قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل السابع

رواية الطاووس الأبيض للكاتبة منال سالم الجزء الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل السابع

بوجهٍ متورد، ونظراتٍ خجلة مرتبكة تطلعت إلى ما تحويه ضلفته الخاصة من ثياب جديدة مرصوصة على الرف السفلي تم فرزها مسبقًا لنقلها دون عناء، تلمستها برفقٍ ناعم وكأنها أشياء ثمينة هشة وقابلة للكسر لذا تحتاج لعناية من نوعٍ خاص .. لجأت "ونيسة" لطلب مساعدتها فقط لتمنحها الفرصة لخلق المزيد من الذكريات السعيدة واللحظات المميزة جزاءً لصبرها الطويل وانتظارها غير المشروط ليحصل على حريته من خلال قيامها شخصيًا بتوضيب ما يحتاج إليه "تميم" استعدادًا لنقله لاحقًا لمنزل الزوجية الكائن بعد بنايتين من هنا، لم تصدق "خلود" نفسها وهي تقف في غرفته تتأمل متعلقاته الخاصة.

صارت الآن تتحرك فيها بحريةٍ أكبر بعد أن كانت تختلس الدقائق وتختلق الحجج لتدخلها، لفتة خاطفة حانت منها في اتجاه خالتها والتي كانت منحنية قليلاً على الفراش وهي تطوي الثياب بشكلٍ منظم في حقيبة السفر الجلدية الكبيرة (ذات اللون البني الداكن) والموضوعة على الفراش، عادت لتحدق في ضلفته بنظراتٍ ساهمة والهة إلى أن أخرجتها "ونيسة" من حالة التأمل لتقول مسترسلة بسجيتها:
-عارفة يا بت يا "خلود"...

ردت الأخيرة متسائلة في اهتمامٍ:
-أيوه يا خالتي.
تابعت بابتسامة عريضة وقد تركزت عيناها على ابنة أختها:
-من يوم ما اتولدتي وشيلتك بين إيديا وإنتي في اللفة، وأنا ندراها في نفسي .. أجوزك لابني لما يكبر!
تضرج وجهها وتوهجت بحمرته الخجلة، أحست بالسخونة تنبعث من وجنتيها، بالحرج الشديد ينتابها، في حين ازدادت ابتسامة "ونيسة" اتساعًا بعد تلك الضحكة العفوية المرحة التي أطلقتها لتكمل بنفس الود المتحمس:
-عمري ما شوفت واحدة تانية غيرك تنفع مرات ابني، هو مايلقش عليه إلا إنتي، بتحبيه، وهتصوني العشرة، ودايمًا معاه على المُرة قبل الحلوة.

لم تعرف بماذا تعلق عليها، نطقت بارتباكٍ يشوبه الحياء:
-الله يخليكي يا خالتي.
اقتربت منها "ونيسة" لتقول بعبثية وهي تغمز له بطرف عينها:
-بس عجبتيني لما إديتي "تميم" التوكة بتاعك!
تطلعت إليها بعينين زائغتين، فجأة اكتسى تعبيراتها حيرة عجيبة وكأن صاعقة ضربت برأسها، حاولت أن تتماسك قبل أن تسألها بصوتها المندهش:
-توكة؟!

لم تلحظ خالتها التغيير الذي غطا ملامحها فاستفاضت تنصحها:
-أنا عاوزاكي تتلحلحي معاه يا "خلود"، الراجل يحب الست اللي تشاغله وتملى دماغه، خليه دايمًا يفكر فيكي.
وكأنها تُحادث الفراغ، شردت تفكر فيما قالته، هي لم تمنح "تميم" أي هدية مميزة، وما تبوح به خالتها يوحي بشدة أنه حدث قريبًا، إذًا عن أي شيء تتحدث؟ هل تعرف إلى إحداهن مؤخرًا ويخفي عنها تلك الحقيقة كي لا يصدمها؟ تخلل عقلها سؤالاً بعينه لم تكن لتسمح لنفسها أبدًا بتصديقه.

لكن شيطان رأسها قوى ذلك الهاجس بداخلها، أيخونها "تميم"؟ انقباضة مؤلمة اعتصرت قلبها وكادت تقبض على روحها، حاولت أن تخفي ضيقها الظاهر على قسماتها لترسم ابتسامة ثقيلة متكلفة وهي تطلب منها بنبرة جاهدت لتجعلها ثابتة حتى لا ترتاب في أمرها:
-هو.. "تميم" حاطط التوكة.. دي فين؟
-هناك!

