رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل السابع والعشرون
تعلقت عيناه بعينيها المتطلعتين إليه وكأنها نفذت إليه فاخترقت كيانه، ربكة أخرى أشد وطأة عصفت بداخله، وذبذبت ما ظن أنه يملك زمام أمره؛ قلبه .. تدارك نفسه سريعًا، وأبعد حدقتيه عن تأمل تفاصيلها القريبة منه ليتنفس ببطءٍ شديد حتى يضبط ما أصاب عقله من تخبط غير مفهوم، وفي أقل من لحظاتٍ كان وجهه قد اكتسب طابعًا مهنيًا جادًا، تراجع "تميم" خطوة للخلف ليفسح المجال للعامل لوضع باقي الأقفاص، وتجنب النظر إليها ليبدو كمن جاء لأداء مهمة محددة حين هتف آمرًا:
-حطهم عندك
رد العامل بامتثالٍ:
-حاضر يا معلم.
لكن صوت "فيروزة" الرنان اقتحم أذنيه عندما قالت بنفس النبرة الساخرة:
-بنفسك يا معلم، احنا مش واخدين على كده.
عقب عليها بتجهمٍ طفيف وقد خالف عهد نفسه ونظر ناحيتها:
-كان عندي أمانة من الحاج بأوصلها.
تساءلت بتهكمٍ ونظراتها تتفحص أقفاص الفاكهة التي احتلت عتبة المنزل:
-أها، وعريس الغفلة فين؟ مش هو المفروض يجي بدالك!
انزعج من تطاولها، ورد بحدةٍ، وكأنه يلومها:
-مش فاضي وراه شغل.
قالت مبتسمة في استخفافٍ محسوس:
-وإنت بقى اللي باعتك بتقوم بدوره، غريبة!
زفر "تميم" عاليًا، وضرب كفه بالآخر في ضيقٍ قبل أن يرد عليها بوجهه الممتقع:
-لا إله إلا الله، هي مش ضاربة معايا نرفزة على الصبح، أنا عملت اللي عليا وخلاص..
ثم التفت نحو العامل يأمره من جديد بلهجة منفعلة:
-يالا يا ابني.
سبقه العامل في خطواته، وقبل أن يمضي "تميم" في طريقه استمع إلى صوت "آمنة" المتسائل:
-مين يا "فيروزة"؟
وما إن أبصرته حتى نادت عليه بلهفةٍ لترحب به:
-أهلاً يا ابني، اتفضل شوية.
استوقفته عبارتها، فاستدار نحوها يشكرها:
-كتر خيرك يا حاجة.
ردت "فيروزة" على والدتها، فقالت بما يشبه التهكم:
-رحبي بنسايبنا المعلمين.
ارتفع حاجبا والدتها للأعلى في استنكارٍ من فظاظتها الزائدة، ونهرنها بعبوسٍ:
-عيب يا بنتي، الراجل في بيتنا.
رد "تميم" ينصح أمها بلهجةٍ جافة:
-شكرًا يا ست الكل، بس يا ريت تعلمي الأبلة الذوق مع الناس بدل ما لسانها فيه حتة زايدة.
احتقنت بشرتها بحمرة مغتاظة من تطاوله الفج، وتطلعت إليه بنظرة احتقارية شملته من رأسه لأخمص قدميه قبل أن تنطق مهاجمة إياه:
-ما في أشكال ماينفعش معاها إلا قلة الأدب!
هدرت "آمنة" تعنفها لتجاوزها غير المحتمل:
-"فيروزة"!
اشتعل وجه "تميم" بغضبه، ورد بزمجرةٍ بائنة في صوته يهددها بها وهو يلوح بسبابته أمام وجهها:
-للمرة التانية بأحذرك وإنتي بتتكلمي معايا، يا تخرسي وتحطي لسانك في بؤك، يا إما هاوقفك عن حدك!
أهانته باندفاعٍ، معتقدة في نفسها أنه لن يجرؤ على المساس بها في حضرة والدتها:
-ما إنت بلطجي و...
