رواية احتيال و غرام للكاتبة رحمة سيد الفصل الحادي عشر
ودون مقدمات فُتح الباب فجأة فشعرت ليال للحظة أن الحظ قد أحكم عقدتها ووضع نقطة النهاية في صفحتها قبل أن تستطع حل تلك العقدة التي تحط كالشبح على مضجع مشاعر يونس...!
ثم أخذت شهيقًا عاليًا وكأن الروح عادت لها مرة اخرى ما إن رأت أن الذي دخل وبالتأكيد سمعها لم يكن سوى حماها العزيز قاسم...
اقترب منها بملامح متجهمه تحكي عن حنق وغضب ذكرها بغضب آخر يشابهه ظاهريًا ولكن الآخر يحمل في باطنه جمرات سوداء من شدة سعيرها وإحمرارها، فسرعان ما قالت مبررة بتوتر:
-أقعد اسمعني الأول وبعدين أحكم يا عمو
جلس قاسم على الأريكة مستندًا على عصاه وهو يتنهد مهمهمًا لها:
-اسمعيني أنتي الاول يا ليال
اومأت له ليال بطاعة وجلست جواره، ليهتف هو بصوت مشدود وصلب:.
-أنا كنت ببررلك اللي عملتيه وبقول بتحبه وفكرت إنك أنتي اللي عملتي كده، لكن تورطي نفسك مع واحدة متعرفيش أصلها ولا فصلها، واحدة خبيثة ومكارة زي التعلب ده يبقى غباء منك!
طأطأت ليال رأسها ارضًا وكلامه يدور بعقلها، ربما يكون كلامه صحيحًا، ربما يكون ما فعلته غباء، ولكنه كان أقرب باب لأرض الأحلام التي تمنت أن تجمعها ويونس في جبعتها...!
رفعت رأسها بعدها لتقول مفكرة:.
-هي كده كده كانت هتعمل نفس اللي حصل لكن هتخلي واحدة غيري تعمله، ساعتها كنت هفضل ندمانة طول عمري يا عمو
تسللت تلك الابتسامة المُشفقة على ثغره المجعد وهو يخبرها بأسف:
-ولو، بس الواحدة دي ماكنتش هتتعب زيك ولا كان يونس هيفرق معاها
ثم ركز نظراته على ليال ليسألها منتبهًا لما سمعه منذ دقائق:
-لما قولتيلها انا ممكن أقول ليونس قالتلك إيه؟
إبتلعت ليال ريقها محاولة إزاحة ذلك الحجر الثقيل عن لسانها حينما تذكرت ذلك التهديد الذي اصبح من اضغاث أحلامها، ثم هتفت بصوت واهن:
-قالتلي مش هشوف بابا تاني ابدًا، يعني بالمختصر المفيد ممكن تقتله!
إتسعت حدقتا قاسم ذهولاً، لم يتوقع أن جبروت تلك المرأة يمكن أن يصل إلى حد القتل، القتل!
هل محى جبروتها الشعرة الفاصلة بينها وبين إنسانيتها بتلك السهولة؟!..
رفع أنظاره لـ ليال التي تابعت بنبرة مختنقة وكأنها تهدئ غضب تلك الطفلة داخلها التي لا تكره سوى ذلك القاسي المدعو بوالدها:.
-أنا مبحهوش وبكره قسوته وجحوده اه، لكن مقدرش أخليه يموت وكمان بسببي! هو أخر حاجة متبقيالي في الدنيا دي يا عمو، لو راحت ليال هتروح معاها خالص، أحيانا بتكون باقيالك حاجة قديمة ومتهالكة بس بتفضل محتفظ بيها مبتقدرش ترميها، أنا علاقتي بيه كده، حتى لو كان وحش وفيه كل العبر، مش قادرة أتمناله الموت، ده شيء غصب عني، حتى لو كل يوم بقول لنفسي إني بكرهه، بس ده أبويا، هو اللي جابني على الدنيا دي، أقوم انا اخدها منه؟!، حتى لو اسوء شخص في الدنيا هطيعه زي ما ربنا أمرني وهو قادر يهديه عليا.
تراقصت تلك الابتسامة الحانية التي يخصها بها على شفتاه وهو يربت على كتفها في حنو ويغمغم بفخر:
-هي دي ليال، لو كنتي فكرتي في غير كده أصلاً كنتي هتنزلي من نظري، اللي مالهوش خير في أهله ملهوش خير في أي حاجة يا حبيبتي
اومأت ليال مؤكدة برأسها، فقال قاسم بعدها معيرًا إياها كافة إنتباهه:
-عايزك بقا تحكيلي هي ازاي اتفقت معاكي اصلاً وإيه اللي حصل اليوم اياه..