أجابتها وهي تتجه نحو الكومود لتفتح الدرج العلوي وتخرج منها منديل الرأس والمشبك، فقد وضعتهما به بعد أن تركهما "تميم" عليه، في تلك اللحظة اشتعلت عينا "خلود" بشكلٍ حانق وقد تجمدت نظراتها عليهما، أحست بالدماء الثائرة تتدفق بقوة في عروقها لتندفع بلا توقف نحو عقلها فأصابها بصداعٍ غريب، لمن إذًا تلك الأشياء الأنثوية؟ ولماذا يحتفظ بها في درجه الخاص؟ بدأت نيران الغيرة تنهش فيها .. تأملتها "ونيسة" لوهلةٍ معتقدة أنها انزعجت لكشف ذلك، حاولت أن تهون الأمر عليها فقالت بلطافةٍ لتبرر موقفها قبل أن تسيء فهمه:
-اوعي تزعلي مني يا حبيبتي، أنا مش النوع ده من الحماوات اللي بتفتش ورا ولادها!

جفاف مرير كالعلقم اجتاح جوفها، قاومت باستماتة تلك الغصة التي أصابت صوتها، بدت متهدجة الأنفاس وهي ترد:
-لا يا خالتي، مافيش أي حاجة.
مسحت "ونيسة" بكف يدها على وجنتها الملتهبة دون أن ينتقص من ابتسامتها الصافية شيء، ثم أضافت بتنهيدة أشارت لتعبها:
-طيب يا قلب خالتك، أنا هاروح أشأر على الأكل اللي على النار ورجعالك، إنتي عارفة مافيش حاجة في البيت مش بتخلص.
غيم القهر على وجدانها فلم تعد تملك من القدرة ما يجعلها تظل راسخة هكذا، قالت فجأة بوجهٍ تحول للوح جليدي ونظراتٍ عكست مزيجًا من الغضب المكتوم والحسرة المؤلمة:
-أنا لازم أمشي.

تقطب جبينها متسائلة بدهشةٍ:
-الله، ده احنا متفقين تقضي النهار كله معايا! وأمك عارفة بده، يعني هنقعد براحتنا.
تعللت بإرهاقٍ مفاجئ ونبرتها قد تحولت للقتامة:
-معلش يا خالتي، حاسة إني دايخة شوية، ده غير أني وعدت أمي متأخرش، وهاجيلك تاني.
رضخت "ونيسة" أمام إصرارها فهتفت مستسلمة:
-ماشي يا حبيبتي، إنتي بردك مهدود حيلك في الفرش واللذي منه، خدي بالك من نفسك
حاولت أن تبتسم فظهرت ابتسامتها مبتورة منقوصة يشوبها عيبًا مريبًا للشك حينما ردت باقتضابٍ
-طيب، مع السلامة.

بيدٍ مرتعشة سحب حقيبة يدها وهي تكاد تسيطر على اتزانها، انتاب الفضول "ونيسة" وهي تتبعها نحو الخارج، ظلت دهشتها مرسومة على محياها، فقد اندفعت ابنة أختها كالطلقة وكأنها وضعت مكوكًا في قدميها لتخرج من المنزل، صفقت "خلود" الباب خلفها بعصبية ملحوظة، فقدت السيطرة على أعصابها بعد اكتشافها لما أسمته خيانة لعهد الحب الوفي، انسابت دمعاتها بحرقةٍ، شعرت بوخزات ألم الحب تفتك بقلبها، غلت الدماء في عروقها وزاد اضطراب أنفاسها، كانت كمن خرج من معركة قتالية مهزومًا هزيمة نكراء، رددت مع نفسها بحنق يتعاظم أضعافًا مضاعفة كلما هبطت درجة من درجات السلم:
-بتخوني يا "تميم"! طب ليه؟ وبعد الحب ده كله؟!

طاردتها الهواجس وسيطرت على ما تبقى مما تملكه من تفكير منطقي .. جُرحت أنوثتها، وطُعن حبها في مقتل بغدره الخائن لعهد الوفاء بينهما، قررت "خلود" أن تهاتفه لتنهي الأمر بينهما، فإن كان لا يريد حبها فليذهب للجحيم، لكنها لن تحيا كظلٍ مهمش في حياته تقتات على ما يمنحه لها من اهتمام حذر، ارتجفت يدها وهي تضغط على الأزرار باحثة عن اسمه، بدت الرؤية صعبة بسبب دمعاتها الفائضة، كانت خيانته لها مدمرة لكل أحلامها، استندت على الحائط حتى لا تسقط، فقدماها عجزتا عن حملها، اهتز صوتها بألم معنوي مميت وهي تستطرد منادية باسمه:

-"تميم"
بدا صوه جافًا جادًا مكتسبًا طابعه الرسمي وهو يرد:
-خير يا "خلود"؟
ارتفعت شهقتها التي استماتت لتكبحها فخرجت من بين شفتيها وهي تلومه بقلبٍ مفطور:
-ليه خنتني؟ ليه؟
لم يظهر التأثر على صوته، لكنه سألها بما يشبه الضيق:
-إيه الكلام الغريب ده يا "خلود"؟ هو إنتي طبيعية
ردت بحرقةٍ وعبراتها تزداد انهمارًا:
-إنت وجعتني أوي يا "تميم"، أنا محبتش حد إلا إنت، كنت قولي إنك مش عاوزني..