بترت باقي جملتها، وتأوهت من الألم المفاجئ الذي أصاب جانب ذراعها، وكأن شيئا حادا قد اخترق ثيابها وغرز في لحمها، التفتت إلى الجانب لتجد والدتها تقبض بأصابعها عليها وكامل نظراتها مشتعلة غيظًا منها، ثم وبختها بلهجةٍ قوية قاصدة إحراجها:
-ما تتلمي شوية! هو أنا معرفتش أربيكي ولا إيه؟ عيب أسلوبك ده مع ضيفنا، ولا عوزاني أمد إيدي عليكي قصاده؟!
أطبقت على شفتيها في حنقٍ وهي تكاد لا تصدق ما تفوهت به من تهديد عدواني بحت، وأمامه تحديدًا لتنصفه وتتخذ موقفًا معاديًا لها .. غالبت بصعوبة دموعها التي كانت تقاتل للتسلل إلى مقلتيها ومشاهد الإيذاء البدني واللفظي تتراقص في مخيلتها، راقب "تميم" ما يحدث بعدم رضا، وهتف معترضًا بوجومٍ:
-عمومًا يا حاجة أنا كنت بأوصل أمانة.. مافيش داعي للمشاكل..
تركزت عيناه على وجه "فيروزة" المتعصب، تبين من نظراتها الكارهة نحوه مدى ازدرائها له، ولم يشعره ذلك سوى بالانزعاج وعدم الراحة، تابع بمسحةٍ من الضيق في صوته:
-ومش هتشوفوا خلقتي تاني.
أدركت "آمنة" أن ابنتها قد تسببت في إحزانه، فاعتذرت منه على الفور:
-حقك عليا يا معلم، بنتي متقصدش.
حنقٌ مُضاعف غطى قسمات "فيروزة" عقب جملتها تلك، لم تتحمل وداعة والدتها مع من تسبب في إيذائها، استلت ذراعها من يدها، وكبتت مضطرة غضبها في نفسها، ثم قالت بصوتٍ مختنق لتنفر من المكان:
-مع السلامة يا ماما، أنا رايحة مشواري.
ودون أن تنتظر الرد منها اندفعت كالطلقة هابطة الدرجات ركضًا وأنفاسها تلهج، يكاد يُجزم "تميم" أنها ستبكي قهرًا، اصطحبتها نظراته تلقائيًا إلى أن اختفت، لكن شعوره بالانزعاج ما زال متعاظمًا، وكأنه ازداد قوة بابتعادها وهي في تلك الحالة الناقمة، تصنعت "آمنة" الابتسام وقالت ملطفة حين لاحظت شروده:
-والله بنتي طيبة، بس هي ساعات مابتبقاش واعية للي بتقوله، فمتزعلش منها.
تنهد قائلاً لها بأسفٍ:
-حصل خير يا حاجة، أنا عاوز أفهمك إني حاولت أراضيها وأعوضها عن اللي حصل، بس هي مرضتش
علقت عليه بنبرة متمهلة، وقد ظهرت التعاسة على محياها:
-نفسها عزيزة عليها، وأنا بتأسفلك تاني.
هز رأسه مرددًا:
-ولا يهمك يا حاجة، سلامو عليكم.
ألقت عليه التحية، فأولاها ظهره وتحرك هابطًا الدرج بخطواتٍ ثقيلة، ووجه "فيروزة" المحتقن لا يزال عالقًا في ذهنه.
