رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الثامن
دفعة من الدخان الحارق تحررت من رئتيه ليتبعها بأخرى تلفظها عله بذلك يذهب غيظ قلبه قبل أن يلقي بعقب سيجارته أسفل قدمه ليدعسه وهو يقف خارج المنزل مترقبًا وصول عامل توصيل الطلبات، لم يحبذ التواجد بالداخل ونفورها منه واضحًا، نأى بنفسه بعيدًا عنها وبقي مستندًا بظهره على الدرابزين .. شكره "هيثم" على كرمه الزائد مع عائلة خطيبته وتحمله تكاليف تلك العزومة الطارئة، لم يكترث "تميم" للأمر كثيرًا، لكونه من طباع أسرته إكرام الضيف وحسن ضيافته، استغل تلك الفرصة الجيدة لينصح ابن خالته بما يفيده ولا يضره، فاستطرد يقول له:
-عاوزك تخف البرشام إياه.
نظر له "هيثم" في حيرة قبل أن يسأله:
-برشام إيه؟
أجابه مباشرةً وقد أشعل سيجارة أخرى لينفث دخانها:
-الحباية الزرقا.
امتعضت تعبيرات "هيثم" بشكل منزعج، وعلق بما يشبه التهكم:
-مش للدرجادي أنا واقع وخرع!
ازداد عصبيًا وهو يضيف:
-كمان هاخد حباية منيلة زي دي، على أساس إني مش راجل؟
استغرب من حدته في تلك المسألة التي تعتبر عادية بالنسبة له بناءً على الادعاءات السابقة من زوجته عليه؛ بأنه يتعاطى المنشطات الجنسية بصورة شبه مستمرة، قرر استدراجه في الحديث ليكشف الحقيقة الغائبة عنه، وتابع بأسلوبٍ مراوغ:
-أومال أنا سامع كلام إنك على طول بتاخده.
انفجر فيه محتجًا بحدة أكبر:
-ده مين ابن الـ ... اللي قال كده؟ هاتهولي أخزقله عينيه.
ورغم الضيق البادي على ملامح "تميم" لتأكده من كذب زوجته عليه إلا أنه حافظ على جمود ملامحه، وعلق عليه:
-يا عم دي نصيحة لله.
رد عليه ابن خالته بنفس النبرة الغاضبة:
-حد الله بيني وبين الهباب ده، صحيح عملت حاجات كتير غلط، بس البرشام أزرق ولا أخضر ماليش فيه...
تجهمت ملامح "تميم" بشكلٍ يدعو للريبة، بينما أكمل "هيثم" حديثه قائلاً:
-هما يدوب نفسين كده بأخدهم في ساعة رواقة، وكمان بطلتهم من ساعة ما ربنا هداني.
هز رأسه معقبًا عليه وقد غامت نظراته:
-كده الكلام بقى حلو أوي.
سأله في عدم فهمٍ:
-كلامه إيه يا عم؟ بأقولك مابخدش برشام.
ربت على كتفه ليقول متصنعًا الابتسام:
-مصدقك يا سيدي.
لكن نظراته أوحت بغيظٍ متعاظم بداخله لكونه قد صدق كالأحمق كذبة زوجته التي نشطت ذهنه بمشاعرٍ حسية كانت تنتابه بشكلٍ شبه منتظم تستنزف قواه الذكورية رغم عدم رغبته في ممارسة مثل تلك الأمور الغرائزية.
وكأنها قد رأت شبحًا قادمًا من عالم الموتى متجسدًا أمامها بألسنة اللهب التي تأكل جلده حيًا، انحبس صوتها في حلقها رغم محاولاتها المستميتة للصراخ ونجدته قبل أن يتفحم، فشلت مجددًا والدموع الحارقة تنساب بغزارة من مقلتيها، كانت "فيروزة" عالقة بين اليقظة والهذيان، انخرطت في نفس الذكرى بتأثيرها المؤلم بشكل يكاد يكون حسيًا عنه معنويًا، انفصلت عمن حولها وعاشت أسوأ أيامها إلى أن انتشلها صوت "همسة" المذعور من تلك الدوامة القاتلة لتغرق في ظلام آخر ربما يكون الأمن لها حاليًا .. ترنح جسدها ومال بثقله على توأمتها التي تلقفتها بذراعيها وهي تصرخ خوفًا عليها:
-"فــــيروزة"!