أتاها صوته المزعوج مرددًا:
-أنا مش فاهم حاجة!
تابعت كالمغيبة وصوتها بات واهنًا موجوعًا:
-أنا عرفت الحقيقة، بس كرامتي فوق أي اعتبار.
صرخ بها في نفاذ صبر:
-إنتي مجنونة يا بت؟
تمالكت نفسها لترد ببقايا كبرياءٍ محطم:
-المرادي أنا اللي مش عاوزاك!

استطاعت أن تسمع صراخه يرن بقوة في أذنها:
-يا "خلود" استني آ...
لكنها أغلقت الخط لتنهي المكالمة وقد ذبحها ذلك الإحساس الفتاك بالغدر،
انفجرت باكية بمرارةٍ وحسرة، تهاوت جاثية على ركبتيها عند بداية السلم، حركت جسدها للجانبين وهي تنوح بشدةٍ ليظن من يتطلع إليها أنها فُجعت في أحدٍ عزيزٍ للغاية.

حمولة جديدة كان عليه تجهيزها قبل حلول المساء وفقا للعقد المبرم مع تلك السفينة السياحية، ولكن لانشغال أغلب العاملين في تعبئة ورص الأقفاص الخاصة بسفينة أخرى اضطر "تميم" للاستعانة برفيقه "ناجي" ومن هم على صلة به للذهاب إلى سوق الجملة الشهير لإحضار المطلوب. تلك المكالمة العجيبة التي تلقاها من خطيبته أزعجته قليلاً وانعكست على تعابيره المشدودة.

لم يفهم سبب توترها المفاجئ ورغبتها في إنهاء الزيجة دون تفسير مقنع، ثم تساءل في نفسه عن اتهامها له بالخيانة، عن أي خيانة تتحدث؟ هو لم يكن على صلة بأنثى غيرها، إذًا فكيف يخونها؟ حيرة في غير وقتها سيطرت على عقله مما جعله يرجئ التفكير مؤقتًا في الأمر ريثما ينهي أعماله التي تنتظره .. ترجل من الشاحنة وسار مهمومًا ونظراته إلى حد ما غائمة، لاحظ "ناجي" تبدل ملامحه للعبوس فتلكأ عن السير ليسأله:
-في إيه يا "تميم"؟

رد باقتضابٍ وهو ينظر له:
-مافيش.
فطن لكونه لا يحبذ الحديث عن أمر يخصه فأشار بيده يدعوه:
-طب بينا عشان نلحق نجمع البضاعة.

أومأ برأسه وخطا نحو البوابة المتسعة، كان السوق مزدحمًا مليئًا بالتجارِ من كل حدبٍ وصوب، الشاحنات من كافة الأحجام تدخل وتخرج معبأة بما تشتهيه الأنفس، الكل يبتاع ويُزايد ليحصل على الأفضل، ومهمته هنا تقتضي شراء الأجود من الخضراوات والفاكهة بسعر جيد لضمان تحقيق الربح في الأخير. سار بشموخٍ وعظمة بين المزاحمين في المكان، يلوح بيده تارة، ويلقي التحية مبتسمًا تارة أخرى، لكن ذلك الصوت الكئيب الساخر المنادي عاليًا استوقفه فجأة:
-محدش قالي إنك خرجت من السجن.

استدار "تميم" بجسده للخلف ليجد كائنًا لزجًا يطالعه بنظراته الحقودة، ما زال يحتفظ بملامحه السمجة وجسده المتهدل المتراخي في بعض أجزائه والذي يبرزه جلبابه المتسخ قليلاً، عرفه على الفور؛ إنه "سراج" أحد أهم تجار سوق الجملة حاليًا، وتحديدًا من أحدث به عاهة مستديمة وكاد ينحره لتجرأه قديمًا على والده ونعته بألفاظ قذرة نابية مست شرف العائلة.

حينها تناسى إنسانيته وأوشك على سفك دمائه لولا مشيئة القدر وتدخل الجميع لمنعه من مذبحة خطيرة، آنذاك أُلقي القبض عليه، ولم ينكر التهم الموجهة إليه وصدر الحكم ضده بالحبس، اعتبر "تميم" ما حدث وسامًا على صدره يدعو للتفاخر والزهو، وبات الكل يخشى اندلاع غضبه .. وبالرغم من مرور السنوات إلا أن غضبه يتجدد ويصل لذروته كلما تذكر جريرته، وها هو اليوم يقف أمامه يستفزه ليخرج الوحش الكامن بداخله، تكورت قبضة يده كنوع من كظم الغضب -مؤقتًا- خاصة حينما تابع "سراج" وصلته المتهكمة:
-ده أنا فكرتك هتعفن هناك.