تناقلت ثمرة التفاح غير المأكولة بين يديه بلزمة متكررة وكأنها كرة تتأرجح في سلاسة دون أن يفقدها أو تسقط من راحته وهو جالس أمام دكانه غارقًا في أفكاره العميقة، شرد عمن حوله، وكأنه في عالم خاص به، ما زال طيف وجهها العابس يحتل جزءًا من تفكيره، حز في قلبه أن يراها مجروحة الكبرياء أمامه وإن كانت سليطة اللسان، أوشك عقله على الانفجار من كثرة ما يعتريه من صخبٍ يخصها وحدها...،
لم ينشغل هكذا بالتفكير بأحدهم منذ حبسه، حتى "خلود" لم تستحوذ على مقدار بسيط من اهتمامه طوال تلك الفترة المشؤومة، نفخ كمن أصابه السأم وتوقف عن العبث بالتفاحة .. حملق فيه والده مطولاً وقد جلس إلى جواره، لم ينبس بكلمة أو يعلق بشيء، كان صامتًا لدرجة أثارت فيه الريبة، فسأله "بدير" مستوضحًا:
-إنت كويس يا "تميم"؟
ظل صامتًا ولم يجبه، فأعاد على مسامعه السؤال بنبرة أعلى:
-يا "تميم" أنا بأكلمك، إنت كويس يا ابني؟
انتبه لصوته وقبض على الثمرة بيده، وكأنه يعتصرها، ثم استدار نحوه، وقال بوجهٍ غير مقروء:
-أنا بخير يابا.
سأله في اهتمامٍ وقد تقطب جبينه:
-عملت اللي طلبته منك؟ وصلت الحاجة للجماعة نسايب ابن خالتك؟
رد على مضضٍ وأمارات الضيق بادية عليه:
-أيوه.. كله تمام.
حرك رأسه في استحسانٍ، وتابع:
-كويس، مش عاوزين نقصر معاهم، هما بردك محسوبين علينا
قال غير مبالٍ وهو ينهض عن كرسيه الخشبي:
-اللي يريحك.
أوقفه "بدير" قبل أن يتركه بالإمساك به من ذراعه، وسأله وهو يتفرس في ملامحه الغريبة:
-مالك يا ابني؟ في إيه مضايقك
رد ضاغطًا على شفيته، وكأنه يبتسم، وهتف بزفيرٍ بطيء:
-مافيش حاجة
أرخى قبضته عنه، وأضاف بجديةٍ:
-طب اعمل حسابك هتتغدى عندنا إنت ومراتك النهاردة
نفخ في تذمرٍ:
-مالوش لازمة يابا، ده احنا تقريبًا يوم بعد يوم عندكم، يا إما عند أمها.
قال بإصرارٍ:
-يا سيدي أمك عاوزة تشوفك، وليها حق عليك، هتكسفها
لم يكن يمتلك طاقة للجدال أو التفسير، فأومأ برأسه مستسلمًا:
-حاضر.
ابتسم له والده في حبورٍ، ودعا له قائلاً:
-ربنا يهديك راحة البال.
وكأن تلك الدعوة تحديدًا هي ما كانت يحتاج إليها عل الطبول التي تقرع في رأسه تكف عن ضجيجها، فدمدم برجاءٍ صادق:
-يا رب.
أقبل عليه "محرز" بسماجته المعهودة، وتساءل بظرفه اللزج:
-إيه يا عم "تميم"، شكلك مكلضم ليه كده؟ الجماعة مزعلينك ولا إيه؟ ما هي أيام العسل معدودة، وأيام البصل متعدش.
نظر له بعينين متنمرتين، ورد نافيًا:
-لأ يا سيدي، ربنا ما يجيب بصل!
لكزه في جانب كتفه مازحًا:
-الجواز كله كده، مهما دوقت من العسل.
لم يستلذ أسلوبه الثقيل في المزاح، وأشاح بوجهه بعيدًا عنه ليشرع في التحرك نحو داخل الدكان، فهتف والده عاليًا ليستوقفه:
-ده المعلم "لطفي" جاي من بعيد أهوو
ارتسمت علامات الفزع على وجه "محرز" بمجرد التفوه باسمه، اتسعت حدقتاه بشكلٍ مريب، وتوترت أنفاسه .. أدار كالملسوع رأسه في كافة الاتجاهات وهو يردد بذهوله المرتعد:
-هاه، مين؟
أشار "بدير" بيده يأمر ابنه:
-روح يا ابني ناديله، مايصحش نشوفه ومانسلمش عليه.