وبحذرٍ تام تمددت بها على الأرضية وهي تحاوطتها، استغاثت منادية والدتها بنبرة آثارت فزع البقية:
-يا ماما الحقيني بسرعة!
تنبه كلاً من "تميم" و"هيثم" لصوت صراخها فتوقفا عن التدخين، هرول الاثنان للداخل ليجدا "فيروزة" مستلقية على الأرضية وشقيقتها تحاول إفاقتها، حالة من الخوف الممزوجة بالقلق الشديد سيطرت على "تميم" لمجرد رؤيتها هكذا، وكأنه تناسى كليًا الوعود التي قطعها على نفسه بعدم الاقتراب منها، أو التواجد في محيطها، اندفع جاثيًا على ركبته بعد أن أبعد توأمتها عنها ليرفع جسدها إليه بعد أن مرر ذراعيه من أسفل ذراعيها ليسحبها نحوه، وللمرة الأولى ترتطم رأسها بصدره ليشعر بتلك الخفقة المؤلمة التي وخزت قلبه هلعًا عليها، أمعن النظر في ملامحها الباهتة التي غلفها الإعياء، تدخل " هيثم" هو الآخر ليعاونه في رفعها..،
حيث أمسك بها من ساقيها، رغم كونها خفيفة الوزن حملها الاثنان واتجها بها نحو الأريكة الجديدة الموضوعة بردهة المنزل المتسعة، لم يكن ليتركها "تميم" أبدًا لولا ما قد يُقال بالباطل عنها إن ظل ملتصقًا بها، وخوفه الزائد عليها بائن على ملامحه، تراجع للخلف مفسحًا المجال لوالدتها لتمر، جلست قبالتها على مقعدٍ أحضره لها "هيثم"، وأسرعت "همسة" بإخراج زجاجة عطرها من حقيبتها لتستخدمه في إفاقتها من تلك الإغماءة التي قلما تتكرر.
كانت الفرصة مناسبة لـ "تميم" للتحري بدقة عن حالتها، لعل وعسى يخرج بمعلومة مفيدة من خلال "حمدية" التي أظهرت امتعاضها، دنا منها متسائلاً باهتمام:
-هي الحكاية دي بتجيلها كتير؟
أجابته بعد زفيرٍ بطيء:
-ساعات كده، مش دايمًا...
ثم أخفضت نبرتها لتضيف بخبثٍ:
-بعيد عنك وعن السامعين الظاهر لابسها جن من ساعة الحادثة إياها.
لم يكترث للهراء الفارغ الذي تفوهت به، استرعى انتباهه كلمة واحدة بدت بالنسبة له محور كل شيء، ضاقت نظراته وهو يعاود سؤالها بفضولٍ:
-حادثة إيه دي؟
هزت كتفيها وهي تجيبه مسهبة في الحديث معه:
-مش فاكرة بالظبط، بس أبوها الله يرحمه هو اللي كان معاها وقتها.. أصلها كانت عيلة صغيرة بضفاير ساعتها، بس اللي افتكره إننا غُلبنا معاها عشان تطلع من الهم ده، ولف بيها من دكتور للتاني عشان تتعالج، وفين وفين لما بقت كويسة، بس الظاهر إن الحالة رجعتلها من تاني.
لم يتبين من حديثها ما يشبع فضوله، ولم تكن "حمدية" من ذاك النوع الواضح في الإجابات، مجرد ردود عادية لا تسمن ولا تغني من جوع، حرك رأسه متسائلاً:
-هي بتاخد الدوا ده لسه؟
لوت ثغرها قائلة بتأفف:
-مش عارفة، اسأل أمها.
تأكد "تميم" أنه لن يحصل منها على ما يرضيه، مجرد ثرثرة فارغة تحشو بها أذنيه، تركها واتجه بعيدًا عنها باحثًا عن زاوية جيدة تمكنه من رؤية وجه "فيروزة" الذي بات محجوبًا عنه، عل قلبه الملتاع يهدأ قليلاً.