بكل هيبةٍ وقوة رد عليه وعيناه تتوهجان بشكل مخيف:
-طلعك نأبك على شونة، ولسه زي ما أنا، وبعدين السجن للرجالة!
غمز له ساخرًا بنبرة تعمد أن تكون مسموعة للجميع:
-وللنسوان كمان، ولا إيه؟
انتصب "تميم" في وقفته فبدا أكثر مهابًا ورهبة، هدر يحذره بنبرة لا تبشر بأي خير:
-شكلك نسيت اللي حصلك زمان، كنت زي الدبيحة، مرمي تحت رجلي، وجزمتي فوق رقبتك، وكل اللي هنا شِهدوا على جُرستك!

امتلأ وجه "سراج" بتعابير حانقة، وتحول وجهه للقتامة عندما تابع غريمه إهانته القاسية له:
-ها قولي، لو عاوزني أمسح بيك أسفلت السوق من تاني، فأنا جاهز!
دس الأول يده في جيب جلبابه البيج ليخرج منه مدية يحتفظ بها دومًا لاستخدامها في قطع الثمار، أشهرها في وجهه وبدلها بين قبضتيه كنوعٍ من الاستعراض، ثم صاح يهدده علنًا:
-وإنت الصادق مطوتي جاهزة تسيب تذكار للمدام تشوفه ليلة دخلتها...

إنها تلك اللحظة التي لا يعود فيها للعقل أي وجود، كلمات كالقنابل الموقوتة أشعلت فتيل هياجه الجامح، اربد وجهه وأطلق الشرر من عينيه، لم يرتدع "سراج" وتجرأ متابعًا بما لا يمكن السكوت عليه دون عقاب مهلك:
-ألا بصحيح نويت تتجوز ولا عملوا عليك حفلة في السجن وخلوك تترهبن؟!
تهدج صدره بشكل مخيف وقد بات محملاً بمشاعر غاضبة، ناقمة، عدائية، ساخطة، جلجل صوت "تميم" متوعدًا بلهجة مرعبة:
-آه يا ابن ال ...، المرادي هاجيب أجلك!

رد غير مبالٍ وابتسامة مستفزة تعلو ثغره، ويده تلوح بالمطواة عاليًا:
-وريني يا ابن "ونيسة"!
اندفع نحوه صارخًا به:
-أمي أشرف من إن اسمها يجي على لسان واحد "..." زيك!

كانت حركته المفاجئة ناحيته -بكامل غضبه- قد أذهلته، لكمة تعرف الطريق جيدًا إلى فك "سراج" أطاحت به وقذفت بعمامته التي تلتف حول رأسه بعيدًا، ترنح من شدتها وحاول التماسك، ثم ما لبث أن وجه واحدة مماثلة لها في القوة تلقاها "تميم" أسفل عينه اليسرى، لكن الأخير تغاضى عن ألمه ليشرع في الهجوم عليه، نزف الدماء فورًا من جرح عميق أحدثته المطواة في صدره، استشاط غضبًا واندفع كالثور الهائج مسددًا لكمة أخرى أشد قوة وأعظم شراسة في عنق "سراج" فأشعرته بأن أنفاسه قد قطعت مما جعله يفقد زمام الأمور في لحظة فمنحت الأسبقية للأول..

فرد "تميم" ذراعه ليكمل اعتدائه على كتلة اللحم الكائنة أمامه، طرحه أرضًا مستخدمًا كل قوته، ثم جثا فوقه يكيل له اللكمات يمينًا ويسارًا على وجهه الذي بات كالعجين .. أقام رجال "سراج" الدنيا ولم يقعدوها اندفعوا للتشاجر مع "تميم" وأتباعه، وتحولت ساحة السوق في ثوانٍ معدودة لساحة حرب مميتة، الكل يتراشق بالألفاظ وما تطاله الأيدي من أسلحة بيضاء، وسلاسل حديدية .. الأقفاص تطايرت في الهواء بشكلٍ مرعب واستخدمت في الضرب على الأجساد والإطاحة بالرؤوس، حالة من الفوضى الصاخبة عمت المكان واختلطت مع الصيحات المجلجلة.

نزف "سراج" الدماء من بين أسنانه، كذلك تحطمت سنتين من فكه السفلي جراء العنف المفرط ل "تميم"، أوشك الأخير على إزهاق روحه لولا تدخل كبار التجار للفصل بينهما، أبعدوه من فوقه وأحدهم يرجوه بشدة:
-اهدوا يا رجالة، مايصحش كده!
اخشوشن صوته المحتقن وتشنجد وهو يرد حاسمًا أمره:
-الكلب ده مالوش دية عندي، هايموت النهاردة!

