز رأسه في حبورٍ قبل أن تكمل بمكرها الخبيث المغلف بمعسول الكلام:
-طبعًا، ده حفيده اللي هيشيل اسم العيلة من بعد عمر طويل، ولسه لما جدي "سلطان" يعرف.
مسح على وجنتها قائلاً:
-ربنا يباركلنا في عمرهم.
أسبلت "خلود" عينيها نحوه لتقول بغير احترازٍ:
-إنت مش عارف أنا كنت مستنية اللحظة دي إزاي، زي ما يكون حلم واتحقق، ده أنا كنت مستعدة أعمل أي حاجة عشان أخلف منك.
بدت جملتها الأخيرة نزقة بعض الشيء، فسألها مستوضحًا:
-مش فاهم؟ تعملي إيه بالظبط؟
أدركت زلة لسانها، وقالت مراوغة لتغطي على غبائها:
-ده أنا حاسة إني بأحلم، عاوزة أملى البيت ده كله عيال، يكونوا شبهك في كل حاجة.
تغاضى عن ردها الغريب ليمازحها:
-هيتهد حيلك معاهم.
هتفت غير مبالية وقد بدت أكثر حماسة عن ذي قبل:
-مش مهم، كفاية إنهم منك، وهيشيلوا اسم العيلة.
أزاحها "تميم" برفقٍ عنها ليتمكن من الوقوف، نظر لها بتفاؤلٍ وهو يعقب عليها:
-قومي من الحمل ده على خير الأول، وبعد كده ربك يسهل.
احتضنته من جديد لتقول بتنهيدة عميقة، ورأسها مستند على كتفه:
-يا رب.
عند تلك اللحظة الفاصلة قرر "تميم" أن يُغالب تلك المشاعر غير الاعتيادية التي غزت وجدانه، أن يُوأدها في مهدها، أن يقتلع جذروها قبل أن تتغلل أكثر فيه، فزوجته لا تستحق منه ذلك، وإن كانت أحاسيسه لا تتخطى حاجز خيالاته، لكنه ملتزم بالإخلاص لها، بالتفكير فيها وحدها، سيسعى جاهدًا لمنحها الاهتمام، سيعطيها الحب الذي لا يستطيع الشعور به نحوها، سيوجد من العدم مشاعرًا جديدة تشملهما، وربما سينجح في ذلك من أجل أسرته.
اصطفت سيارة النقل الصغيرة أمام مدخل البناية لتنقل المنقولات التي تخص العروس، تعاونت "فيروزة" مع توأمتها في حمل الصناديق واحدة تلو الآخر، وتولت والدتهما مهمة إفراغ ما بهم لرصهم على الفور في أماكنهم، بالطبع كانت الأسبق في الحضور "حمدية" لتقف على رؤوس الأشهاد في تلك المناسبة، توقفت الأختان لالتقاط أنفاسهما للحظاتٍ، وتساءلت "همسة" في تعبٍ بعد ذلك المجهود الشاق الذي بذلته في فترة وجيزة:
-فاضل كام كرتونة؟
أجابتها "فيروزة" وهي تنظر لورقة صغيرة في يدها:
-احنا طلعنا 15 واحدة، ناقص 10.
علقت عليها توأمتها بما يشبه المدح:
-كويس إنك مرقماهم، عشان مانتلخبطش.
أضافت موضحة أيضًا وقد أبرزت مفكرة صغيرها احتفظت بها في جيب بنطالها:
-وكل كرتونة مكتوب فيها ايه، ده هيسهل علينا كتير.
اقترحت عليها "همسة" بنوعٍ من التذمرٍ:
-مش كنا قولنا لـ "هيثم" كان جه وساعدنا
رمقتها بنظرة حادة قبل أن ترد:
-"همسة" إنتي عارفاني، عاوزين نكون على راحتنا، مش ناقصين دوشة ومُحن من خطيبك ده، وجايز يبقى جايب أمه معاه، صدقيني مش هنخلص، ده غير حرقة الدم.
قالت على مضضٍ، وقد بدت شبه عابسة:
-طيب.