بدت وكأنها تغرق في سباتٍ عميق، وديعة، هادئة، لا تعاني من شيء، دومًا كان ينتهي ذلك الكابوس المؤلم بنوبة من السكينة العجيبة، شعرت "همسة" بالارتياح بمجرد خبوت تلك التشنجات واستغراق توأمتها في النوم، أحضرت لها غطاءً وضعته على جسدها ومسدت برفق على رأسها، بينما ظلت والدتها باقية إلى جوارها تقرأ لها من المصحف الصغير الذي تحتفظ به دائمًا في حقيبتها.. أشــار "هيثم" بيده لخطيبته لتأتي إليه، سألها بنوعٍ من المزاح:
-أول مرة أعرف إن أختك بهفة!
رمقته بنظرة حادة وهي تعاتبه:
-"هيثم" لو سمحت مافيش داعي للكلام ده، إنت مش عارف حاجة.
قال معبرًا عن اندهاشه مما رأه:
-أصل اللي يشوفها وهي طايحة في خلق الله ما يشوفهاش وهي كده.
قالت على مضضٍ وهي تضغط على شفتيها:
-حكمة ربنا هنعمل إيه بقى.
ابتسم معقبًا عليها:
-ولا حاجة،
حاول أن يصلح زلة لسانه التي بدت سمجة ليقول ملطفًا:
-متقلقيش، دلوقتي هتبقى كويسة.
تنهدت قائلة في رجاءٍ:
-يا رب
مصمصت "حمدية" شفتيها قبل أن تنطق بفظاظة، وقد ضجرت من جلوسها هكذا لا تفعل شيئًا، ناهيك عن تقلصات معدتها التي أشارت لجوعها:
-هي عادتها ولا هتشرتيها، لازم الشويتين دول يتعملوا عشان الصعبنيات.
ردت عليها "همسة" ترجوها بنبرة منزعجة:
-الله يكرمك يا مرات خالي، الحكاية مش ناقصة.
لوحت لها بيدها متابعة قولها:
-طب تعالي كده اشربيلك حاجة بدل ما شكل الدم هربان من وشك.
نفخت مرددة في سأم:
-شكرًا، ماليش نفس.
علقت عليها بتذمرٍ:
-يعني وقفتك جمبها هتفوقها؟ يا بت خلينا ناكل حاجة بدل ما الأكل يبرد، الناس صارفة ومكلفة.
نظر لها "هيثم" بغرابةٍ، بينما تحرجت "همسة" من أسلوبها غير اللطيف في التعبير عن شراهتها للطعام، وبضيقٍ ملموس في صوتها ردت:
-روحي إنتي يا مرات خالي..
تطلع "حمدية" إلى "هيثم" تسأله، وتلك الابتسامة السخيفة مرسومة على ثغرها:
-أومال إنت حاطط الأكل فين يا عريس؟
أجابها مستخدمًا يده في الإشارة:
-هناك يا حاجة.
ربتت على كتفه تشكره في امتنانٍ، وقد سال لعابها:
-تسلم وتعيش.
ظلت أنظاره تتابعها وهي تتفحص أكياس الطعام لتنتقي الأفضل وهو يقول لخطيبته بما يشبه السخرية:
-عسل أوي قريبتكم!
سألته في استخفافٍ:
-ده بجد ولا تريقة؟
أجابها بصراحةٍ غير قابلة للتشكيك:
-تريقة طبعًا، هو حد طايقها أصلاً.
انعزل عن البقية ليفكر بتروٍ فيما عرفه مصادفةً عن تلك الحالة المرضية الغريبة التي تصيبها، وكأن الأمر ينقصه ليفكر فيها وحدها دونًا عن بقية النساء، كانت كاللغز المشوق بالنسبة له، لا يمل منها أبدًا، كلما اكتشف جزءًا فيها ظهر في طريقه آخر استحثه على اكتشاف المزيد، تابع "تميم" والدتها التعيسة التي لم تتركها للحظة، أحضر لها علبة عصير لتتناول محتوياته بعد أن انخفضت مستويات السكر لديها تأثرًا بحال ابنتها المقلق، آه لو تعلم ما الذي يعتريه حاليًا رغم ادعائه بالصلابة والتماسك! أصر عليها "تميم" لتكمل شربه، وسألها باهتمامٍ اعتبرته كرمًا فائضًا من ناحيته:
-لو عاوزاني أبعت أجيب دكتور أنا جاهز.