تعلق الحاج "لطفي" أحد أهم كبار تجار السوق -ممن يمتازون بالسمعة والصيت والكلمة المسموعة عند الآخرين- بكتفه ليضمن بقائه في مكانه، ثبت وجهه عليه ونظر في عينيه يتوسط عنده بنبرة أقرب للرجاء:
-هو غلط في حقك، وكلنا شاهدين، بس إنت اهدى، واللي عاوزه هيتعمل!
زجره قائلاً بإصرارٍ مخيف:
-أنا مش هاسكت، رجالتي هيدبحوه، وكل اللي من طرفه هيتصفى النهاردة!

استند "سراج" على مرفقه ليعتدل في رقدته، حاول أحدهم مساعدته على النهوض لكن ثقل جسده الكبير لم يسعفه في شيء، ومع ذلك رد متحديًا دون خوفٍ أو ارتعاب:
-ده لو فضلت عايش يا ابن "ونيسة"!
على الفور استدار نحوه "لطفي" يحذره بصوته الأجش المرتفع قبل أن تتفاقم الأمور مجددًا ويحدث ما لا يُحمد عقباه:
-اتلم يا "سراج"، من امتى بنجيب سيرة الحريم؟ ولا إنت قلبت مَرَة وبقيت بتغلط زيهم؟ قولي عشان أبقى عارف لما أتعامل معاك بعد كده!

إهانة غير مقبولة، بل سَبَّة على الجبين، تلقاها من معلمه ذو الشأن الرفيع، تطايرت شرارات الحنق المختلطة بالحقد من عينيه ولم يجرؤ على التفوه ليدرأ إهانته، نكس رأسه في ضيقٍ وإن ظل غضبه مستعرًا، التفت "لطفي" لينظر إلى "تميم" موجهًا حديثه بشكلٍ عام:
-الكلام ده ماينفعش، كبارات السوق هيتلموا النهاردة ونشوف حل لده، مش هانستنى أما تحصل جناية قتل هنا!
كان كلامه نافذًا لا يجوز مناقشته، سحب نفسًا سريعًا لفظه وهو يكمل بصرامةٍ:
-ارجع يا "تميم" عند الحاج "بدير"، وطلباتك هتوصل لحد عندك.

عانده بوجهه المتجهم رافضًا الإصغاء له:
-مش ماشي من هنا!
ضاقت عينا "لطفي" وهو يعنفه بحذرٍ:
-هو أنا ماليش كلمة عندك ولا إيه؟
تنحنح قائلاً بتذمرٍ:
-إنت على عيني وراسي، بس ...
قاطعه منهيًا الأمر:
-خلاص يبقى تسمع الكلام، اتوكل على الله وبضاعتك هتوصلك!

نظرة نارية تركزت من "تميم" على وجه "سراج" وهو يرد بنبرته التي اكتسبت قوة:
-ماشي كلامك!
شكره بامتنانٍ عظيم:
-أهوو ده كلام الرجالة!
استبد الغيظ ب "سراج" الذي لم ينل نفس القدر من الاحترام والتبجيل وكأنه نكرة بالرغم من مكانته المرتفعة بين باقي التجار، اضطر أن يكظمه حتى تحين اللحظة المناسبة، حينئذ سيدعسه تحت قدميه ويظفر بانتقامه الدامي منه.

ندبٌ وعتابٌ لا بأس به ناله منها بعد أن رأت بأم عينيها ما أصاب وجهه من كدمات وجرحٍ قطعي في يده، حاول إخبارها بأن ما حدث له أمر معتاد نتيجة بعد الشجارات المفتعلة في تلك الأسواق المزدحمة بأربابها، تركها تعاتبه حتى أفرغت ما في جعبتها، ثم دخل إلى الحمام ليغتسل ويبدل ثيابه، فلديه زياؤة طارئة لخطيبته ليفهم منها ما الذي حدث بعد أن تجاهلت طوال النهار رسائله واتصالاته المتكررة بها..

وقف "تميم" أمام المرآة يمشط شعره، لم يستغرب بقاء والدته بالغرفة، فدومًا حينما يتسبب في المشاكل تجلس على طرف فراشه تلومه، وتوبخه، وتحذره من عواقب طيشه. التقت عيناه بانعكاس وجهها في المرآة راقبته عندما سألته كأنها تحقق معه:
-هاتروح فين تاني يا "تميم"؟ ناوي تضارب مع اللي ما يتسمى؟

لف الشال حول عنقه ثم استدار ناحيتها ليجيب بهدوء ضاعف من ريبتها:
-لأ يامه، مش ناوي أتخانق النهاردة..
قطبت جبينها متسائلة بتوجسٍ ونظراتها القلقة مرتكزة على ملامحه الباردة:
-أومال رايح فين؟
أخرج زفيرًا بطيئًا قبل أن يجيبها على مضضٍ:
-لبنت أختك، قالبة عليا من الصبح وأنا مش عارف ليه!
رددت عفويًا وقد بدت مندهشة:
-"خلود"!