اومأت ليال موافقة برأسها ولكنها سألته اولاً:.
-عمو هو أنت كنت عارف إن يونس معملش فيا حاجة من البداية صح؟
ابتسم قاسم وهو يخبرها بصدق:
-مش بالظبط، كان جوايا شعور بكده، بس كان لازم أصدقك مكنش ينفع يبقى في احتمالية إني اكذبك واظلمك!، خلينا في موضوعنا يلا احكيلي
-حاضر
قالتها ليال وقد تنهدت وهي تسترجع بذاكرتها ذاك اليوم الذي قلب القدر فيه صفحة من حياتها ليضعها على أولى سطور صفحة اخرى بحكاية اخرى...
وقفت ليال في ذلك الكافيه الليلي الفخم الذي كانت تعمل به نادلة مرتدية زيّ عملها أمام نشوى هانم الدسوقي في احدى اركان ذاك الملهى متخفيين بينما نشوى تقول متساءلة بصوت خفيض:
-هاا قولتي إيه؟
عضت ليال على شفتاها وهي تهز رأسها نافية بسرعة قبل أن ينالها سم تلك الأفعى:
-لأ يا هانم لأ مش هقدر، إنتي عايزاني أدبس يونس بيه في فضيحة ده انا كده بجني على نفسي قبل ما يكون عليه!
فسارعت الاخرى تهز رأسها نافية وهي تشرح لها بلؤم:
-فضيحة إيه مش عايزاكي تقلقي مش هتحصل فضيحة لأن باباه داخل انتخابات، وبعدين دي مش فضيحة دي تقدري تسميها مساعدة، انا مش موافقة على خطوبته هو وبنتي وعايزه أنقذ بنتي من الوحل اللي هترمي نفسها فيه وهي مش حاسه، وإنتي بس هتساعديني هتخلي فيروز بنتي تقتنع إن اللي اسمه يونس ده خاين عشان تبعد عنه نهائي!
ثم ظهرت أبتسامة خبيثة فاح منها المكر وهي تلكزها بخفة متابعة بث سمومها بأذنها:
-وبعدين انتي مفكراني مش واخدة بالي من إعجابك الواضح اوي بـ يونس، بيه!
قالت اخر كلمة ضاحكة بسخرية، ليزداد توتر ليال التي إحتقن وجهها بالذهول والحرج بينما الاخرى تسعى لتحركها كبيدق لتكسب حربها ضد يونس وتفوز بأبنتها:.
-انتي كمان هتستفادي على فكره أديني هفتحلك طريق عشان تتجوزي يونس بدل ما هو مش شايفك أصلًا ومش هيشوفك طول ما فيروز في حياته! وكمان هاديكي قرشين حلوين تمشي بيهم امورك فترة مش قليلة بعد ما اكيد هتتطردي من الكافيه ده!
الكلمات كانت تتلاعب بعقل ليال المُخدر بالعشق العتيق ليونس الأعمى عن ذلك العشق، وقد نشب نزاع حاد يحرق اطرافها ما بين إنسانة ترفض التلاعب بخساسة هكذا لتنال عشقها وما بين عاشقة أنانية لديها كامل الاستعداد لأي شيء فقط ليصبح لها...!
وما بين ذلك وذاك بخت نشوى أخر قطرة من سمها وكانت تلك القاضية حيث أردفت بمكر:
-ها قررتي إيه معنديش وقت؟! على فكره انتي من حقك ترفضي عادي جدًا ومن حقي انا كمان أشوف واحدة تاني تعمل اللي انا عاوزاه وخليكي إنتي كده على الهامش دايمًا!
فهربت الأجابة هربًا من بين مخالب تلك الأنسانة الرافضة داخلها، لتصدح:
-انا موافقة
فإتسعت ابتسامة الاخرى بنشوة الانتصار وهي تستطرد بحذر:.
-طب اسمعيني بقا كويس، اول حاجة في مرة لما يونس وفيروز يكونوا جايين على الكافيه انا هأخر فيروز شوية وهخليه يستناها هنا، هتحطيله حبوب هلوسة في القهوة بتاعته وبعدين جمال صاحبه هيجي يطلعه الاوضه عشان محدش من أصحاب المكان يشك فيكي مع إننا هنراضيهم بقرشين عشان محدش يتدخل في الموضوع ده، كل المطلوب منك إن لما اجي انا وفيروز وجمال وأبو المحروس نلاقي هدومك مقطعة وهو قالع معظم هدومه، وتعيطي وتقولي إنه اجبرك لما كنتي جايه تجيبيله القهوة في الاوضه زي ما طلب!