ردت تشكره بتنهيدة متعبة:
-كتر خيرك يا ابني، شوية وهتفوق وهتبقى عادي..
استطاع أن يرى لمحة الحزن في نظراتها وتعبيراتها وهي تكمل بحسرةٍ:
-احنا مصدقنا عدينا الحكاية دي، أنا مش عارفة إيه اللي رجعهلها تاني.
بدا كل ما يسمعه يسثير جنونه ويدعوه لمعرفة المزيد، ومع ذلك تساءل باحترازٍ:
-هي حادثة كبيرة؟
حركت "آمنة" رأسها بالإيجاب وهي توضح له:
-تقريبًا، وقتها وقبل ما نستقر هنا، كنت بأجي من وقت للتاني عند بيت أبويا، نقعد أسبوع كده ولا 10 أيام قبل ما نسافر بلدنا.
حافظ على جمود تعبيراته متسائلاً:
-وبعدين؟
تابعت بزفيرٍ مهموم:
-زي ما إنت عارف، احنا كنا جيران الحاجة "ونيسة" زمان، في البيت اللي قصادها، وفي اليوم المشؤوم ده الحتة كلها اتقلبت عشان حريقة كبيرة حصلت.
هتف مدهوشًا:
-حريقة؟
تأهبت حواسه وتنشطت خلايا عقله بعد تلك الكلمة الخطيرة، فالحريق الوحيد الذي أفزع الجميع كان له صلة به، وظل الحديث عنه ممتدًا لسنوات، ما زال يتذكر صورة مبهمة غير واضحة المعالم لطفلة صغيرة التقاها فيه مصادفة لمرة واحدة لم تتكرر، آنذاك حاول إخراجها قبل أن تحرقها النيران الجائعة، خفق قلبه بقوة، وشعر بوجود رابط خفي ربما يجمعه بها، لكنه لم يكتشفه بعد .. المشهد لا يزال ناقصًا، أضافت "آمنة" بحزنٍ، وكأنها تعافر لنسيان الماضي وآلامه المفطرة للقلوب:
-أيوه، معرفش إيه اللي فكرنا بالماضي ده، الله يرحم عبيده..
كان على وشك سؤالها لولا رنين هاتفه الذي منعه من ذلك، اعتذر منها وهو يخرجه من جيبه لينظر إلى شاشته:
-هستأذنك أشوف التليفون اللي معايا.
ردت بتفهمٍ:
-اتفضل يا ابني.
وضع الهاتف على أذنه ليجيب بجدية بحتة:
-ألو، أيوه يا حاج "عوف".
كانت كمن تُلاعب أحدهم في لعبة أحجية غامضة دامت لسنوات استهلكت فيها تفكيرها ولا وعيها إلى أن ظنت أنها تغلبت عليه وانتصرت، لكن الحقيقة الصادمة أزاحت الغطاء عن كل شيء، اكتمل الناقص الآن، وباتت الأوجه معروفة لها، الفتى الغاضب الذي تسبب في إحراق المحل هو "هيثم" حين سرق والده في غفلة منه، وأسقط السربتاية أرضًا لتشتعل النيران وتحرق كل ما طالته حتى أبيه "غريب" صاحب الصورة الفوتوغرافية، والفتى الآخر الذي سعت لإنقاذه بعد أن فقد وعيه هو من تُشاجره حاليًا؛ "تميم"..
لم يعد هناك أي مفرٍ من الإنكار، أصبحت تدرك الحقيقة بملابساتها المؤلمة، بدأت تستفيق ببطءٍ وهي تحرك رأسها للجانبين، استغرقت بضعة لحظاتٍ لتستعيد كامل وعيها، اعتدلت في رفقدتها وأنزلت قدميها على الأرض، تأوهت "فيروزة" بصوتٍ خفيض مقاومة ذلك الصداع الهائل الذي يدور في رأسها، رفعت أنظارها نحو توأمتها التي ابتسمت لرؤيتها بخير، سألتها الأولى في حيرة:
-هو إيه اللي حصل؟
تلمست براحتيها وجهها وهي ترد متسائلة:
-إنتي كويسة يا حبيبتي؟ حاسة بحاجة؟
أجابت نافية، وكأنها تستغرب خوفها عليها:
-لأ أنا تمام.. مافيش حاجة فيا.