-أيوه
سألته مستوضحة:
-مالها؟ ما هي كانت زي الفل من الصبح..
رد بنفس النبرة الممتعضة:
-معرفش، اسأليها، ده لو ردت عليكي أصلاً!
لطمت على صدرها بشكلٍ عفوي قبل أن تلومه:
-اوعى تكون زعلتها؟ أنا عارفاك لما مخك يقفل و...
قاطعها مدافعًا عن نفسه:
-هو أنا لحقت أصلاً أكلمها؟! ده أنا في هم كبير من طلعة النهار.

زمت شفتيها بطريقة مستنكرة، وشردت تستعيد مشاهد ما دار ظهيرة اليوم في المنزل، أخرجها "تميم" من سرحانها السريع بسؤالها:
-قوليلي هي مكانش باين عليها حاجة؟
نفت قائلة:
-لأ يا ابني، كانت تمام.
عاد ليسألها بإلحاح أكبر علها تعتصر ذهنها وتتذكر تفصيلة ما ربما تكون قد غابت عنها:
-يعني مشيت من هنا مبسوطة؟ ماشتكتش من حاجة؟ أومال القلبة السودة دي جت منين؟!
تطلعت إليه متسائلة:
-هي قالتلك إيه؟

أجابها باستنكارٍ كبير وتعبيرات ناقمة:
-مفكرة إني عارف عليها واحدة!
شهقت "ونيسة" بصوتٍ مرتفع قبل أن تؤيده:
-وده كلام يتصدق بردك؟
قال في تهكمٍ:
-قوليلها، الواحد أصله مش فاضي للهري ده، وهي عاملة حوارات
-كبدي يا ضنايا
ران الصمت بينهما لعدة لحظات انشغل فيها "تميم" بارتداء حذائه، لاح في باله سؤال بعينه فنطق به:
-طب هي "هاجر" جت النهاردة وهزرت معاها بكلام بايخ ولا حاجة؟

أجابته والدته مؤكدة:
-لأ مجاتش، بس أختك بتحبها أكتر من روحها ..
أطبق على شفتيه مانعًا سبة تعبر عن استياءه من الخروج من جوفه، ولكن تبدلت تعابيره فجأة للاندهاش الحائر حينما رددت أمه عفويًا:
-لا يكونش ده حصل بسبب التوكة؟!
تعابير واجمة غطت كامل وجهه وهو يسألها:
-توكة إيه؟
أشارت بيدها وهي تجاوبه:
-اللي كانت في درج الكومودينو..

على الفور تحرك في اتجاه الكومود وفتح الدرج العلوي ليجد منديل الرأس والمشبك به، أخرجهما منه ورفعهما نصب عينيه للحظة قبل أن يتركهما من أصابعه ليسقطا بالداخل، التفت ناحيتها متسائلاً بانزعاجٍ كبير:
-هو إنتي قولتلها إيه بالظبط؟
قصت عليه ما دار بالتفصيل لتتضح الصورة كاملة في ذهنه، وضع يده أعلى رأسه في حركة مستاءة من تصرف والدته الأحمق الذي فتح عليه بابًا من المشاكل بدون داعٍ، زمجر قائلاً في غضب:
-دول مش بتوعها يامه، ليها حق تفكر إني بأخونها!
سألته في فضولٍ:
-أومال بتوع مين طيب؟

هتف بعصبيةٍ اتضحت في صوته وحركته بداخل الغرفة:
-أنا لاقيتهم في الشارع وأنا ماشي، يا ريتني كنت رميتهم بدل وجع القلب ده!
شعرت "ونيسة" بالذنب وسوء تصرفها بالإيحاء ل "خلود" بأنها تشجعها على التودد من ابنها لتخلق نوع من الألفة بين الثنائي المقبل على الزواج بعد بضعة أيامٍ، ومع ذلك ألقت باللوم عليه، فقالت:
-وأنا هاعرف منين يا ابني؟ ما إنت مابتقولش حاجة!
استمر على عتابه لها قائلاً:
-حتى لو كده، برضوه مكانش ليه لازمة البؤين بتوعك دول!