التفتت كلتاهما للخلف معًا حين سمعا الصوت المتسائل:
-إنتو هنا من بدري؟
ملأ السرور تعابير "همسة"، فخطيبها قد جاء –ليس بمحض الصدفة- لرؤيتها، نظرت له بخجلٍ، وردت مبتسمة ابتسامة صغيرة:
-يعني.. مش أوي.
سددت "فيروزة" لتوأمتها نظرة حادة متشككة، وأخفضت صوتها لتقول بتبرمٍ:
-ده بيجي على السيرة ولا إيه؟
ألقى "هيثم" نظرة متفحصة للصناديق التي احتلت ركنًا من الصالة، وتساءل:
-طلعتوا دول لواحدكم؟
أجابته "همسة" على الفور مستخدمة يدها في التلويح:
-أيوه، ولسه في شوية تحت وهانروح نجيب شنط الهدوم وآ...
قاطعها بحزمٍ:
-طيب كفاية عليكو كده، ارتاحوا، وأنا و"تميم" هنطلع الباقي.
اعترضت عليه "فيروزة" بلهجة أظهرت انزعاجها:
-لأ كتر خيرك، مالوش لازمة تعرفه، احنا هنعرف نظبط أمورنا.
استغرب "هيثم" من عزوفها عن مساعدته، وقال بإصرارٍ:
-ما هو شايف العربية اللي سادة المدخل، وبعت جاب عمال من عندنا كمان عشان ننجز وننقل حاجتي بالمرة.
احتجت بمزيدٍ من العناد المعارض لقدومه:
-وليه يتعب نفسه من الأساس؟
مالت "همسة" على شقيقتها لتهمس لها في أذنها:
-إنتي ناسية إن ده بيت عيلته؟ أكيد هيبقى عارف.
ردت عليها بصوتها الخافت:
-ماشي، بس مش مبرر يعني.
نظرت لها برجاءٍ قبل أن تُصر عليها:
-معلش بقى، وبعدين كده هنلحق نخلص بدري عشان نطلع على الأتيليه ونشوف الفستان يا "فيروزة".
كانت محقة في الجزئية الأخيرة، الوقت محدود للغاية لإنجاز الكثير فيه، تنهدت قائلة في استسلامٍ:
-إن شاء الله.
تدخل "هيثم" في حوارهما مشددًا:
-زي ما اتفقنا يا "همسة"، مش بأحب الحاجات العريانة ولا المكشوفة.
توردت بشرتها وهي تعلق عليه:
-اطمن، أنا أصلاً مش كده.
اضطرت "فيروزة" أن تتراجع خطوة للخلف وتتنحى للجانب حين لمحت "تميم" صاعدًا على الدرج، لم تحبذ رؤيته، خاصة بعد الصدامات غير اللطيفة مع زوجته، والتي لا تتوانى عن مضايقتها إما بحديثٍ أرعن أو تلميحاتٍ سخيفة، انسحبت نحو الردهة مدعية انشغالها بتفحص الصناديق .. وبهدوءٍ يناقض طبيعة دقات قلبه المتحفزة بشكلٍ عجيب استطرد "تميم" ملقيًا التحية:
-سلامو عليكم.
أفسح له "هيثم" المجال ليمرق وهو يدعوه للدخول:
-اتفضل يا "تميم".
تساءل الأخير في حيرة:
-أحط الكرتونة دي فين؟
أجابته "همسة" ببساطةٍ:
-اسندها في أي حتة، احنا لسه هنشوف هنرص الحاجة إزاي.
وكأن بالقلب بوصلة تقوده إلى حيث المرفأ والوطن الحقيقي، اتجه عفويًا إلى المكان الذي تقف به "فيروزة" وتلك الابتسامة المرحة تزين شفتيه، وكأنها تتحداه، لم يدرك أنه يبتسم لها، لكن قُوبل وجوده بنفورٍ صريح على تعبيرات وجهها مما أجبره على العبوس والتزام الصمت، لم يكن ليفرض نفسه أبدًا عليها، انحنى ليضع الصندوق دون أن ينبس بكلمة، كان جلَّ ما يكفيه منها ابتسامة عادية تسعد روحه المعذبة مؤخرًا..،
ابتسامة ساخطة ظهرت على جانب شفتيه وهو يشعل تلك السيجارة ليدخنها بالقرب من النافذة، وكأن الحياة تعانده بخلق الفرص بينهما، فكلما قاوم حضورها كلما ظهرت وطغت بقوةٍ عليه لتستحوذ على فراغ عقله، ووحدها فقط من تغدو المسيطرة عليه.
هتفت "آمنة" من الداخل بنبرة عالية:
-تعالوا يا بنات شوفوا الرصة اللي في الدولاب دي كويسة.
استدارت "همسة" برأسها لترد بصوتٍ شبه مرتفع:
-حاضر يا ماما.
انتبهت "حمدية" للأصوات الذكورية التي تصدح في الصالة، حثها فضولها على الخروج من غرفة النوم لتفقد المتواجدين وهي تتساءل مع نفسها:
-هما بيرغوا مع مين برا؟
تجمدت نظراتها على "هيثم"، وقالت بشفاه مقلوبة:
-الله، ده العريس هنا.
تبعته بنظراتها الماكرة وهو يمد يده ليصافح "آمنة" قائلاً لها بودٍ:
-إزيك يا حماتي؟
ردت عليه بإيماءة صغيرة من رأسها:
-بخير يا ابني.
تقدمت "حمدية" في خطواتها لتصبح على مرأى ومسمع مما يحدث، ثم بادرت تشكو بتنمرٍ مفتعل:
-احنا طالع عينا من بدري، وريقنا ناشف، ومافيش حتى لقمة ترم عضمنا.
التفتت نحوها "فيروزة" لترد بضيقٍ وقد تحرجت كثيرًا من طريقتها السخيفة في التسول:
-في إيه يا مرات خالي؟ ما احنا اتغدينا قبل ما ننزل، ولا هي طفاسة؟
ردت ببرودٍ:
-الله، إنتو كلتوا، أنا ملحقتش احط لقمة في بؤي، ولا أخرت خدمة الغز علقة؟
لاحظ "هيثم" التوتر السائد بين الاثنتين، واقترح بلطفٍ:
-طب ارتاحوا شوية وأنا هابعت أجيب أكل
مدحته "حمدية" بابتسامةٍ متكلفة:
-يدوم العز.
في حين حدجتها "فيروزة" بنظرة نارية من عينيها وهي تردد بتبرمٍ:
-واحدة جعانة فعلاً، بطنها مابتشبعش!
تلقائيًا تحركت نظراتها مع "هيثم" الذي صاح:
-بصي يا "همسة" أنا حطيت صورة أبويا هنا في الصالون، لو مضيقاكي نغير مكانها.
ردت باستحسانٍ:
-لأ تمام.
تابع "هيثم" مكملاً وهو يشير لها لتتحرك نحو زاوية أخرى:
-وأما نتجوز نبقى نحط صورة فرحنا في الحتة دي.
-ماشي.
ظلت أنظار "فيروزة" مثبتة على الصورة الفوتوغرافية الكبيرة التي احتلت مساحة لا بأس بها من الحائط، دنت أكثر منها لتمعن النظر في تفاصيلها غير الغريبة عليها، لم تحد ببصرها عنها وهي تتساءل في حيرة:
-الشكل ده مش غريب عليا.
اعتصرت عقلها بجهدٍ كبير محاولة تذكر أين رأت ذاك الرجل، برقت عيناها فجأة في ذهولٍ ملبك لبدنها، للحظة توقف الزمن عن الدوران لتعود عقارب الزمن بها للوراء لسنوات مضت، عند تلك اللحظة الشنيعة التي عاشتها بكيانها، وجوارحها، بل وظلت مخلدة في وجدانها .. لا تفارقها أبدًا .. تراودها في صورة ومضات تقتحم عقلها بين الحين والآخر .. انخفضت أنظار الصغيرة "فيروزة" نحو السبرتاية التي نشرت شرارات لهبها المتطاير حولها لتصل إلى ما يحاوطها..،
رأت كيف اندلعت النيران بغتةً في دلوٍ مليء بزيت الطلاء، ذعرت وتراجعت للوراء وقلبها يخفق بقوة، كانت صغيرة بالقدر الذي يمنعها من إدراك الموقف والاستغاثة فورًا، راقبتها متوقعة أن تخبو، لكن حدث العكس، في أقل من دقيقة انتشرت النار بشكلٍ مخيف، ضاقت نظراتها مع احتدام ألسنة النيران وازدياد قوتها، وبعفوية هتفت وهي تقاوم السعال الجارح لحلقها مستخدمة يدها في الإشارة نحو الحريق:
-عمو، في نار كتير هنا.
انتفض "غريب" خوفًا مع رؤيته لذلك المنظر المرعب، هب ركضًا للداخل محاولاً إنقاذ ما يمكن إنقاذه وهو يردد:
-يا ساتر يا رب، وده حصل إزاس؟
التفت الفتى الذي بدت ملامحه مألوفة لها، ولكن في عمرٍ أصغر مما عليه الآن، حين صرخ بها:
-ابعدي عن النار..
قبض على رسغها ليجذبها بعيدًا عن كتلة اللهب الحارقة، دفعها في عنفٍ طفيف نحو الخارج ونظرته الصارمة ناحيتها ما زالت تَذكرها، أحضر "غريب" ملاءة قديمة حاول بها إخماد اللهب الذي وجد ضالته الثمينة في الانتشار بسرعةٍ أكبر وهو يصيح بصوتٍ بدا مختنقًا من كثافة الدخان الخانق:
-نادي على أبوك بسرعة يا "تميم"، قوله المحل بيولع.
رد عليه الفتى يحذره بأنفاسٍ لاهجة:
-خد بالك يا عم "غريب".
تحولت نبرته لصراخٍ قوي حتى يلفت انتباه الجميع:
-انجدونا يا جدعــــان، النار هبت في المحل.
لحظة واحدة مميتة طالت فيها ألسنة اللهب جسد "غريب" الذي اشتعل بالكامل وسط صرخات الصغيرة وهلع الفتى، هرع إليه الأخير لينقذه وقد التقط دلوًا مليئًا بالماء ليطفئ ما استعر في جلده المتآكل من نار حامية، لكن سقطت تلك الكتلة الخشبية عليه فطرحته أرضًا، انتفضت "فيروزة" في مكانها جزعًا، لكنها هرولت بشجاعة متهورة تناقض سنوات عمرها الصغيرة نحوه لتهب لنجدته بعد أن سكن جسده كليًا، وكأن غريزة البقاء كانت ما تستحثها، جثت على ركبتيها تهزه بعنفٍ.. لا استجابة على الإطلاق! تلفتت حولها باحثة عمن يساعدها، الكل مشغولٌ بإخماد الحريق الهائل..،
نهضت مستندة على كفيها لتقف عند قدميه، انحنت عليه بجسدها الهزيل لتمسك به من عقبيه، حاولت جره بعيدًا عن النيران لكنها لم تستطع، فقد كان وزنه ثقيلاً بالنسبة لها. لهثت وتعرقت وتسارعت أنفاسها، ومع ذلك لم تيأس، استمرت في المحاولة مستنزفة كل قواها، بدأت في السعال المتألم بعد أن ازدادت كثافة سحب الدخان الذي عبأ المكان وملأه. توقفت عن سحبه لتضع يدها على أنفها مانعة نفسها من استنشاق المزيد من الأدخنة الخانقة، جابت بنظراتها المرتاعة المكان الذي تحول لكتلة من الضباب وهي معتقدة أنها النهاية، لا مخرج.. لا نجاة، تهاوت جاثية على ركبتيها وقلبها يكاد ينخلع من عنف دقاته، وضعت يديها المرتعشتين حول عنقها المتيبس تتحسسه في عجزٍ، وكأنها تستجدي بذلك آخر نفسٍ لها في الحياة.
ظلت عالقة لبرهة في تلك الذكرى المؤسفة، بل بدت كما لو كانت تعايشها الآن بكامل حواسها، انتبهت "همسة" لشرودها الغريب، تقدمت نحوها ونادتها بخفوت علها تستفيق مما هي فيه، لكنها بقيت على جمودها المريب، تُطالع الصورة بوجه شاحب أرعبها، أدركت على الفور أن توأمتها تعاني من نفس حالة الصدمة التي لازمتها لوقت طويل، صرخت بها وقد لاحظت تلك التشنجات التي أصابت جسدها:
-"فيـــــــــروزة"...!