ألحت "همسة" في إصرارٍ:
-طمنيني عليكي؟
أكدت عليها بهدوءٍ:
-أنا بقيت أحسن، متقلقيش..
لم يخبُ الخوف من نظرات توأمتها، فحاولت طمأنتها وقالت ساخرة من الأمر برمته:
-ما إنتي عارفة اللي فيها، دايمًا كل فترة كده يحصلي حاجة غريبة، شكل مرات خالك حسدتني.
تنفست بعمقٍ لتعبر عن ارتياحها بعد سماعها لتلك العبارات، بينما ألقت "فيروزة" نظرة مدققة تجوب على المكان وما فيه، وكأنها تفتش عن شخص بعينه قبل أن تنطق فجأة بنبرة عازمة وهي تهم بالنهوض:
بصي أنا هنزل وكملوا إنتو شغل.
وقفت "همسة" على قدميها، وقالت بتلهفٍ:
-طيب استني هاجي معاكي، مش هاسيبك لوحدك.
اعترضت بابتسامة فاترة:
-لأ أنا بخير.. وكمان عشان تلحقوا تخلصوا، ده لسه في الفستان، ويدوب تلحقوا ميعاد الأتيليه.
ردت عليها بجدية وهي تومئ بعينيها:
-طيب، هنادي ماما، هي دخلت مع مرات خالي جوا يكملوا توضيب حاجة الدولاب، هما تلاقيهم خلصوا و...
قاطعتها بحسمٍ:
-لأ خليها .. وقوليلها أنا بقيت كويسة لو سألت عليا، وشوية وهاتصل بيها.. كفاية الخضة اللي عملتها
ردت بنوعٍ من التعاطف:
-متقوليش كده، هو احنا عندنا حد أغلى منك
احتضنت "فيروزة" توأمتها في حبٍ قبل أن تنسل من أحضانها لتوصيها:
-خدوا بالكم من نفسكم، وربنا يعينكم
ابتسمت قائلة برقة:
-حاضر.
أرادت الهروب من ذاك الجو الخانق الذي يطبق على أنفاسها، بل ويضغط عليها للبوح بما لا تستطيع قوله حتى بينها وبين نفسها، شبهت حالتها المضطربة بالفأر المذعور الذي وُضع في متاهة لا خروج منها، تدور في نفس الدوائر المغلقة من معاناتها الصامتة حتى تخور قواها على أمل أن ينتهي ذلك العذاب، ومع ذلك تمنت في نفسها أن يظل الماضي حبيس أعماقها فقط، لا يعاني سواها من تبعاته المدمرة، التفتت كالملسوعة برأسها للجانب حين سمعت صوت "تميم" الرخيم يسألها:
-يا أبلة! إنتي كويسة؟
تفاجأت "فيروزة" بوجوده خارج المنزل -على الدرج تحديدًا- في مواجهتها، تحاشت النظر إليه وأجابته بصوتٍ فشلت أن يكون ثابتًا:
-آ.. أيوه.
صعد إليها ليبدو قريبًا منها معترضًا طريقها بجسده فلا تتمكن من المرور إلا بدفعه، ورغم هذا لم تكن بالجسورة التي تناطحه الند بالند، كانت مختلفة كليًا، تعبيراتها واجمة، شاردة، ربما متعبة، إن صح التعبير مرتاعة قليلاً .. تعجب من نظراتها المتوترة التي تتجنبه، لم تكن أبدًا بالنافرة منه إن تم مقارنتها بالمعتاد منها، بدت وكأنها تخشاه، تحاول المناص منه بكافة السبل، كذلك لاحظ تلك الربكة الخفيفة في طريقة إمساكها بالدرابزين وضغطها عليه بأصابعها بعصبيةٍ طفيفة، وزاد هذا من فضوله، سلط كامل عيناه عليها مستطردًا:
-هو كان في حاجة عاوز أسأل عنها وآ...