تنهدت معقبة بقلة حيلة:
-أهوو اللي حصل بقى.
سألها وكأن عقله قد توقف عن إيجاد الحلول المنطقية:
-وهنحلها إزاي دي؟ يعني كنت ناقص خوتة!
اقترحت على استحياءٍ:
-حاول كده تضحك عليها بكلمتين، جايز ربنا يهديها وتعدي الحكاية على خير.
كان غير مقتنع بما تفوهت به، وقال موجزًا كتعبيرٍ عن عدم رضائه:
-ربنا يسهل.

همَّ بالخروج من الغرفة لكن استبقته والدته بالصياح عاليًا وكأن عقلها قد أضاء بفكرة ما:
-استنى يا "تميم"...
استدار ناحيتها فتابعت:
-إنت تقولها إنهم بتوع "هاجر"، وكانت نسياهم عندنا، فإنت خدتهم منها وعنتهم معاك لحد ما تشوفها
بدا حلاً جيدًا، لكن شكوكه جعلته يتساءل:
-وده هايخيل عليها؟

رد مبتسمة ابتسامة عريضة لتشير إلى استعادتها لضوابط الأمور:
-ملكش دعوة، أنا هأكد على "هاجر" تقول نفس الكلام، وإن شاء الله تصدق، وأمك مش هينة بردك
بادلها ابتسامة صغيرة على محياه أضاف بعدها:
-خلاص هاجرب..
نظرت لها بعينين متفائلتين ثم هتفت متضرعة:
-ربنا يهدي سركم يا ابني.
-يارب.

تبعته في سيره إلى الخارج وهي تكمل على سجيتها الفطرية:
-وربنا احنا اتحسدنا، ده شيطان ودخل بينكم..
غمغم "تمتم" ساخرًا في نفسه وهو يمسك بمقبض باب المنزل ليديره:
-هو أنا لحقت أعمل حاجة عشان الشيطان يدخل، ولا هو بيتلكك!

فتح الورقة المطوية التي تشربت الكثير من الزيت والبخار المنبعث من الطعام الساخن، ثم فردها على الطاولة القصيرة المستديرة لتظهر وجبة شهية من (الكباب والكفتة)، هبط "حمص" من على مصطبته القديمة ليجلس على الأرضية فور أن اقتحمت الرائحة الزكية أنفه، وبيده المتسخة اختطف قطعة كبيرة دسها في فمه، وتلذذ بمذاقها الذي اشتهاه للغاية، ظهرت علامات الاستمتاع واضحة على تعابيره، نظر له "شيكاغو" بتأملٍ ثم سحب قطعة يلكوها في فمه، تملكه نفس الإحساس الرائع بتناول أحد أشهر الوجبات وأغلاها على المعدمين من أمثالهم .. تناثرت البقايا من جوف "حمص" وهو يستطرد:
-بس تصدق الشغل مع المعلم "تميم" حاجة تانية.

رد عليه "شيكاغو" يؤيده في كلامه:
-ده حاجة أخر نغنغة، مصلحتين تلاتة معاه وهنبطل سرقة!
رمقه بنظرة نارية رافضة قبل أن يوبخه بحدةٍ:
-نبطل، إنت عبيط، حد يقول للرزق لأ؟!
سأله بفمٍ ممتلئ على آخره:
-ليه في حاجة جديدة؟

أجابه بعد أن تجرع رشفة كبيرة من مشروبه المسكر الذي أحضره:
-وقعتلك على حتة ألماني إنما إيه، هتريحنا بتاع شهرين تلاتة.
تساءل في اهتمامٍ:
-دي فين دي؟
تجشأ موضحًا:
-عند الفلل القديمة، مدير أمن سابق، على المعاش دلوقتي وعايش لوحده.
توقف "شيكاغو" عن ابتلاع الطعام ليحدق فيه مصدومًا، ثم صاح محتجًا:
-إنت جاي تودينا عش الدبابير؟!

قال غير مكترثٍ وقد بدا متحمسًا لتلك السرقة:
-يا عم ده راجل مكحكح، مش هيستحمل زقة مننا، وبعدين أغلب الوقت مش موجود في فيلته.
حذره بلهجة جادة ربما يتراجع عن فكرته المتهورة تلك:
-بلاش منها.
أصر على رأيه قائلاً:
-صدقني هنسترزق، وزبونها جاهز هيدفع على طول.

وضع قطعة أخرى من اللحم الشهي في جوفه، ابتلعها ورد عليه بعبوسٍ:
-مش مرتاح
ظهرت على تعابير "حمص" علامات الارتياح، استرخى في جلسته وأمسك بزجاجة مشروبه يرفعها نحو فمه، ثم قال عن ثقة تامة وقد عكست نظراته قتامة مريبة:
-يا عم حط في بطنك بطيخة صيفي، هتعدي زي اللي قبلهم!

