رواية الجوكر والأسطورة للكاتبة آية محمد الجزء الأول مقدمة تمهيدية
( نثرات الروح والهوى )
رفع بيديه الصغيرة غطاء السيارة الأمامي ثم قرب المفتاح الصغير ليصلح العطل بعد ساعة مرهقة من العمل، رفع يديه لمن يجلس بداخلها قائلاٍ بلهجة حماسية _جرب كدا تشغلها ...
زمجر الرجل بضيق لما يفعله هذا الصغير الذي تولى مهام تصليح سيارته بدلاٍ من صاحب الورشة الذي أتى إليه، أدار مفتاح السيارة الجانبي ليتفاجأ بها تعمل من جديد فأرتسم على وجهه إبتسامة بسيطة، هبط من سيارته ليقترب من هذا الشاب ذو التاسعة عشر من عمره ليرفع يديه على كتفيه بأعجاب_جدع يالا ...
إكتفى "فريد" ببسمة صغيرة يخفي بها ضيقه الشديد على أثر كلماته الأخيرة،أقترب منهم رئيس الورشة الصغيرة التى تقع بحي بسيط للغاية ليقول ببسمة عريضة_مش قولتلك "فريد" ايده ملفوفة بحرير ...
جذب المال من جيب بنطاله القماشي ليضعه بين يديه ثم غادر ملوحاً بيديه_سلام يسطا...
أشار له العامل وهو يعد المال جيداً ثم أقترب من الصبي ليقدم له مبلغ ليس بصغير قائلاٍ بلطف_خد يا "فريد" دا قبضك أنت كدا بقالك شهر فى الورشة...
تناول الصبي منه المال ببسمة واسعة _تشكر يا أسطى.
أشار له بعملية _وريني بقى همتك بالشغل كدا عايزك حريقة ..
أكتفى الصبي ببسمة صغيرة ليقول بتأكيد _عنيا...
وبالفعل أكمل الصبي عمله حتى المساء فتوجه إلى شقته الصغيرة القابعة بالدور الأخير من المبني المتهالك فوقعت عيناه على الشقة المجاورة لهم ليبتسم تلقائياً حينما رأى معشوقة الطفولة تنثر الملابس على الحبل المعلق بشرفتها التى تلي غرفته،أكتفى ببسمة بسيطة لها لتبادله البسمة فتذكر شجارها بالصباح مع والدتها من أجل الملابس المدرسية التى طلبتها منها كثيرا فأخبرتها بكسرة بأن زوجها أخذ المال منها عنوة لتستمر الصغيرة بالبكاء قهرا على ما يفعله زوج أمها الذي تبغضه كثيراً فأستمع "فريد" الي ما حدث بالصباح قبل أن يهبط لعمله لذا وبدون أيه تفكير أستدار عائداً للشارع الرئيسي للحي ليتوجه لأحد المحلات الصغيرة ويختار ما يناسبها ويناسب المال الذي يحمله بين يديه، وبالفعل أختار ما يناسب ماله وأيضاً ذوقه البسيط ليحمله بين يديه بفرحة وسعادة لجلب ما تحتاجه..
توجه "فريد" لمنزله فصعد الدرج المتمايل بخفة تتناسب مع رشاقة جسده الرفيع، طرق على باب منزل صديقة والدته وجارتهم الودودة لتطل من خلف الباب السيدة "فاتن" ببسمتها الهادئة_"فريد"،تعال يا حبيبي ..
ولج للداخل ببسمة مرسومة على وجهه فجلس على أقرب أريكة فكان المنزل بسيطاً للغاية مثل منزله مكون من غرفتان نوم صغيرتان للغاية ومطبخ وحمام وصالة صغيرة تحوي أريكتين ومقعد من البلاستك، جلست "فاتن" أمامه ببسمتها الهادئة_عامل أيه يابني؟ ..
أشار لها بخفة _الحمد لله،ثم قال بلهفة_أخبار "يوسف" أيه؟..
أشارت له بأسى والدموع قد بدت بعيناها _أهو بعد ما سفرته السعودية مع خاله زي ما كان عايز رجع يعيط وعايز ينزل تاني...
أجابها بحزن _لسه صغير على السفر والكلام دا يا خالتي أنا قولتله بلاش تسيب المدرسة وتعال معايا الورشة أحسن من السفر بس هو مسمعش الكلام...
قالت بألم يعتصر قلبها _كان عايز يبعد من وشه يا قلب أمه..
فهم "فريد" ما تود قوله فالرجل الذي تزوجت به على أمل الأنفاق على أبنائها كان يرتدى قناع رجولي زائف فبدت ملامحه بعد أن تزوجت به أكثر حدة وقسوة فجعلها تعمل بأحد المصانع لتنفق علي ما يرتشفه من المحرمات وأن حاولت أدخار القليل لأجل أبناءها كان يتعدى عليها بالسب والضرب حتى هما نالوا نصيبهم من القسوة ..
أنهت "أشجان" تثبيت الملابس على الحبل ثم أستدارت لتعود للداخل فتفاجأت به يجلس بالخارج إبتسمت له بفرحة فبادلها البسمة من زواية فمه ثم تابع حديث والدتها التى نهضت قائلة وهى تجفف دمعاتها _هقوم أعملك شاي..
أشار لها بأمتنان وأنتظر حتى أختفت بجسدها للداخل لينقل نظراته لحب طفولته وهى تقف أمامه ببجامة طفولية عاقدة شعرها على جدائل صغيرة جعلتها أكثر براءة مما هى عليه، أقترب منها ببسمة هادئة _أزيك يا "شجن" .
رمقته بضيق _يادي "شجن" بتاعتك دي مش ناوي تغيرها بقى وتناديني زي الكل ..
أشار لها بحب _لا ..أنا عامل لنفسي أسم خاص بيا أنا ...
جلست على الأريكة بأستسلام_براحتك ..
جذب الكيس البلاستك وقدمه لها فتناولته منه بأستغراب_دا أيه؟ ..
جلس على مقربة منها _أفتحى وشوفي .
أنصاعت لكلماته وفتحته لترى محتوياته فصاحت بلهفة _دي مريلة للمدرسة! ..
أشار لها ببسمته الهادئة فقالت بحرج_أنت سمعتني الصبح؟ ..
رمقها بنظرة متفحصة ليقول بضجر_ مأنا بسمعك على طول وبعدين أنا زعلان منك لأنك عوتي بتخبي عليا حاجات كتير ...
تطلعت له بحزن _أنا بحكيلك على كل حاجة بس أنا معتش بشوفك كتير زي الأول ..
أجابها بلهجته الثابتة _من ساعة الشغل بس ولما برجع بليل مش بنام غير لما أشوفك من البلكونة ...
لوت فمها بغضب طفولي _مأنت مش بتديني فرصة أتكلم معاك ..
ثم قالت بلهجة تقليدية_يدوب،أزيك يا شجن ...الله يسلمك ...عاملة ايه يا شجن ..الحمد لله ...طيب تصبحي على خير ...
هو دا اللي بيحصل هلحق أتكلم أمتى بقى؟! ..
تعالت ضحكاته على صوتها وهو تجاهد لتقليده ثم قال بصعوبة بالحديث_معلش ببقى جاي تعبان وحيلى مهدود ...ممكن تاخدى الكيس بقى ..
وضعت الكيس جوارها بلهجة صادقة _ مش هينفع يا "فريد" خايفة من ماما ..
أجابها بهدوء_متخافيش هى شايفاني وأنا داخل بيه ولو عرفت مش هتقولك حاجة ..
فركت يدها بخجل _طب جبت الفلوس دي منين ؟ ..
أجابها بسخرية_سرقت،ثم صاح بغضب _يخربيت فقرك بقولك شغال فى ورشة ودا أول قبض ليا ...
طالت نظراتها إليه ثم قالت بحزن_ولما هو أول قبض ليك تقوم تصرفه عليا ! ..
تطلع لها بنظرة مكمنة بالحنان _ لو معملتش كدا مكنتش هحس بالراحة يا "شجن" ..
إبتسمت بسعادة فأعتدل بجلسته بجدية _أخبار "عطية" معاكِ أيه؟ ..
حينما ذكر أسمه البغيض تحاولت ملامحها للغضب فقالت بتأفف_من ساعة ما "يوسف" سافر وبصاته بقيت وحشة ليا أوى لما تكون ماما فى المصنع فأنا بروح عن تيتا لما هي بتروح الشغل وأول ما بيرجع البيت بدخل أوضتنا أنا "و يوسف" وبقفل على نفسي مش بخرج خالص
أشار لها بهدوء والغضب يسكن عيناه _شاطرة أستحملي كلها كام سنة ونتجوز ونغور من وشه..
تعالت ضحكاتها لتقول بسخرية _لسه بدري على الكلام دا أنا لسه 16سنة وأنت 19 ...
إبتسم على أثر بسمتها _مفيش أقرب من الوقت ...
قالها ببسمة تنبع بحب صدق يطفو منذ أذل الطفولة يطوفه الصدق ويتغمده الحنان على أمل أن تكون زوجة له ويكون حماية لها ولكن ربما تأتي الظروف بما لا يشتاهيه القدر ويخططه الأنسان!...
مرت الأيام دون جديد "فريد" يكافح من أجل أثبات الذات ولأجل قوت يومه هو وأمه و"شجن" تقضي يومها بمنزل جدتها حتى تتفادى زوج أمها البغيض ولا تعود المنزل الا حينما تعود والدتها من العمل لتلقى معشوقها ليلاٍ من الشرفة تطمئن عليه ويطمئن عليها بالحديث بعلم من والدتها ووالدته فهم على علم بحبه لها ومكافحته لاجل الزواج بها ...إلي أن أتى اليوم المشئوم! ..
بيوم الجمعة جلست "أشجان" بالمنزل بصحبة والدتها فولجت للمطبخ حتى تطهو الطعام،أما بالخارج ولج "عطيه" للداخل فبحث عن زوجته إلي أن وقعت عيناه عليها فأقترب منها قائلاٍ بلهجته المزعجة_بتعملي أيه عندك يا ولية؟ ..
رمقته بنظرة يسكنها الغضب والضعف على حالها معه ثم قالت بنبرة حافظت فيها على الهدوء _بريح جسمي شوية ما النهاردة أجازتي ولا أنت عايزني أشتغل ليل نهار! ..
أجابها بتأفف_ما تقومي تأكليني قلمين ..
كبتت أنفاسها بصعوبة ليكمل حديثه بخبث_أمال فين المحروسة بنتك ؟ ..
أجابته وهى تفرك رأسها من شدة الآلم الذي يستحوذها_بتعمل الأكل ...
لمعت عيناه بأفكاره الدانيئة فأقترب منها بلهجته المزرية_طب قومي روحي هاتيلي علبة سجاير من المحل اللي على أول الشارع ..
أتكأت بمعصمها على الأريكة المتهالكة _هو أنت مش شايفني أدامك حيلي مهدود روح هات أنت ...
جذبها من ذراعيها بغضب ليلكزها بقوة أوجعتها _من أمته وصوتك بيعلي يا بنت ال...
صرخت بألم _خلاص ياخويا هروووح ..
وجففت دموعها ثم جذبت حذائها لترتديه ثم خرجت من المنزل سريعاً لتنفذ ما طلبه منها تاركة خلفها إبنتها الباكية بعدما رأت ما يفعله بوالدتها ...تركت إبنتها لذئب بشري لا يعرف الرحمة يزحف خلف غرائزه المريضة ...
تراجعت "أشجان" للخلف بزعر حينما رأته يتجه للمطبخ فتوجهت للأطباق الموضوعة على الطاولة الصغيرة لتعيد غسلها من جديد حتى تشغل ذاتها بالأبتعاد عنه ولكن هيهات إقترب منها بطريقته الدانيئة فجعلها ترتجف خوفاً لتقول بصوتٍ متقطع_عايز حاجة ؟ ..
أجابها وهو ملصق بها _هعوز أيه يابت عوزتي الكفن، بجيب كوبايه من المطبقية..
تعمد ملامستها فتراجعت للخلف بجسدها ولكنها تفاجئت به يجذبها مجدداً ليحاصرها بين جسديه اللعين، صرخت بقوة وهو يحاول خلع ثيابها فصاحت ببكاء_أنت بتعمل أيه؟!، سبني ..
لم ينصاع إليها ولا لبكائها الطفولي كل ما يراه أمامه هي رغباته الرخيصة، تعال صوت صراخها بالمنزل بأكمله...
بالشقة المجاورة لها..
كان يتمدد على الفراش بتعب فاليوم عطلته الأسبوعية، ولجت "نجلاء" للداخل حاملة بين يديها صنية دائرية الشكل تحوي كوباً من الشاي؛ فوضعتها جواره على الطاولة الخشبية الصغيرة لترى ملامح الأنهاك على وجهه، طاف الحزن بها لتشعر بالذنب لأجله، جلست جواره بشرود فقلبها يتمزق لرؤية إبنها الوحيد هكذا، سحبها صوت صراخ "أشجان" من مطاف مجهوله المزعوم فأنتفضت واقفة بألم_ يا عين أمك الراجل دا مش هيتهد ما بيصدق ما تكنش موجودة وينزل في البت ضرب... منك لله يا شيخ..
وهما بالخروج لتقف أمام باب الشقة الجانبية لشقتها لتجد عدد من جيرانها يطرقون الباب بقوة ظناً من أنه يلقنها ضرباً..
فقالت أحداهما _حرام عليك هي البت عملت أيه عشان تضربها كدا..
طرقت "نجلاء" الباب بغضب _يخربيتك هتموت البت أفتح..
على صوت صراخها وأصوات النساء بالخارج؛ فنهض "فريد" مفزوع حينما سمع صوتها بوضوح، أسرع للخارج ليجد عدد لا بأس به أمام باب شقتها ولكن دون جدوى، أسرع "فريد" لشرفة غرفته البسيطة فتشبث بالحائط جيداً ثم عبر للشرفة الخاصة بها، بعد عدد من محاولته لتحريك مقبض الباب نجح بفتحه فأسرع للداخل سريعاً، بحث عنها إلى أن وقعت عيناه عليها فتخشب محله من هول ما رأه، توقف عقله عن التفكير وحواسه عن العمل وهو يرأها تجاهد لتخليص ذاتها من هذا العاري الذي يحاول تدنيس برائتها، لم يتردد هذا العاشق فيما سيفعله؛ فجذب السكين الموضوع على الأطباق لتستقر بصدر هذا اللعين ليتمدد أرضاً عاري الثياب لتحومه مجارة من الدماء ليفتضح أمره مثلما ود أن يفعل بها!...
تطلعت "أشجان" للدماء ولفريد الحامل للسكين بصدمة فبكت بصوتٍ مزقت أحباله مثلما مزقت روحها، إنحني "فريد" الصبي الذي لم يتعدى عمره العشرون عاماً ليمسد على يديها بملامح يشوبها الحزن والخوف مما فعله_معتش هيضايفك تاني يا "شجن"..
تعالى بكائها وهي تتطلع له بقهر، إنفتح الباب على مصراعيه بعدما عادت "فاتن" من الخارج فأخبرتها "نجلاء" بصراخ إبنتها فولجت للداخل بلهفة تحولت لفيض من الصدمات حينما وجدت زوجها يتمدد أرضاً عاري ولجواره تجلس إبنتها بملابس ممزقة، وقعت أعين النساء على "فريد" الحامل للسكين فسقطت "نجلاء" أرضاً بصدمة لتردد بحرقة ويدها ترطم وجهها _ليه كدا يا "فريد" ليه كداااا يابني ضيعت نفسك ليييه؟
شكل الدمع بعيناه على ما فعله ولكنه لم يحتمل ما رأه، تحطم القلب ومعه عشقه وأحلامه ليستقر خلف القضبان مكانه الجديد فتصبح أماله أن يتركه أحد المعتقلين يوماً هنيئاً بعد أن كان حلمه الزواج منها، طالت أيام معاناته بداخل هذا المعتقل ما بين يوماً قضاه بالبكاء حينما حاوطه مجرم فود إستعراض عضلاته على هذا الصبي فيذقه شتى أنواع العذاب ليتجرد جسده من العواطف ولكن قلبه لم يتمكن من نسيانها فكان يخفق سراً لأجلها هي..
حتى "أشجان" كانت تنتظره بالخارج وقد عزمت بالأنتظار حتى أخر يوماً بحياتها ستنتظره حتى لحظاتها الأخيرة ولكن تحطمت أمالها حينما شرع للجميع بوفاته بداخل السجن بعدما نازع لأخر أنفاسه أمام إعتداء السجناء عليه بالضرب، لم تحتمل "أشجان" فراقه فساءت حالتها النفسية للغاية حينما شعرت بأن الهواء من حولها أصبح ملوث من دونه... من دون الحب العتيق الذي نبت بالأحياء الشعبية البسيطة فكان أقصى أحلامها أن ترتبط به وأقصى حلمه أن يعمل جاهداً ليتمكن من الزواج بها ولكن ترى هل إنتهت أقصوصة العشق التي تحدت الطفولة أم أن للقدر أراء أخرى؟!...