قطعت جملته قبل أن يتمها لتقول متهربة منه عن عمدٍ:
-معلش.. ورايا شغل، عن إذنك.
حتى أنها لم تنظر إليه ليتحرك، بل تنحى للجانب من تلقاء نفسه ونظراته تصاحبها خلال ابتعادها المريب، تخبط كل ما يدور في رأسه حاليًا بشأنها، لكن رحيلها بتلك الصورة ترك أثرًا عميقًا في نفسه، انتبه "تميم" لصوت والدته التي خرجت من منزلها لترفع رأسها نحوه تسأله:
-خلصتوا يا "تميم"؟
ابتسم وهو يجيبها ليخفي حيرته:
-فاضل حاجة بسيطة.
ردت في تفهمٍ:
-ربنا يعينكم، ولو الجماعة فوق عايزين حاجة قولي، أنا جاهزة أطلع أساعدهم.
قال بفتور:
-كله تمام يامه.
للحظة طرأ بباله أن يتحرى عما يشغله ممن عاصروه، لذا بادر متسائلاً باهتمامٍ:
-بأقولك هو جدي صاحي؟
أجابت والدته بكلمة واحدة:
-أيوه.
هبط الدرجات متابعًا بعزمٍ:
-طيب أنا داخله.
رحبت به أمه قائلة بوجهها البشوش:
-تعالى يا ابني، إنت بتستأذن في بيتك؟
-خير يا "تميم"، جيتك السعادي مش لله، ولا أنا غلطان؟
تساءل "سلطان" بتلك العبارة بعد أن استأذن حفيده في المكوث معه لبعض الوقت دون أن يبدي أسبابًا واضحة لذلك خاصة في هذا التوقيت المتأخر غير الاعتيادي، ولكون جده على دراية بما ينتابه من حالات تخبط يلجأ فيها إليه، استهل "تميم" حديثه معه قائلاً بأريحية:
-إنت صح يا جدي، أصل في حاجة كده شاغلة بالي، وكنت عاوز أتأكد منها منك.
رد عليه بنبرته الخشنة:
-قول عاوز تعرف إيه.
دون مراوغة أو مماطلة سأله على الفور:
-هو في حريقة حصلت زمان غير بتاعة محل عم "غريب"؟
شرد مليًا للحظة ليفكر في الجواب المناسب قبل أن يدمدم موضحًا له:
-على حسب علمي، مافيش إلا هي.
ضاقت حدقتاه بشدة وهو يلاحقه بسؤاله التالي:
-ماتفتكرش حصل إيه بالظبط؟
استراح في رقدته على الفراش بعد أن وضع الوسادة خلف ظهره ليقول بعدها بتنهيدة بطيئة:
-عمك "غريب" الله يرحمه كان طماع، عاوز يتغنى بسرعة، معندوش صبر على حاجة، وخالتك زي ما إنت شايف ماتوصتش، مش تقوله بلاش ولا كفاية، لأ كانت بتشجعه يعمل أي حاجة إن شاءالله بالغش، المهم يبقى معاه فلوس كتير.
تحدث من زاوية فمه قائلاً:
-ما كل ده أنا عارفه.
تطلع "سلطان" إليه في حيرة، وسأله:
-أومال بتسأل عن إيه؟
تشجع ليبوح له بما يدور في رأسه من أمور تشغله بشأنها:
-يوم الحادثة يا جدي، كان معايا بت صغيرة، مظبوط؟
ظهرت علامات التفكير العميق على وجهه وهو يرد:
-تقريبًا، كانوا لاقوها جمبك، ماسكة فيك.
تضاعفت خفقات قلبه القلقة وهو يسأله بنبرة بدت إلى حد ما متلهفة:
-وكانت عايشة ولا ميتة؟
أجاب منهيًا حيرته:
-إنتو الاتنين بس اللي ربنا نجاكم من الحريقة.
أخرج "تميم" نفسًا عميقًا من صدره أزاح به كل التوترات التي أرهقته، ثم عاد ليسأل باهتمامٍ وقد أضاءت عيناه بوهجٍ غريب:
-ماتعرفش هي مين؟
هز رأسه نافيًا:
-مش فاكرها يا ابني .. السِن بقى وأحكامه، ودي حاجة عدت عليها سنين.
تقدم "تميم" نحو جده ليحني رأسه عليه، قبله من جبينه وهو يدعو له بتضرعٍ:
-ربنا يديك طولة العمر يا جدي.
ربت الأخير على كتفه بودٍ قبل أن يكمل مستفيضًا بتلقائية:
-بس على ما أظن أبوها كان راجل في حاله، طيب مش بتاع مشاكل، كان شغال صياد، مراكبي، حاجة زي كده، واسأل أبوك هو فاكر عني...
اكتفى حفيده بالابتسام، لكن تفرس " سلطان" في ملامحه وهو يسأله بدهشة مبررة:
-بس إنت إيه اللي فكرك بالحكاية دي دلوقتي؟
تعلل كاذيًا ليخفي ما لا يريد الإفصاح عنه له:
-يعني كنت بأدردش أنا و"هيثم"، وافتكرنا حكاية موت أبوه.
بدت إجابته مقنعة، فلم يشك بأمره، وقال:
-ربنا يرحمه، ويحسن ختامنا جميعًا.
-يا رب.
أضــاف "سلطان" بنبرة عادية:
-الواد ده نبتته كويسة، بس مالوش كبير يحاسبه، ده غير أمه، كتلة شر.
ابتسم لصراحته مؤيدًا إياه:
-صدقت يا جدي.
عمق "سلطان" من نظراته نحوه وهو يقول:
-وبنتها عاملة إيه معاك؟ كويسة ولا شبه أمها؟
أجاب بعبوسٍ كسا وجهه:
-يعني .. ربنا يهديها.
رد عليه في سخرية:
-هما كل الحريم كده، مافيش من وراهم راحة.
وكأنه أظهر المزيد من انزعاجه على تعابيره عندما قال بزفيرٍ طويل:
-على رأيك يا جدي.
مازحه الأول مبتسمًا ليبدد الوحشة التي ملأت محياه:
-ولسه لما تخلف كمان، هاتشوف العجب منهم، هتطفش يا واد يا "تميم" وتيجي عندي..
ضحك على طرفته، فأكمل "سلطان" بنوعٍ من التمني:
-ربنا يمد في عمري وأشوف عيالك.
رد عليه برجاءٍ كبير:
-إن شاء الله يا جدي، ويتربوا تحت طوعك
صدرت إيماءة خفيفة من رأسه حين قال معقبًا:
-يا رب.
انزوى بالشرفة جالسًا في كرسيه الخشبي يشعل سيجارة تلو الأخرى دون أن يحصي عدد ما دخنه، كان عقله مشحونًا، ومشغولاً بالكثير، من ناحية رغبته في معرفة هوية الطفلة الصغيرة التي تواجدت معه خلال الحريق المروع، وهواجسه نحو واحدة بعينها، ومن الناحية الأخرى شكوكه في زوجته، كيف يخبر الأخيرة ببساطة أن كذبتها التي برعت في إحكامها عليه قد انكشفت؟ خدعته لتخفي أمرًا لئيمًا حاكته من ورائه..،
إن كان الدواء المنشط لا يخص أخيها فإذًا هو لمن؟ إجابة السؤال كانت واضحة كالشمس في كبد السماء، بالطبع ليس لها! في البداية تحير كثيرًا ورفض تصديق الأمر إلى أن تجلت الحقائق في عقله كمشاهد متعاقبة ترشده إلى نهاية لا مناص منها؛ كان هو المغفل الذي يتجرعه ليلة بعد أخرى لتتحرك شهواته باهتياج تعجب منه شخصيًا، قوته الذكورية كانت مفرطة معها رغم فتور مشاعره نحوها، يندفع غرائزيًا لا وجدانيًا..،
يمنحها ما تريد ويخبو لهيب الرغبة فجأة كما اندلع فجأة .. ظل السؤال الذي يراوده كيف يتم الأمر؟ ومن أين واتتها الجراءة لتفعل ذلك به؟ لكن عاد عقله لينذره بهاجس مريب لم يستسغه؛ ألا يتسرع في إصدار الحكم عليها لمجرد إنكار "هيثم" لذلك، أليس من المحتمل أن يكون هو الطرف الكاذب؟ ربما أراد تحسين صورته أمامه وهو مقبلٌ على الزواج، انتشلته من حيرته المتعبة على صوتها المتدلل:
-مش هتاكل يا "تميم"؟
نظر لها مليًا بنظرات غريبة، مطولة، مليئة بالشك، وكأنه يريد النفاذ إلى داخل رأسها الداهية ليكشف عن خباياه، تعجبت "خلود" من تحديقه المطول بها وأعادت تكرار السؤال عليه ليرد بوجومٍ:
-لأ.. ماليش نفس.
دققت النظر في ملامحه المكفهرة وهي تتساءل:
-هو إنت كلت برا؟
أجاب باقتضابٍ:
-لأ..
ألحت عليه بشدةٍ:
-أومال إيه؟ ده أنا محضرالك الأكل اللي بتحبه، يالا عشان تاكل ونقعد سوا تحكيلي عملت إيه.
استاء من ضغطها المستمر عليه، خاصة وهو مهموم بشأن كذبتها، لذا صاح بها بعصبيةٍ
-مش عاوز يا "خلود".
استغربت من صياحه المنفعل، وقالت بتبرمٍ:
-براحتك.
لم يعلق عليها وظل يرمقها بتلك النظرات الغامضة التي لم تسترح لها، جلست "خلود" على الكرسي المقابل له تسأله بفضولٍ، وكأنها تشك في أمر ما:
-"هيثم" كان قال لأمي إنك كنت معاه لما نقلتوا حاجته النهاردة.
انحنى للأمام ليطفئ سيجارة أخرى وهو يرد موجزًا في الحديث:
-أيوه.
برقت نظراتها حين سألته في خبث:
-على كده خطيبته وأمها كانوا هناك؟
قال بهدوءٍ:
-أيوه
احتدت نظراتها حين انتقلت للسؤال التالي:
-والبت "فيروزة"؟
تحفز في جلسته وبادلها بنظرة شبه مزعوجة وهو يرد:
-مالها؟
أجابت متسائلة وقد بدت متأهبة لسماع رده:
-كانت معاهم؟
لم يمنحها ما تريد، وراوغها بالقول:
-بتسألي ليه؟
حاولت الابتسام وهي ترد:
-عادي يعني، عاوزة أعرف.
وكأنه يُعيد اكتشاف طباع زوجته الحقيقة لأول مرة دون زيف أو تجميل، لم تكن نظراتها مريحة، ولم تكن تعبيراتها مسترخية، قناع الغيرة الذي ترتديه لم يستلذه مطلقًا، نفخ في الهواء قبل أن يجيبها بسأم واضح عليه:
-أكيد.. طالما أختها هناك هتبقى معاهم.
ركزت عينيها عليه عندما سألته مباشرة:
-وإنت شوفتها؟ أعدت معاها؟
ضاقت نظراته هاتفًا في استنكار:
-"خلود" هو ده تحقيق وأنا مش عارف؟
تصنعت الضحك وهي تبرر أسئلتها المتعاقبة:
-لا يا حبيبي، أنا بس بأدردش معاك، وبعدين مافيهاش حاجة لما أطمن على جوزي حبيبي.
هب واقفًا ليجمع علبه سجائره وولاعته قبل أن ينطق بتزمتٍ:
-وأنا مش شايف أي دردشة، ولو عاوزة تعرفي حاجة كلميني دوغري، بلاش شغل التلت ورقات ده.
نهضت هي الأخرى لتقول بتأففٍ:
-أصل أنا مابستريحش للبت دي، سهونة كده وخبث الدنيا فيها، وجواها إسود كده، ربنا يحفظنا من اللي زيها.
وكأنها تحرضه على وغر مشاعره ضدها أكثر، نظرة استحقارٍ استطاعت أن تراها في عينيه وهو يحدق بها ليعقب بعدها:
-أنا رايح أنام، تصبحي على خير.
لاحقته بنظراتها الفضولية المتعجبة قبل أن تسأل نفسها في حيرةٍ:
-هو ماله ده ...؟!