كان من الأدب ألا يتجاهل الضيف حين يراه، فرحب بودٍ:
-ماشي يابا
انقض "محرز" بعنفوانٍ يدعو للشك على ذراع "تميم" يشده منه وهو يقول بصوتٍ مرتبك:
-استنى يا "تميم"، أنا رايح بدالك ماتتعبش نفسك.
نظر له الأخير بغرابةٍ، وانتزع معصمه من قبضته، ثم قال بإصرارٍ وتلك النظرة المستهجنة تكسو حدقتيه:
-لأ يا عم "محرز".
حبس الأول أنفاسه في ذعرٍ، خشي من افتضاح ما يدبر له، بهتت تعابيره، وبدا كما لو كان قد قابل شبحًا للتو، ما أنقذه حقًا من تلك الكارثة الوشيكة هي تلك الأصوات التي صدحت فجأة لتعلن عن مشادة كلامية حادة بين العمال بداخل الدكان، استدار "تميم" برأسه نحوهم، وصاح متسائلاً بصوته الأجش:
-في إيه يا رجالة؟
احتدمت المشاجرة فتدخل سريعًا قبل أن تتطور للتشابك بالأيدي، في حين تنفس "محرز" الصعداء لحدوث ذلك، وكأنها طوق النجاة له، وقبل أن يفكر مرتين، ردد حاسمًا أمره وابتسامته المهزوزة مرسومة على شفتيه:
-هاروح أنا.. للمعلم يا حاج.
علق عليه "بدير" وكامل انتباهه مع العمال المتلاحمين:
-طيب يا "محرز".
تعجل في خطواته ليتجه إليه ودقات قلبه المتلاحقة تكاد تصم أذنيه، اعتصر عقله ليختلق الحجج المناسبة ليستغلها ويقنعه بالذهاب قبل أن تنتهي المشاجرة، نجح بلؤمٍ في استدراجه بعيدًا عن محط أنظار عائلة "سلطان"، سأله بصوتٍ شبه لاهث من فرط التوتر:
-خير يا معلم "لطفي"، في حاجة حصلت؟
أجابه بعفويةٍ:
-أنا كنت جاي أراجع معاك الطلبية الأخيرة، في حاجات ناقصة، وطلبتك في الدكان مكونتش موجود.
رد في عصبيةٍ ظاهرة على محياه:
-يا معلم ما إنت معاك موبايل، كنت اتصل عليا و..
قاطعه ليبرر سبب حضوره:
-فصل شحن يا "محرز"، وأنا كنت قريب منكم هنا، فقولت أشوفك ونتكلم..
ثم تحولت نبرته للشك حين سأله:
-وبعدين مش كله بعلم الحاج ولا ...
رد "محرز" مقاطعًا بارتباكٍ:
-لأ ما هو عارف وباعتني ليك.
أشار له بيده وهو يتابع حديثه:
-طب بينا على الدكان
هتف فجأة كالمذعور:
-لأ!
اندهش "لطفي" من ردة فعله الغريبة، وسأله في استغرابٍ حائر:
-نعم؟ ليه؟
ابتلع ريقه وحاول أن يبدو هادئًا وهو يخبره:
-قصدي احنا هنقعد على القهوة، أصل.. في خناقة للركب هناك، العمال ولاد الهرمة ماسكين في بعض، وإنت مش ناقص وجع دماغ.
تساءل الأخير مهتمًا:
-يا ساتر يا رب، طب والحاج "بدير"، و"تميم".
أجابه مبتسمًا وقد استعاد ثباته الانفعالي:
-بيحاولوا يهدوا الدنيا قبل ما توصل للأقسام، بينا يا معلم، أما الدنيا تروق هنروح عندهم.
تنهد معقبًا عليه، وقد ارتضى باقتراحه:
-طيب.
وببضعة جمل منمقة، وكلمات مقتضبة تأكد "محرز" من انطلاء كذبته عليه، واستطاع أن يتحدث معه بأريحية عن كافة الأمور المتعلقة بشأن تجارته السرية، ونجا ببدنه من فضيحة وشيكة، وكُتب لخطته المدروسة بعناية النجاة أيضًا.
انقضت بضعة أيامٍ وحان موعد اللقاء المرتقب بين العائلتين في وقت الظهيرة لشراء المشغولات الذهبية للعروس، رفضت "فيروزة" الذهاب مع توأمتها لانتقاء ما يعجبها حتى لا تتلقى بضعة عبارات غير لطيفة من زوجة خالها أو ظرافة غير مقبولة من شقيقة خطيبها، كانت في غنى عن تلك السخافات غير المرغوبة، فلن تستطيع كبح نفسها من الرد، لذا فضلت البقاء في المنزل والالتهاء بترتيب دولابها حتى يمر اليوم بسلام ..
وأمام تلك الواجهة الزجاجية انعكس الوهج البراق والخاطف للأنظار لتلك السلاسل الذهبية، انفرجت شفتا "حمدية" عن انبهارٍ واضح ونظراتها تجول على كل واحدة من المعروض أمامها بتفرسٍ طامع، سال لعابها وتهدجت أنفاسها مع رؤيتها لواحدة كبيرة حتمًا ستتكلف الكثير، امتلأت عيناها بصورتها الوهاجة، خُيل إليها أنها تقتنيها ويتزين بها عنقها، تلمست ياقة بلوزتها بحركة لا إرادية، بدأت الخيالات تراودها وهي تظن أنها ملكتها، وهتفت بحماسةٍ مضاعفة:
-اختاري دي، حلوة أوي.
على عكسها لم تكن "همسة" منجذبة لبريق الذهب المغري، كانت تنظر بفتورٍ لكل قطعة على حدا، بحثت عن البسيط غير المتكلف، أشارت بيدها نحو واحدة رقيقة تحتل الركن السفلي من الواجهة، وتساءلت بترددٍ:
-إيه رأيك يا مرات خالي؟ دي شكلها أحلى و...
نظرت باستنكارٍ لما اختارته، ولكزتها في جانبها بغيظٍ، فتأوهت من الوجع المباغت، رفعت عينيها لتتطلع إليها في عتابٍ، وقبل أن تعترض على تصرفها العنيف معها، كزت "حمدية" على أسنانها لتهمس لها، وكأنها تحذرها:
-إنتي عبيطة يا بت؟
حملقت فيها مصدومة، في حين واصلت زوجة خالها القول بنفس اللهجة الساخطة:
-عاوزة تختاري حتة بتاعة ماتسواش تلاتة مليم؟ إنتي مِناسبة عيلة ليها شنة ورنة، يعني لازم اللي تختاريه يكون قيم وغالي
ردت محتجة بصوتٍ أقرب للبكاء:
-بس أنا مش عاوزة.
لمحت "حمدية" حماتها وهي تخرج من محل المشغولات، فهمست محذرة:
-اتكتمي دلوقتي وما تفتحيش بؤك بكلمة!
تبخترت "بثينة" في خطواتها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة مغترة، وكأنها حقًا تمتلك ذلك المال، ألقت نظرة متأنية على وجه العروس المتجهم، وسألتها في فضولٍ:
-في إيه يا عروسة ابني؟ مبوزة كده ليه؟
وقبل أن تبادر بالرد عليها، تدخلت "حمدية" بشكلٍ سافر في الحوار، وادعت كذبًا:
-زعلانة إن أختها مش معاها، بس هنعمل إيه يا ست "أم هيثم".
زمت شفتيها مُبرطمة، وقد ارتفع حاجبها للأعلى لتبدي اعتراضها:
-هو كل الموجودين دول مش كفاية؟!
وقامت بالتعداد لها مستخدمة يدها في الإشارة:
-ده أنا، وأمها، وخطيبها، وأخته، ده غيرك طبعًا يا ست "حمدية".
ضحكت "حمدية" بسخافةٍ، وردت عليها مُعللة:
-أصلهم توأم، متعودين يعملوا كل حاجة مع بعض!
لوحت بيدها تقول بصراحةٍ:
-إلا في الجواز يا إدلعدي، كل واحدة لصاحب نصيبها، وأنا ابني ربنا بختهاله!
هزت رأسها تؤيدها:
-مظبوط
أطبقت "همسة" على شفتيها في ضيقٍ، لم تحبذ ذلك الأسلوب الرخيص المبتذل في إدارة الحوار، أبعدت وجهها عنها، وعادت لتحدق بحيرة في المشغولات التي تحتل الواجهة وهي عاقدة لساعديها أمام صدرها، رعشة مُربكة انتابتها حين أمسك "هيثم" بذراعها فجأة ليسحب يدها نحوه ويمسك بها، التفتت ناظرة نحوه في توترٍ، ابتسم لها متسائلاً باهتمامٍ:
-ها يا عروسة في حاجة عجبتك هنا؟
بخفةٍ استلت كفها من بين أصابعه، وأوشكت على أن تجيبه لكن دفعة عنيفة نسبيًا من "حمدية" أزاحتها قليلاً من مكانها، نظرت لها شزرًا وقد وقفت في المنتصف بينهما، ثم ضحكت مهللة بحماسٍ مائع أصابها بالنفور:
-طبعًا يا عريس الهنا.
وضع "هيثم" يده على مؤخرة عنقه يفركه وهو ينفخ بانزعاجٍ من أسلوبها المستفز، وتساءل باقتضابٍ:
-إيه هي؟
تصنعت "حمدية" الخجل، وأخفضت من نبرتها لتقول وهي تضع إصبعيها على طرف ذقنها:
-بس هي خايفة متعجبكش
تساءل في فضولٍ ونظراته تدور بحيرةٍ على المعروض:
-وريني كده، فين بالظبط؟
تعلقت "همسة" بذراعها لتمنعها، لكنها نفضت يدها وأشارت بسبابتها نحو تلك القلادة البراقة التي أعجبتها، وتلك النظرة الخبيثة تكسو عينيها، بدا وجه "هيثم" غريبًا، بالطبع لم يكن راضيًا عن اختيارها الذي أوحى بجشعها، ومع ذلك زفر بصوتٍ مسموع، وقال على مضضٍ:
-ماشي.. طالما عجباها هنشتريها.
تفاجأت "حمدية" من موافقته دون جدالٍ، واجتاحتها نشوة عارمة، اعتقدت في نفسها أنه من النوع المغفل الذي يمكن استغلاله واستنزافه بسهولة، اتسعت بسمتها اللئيمة بشكل كبير وهي تمتدحه:
-ابن أكابر بصحيح!
بينما حملقت فيه "همسة" بذهولٍ صادم، لم تشعر بالفرحة لشرائها، تأملت تعابيره الممتعضة، وحركة جسده المتعصبة قليلاً، حينها انتابها هاجس مقلق بأن ما حدث الآن لن يأتي عليها بالخير، انقبض قلبها واختفت ملامح السرور من محياها، وتضرع راجية في نفسها:
-استرها من اللي جاي يا رب.
رمقت "بثينة" الاثنتين بنظرات نارية مغلولة، أدركت من التمثيلية الهزلية المكشوفة أمامها معدن تلك العروس وطينة أهلها، كزت على أسنانها تلعنها في سرها:
-آه يا بنت الطماعة! لأ وعملالي فيها غلبانة وزعلانة على أختك، وحركات قرعة، وإنتي عينك هتطلع على المشاءلله دي..
توحشت نظراتها أكثر وهتفت تتوعدها بحنقٍ كاره بدأ يتكون ضدها:
-بكرة أطلعه على جتتك، هتروحي مني فين...!