-تسلم إيدكم يا بنات، رجعت زي الأول وأحسن.
قالتها "آمنة" بابتسامة بشوشة على تعبيراتها الهادئة وهي تتأمل بعينين مشرقتين العربة بعد تجديدها بالأموال التي حصلت عليها جراء بيع أسورتها الذهبية، لم يذهب مالها سدى، هكذا رددت في نفسها! كنت ابنتاها قد توليتا نقل العربة إلى تلك الغرفة بعد تنظيفها لتصبح مكانًا آمنًا للاحتفاظ بها دون الخوف من تكرار تخريبها، التفتت "همسة" ناحية والدتها لتأخذ منها صينية السندوتشات التي أعدتها لهما، بينما احتضنتها "فيروزة" وشددت من ضمها لها وهي تشكرها معترفة بجميلها الكبير:
-الحمدلله يا ماما، كله بفضل ربنا ومساعدتك لينا، لولاكي كان زمانا حاطين إيدنا على خدنا.

ردت بحنوٍ:
-ربنا يفرحكم دايمًا..
ثم أشارت بعينيها للأعلى مكملة جملتها:
-هاطلع أنا فوق ولو عوزتم حاجة نادوا عليا.
هزت "همسة" رأسها ترد عليها:
-ماشي يا ماما
تابعتها الاثنتان بعينيهما إلى أن صعدت على الدرج واختفت بالأعلى، ثم تحركت "همسة" نحو أحد الصناديق الخشبية الموضوعة جانب الحائط لتسند الصينية عليها، حملقت في العربة قائلة:
-تعرفي كده شكلها بقى أحلى.

تنهدت "فيروزة" قائلة في سعادة ممتزجة بالارتياح:
-الحمدلله، أنا كنت هاموت بحسرتي لو المشروع ده باظ.
-ربنا كريم، والتوسيعات اللي اتعملت من جواها بقت أحسن
-مظبوط، هنعرف نقف براحتنا، وكمان عندنا مخزن نعين فيه حاجتنا
-صح كلامك.

لفتة عادية برأسها نحو جانب العربة جعلتها تلمح "حمدية" وهي تتلصص عليهما من الخارج من خلال انعكاس صورتها في المعدن، انقبض قلبها وشعرت بإحساس مزعج يتخللها، لذا مالت "همسة" نحو أختها تقول لها بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا:
-الحقي مرات خالك بتبص علينا!
امتقع وجه "فيروزة" وتغيرات نظراتها للضيق، كزت على أسنانها هامسة في توعدٍ صريح ينم عن بغضها لها:
-بجد، ليها نصيب تتهزأ!

اقتربت من الباب مدعية حديثها مع أختها، فقالت بنبرة عالية متعمدة أن تصل إليها:
-الجو جايب هوا بارد، بارد أوي، مش كده يا "همسة"؟
في البداية لم يتفقه ذهن "همسة" إلى ما تفعله، وبالتالي لم تستطع مجاراتها فتساءلت بقليل من الحيرة:
-فين ده؟
أجابتها بنبرة موحية ونظرات ذات مغزى:
-من برا، مش حاسة ولا إيه؟

انتبهت "حمدية" المرابطة بالخارج لكونها المعنية بذلك الحديث غير المباشر، استرقت السمع وتحفزت للرد لكنها منعت نفسها قبل أن تتهور حتى لا تكشف أمرها، في حين وضعت "فيروزة" إصبعيها على أنفها لتسده مكملة استخفافها بها بشكلٍ مهين:
-لأ ومليان ريحة زفرة، يا ساتر، هانتخنق من الريحة المعفنة دي، في إيه كده برا، فسيخ ولا تنضيف سمك؟!

كادت "حمدية" أن تخرج عن طور سكونها المضطر لترد عليها، بدت كمن تتصاعد ينفث دخانًا من أذنيه حينما تابعت "فيروزة" تمثيليتها المتهكمة عليها:
-أحسن حاجة أعملها أقفل الباب، خلي القذارة تفضل بعيد عننا!
وبكل قوة صفقت الباب في وجه "حمدية" التي انتفض جسدها تلقائيًا من الصوت المرتفع، استشاطت غضبًا من إهانتها القاسية لها، احمر وجهها غيظًا واشتعلت نظراتها في حنق، ثم تمتمت من بين أسنانها المضغوطة بنبرة مغلولة:
-يا بنت ال ...! بقى أنا تلأحي عليا بالكلام؟

كورت قبضة يدها وضربت بها على الدرابزين، ثم ما لبثت أن أمسكت بخصلة من شعرها لفتها حول إصبعها متوعدة "فيروزة" بحقدٍ مضاعف عكس قدرًا محدودًا من نواياها الخبيثة:
ماشي يا بنت "آمنة"، وحياة مقاصيصي دول لهفرجك ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة