رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الثلاثون
كالطريد العاجز سار بغير هدى يجوب الشوارع والطرقات دون أن يحدد وجهته، انتهى به المطاف على الكورنيش، توقف لبرهة ليلتقط أنفاسه، لم يعرف ماذا يفعل تحديدًا، لكنه واصل سيره عليه وعقله المشحون لا يتوقف عن التفكير، تقلصت عضلات وجهه بشكلٍ مريب وكأنه تذكر ما يؤلمه، للحظة انسالت على مخيلته ذكريات قديمة راحت تسطع وتختفي كومضاتٍ من ظلمة الماضي البعيد، عاد بالزمن للوراء حين كان صبيًا صغيرًا، تجسد في عقله دكان والده بكل تفاصيله، رائحة الطلاء ومشتقاته زكمت أنفه، ما زال يذكر براعة أبيه في إعداد القهوة على (السبرتاية) لتبدو ذات مذاقٍ خاص، آنذاك وقف متذمرًا أمامه يُلح عليه بعناد الصبية الذين نبت لهم خط رفيع ليشكل شاربًا أعلى أفواههم:
-يعني مش هاتيجي معايا؟
نظر له "غريب" في صمتٍ قبل أن يلتهي بخلط تلك المواد العجيبة في علبة الطلاء التي فتحها، ظل "هيثم" ساكتًا وهو يراقبه آملاً أن يذعن لرغبته ويستعطف معلمه الذي تشاجر معه ليضمه إلى مجموعة التقوية التي سبق وطُرد منها، ضجر من عدم مبالاته فهتف بتشنجٍ:
-إنت وعدتني تكلم الأستاذ تاني.
نفخ والده في سأم، ورد بفتورٍ:
-مالوش لازمة يا "هيثم"، اللي اتعلموا خدوا إيه.
حك جانب عنقه في إحباطٍ، بالطبع لم يكن من أصحاب العقول النابغة أو متفوقًا بين أقرانه ليهرع الأول لدعمه، كان ببساطة متعثرًا في دراسته، بالكاد ينجح بالمحسوبية والواسطة، تجمدت نظراته عليه وسأله بعبوسٍ:
-طب عاوز أروح سيما مع أصحابي، اديني فلوس تبقى معايا
ترك "غريب" ما في يده وأشار له بسبابته معترضًا:
-مصروفك كله رايح على القرف ده، خليك واقف معايا واتعلم صنعة تنفعك، ده أنا هودكك على أصول الشغل كله وأسراره وهخليك تكسف بدل الجنية ألف، مايبقاش مخك ضلم في التعليم وأكل العيش...
بتر عبارته حين لمح "بدير" وولده يمران بجوار دكانه فأردف بتفاخرٍ انعكس في نظراته نحوهما:
-شوف ابن خالتك فهلوي إزاي وأبوه بيتبهاهى بيه في كل حتة، خليك كده زيه ناصح والناس عملالك قيمة.
أدار "هيثم" رأسه للأمام لينظر إلى الاثنين بحنقٍ، ثم علق عليه بتنمرٍ:
-هو أنا مابعملش حاجة تعجبك خالص؟ مش لازم أبقى زيه عشان أملى دماغك، أنا ماشي.
ظهر الانزعاج على تعابيره وهو يوليه ظهره مبتعدًا، لحق به والده ليوقفه قائلاً بحنوٍ:
-يا واد استنى.. ما تقفش كده، خد وإدي معايا!
نظر نحوه مُتسائلاً:
-طيب، هتعمل إيه دلوقتي؟
وقبل أن يجيبه كان أحدهم يقف على أعتاب الدكان يلوح بيده مرحبًا، وبيده الأخرى يمسك بطفلة صغيرة:
-سلامو عليكم.
أرخى قبضته عنه ليرحب بالضيف قائلاً:
-وعليكم السلام اتفضل يا عم "علي".
تقدم خطوتين منه، استأذن منه بحرجٍ دون أن تفتر ابتسامته الودودة:
-ممكن يا "غريب" البت تخش الحمام عندك.
أبدى موافقته هاتفًا:
-أه وماله، على إيدك اليمين
رد "علي" يشكره:
-تسلم يا حبيبي.
استدار "غريب" نحو ابنه يأمره:
-وري الكتكوتة مكان الحمام يا "هيثم".
ألقى نظرة شاملة جالت عليها من رأسها لأخمص قدميها.. كانت ملامحها الطفولية حادة، ونظراتها قوية تخترق من تتطلع إليه، حتى ثوبها الصيفي الذي كانت ترتديه يعلوه رسمة طاووس مزركش، وبامتعاضٍ لم يخفه قال:
-ماشي.
سارت معه الصغيرة نحو الركن الخلفي من الدكان حيث يتواجد حمام صغير الحجم، في حين مسح "غريب" يده بخرقة قديمة ليزيح بقايا الزيت العالقة بأصابعه وهو يسأل ضيفه الي بدا على معرفة جيدة به في اهتمامٍ:
-قاعدين أد ايه المرادي؟
أجابه مسترسلاً في الحديث:
-أسبوع وبعد كده الجماعة هوديهم البلد لحد ما أرجع من رحلتي
-ربنا يوسع الرزق على عبيده
-يا رب.
أوصل "هيثم" الطفلة إلى الحمام وتجول في الركن الخلفي دون هدفٍ محدد إلى أن لمح درج النقود الموجود أسفل المكتب الخشبي العريض مفتوحًا، خفق قلبه وومض عقله بفكرة عبثية جامحة، لما لا يستغل فرصة انشغال والده بالحديث مع صديقه ويأخذ بعض النقود على سبيل الاقتراض؟ أليس من المفترض أن يعطيه مصروفًا ينفقه كيفما يشاء؟ برر لنفسه أسباب السرقة، وتسلل بحذرٍ تام ليسحب بضعة أوراقٍ نقدية من فئة بسيطة ودسها في جيبه...،
استدار فجأة ليجد الطفلة محدقة به بعبوسٍ وهي تكتف ساعديها أمام صدرها، وكأنها تؤكد له أنها رأت ما فعله، توتر ودفع السبرتاية الموضوعة أعلى السطح الخشبي بتوترٍ قبل أن يهرب من نظراتها المراقبة التي حتمًا كشفت سرقته، اندفع نحو الخارج دون أن يتفوه بكلمة مما استرعى انتباه والده الذي صاح يناديه:
-واد يا "هيثم" رايح فين؟
أجاب دون أن يلتفت نحوه:
-راجع كمان شوية يابا.
بعدها ببضعةِ ساعاتٍ نما إلى مسامعه الحريق المروع الذي اشتعل في الدكان وأودى بحياة والده حرقًا، بكى لوعةً على فراقه وإحساسه بالذنب يقتله، تمنى فقط لو أخذه في أحضانه، واعترف له بما اقترفه مبديًا ندمه على فعلته النكراء، آنذاك أقحمت والدته في رأسه فكرة واحدة لتسيطر عليه، فقدان والده كان نتيجة سعيه الدؤوب للإنفاق على أسرته ليعيشوا في حياة كريمة، وأن المال وحده قد يعوض حرمانه من حنان الأب واشتياقه، نعم وحدها النقود تشتري السعادة أيًا كانت ماهيتها، ومع مرور الوقت تناقص اهتمامه بأي شيء مُجدي في الحياة سوى البحث عن الفرص لاصطياد المال السهل.
لم يعول "هيثم" على مستواه العلمي المتوسط ولا على شخصيته لاجتذاب النساء حين بلغ سن الشباب، ظل هاجس المال يتحكم في أفعاله، إلى أن دخلت "همسة" في حياته، اعتقد أنها مجرد صفقة مادية رابحة إلى أن تعرف إليها، كانت تذكره باللحظات التي سبقت وفاة والده، حين كان لا يزال صبيًا يرتكب الحماقات الصغيرة معتقدًا أنه سينجو من عقاب والده، بات مهتمًا لأمرها، خاصة مع يقينه الداخلي إن أفسد الخطبة بأنه لن يحصل على فرصة مثلها، فمن سترضي به وهو متسكعٌ، شبه عاطل عن العمل، يضيع أغلب وقته بالجلوس مع رفاق السوء، لكن بسبب جموحه أضاعها في لحظة طيش .. عاد إلى واقعه الأليم وقد انسابت دموعه دون أن يدري، فَقد كل السبل في استعادتها، هتف يقول لنفسه بإصرارٍ:
-لازم تسمعني، أنا مش هاسيبها.
أحنت رأسها قليلا لتبحث عن مشبك الرأس الجديد الذي ابتاعته في درج التسريحة، كان مصمما على رسمة طاووس ومزينا بالفصوص اللامعة، اعتدلت فيروزة في وقفتها، ومشطت خصلات شعرها بعنايةٍ، ثم أحدثت فارقًا عند الجانب وثبتت فيه المشبك، ضبطت ياقة سترتها البيضاء، وعقدت شرائط بلوزتها البيضاء المتدلية لتصبح أنشوطة، أطبقت على شفتيها معًا لتملأ أحمر الشفاه بهما، تبقى لها ارتداء حذائها على بنطالها الجينز لتبدو مستعدة للذهاب إلى حفل عيد ميلاد رفيقتها "علا"، التفتت نحو توأمتها تسألها وهي تنثر عطرها على جانبي عنقها وثيابها:
-برضوه مش هاتيجي معايا؟
أجابتها "همسة" بفتورٍ وهي تمد يدها بالهدية المغلفة إليها:
-ماليش مزاج.
كانت متفهمة لرغبتها في الانعزال اجتماعيًا عمن حولها، لم تضغط عليها، وقالت مبتسمة وهي تأخذها منها:
-أنا مش هتأخر، هاعمل الواجب وأديها الهدية وهارجع تاني
هزت كتفيها قائلة:
-اتبسطي يا "فيرو".
وعدت توأمتها بحماسٍ طغى على وجهها الناعم:
-وأوعدك بكرة هنخرج مع بعض نتفسح ونروق دماغنا على الآخر
قالت بخفوتٍ:
-إن شاءالله.
ولجت "آمنة" إلى غرفتهما وهي تحمل كومة من الملابس المطوية، وضعتها على طرف الفراش، وألقت نظرة خاطفة على هيئة ابنتها الأنيقة، ثم أوصتها بصوتٍ جاد:
-خدي بالك من نفسك يا "فيروزة"، امشي في شوارع واسعة ونور، وكلمينا كل شوية.
ردت دون اعتراضٍ:
-حاضر.
حذرتها بلهجة أشد جدية:
-وبلاش تأخير، مش عاوزين حد يتكلم.
ابتسمت قائلة في زهوٍ، وكأنها تمتدح ميزة خاصة بشخصها:
-إنتي عرفاني كفيلة أقطع لسان أي حد يتطاول عليا.
أكدت عليها بشدة:
-طبعًا، بس الحرص واجب!
لم تجادل كثيرًا، وقالت وهي تعلق حقيبتها الفضية الصغيرة ذات السلسلة الرفيعة على كتفها:
-حاضر يا ماما، يالا سلام.
اصطحبتها للخارج لتودعها قائلة:
-في رعاية الله يا حبيبتي
أقسم على نفسه بيمين غليظٍ ألا يعاقر الخمر من جديد، وإن كان في ذلك نجاته، كانت يعتبرها النقاء الوحيد الذي أتى إلى حياته المدنسة مصادفة، وصل بعد مجهود عضلي زائد إلى منزلها، انعطف عند الزاوية ليدخل البناية، لكن صوت "فيروزة" المرتفع جمد قدميه وأصابه بالقلق، خشي "هيثم" أن تفسد محاولته الأخيرة في الانفراد ب "همسة" ومصارحتها بأخطائه وإعلان توبته إن رأته توأمتها المتزمتة..،
على الفور تراجع عن الصعود على الدرك، واختبأ في ركنٍ معتم حابسًا أنفاسه حتى انصرفت، تنفس الصعداء وألقى نظرة للأعلى راجيًا بشدة ألا يخفق تلك المرة، تهيأ بدنيًا وذهنيًا لرؤيتها، استجمع نفسه واتجه للدرج ليصعد عليه من جديد، قرع الجرس مترقبًا بشغف أن تطل عليه وليست والدتها.
في تلك الأثناء، ظنت "همسة" أن شقيقتها قد نست شيئًا وعادت لإحضاره، فلم يمضِ على غيابها سوى بضعة دقائق، ودون احترازٍ فتحت الباب لتتفاجأ به مرابطًا أمامها، حلت الصدمة على تعبيراتها، شخصت أبصارها في ذهولٍ مصدوم، رجفة مرتعبة اجتاحت كل أوصالها، تراجعت تلقائيًا للخلف وهي تغلق الباب في وجهه، لكن قدمه امتدت لتحول دون ذلك، توسلها بصوتٍ مختنق:
-استني يا "همسة" ماتقفليش الباب.
صرخت مستغيثة وهي تبذل أقصى طاقاتها لدفع الباب لغلقه حتى لا يقتحم المنزل:
-الحقيني يا ماما.
صاح بها بأصواتٍ لاهثة:
-اسمعيني يا "همسة"، اديني فرصة.
أتت "آمنة" على صوتها المستنجد، استطاعت أن تلمح "هيثم" وهو يقاتل لإزاحة الكتلة الخشبية حتى يلج للداخل، وكاد يفعل ذلك، شهقت في ارتعاب:
-يا لهوي، إنت بتعمل إيه؟
اندفعت دون تفكير لتزيد من الثقل عليه وهي ترجوه:
-يا ابني امشي بالذوق مايصحش اللي بتعمله ده!
هدر بعنادٍ مقاومًا الاثنتين:
-لأ مش هامشي غير لما "همسة" تسمعني.
ردت عليه بصوتها المرتجف:
-احنا مافيش بينا حاجة، كل واحد راح لحاله.
أبدى "هيثم" ندمه الشديد فقال دون تمهيد:
-أنا غلطان، وابن ستين ...، وماليش أي عذر على قلة أدبي معاكي، أنا مكونتش في وعيي ساعتها، بس اقسم بالله ما كنت أقصد أذيكي، اديني فرصة أصلح اللي فات.
وبالرغم من تبريراته التي امتزجت بنحنحة مسموعة إلا أنها قالت مهددة:
-امشي بدل ما أطلبلك البوليس!
لم يرغب في إخافتها فسحب قدمه لتتمكن من غلق الباب، تحمل الألم الشديد الذي أصابه، لكنه لا يقارن بألم قلبه، استطاع أن يسمع صوت غلق القفل من الداخل، استند بكفه على سطحه وهتف بصوته الباكي:
-والله مكونتش في وعيي
ردت عليه "آمنة" بصوتٍ مشفق ترجوه أن يتخلى عن عناده ويبتعد قبل أن يحدث ما تخشاه:
-اللي حصل حصل يا ابني، روح لحال سبيلك.
لوهلة دارت الهواجس في رأسه، وظن أن موقف "همسة" المعادي له راجع فقط لرغبة أختها، كور قبضته بتشنجٍ، ثم صاح بنزقٍ وهو يدق على الباب بعنفٍ:
-أكيد أختك اللي مقوياكي عليا، أنا عارف، إنتي غيرها!
استنكرت اتهامه الصريح، وردت بقوةٍ:
-ملكش دعوة ب "فيروزة"، ده قراري ومش هارجع فيه.
هتف معاندًا برغبة أشد إصرارًا وهو يفترش الدرج بجسده:
-وأنا مش هاسيبك!
اشرأبت "همسة" لتنظر من العين السحرية له، لم تتبينه وسط تلك الإنارة الخافتة، تحسست صدرها المتهدج بيدها، وسألت والدتها بصوتٍ خفيض لكنه خائف:
-هنعمل إيه دلوقتي يا ماما؟
احتضنتها مطولاً بعد أن انتهت من تقبيل خديها، ثم ابتعدت عنها لتنظر إليها في إعجابٍ وقد كانت فاتنة الحفل، ولما لا؟ وهي صاحبة ذلك العيد ميلاد المميز والذي أقيم بالنادي الشهير، تأملت "فيروزة" بإعجابٍ رفيقتها "علا" التي ارتدت ثوبًا براقًا من اللون القرمزي يغطي كامل جسدها بدءًا من عنقها وكتفيها لينتهي عند قدميها بذيل قصير، ابتسمت لها في رقةٍ، وهنأتها قائلة:
-كل سنة وإنتي طيبة يا "لولو".
ردت مجاملة:
-حبيبتي يا "فيروزة"، وإنتي طيبة يا قلبي..
ثم تساءلت في اهتمام:
-أومال فين "همسة" مجاتش معاكي ليه؟
مدت يدها بالهدية الصغيرة، وتحججت قائلة:
-تعبانة شوية، اتفضلي يا "لولو".
تناولت منها الهدية، وسألتها بدلالٍ:
-ولا خطيبها مرضاش؟
اكتسى وجهها بتعابيرٍ واجمة، وضغطت على شفتيها للحظة قبل أن تخبرها:
-لأ مش كده خالص، بس الموضوع آ...
ابتلعت باقي جملتها حين حضر "ماهر" ليقول بمرحٍ:
-طبعًا أختي الحلوة مستنية هديتها مني.
ردت عليه "علا" بحماسٍ:
-أكيد.
التفت إلى الجانب ليجد "فيروزة" بجوارها، رحب بها بودٍ:
-إزيك يا "فيروزة"؟ عاملة إيه؟
أجابته مبتسمة بلباقةٍ:
-تمام الحمدلله، وحضرتك أخبارك إيه؟
رد بتنهيدة مرهقة:
-يعني.. ماشي الحال
أضافت بتفهمٍ:
-الله يكون في العون، مشاغل حضرتك كتير.
هز رأسه معقبًا وهو يسحب سيجارة من علبتها ليضعها بين شفتيه:
-طبعًا، المشاكل مابتخلصش في شغلنا.
استدار برأسه نحو الجانب المعاكس حين سمع صوتًا رجوليًا يناديه:
-"ماهر" بيه
لوح لرفيقه بيده بعد إشعاله لسيجارته:
-"آسر"، جايلك..
ثم وزع نظراته بين الشابتين وقال:
-عن إذنكم لحظة.
انسحب في هدوءٍ ليلاقي صديقه "آسر" الذي صافحه بحرارةٍ، وقف الاثنان مبتعدين عن الزحام ليتدثا بأريحيةٍ، ارتكزت أنظار الأخير على "فيروزة"، ظهرت علامات الاهتمام بها جلية على قسماته، لفتت أنظاره منذ أن أطلت على الحفل بوجهها الناعم ومظهرها الجذاب رغم عدم تكلفها، كانت ملامحها مألوفة بالنسبة له، تذكر أنه رأها من قبل، اعتصر ذهنه عصرًا ليتذكر أين تحديدًا، لم يحتر كثيرًا، تنشط عقله بوجهها وضحكتها الفاتنة؛
إنها نفس الفتاة التي تواجدت بالمطعم البحري حين جاء للقاء رفاقه به، كانت تبدو غير منسجمة آنذاك مع رفاقها، لم ينكر أنها أثارت انتباهه حينها بثوبها البراق، واليوم حركت فيه نزعة غريبة كانت تزداد توهجًا مع متابعته الكثيفة لها، مال برأسه نحو "ماهر" وسأله بفضولٍ:
-مين دي يا "ماهر"؟
بدا الأخير غير منتبهٍ، فأضاف:
-اللي واقفة جمب "علا".
أجال "ماهر" بنظراته على المتواجدات حول شقيقته قبل أن يجيبه متسائلاً في حيرة واضحة:
-قصدك مين؟
أجاب موضحًا أكثر:
-البنت اللي لابسة جاكيت أبيض وفاردة شعرها دي.
أدرك أنه يقصد "فيروزة" بحديثه، ابتسم له متسائلاً بعبثية:
-دي صاحبة "علا"، مالك بيها؟
أجاب مراوغًا:
-أنا كنت شوفتها معاكو قبل كده، يوم المطعم.
رفع حاجبه الأيسر مؤكدًا صحة ما تفوه به:
-أيوه.
فرك "آسر" طرف ذقنه، وتساءل:
-إنت تعرفها كويس؟
لم يرد بإجابةٍ مباشرة، وقال كأنه يحقق معه:
-ليه في حاجة؟
تنحنح معلقًا عليه ببسمة سخيفة:
-لا عادي..
بدا رده منقوصًا، وافتضح أمره حين تابع من تلقاء نفسه:
-أنا مش شايف دبلة في إيدها.
نظر له في ضيقٍ وهو يكمل محذرًا:
-على طول لحقت تفحصها، بأقولك إيه ملكش دعوة بأصحاب أختي، وخصوصًا "فيروزة"!
قال مبتهجًا وقد انفرجت أساريره:
-ده اسمها؟
على مضضٍ رد:
-أيوه.
لكزه في جانبه ممازحًا:
-طب ما تخليك جدع معايا وتعرفني بيها.
غامت نظراته مرددًا في ضيقٍ، وكأنه لا يستسيغ تلك النوعية من التصرفات:
-إنت مابتضيعش وقت؟!
أجابه بابتسامة غامضة وهو يغمز له:
-مش جايز ربنا يهديني وألاقي بنت الحلال هنا.
أنذره "ماهر" بلهجة اكتسبت جدية مُريبة:
-ماشي يا "آسر"، بس إياك تعملي مشكلة، أنا بأحذرك تاني.
قال في حبورٍ، وذلك الإحساس المتحمس يتخلله:
-اطمن .. ده أنا حبيبك.
أعمل "ماهر" عقله حتى يبادر معرفًا به دون أن يثير الشكوك أو يبدو في موقفٍ حرج، دنا من شقيقته وقد تأكد من تواجد "فيروزة" بقربها ليقول بابتسامةٍ عريضة متعمدًا لفت أنظارها:
-يا "علا"! "آسر" وفى بوعده وجه عيد ميلادك مخصوص.
بهجةٌ غير عادية طفت على تعبيراتها وهي ترد:
-مش مصدقة، ده احنا لازم نعمله تمثال!
ادعى "آسر" شعوره بالإحراج وقد وقف في مواجهة "فيروزة" لتصبح شبه قريبة منه:
-يا جماعة مش للدرجادي، إنتو كده بتحرجوني!
ردت عليه "علا" بقليلٍ من المرح:
-مش بعوايدك تلتزم بأي ميعاد.
ثبت عيناه المتفحصان على وجه "فيروزة" وهو يجيبها:
-ده بس عشان أنا لسه موجود ومسافرتش.
توردت بشرتها معقبة عليه:
-ده من حظي بقى.
اتخذت "فيروزة" موقف المشاهد الصامت الذي لا داعي من وجوده معظم الحوار إلى أن استطرد "ماهر" يقدمها له:
-دي بقلا يا سيدي صاحبة أختي الأنتيم "فيروزة".
نظرة مشرقة ظهرت في عينيه وهو يرحب بها بودٍ زائد:
-تشرفت بيكي، ماشاءالله اسمك حلو ومختلف
قالت "فيروزة" باقتضابٍ وقد سطع على وجهها تعبير مهني بحت:
-ميرسي.
تساءل "آسر" باهتمامٍ وهو يخطو نحوها خطوة محسوبة ليجبرها على التحرك معه ويوجهها وفق خطواته:
-طالما إنتي صاحبة "علا" يبقى خلصتي دراسة زيها، صح؟
شعرت بعدم الارتياح لأريحيته الزائدة في الحديث معها، وكأنه يعرفها منذ زمن، لهذا ردت بإيماءة مؤكدة من رأسها دون أن تنطق، ومع ذلك تابع متسائلاً بفضولٍ أكبر:
-بتشتغلي يا آنسة "فيروزة"؟ ولا أعدة في البيت؟
لم تحبذ تلك النوعية من الأسئلة التحقيقية التي يفرضها الآخرين عليها ليتدخلوا في شئونها دون مراعاة لعدم رغبتها في الاندماج اجتماعيًا مع الغرباء، أدركت أنها ابتعدت عن رفيقتها بمسافة شبه كبيرة مما وترها قليلاً، لذا أجابته بنوعٍ من الغموض وهي تحاول عدم إحراجه حتى لا تفسد بهجة الحفل بغلظتها:
-كنت.. وسبت الشغل.
سألها كأنه يلاحقها:
-مشاكل ولا محبتيش الشغل؟
تطلعت إليه وقد امتقع وجهها، ثم أجابته باقتضابٍ قبل أن تتركه لتعود لرفيقتها:
-يعني، عن إذنك.
لم يرغب "آسر" أن يصبح ثقيلاً معها، فأشار لها بيده قائلاً بتهذيب:
-اتفضلي، وسوري إن كنت ضايقتك
لم تلتفت نحوه حين ردت:
-مافيش مشكلة.
نفخت في ضيقٍ من أسلوبه وعادت لتقف بجوار رفيقتها، ولكن وسط بقية الفتيات حتى لا يتكرر الأمر إن كان مقصودًا منه، حانت منها نظرة سريعة لتتأكد أنه لا يتطلع إليها، أُصيبت بالذهول والارتباك وقد كان محدقًا بها بابتسامة هادئة، أخفضت نظراتها وادعت انشغالها بالحديث مع من حولها، لكن أخبرها حدسها بأنه ما زال يخترقها بنظراته النافذة .. تزينت الكعكة الكبيرة بالشموع التي ملأت أطرافها، قام "ماهر" بإشعالهم ليلتفت حولها الضيوف، ثم بدأوا في ترديد أغاني العيد ميلاد الشهيرة، أطفأتهم "علا" جميعًا على دفعتين من الهواء، وتلقت التهنئات من صديقاتها الجميلات، جاء دور "فيروزة" فقالت مودعة إياها:
-كل سنة وإنتي طيبة يا "لولو"، مضطرية أمشي عشان وعدت ماما متأخرش.
انزعجت من انصرافها مبكرًا، وقالت بتذمرٍ:
-هو إنتي لحقتي؟
بررت لها بابتسامةٍ صغيرة ظهرت على شفتيها:
-معلش يا "لولو"، هابقى أعوضهالك، وخليكي إنتي مع ضيوفك.
تفهمت موقفها، وقالت:
-ماشي يا ستي، بس عاوزة أشوفك تاني
-أكيد.
رددت تلك الكلمة قبل أن تنحني عليها لتحتضنها لمرة أخيرة، ثم انسلت من بين الحضور معلقة حقيبتها على كتفها، استوقفها "آسر" فجأة وقد ظهر لها فجأة ليعترض طريقها:
-إنتي ماشية يا آنسة "فيروزة".
انزعجت من تطفله عليها، وردت بتجهمٍ شديد:
-أيوه
همت بالتحرك لكنه أوقفها بفرد ذراعه أمامها، رمقته بنظرةٍ حادة وذلك التعبير الساخط منتشر على محياها، تساءل "آسر" بلطافةٍ مهذبة:
-تحبي أوصلك؟ أنا معايا عربية، يعني بدل بهدلة المواصلات وكده
ارتدت قناع الجمود، وسددت له نظرات قوية نافرة لتقول بنبرة جافة:
-لا شكرًا، بيتي قريب.
ألح عليها مبتسمًا:
-على فكرة دي حاجة عادية خالص، و...
قاطعته بنظراتٍ صارمة:
-مش هاينفع، وعن إذنك.
خطت للجانب حتى تتمكن من السير، لكنه لحق بها، وسألها بعفويةٍ وعيناها تدرسان قسماتها التي تتباين في ردات فعلها في وقت قياسي:
-طب هاشوفك تاني؟
هتفت توبخه بنظراتها دون أن تتوقف:
-أفندم؟ تشوفني؟
ابتلع ريقه حين قرأ بوضوح تعابيرها المزعوجة، ثم برر بلطفٍ حتى لا تنفر منه:
-قصدي يعني أتمنى أشوفك مع "علا" مرة تانية قبل ما أسافر.
اختلج وجهها بحمرة متوترة، رن صوتها الرسمي في أذنيه حين ردت وحاجباها معقودان في ضيقٍ:
-إن شاءالله.
كان الطقس لطيفًا بالرغم من التجمعات الكثيفة للسحب منذ وقت الظهيرة، اعتقد "تميم" أنها لن تمطر، سيظل الجو غائمًا فقط، ولكن بدأت زخات المطر في الهطول ليضطر أسفًا أن ينهي أعماله في الميناء مبكرًا بعد تعبئة السفن بأطنانٍ من الفواكه والخضراوات، استقل سيارته، وتحرك ببطءٍ في الشوارع الرئيسية عائدًا إلى منزله، ولكنه توقف عند أحد محال البقالة ليبتاع ما ينقص بيته تنفيذًا لأوامر زوجته، وكالعادة أزعجته "خلود" باتصالاتها المتعاقبة على مدار ساعات اليوم الطويلة، أجابها لينتهي من ذلك الكابوس المستمر قائلاً بتبرمٍ:
-يا ستي أنا جبت كل حاجة، ارتاحي شوية.
سألته بدلالٍ لا يستلطفه:
-طب هترجع امتى؟ أنا مستنياك عشان ناكل سوا، يومي ما بيكملش من غيرك!
رد على مضضٍ:
-شوية كده..
-موحشتكش
-أكيد وحشتيني
-طب قولي النهاردة كان آ...
وقبل أن تستأنف باقي أسئلتها كتحقيقٍ متبع خلال يومه الممل هتف منهيًا المكالمة:
-يالا سلام دلوقتي يا "خلود" عشان في لجنة قصادي.
رأى "تميم" بضعة أفراد من الشرطة يقفون على مسافة منه يفحصون كل المركبات السائرة على الطريق ليتأكدوا من صلاحية رخصة قائديها، لم يلقِ بالاً للأمر لالتزامه بمعايير القيادة الآمنة، لكن رنين اتصالات "خلود" الزائد كان مرهقًا بالنسبة له بعد عناءِ يومٍ شاق، ردد مع نفسه في تذمرٍ:
-إيه .. طلباتك مابتخلص!
التفت على يساره ليلقي نظرة خاطفة على المتجمعين أسفل تندة تخص أحد محال الثياب، خفقة مباغتة ذات تأثير قوي داعبت قلبه حين رأها تحتمي بينهم من المطر، تطلع بإمعانٍ ليتأكد منها، لم يكذب الفؤاد، بالفعل كانت متواجدة بشحمها ولحمها تضع حقيبتها أعلى رأسها حتى لا يبتل شعرها، توترت أنفاسه وردد مذهولاً وهو يرمش بعينيه:
-مش معقول، دي هي!
وكأنه أصيب بحمى عجيبة تسببت في ارتفاع حرارة جسده، بل وأصابت عقله بلوسةٍ غريبة، تنفس بعمقٍ ليهدئ من انفعالاته التي اهتاجت فجأة، أوقف السيارة على الجانب المقابل من الطريق وتلك الرجفة تسري فيه، أدار رأسه مرة أخرى لينظر نحوها، كانت تجذب عينيه ليتأملها مليًا دون مللٍ، بدت فائقة الإغراء وقد ابتلت أطراف شعرها، انقبض قلبه من جديد بقوةٍ حين نفضته لتزيح العالق من مياه الأمطار..،
ضحكة رجولية عالية غير مريحة لفتت انتباهه وانتشلته من تحديقه الواله بها لتتبدل بعدها تعابيره الساهمة لوجوم غاضب، حرك رأسه بسرعةٍ ليجد بعض الشباب يمرحون فيما بينهم، هاجت دمائه من احتمالية تفكير أحدهم في مضايقتها، خاصة أنها كانت بمفردها، لذا دون إعادة تفكير ترجل من سيارته مقنعًا نفسه أنه سيتعامل معها بدافع الشهامة.
وبخطى متعجلة كان يقطع الطريق أشواطًا ليصل إليها، وقف قبالتها، كانت ذات رونقٍ مثير وجذاب بشكلٍ لا يُحتمل جعلت أنفاسه تضطرب، دارت عيناه على ثيابها الأنيقة لتحفر وصفها في مخيلته، بدت بيضاء للغاية، تنفس ببطءٍ ليستعيد ثباته، وبالرغم من كفاحه المستميت إلا أنه حين استطرد يناديها خرج صوته مغلفًا بلعثمةٍ طفيفة:
- آ.. يا .. يا أبلة.
تدلى فك "فيروزة" السفلي في اندهاشٍ مستهجنٍ حين رأته أمامها، الآن اكتملت ليلتها برؤيته، غامت نظراتها مرددة بضيقٍ بائن عليها:
-إنت؟!
نظرة واحدة منها كانت كفيلة بإرباكه، توتر أكثر وفقد تركيزه وهو يحاول إيجاد المقدمة المناسبة ليستهل بها حديثه معها، خاصة أنها من النوع المتهور المندفع الذي يتحين الفرص للانقضاض عليه، مرر يده على رأسه وتنحنح قائلاً بتمهلٍ:
-أنا مش جاي أضايقك، بس الجو وحش زي ما إنتي شايفة، ومافيش مواصلات كتير.
نظرت له متسائلة:
-والمطلوب؟
ضغط على شفتيه للحظة قبل أن يجيبها بحذرٍ:
-ماينفعش وقفتك كده.
على الفور حدث ما يخشاه، بدأت فاصلاً من الهجوم عليه، فقالت بتهكمٍ أزعجه:
-وحضرتك مالك؟ أخصك في حاجة وأنا معرفش؟ قريبتك مثلاً؟...
توقفت للحظة عن عمدٍ لتصيبه بالضيق أكثر قبل أن تواصل بنفس الأسلوب الساخر:
-يمكن خطيبتك، أه ولا جايز مراتك؟
راقب عصبيتها بنظراتٍ غريبة، وكأنه يدرسها، ما زالت تثير كلاً من دهشته وتحفظه بالرغم من الحنق المتبادل بينهما، لكنها كانت محقة في كلامها الأخير، لا توجد صلة بينهما، ومع هذا قال بخشونةٍ حتى لا تتمادى في هجومها القاسي عليه:
-في إيه لكل ده؟ أنا كنت عاوز أوصلك، باعتبار إن سكتنا واحدة، حاجة إنسانية يعني.
تقوست شفتاها بضحكة مستهجنة قبل أن تغمغم بوقاحة:
-لما أعوز أركب سفلأة (مجانًا) هاقولك!
صدمه ردها الفظ، وردد بعينين متسعتين:
-نعم!
هتفت باستعلاءٍ، وكأنها تحتقره:
-اللي سمعته!
سدد لها نظرة نارية حانقة، ورد عليها بغلظةٍ:
-يا ستي أنا غلطان، إن شاءالله ما ركبتي..
لكن لانت نبرته بمقدار بسيط حين تابع:
-بس الوقفة وسط الرجالة ماتصحش، مافيش آمان يا أبلة لحد!
نبع خوفه الصادق عليها من قلبه، استشعرت ما ينتابه من قلقٍ، وبعفويةٍ التفتت للجانب لتجد ذلك التجمع الرجولي الزائد، تلبكت من وجودهم الكثيف، أحست بالخطر مُحاوطًا بها وإن كانت تدعي شجاعتها، بعض المواقف تحتاج للتقييم جيدًا قبل اتخاذ القرار الحاسم، انتصبت بكتفيها، وعلقت حقيبتها التي تهدلت سلسلتها على كتفها من جديد، ثم قالت بنبرة عازمة دون أن تنتظر الرد منه:
-خلاص هامشيها، والمشي رياضة!
وبخطوات جمعت بين الثقة والخيلاء بدأت بالسير على الرصيف متجاوزة إياه لتبتعد عنه وهو يكاد لا يصدق أنها فعلت الأسوأ وسارت تحت المطر لتبتل كليًا، ضرب كفًا بالآخر متعجبًا من عنادها وهو يردد لنفسه:
-رهيبة، بالله ما شوفت كده!
أزاحت "فيروزة" بيدها خصلاتها التي التصقت بجبينها، ولم تدرك أنها أسقطت مشبك رأسها بحركتها المتعصبة، لمح "تميم" ذاك الشيء الذي وقع منها وأحدث ارتطامه بالرصيف تناثرًا للمياه، سار خلفها باحثًا عنه، كان بريقه واضحًا ليتمكن من العثور عليه، انحنى ليلتقطه، تأمله في استمتاعٍ وقال مداعبًا وتلك النظرة الدافئة تلتصق بطيفها المبتعد:
-طاووس فعلاً.
تراءى له بوضوحٍ ما يجب أن يفعله معها دون أن يثير الجلبة، سيتبعها كظلها بسيارته إلى أن تصل إلى منزلها في سلامٍ .. بالفعل منح نفسه الوصاية عليها، ونصب نفسه حارسًا عليها وإن لم تعلم ذلك... !