وبالفعل خلال يومان وفي احدى المرات التي كان يونس بها يجلس في ذلك الكافيه منتظرًا مجيء خطيبته فيروز كالعادة، كان منتظرًا قهوته فتقدمت ليال منه بتردد لتضع امامه القهوة التي وضعت بها حبوب هلوسة ثم غادرت بسرعة...
بعد فترة بدأت الحبوب تأخذ مفعولها فاقتربت ليال من يونس بسرعة تردد له بخفوت:
-فيروز هانم خطيبة حضرتك مستنياك في الدور اللي فوق في اوضة ومجهزالك مفاجأة
جاء في ذلك الوقت جمال صديق فيروز ويونس الذي كان مشتركًا بتلك اللعبة فقط لتساعده والدة فيروز في السفر لخارج مصر وبناء حياه جديدة هناك، فأسند يونس برفق وهو يغمغم له:
-يلا يا يونس تعالى نطلع.
اومأ يونس برأسه بلا وعي وقد بدأ يفقد كامل تركيزه، وبالفعل وصلوا للدور العلوي والذي يفتحه الكافيه كفندق صغير، ليدلف جمال مع يونس لتلك الغرفة وخلفهم ليال التي كانت تفرك يداها بتوتر رهيب...
ثم خرج جمال وهو ينظر لــ ليال نظرة ذات مغزى، فتنهدت بعمق ثم أغلقت الباب خلفه لتقترب من يونس الذي كان ممدد على ذلك الفراش يفتح عيناه ويغلقها يود التشبث بخيوط الوعي الذي يتسرب من بين يداه...
جلست على الفراش جواره تنظر له بصمتٍ تام، فتحت أزرار قميصه ببطء كان مصدره التردد، لتستسلم لمشاعرها الملكومة بالشوق فتمددت جواره تضع رأسها على صدره الصلب جوار قلبه تمامًا، أغمضت عيناها وهي تستمع لصوت دقاته، ها هي هنا في ملاذها بين أحضانه، كما تمنت منذ أن رأته..!
ضمته لها بكل قوتها تتنفس بارتياح وقد تخلت دقات قلبها اخيرًا عن الألم الذي كان يصاحبها دومًا بسبب ذلك العشق، لترفع وجهها ببطء وتمد أصابعها تتحس قسمات وجهه الرجولية الخشنة السمراء الحادة، وآآهٍ ملتاعة بالشوق والعذاب تخنق جوفها قبل أن تهمس بحروف مختنقة:.
-أسفة يا يونس، جايز أكون أنانية بس مش عارفة أطلعك من دماغي وأنساك، أنا بعشقك لدرجة ماتتخيلهاش حتى فيروز دي مش بتحبك زيي، ومش هقدر أستحمل إني اكمل حياتي مع حد غيرك، انا اسفة، سامحني
فجذبها يونس ببطء له مسبلًا أهدابه السوداء الكثيفة مُحيطًا وجهها بكفاه معًا وإبهامه يتحسس وجنتها ببطء حاني فأغمضت عيناها تلقائيًا تاركة العنان لعاطفتها المحرومة، لتسمع همسه بصوت أجش:
-فيروز!
تجمدت ليال مكانها وقد فقدت كل لذة عاطفية سعيدة شعرت بها، ليضع هو على جرحها ملح دون وعي، ويتركها لشيطان العشق!
فنهضت بآلية وقد فقدت اخر ذرة تردد مع الحروف التي خرجت من بين شفتاه، لتمزق ملابسها بثبات تام وهي تحدق به دون أن يهتز جفناها...
بعد ساعات...
وبعد خروج فيروز باكية من الغرفة تتبعها والدتها، وصراخ يونس الذي زلزل المكان وهو يصيح بجنون:
-أنا ماعملتش كده يا فيروز صدقيني دي كدابة!
ضرب والده بعصاه أرضًا بعنف وهو يهدر فيه بانفعال قاسٍ:
-خلاص، خلص الكلام أنت قولت كل اللي عندك وهي مش مصدقاك ومحدش هيصدقك عشان إحنا شوفنا بعنينا محدش قالنا!
إحمرت عينـا يونس بغضب أهوج كألسنة النيران عندما تحتضن فتيل فتلهبه، ليتحرك نحو ليال التي كانت تبكي، ربما لإكمال تلك المسرحية، وربما تبكي ندمها وتسرعها!
ليزمجر هو فيها بهيستيرية:
-يا بنت ال يا كدابة قوليلهم الحقيقة، قوليلهم إني معملتش كده!
ولكن بالطبع لم تنطق ليال بأي شيء، والباقي معلوم...!
عادت لواقعها على قاسم الذي صمت تمامًا، جزء منه يبرر لها ضعفها أمام عشقها الوحيد والجزء الأخر يلطم تلك المبررات ارضًا ويود لو يثور غاضبًا بوجهها...!
ولكنه تنهد بعمق متمسكًا بتعقله وحكمته كأب لأبنة حبيبته الوحيدة والتي تمنى فعليًا أن يكون والدها، ثم أردف بجدية:.
-أسمعي يا ليال، خلينا متفقين إني مضايق منك شوية ولولا إني متأكد إنم بتحبي يونس كنتي هتشوفي مني وش تاني، وخلينا متفقين إن يونس عاجلاً او اجلاً هيعرف، لكن لما يعرف لازم والدك يكون تحت عنينا حتى لو قعدناه في بيت هنا جمبنا في البلد، والست دي تقطعي كل صلاتك بيها مش عايزك تتواصلي معاها تاني لا هي ولا بنتها
اومأت ليال برأسها موافقة:
-حاضر يا عمو زي ما تشوف.
فربت قاسم على يدها بحنانه المعتاد الذي تعشقه منه وهو يردد:
-يلا بقا قومي شوفي الاكل عاوزين ناكل صوابعنا انهارده ورا الاكل
فاتسعت ابتسامة ليال وهي تقف بحماس:
-عيوني، أحلى أكل لأحلى عمو قاسم في الدنيا.
في القصر...
اجتمع كافة الخدم في غرفة أيسل التي جاهدت لتقف على قدميها، ضغطت على دقات قلبها الهيستيرية في تلك اللحظات، وبنت فوق تراب قلبها المهدوم ارضًا قوة ثبات جديدة أخذتها من رحم تلك الصدمة...
لتهتف آمرة للعاملة:
-نادي لمصطفى والشباب يطلعوا البت دي برا وممنوع تدخل القصر ده تاني ابدًا
اومأت الاخرى برأسها بطاعة:
-تحت امرك يا أيسل هانم.
وبالفعل ركضت تنادي حراس القصر، بينما أيسل تحمد الله أن فاطمة لم تكن متواجدة في ذلك الوقت وإلا لكانت اُصيبت بجلطة ثلاثية الابعاد...!
فيما ازدادت هيستيرية مريم وهي تهز رأسها نافية وتقترب من أيسل مزمجرة بجنون:
-لأ مش بالسهولة دي يا أيسل، اوعي تفكري إني هسيب حقي بالسهولة دي، صدقيني هفضل كابوسك الواقعي لحد ما اخد حقي وساعتها بس مش هتعرفيلي اثر!
فصرخت فيها أيسل بعصبية وشراسة مماثلة:.
-أطلعي برا يا مريضة، براااا
وبالفعل وصل المدعو مصطفى مع باقي الرجال ليسحبون مريم عنوة وهي تصيح بهيستيرية:
-مش هسيب حقي يا أيسل وافتكري كلامي كويس
بينما بدر مغمضًا عينـاه باختناق، يفكر في مقاليد الخطوة القادمة والتي لم تعد بين يداه بل أصبحت بين يدا أيسل...
قطته الشرسة التي لن تغفر بسهولة ابدًا...
خرج الجميع من الغرفة بعدما عجت الضجة القصر وبالطبع ازداد الهمس واللمز بين جميع العاملين بالقصر ولكن أيسل لم تكن تملك عقل لتفكر فيما يظنون او يقولون...
بل كانت هناك، مرمية أسفل أتربة الصدمة تحاول أخذ نفسًا من بين مخالب الحياه التي تسلبها شيء خلف الآخر...!
بمجرد أن تأكدت من ابتعاد الجميع عن الغرفة حتى اقتربت من بدر الذي كان واقف بصمت وملامح مكفهره مُبهمة رغم الضيق والغضب الذي يسطع منها، ثم قالت بصوت هادئ كهدوء ما قبل العاصفة:
-أنت كنت متفق معاها على كده فعلاً؟
للحظات تمنت أن ينفي، أن يكذب حتى عليها فيعطها ولو نفسًا مؤقتًا، ولكنه للاسف باح بتلك الحقيقة التي كرهتها وأجاب:
-أيوه يا أيسل، بس مش زي ما إنتي فاهمة، أنا هفهمك أنا، آآ...
ولكن كما توقع لم يسلم من إنفجارها المحتوم وهي تقترب منه وتهدر فيه كلبؤة شرسة:
-تفهمني إيه؟! تفهمني إنك كداب ومنافق، تفهمني إنك طول الفترة اللي فاتت كنت عارف بحقيقة مشاعري ناحيتك وكنت بتمثل عليا، تفهمني إنك كنت تابع للشيطان!
حاول بدر التحفظ على المتبقي من هدوءه وراح يتمتم:
-بطلي تصدري الأحكام من غير ما تفهمي، ماينفعش تبقي القاضي والجلاد يا أيسل
فضحكت هذه المرة ايسل بلا مرح ورددت مستنكرة:
-مينفعش أبقى القاضي والجلاد؟! طب وهو أنت معملتش كده ليه؟ ليه مقولتش لنفسك كده؟ ليه عينت نفسك قاضي وطلعت الحكم عليا حتى من قبل ما تعرفني وقررت كمان تبقى الجلاد وتعاقبني!
أغمض عيناه كازًا على أسنانه وللأسف حقيقة كلامها تضربه في مقتل...
فيما راحت أيسل تتابع جلده بأسواط الحقيقة التي كانت دومًا تراها بين عيناه ولكن لم تستطع تفسيرها:.
-أنت اشطر واحد تنقد فيا وتطلع فيا كل العِبر عشان تبرر لنفسك كرهك الغير منطقي ليا، كرهك اللي مريم زرعته جواك من غير ما تحس، بقيت تقنع نفسك إن أيسل دي أنانية، أيسل متكبرة، أيسل قاسية، أيسل مغرورة، أيسل مابتحسش ولا عندها رحمة، حتى الصفات الفطرية فيا بقيت مقتنع إنها عيوب مع إنه مش بمزاجي، ومبقتش شايف أي مميزات فيا مع إن كل إنسان له مميزاته وعيوبه، بس كرهك كان زي المرصاد بيرصد العيوب وبس!
حينها نفض بدر عنه رداء الثبات والهدوء وهو يقترب منها ممسكًا ذراعاها بقوة مثبتًا إياها امامه ومن ثم هدر فيها بحدة:.
-ايوه، حصل كده، بس مش زي ما انتي بتفسريه على مزاجك، أنا رغم كل ده شوفت مميزاتك فعلاً مقدرتش أشوف العيوب بس، وقبل ما أعرفك كنت بقول لنفسي دي واحدة انانية مش كويسة، منا شوفت مريم إتبهدلت ازاي قدام عنيا ظلم وإتشوهت وحياتها اتدمرت، وجيت لاقيت واحدة مغرورة ماشيه تقول يا ارض اتهدي ما عليكي قدي وكأنك حالفة تثبتيلي إن تهوويل مريم عنك صح، كنتي عايزاني أقتنع بغير اللي كان مرسوم في دماغي بسهولة ازاي؟! ورغم كل ده أنا ماخليتهاش تنتقم منك يا أيسل.
كانت أيسل تحاول التملص من بين قبضتاه، رغم كل شيء، رغم ألمها وصدمتها، ولكن يبقى قربه منها بهذه الطريقة مفتاح الرجوع لنفس النقطة التي تحاول التحرر منها، نقطة الخضوع لمشاعرها تجاهه...!
فزمجرت فيه بغضب وجمود ينافي تأهب كافة عواطفها للمسة أصابعه الخشنة لجلدها:
-إبعد عني وإياك تفكر تلمسني تاني ابدًا.
تسلطها وجمودها إستفز ذلك البدائي داخله الذي لا يفقه سوى أنها له، ملكه، يحق له أن يلمسها وأن يفعل بها اي شيء..
فاقترب منها أكثر وهو يضغط بقبضته عليها متابعًا بحنق والتملك قد نضح من حروفه:
-مش هبعد، هلمسك وقت ما أحب ومش هبعد يا أيسل هتعملي إيه؟!
فازدادت حدتها وهي تخبره محاولة إبعاده عنها:
-قولتلك أبعد بقا، مبقاش من حقك خلاص
فقرب بدر وجهه من وجهها ليردف بصوت أجش من بين أسنانه:.
-طول ما إنتي مراتي من حقي، إنتي حقي طول ما انتي مراتي، حطي ده حلقة في ودنك!
تنفست أيسل بصوت مسموع تجاهد تلك المشاعر اللاهبة التي تداعب دواخلها المهتاجة بالغضب، لتقول بعدها محاولة السيطرة على نبرة صوتها الواهنة:
-مبقاش حقك، أحنا هنطلق، أنا مستحيل أفضل على زمة واحد منافق حتى لما اتجوزني مكنش عشان يساعدني ده كان عايز ينتقم مني.
ازدادت ضغطة بدر على ذراعها فكتمت هي تأوهها بصعوبة وأكملت دون أن تنظر لعيناه التي هي متأكدة أنها تشتعل بالجنون والغضب الان:
-أنا من حقي أتجوز حد يكون هيتجوزني عشان شخصي، عشان انا أيسل، حد يحبني من قلبه، يشوف عيوبي مميزات، حد يكون شايفني جوهرة مفيش زيي في الدنيا، حد مهما غلطت يبررلي ويعذرني ويشوف حتى غلطاتي صح!
ثم نظرت لسوداوتاه ويا ليتها لم تنظر، تقسم أنها رأت غليان دماؤوه بين أم عيناه، والغيرة تفتك به دون رحمة، خياله الذي صور له أنها ربما تصبح لغيره أصبح كالزيت المسكوب على النار، فاقترب منها أكثر حتى مس شفتاها الكرزية بشفتاه دون أن يقبلها، ثم همس بخشونة بين شفتاها بهمجية عاطفية:.
-غلطانة لو فكرتي إني ممكن أسيبك تبقي لغيري، إنتي ليا انا بس، طلعتي نزلتي إنتي ليا وهتفضلي ليا وكلمة الطلاق دي تشيليها من قاموسك!
كانت أنفاسها متهدجة من فرط تلك المشاعر التي تعيث الفوضى بكل شبر منها، فيما ابتعد بدر سنتيمتر واحد ليرفع إبهامه يتحسس ملامحها بدءًا من عيناها البُنية التي خطفته منذ اول وهله، ثم قال بصوت متهدج:
-عنيكي مش هتبص لراجل غيري زي ما بتبصلي.
ثم هبط ببطء شديد يتحسس باقي معالم وجهها الفاتنة والبريئة في آنٍ واحد وأكمل بنفس النبرة:
-مفيش راجل غيري هيملي عنيه من كل شبر فيكي
ثم تحركت تفاحة ادم لديه بصعوبة عندما وقعت عيناه على شفتاها التي لطالما سرقت الراحة منه وأرقت منامه، لتُبطئ حركة أصابعه أكثر عند شفتاها وتثقل نبرته وهو يتشدق بـ:
-دول مش هيبقوا ملك راجل غيري، مش هيهمسوا بأسم راجل غيري بالنبرة اللي بسمعها منك.
دون شعور منها وحينما أحست بخطورة الوضع همست بتلك النبرة المُهلكة التي يقصدها تحديدًا:
-بدر...
كانت تود المتابعة، كانت تود أن تزمجر فيه بغضبها الذي خفت نوعًا ما ليبتعد، ولكنه لم يعطها الفرصة وإبتلع باقي حروفها في جوفه بشوق، راح يقبلها بهمجية ذلك البدائي المهتاجة فرائصه بعاطفة فياضة جبارة اهلكته..!
ينال من شهد شفتاها ما قد يطفئ نيران غيرته التي أشعلتها عن عمد، ويطمئن ذلك البدائي الهمجي داخله أنها ملكه وله، وستظل كذلك مادام حيًا...
دفعته هي بعيدًا عنه تلتقط أنفاسه محاولة نفض تلك المشاعر عنها، فأحاط هو خصرها ليقربها منه وهو يفصح لها بأنفاس مقطوعة بما لا يعلمه سواه:.
-اقسملك بالله إني ما كنت ناوي أنتقم وإني كنت بهاودها مش اكتر، حتى من قبل ما اشوفك انسانيتي ماسمحتليش إني اعمل كده في انسانه حتى لو الانسانه دي مش كويسة! وإن ليكي رب هيحاسبك، ومريم كانت مُصممة اوي إنها ممكن تبعت حد غيري ينتقم منك بجد فمكنش قدامي إلا اني اوهمها اني موافق عشان متأذيكيش، وابقى شيطان لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس وكنت بحاول اقنعها تروح لدكتور نفسي يمكن ساعتها تفوق من الحقد ده..!
ببساطة جزء كبير منها اقتنع بما يقول، وإلا لمَ أخر إنتقام مريم منها كل تلك الفترة وقد جاءته فرص عديدة لينفذ ما تود مريم فعله!..
ولكن تلك المتمردة المتألمة داخلها أبت أن تغفر كذبه عليها بهذه السهولة وذرات شك تتسلل لها، ماذا لو كان يتابع تمثيله وكذبه عليها؟!..
وضعت يداها حاجزًا بينهما وخرج صوتها أجشًا وهي تغمغم:
-ايش ضمني كلامك صح؟! اثق فيك ازاي؟
فقال بدر دون تردد وبإصرار:
-انا هخليكي تثقي فيا تاني، دي مشكلتي أنا!
سألته أيسل بذلك السؤال الذي لم تستطع إحكام سيطرتها عليه:
-أنت بتعمل كل ده ليه؟
ابتسم بدر ابتسامته الرجولية التي تطيح بتعقلها، وقد أدرك أن صغيرته تود أن تروي روحها العاشقة المتعطشة لتلك الكلمة منه، فتنهد بقوة هامسًا بما يجيش بصدره:
-عشان بعشقك، بحبك بجنون حتى من قبل ما أتجوزك كنت مشدودلك وبحبك من غير ما أحس!..
تهللت أسارير أيسل بسعادة رهيبة بتلك الكلمات التي لطالما تمنت سماعها منه هو خصيصًا، ولكنها أجادت إخفاء سعادتها وهي تخبره بترفع وجمود مصطنع:.
-طب إبعد بقا لو سمحت وبرضو ملكش دعوة بيا أنت في حالك وانا في حالي
فاقترب بدر من وجهها يُحيطه بكفه الخشن العريض دافنًا وجهه عند رقبته ومن ثم همس بنبرة ملتاعة:
-مش ناوية تحني على الغلبان بقا يا بنت السلطان!
في الصعيد...
دخلت ليال الغرفة المجاورة لمطبخ المنزل والتي تقطن بها نسمه ووالدتها، فوجدت نسمه تحيط خصرها بـ طرحة وترقص على نغمات أغنية شعبية وقد أطلقت سراح خصلاتها السوداء، فاقتربت منها ليال ببطء دون أن تلحظها نسمه وقد قررت مشاكستها فرسمت الجدية على ملامحها وهي تصفق بيداها:
-الله الله، إيه المسخرة دي يا ست هانم!
ثم شملتها بنظرة متفحصة وهي تتابع بتوبيخ مصطنع:.
-لابسه جلابيه ضيقة زي الرقاصين ولافه وسطك وفارده شعرك وحطالي خلخال
ثم اقتربت منها برأسها مكملة بنبرة مُضحكة:
-شربتي حشيش ولا لسه يا سعديه؟!
فتعالت ضحكات نسمه وقد توترت للحظة من جدية ليال، ثم جذبت ليال من يدها لتخبرها بنبرة متحمسة:
-خضتيني يا ست ليال، تعالي جيتي في الوقت المناسب انا بعشق الرقص.
ثم جعلت ليال تنزع البرولو الأسود الطويل الواسع الذي ترتديه فوق بلوزتها الضيقة، وأعطتها رابطة لتربطها حول خصرها، ثم أعطتها خلخال لتضعه في قدمها وجعلتها تفرد خصلاتها كما فعلت هي تماما، ولم تمانع ليال ابدًا بل هي كانت بحاجة تلك الشعلة الخافتة من الجنون..!
وبالفعل إنطلقتا الاثنتان تتراقصان على ألحان تلك الأغنية الشعبية، وبعد فترة ليست بطويلة وليست بقصيرة ايضا، ودون مقدمات وجدتا باب الغرفة يُطرق مرتان ففُتح الباب تلقائيًا بسبب قدمه وتهالكه وقبل أن تستوعبا اي شيء او تلحظا حتى بسبب صوت الأغاني العالي، رآهما يونس للحظات معدودة، ولكن بالطبع عيناه لم تلتقط سوى ليال، تلك الجنية ذات الخصلات السوداء الناعمة كالزبدة التي كانت تفردها على ظهرها حتى شعر برغبة غريبة في تمريغ وجهه بين تلك الخصلات ليستشعر نعومتها بنفسه...!
حدث ذلك خلال لحظات فقط، ثم إنتبه لنفسه حينما شهقت كلا من ليال ونسمه بحرج سافر، فأدار يونس وجهه للجهة الاخرى وهو يغمغم بصوت مكتوم:
-ليال تعالي ورايا حالاً
وإنطلق مغادرًا الغرفة دون أن يعيد الكلمة مرتان بينما ليال تلطم خديها برفق وهي تصيح بنبرة درامية منخفضة:
-يا فضيحتك يا ليلو، يا يومك اللي اسود من قرن الخروب يا ليال
ثم فكت تلك الربطة عن خصرها وإرتدت البرولو سريعًا وهي تركض خلف هتلر خاصتها!..
وصلت غرفتهم فوجدته يقف معطيها ظهره، فدلفت بتردد وأغلقت الباب خلفها، بينما يونس يضغط على قبضة يده بعصبية، غاضب هو من تأثيرها فيبرر لنفسه أنه غاضب من كونها بدأت تؤثر اكثر على مشاعره الرجولية، بدأت تخطفه من أعلى قمم كرهه وحقده لتضعه على أرضها هي، تُريه مرحها وتلقائيتها وشقاوتها المحبوبة فيصبح أسيرها ببطء ودون شعور منه...!
تنحنحت بصوت منخفض خجول ليستدير يونس لها فورا، فرأت ذلك الغضب يلوح لها من بين حدقتاه وهو يقترب منها مزمجرًا بغضب خفيف:
-إيه الرقص والمسخرة اللي كانت حاصله تحت دي؟!
فعقدت ليال ما بين حاجبيها بعدم فهم مصطنع وردت:
-رقص؟! يعني إيه رقص؟!
-ليال
صرخ بأسمها بنبرة زاد بها الغضب نسبيًا لتقول ليال مسرعة وهي تشير له بإصبعها وبتلقائيتها التي ظهرت وبوضوح مؤخرًا:.
-طبعا أنا لو حلفتلك إني كنت داخله أهزقها وأقولها مَن رقص نقص وإيه المسخرة دي، بس معرفش ازاي خلتني أشاركها الاعمال الاجرامية دي، مش هتصدقني!
جاهد يونس ليمنع ابتسامته من الظهور، ثم استطرد متمسكًا بغضبه الذي لا داعي له:
-انتي لازم تعرفي إن البيت ده محترم وهيفضل طول عمره محترم، وإن المهزله دي مينفعش تحصل فيه، افرضي كان حد غيري دخل كان هيبقى إيه موقفك؟! إلتزمي بحدود البيت ده وقوانينه طالما هتفضلي فيه!
-وإيه كمان يا سبب تعذيبي والاسم حبيبي؟
قالتها ليال بتلقائية قاصدة مشاكسته بشقاوتها ليزجرها هو بحدة غطت على ضحكة صغيرة كادت تعصيه وتظهر:
-ليال بطلي استعباط مش عشان ضحكنا مع بعض مره ولا مرتين خلاص هتسوقي فيها، مفيش حاجة اتغيرت الا اني بحاول بس اني اعاملك عادي جدا زي اي حد عشان ربنا ما يحاسبنيش!
إبتلعت ليال ريقها بتوتر وهي تطرق رأسها ارضًا بحنق طفولي واضح وراحت تزم شفتاها كالأطفال حينما تحزن دون شعور منها...
فتنهد يونس بصوت مسموع وضميره يصحو ليخبره أنها لا ذنب لها في مشاعره الرجولية التي تتمرد عليه وتثور بين ضلوعه!..
ليتنحنح مغمغمًا وهو يراقب حركتها الطفولية:
-إنتي كمان اللي زعلانة دلوقتي؟!
فزمت ليال شفتاها أكثر ولم تجيب، ليتابع هو بسخط مصطنع:
-بطلي الحركة دي أنا مش بتكلم مع بنت اختي
رفعت عيناها له والغيظ يقطر من نظراتها، ثم قالت وهي تزم شفتاها أكثر نكاية فيه:
-بتضايقك الحركة دي؟ طب اهوه اهوه اهوه.
مرة اخرى، مرة اخرى بتلقائيتها تيقظ ذلك الوحش المُتطلب المُنساق خلف خدر غريب من العاطفة داخله بعدما أخمده يونس بشق الأنفس...
فاقترب منها يونس خطوتان حتى أصبح امامها مباشرةً لا يفصلهما شيء أنفاسه اللاهبة تلفح صفحة وجهها، يبتلع ريقه نافضًا عنه غبار تلك العاطفة الغبية وهو يكمل تمثيلية غضبه، فشد أذنها كالأطفال وأردف:
-قولتلك مبحبش الحركة دي، وعلى فكره أنا لو عايز أخليكي تبطليها هخليكي تبطليها.
ثم ترك اذنها وكاد يبتعد ولكن بمجرد أن ابتعد وجدها ترفع نفسها لتصل لمستواه ثم وفي لحظة خاطفة وبتهور وبراءة طبعت قبلة سريعة على شفتاه، فتجمد هو مكانه للحظات وقد فعلت به الأفاعيل تلك القبلة السريعة الخاطفة، ودون شعور منه وقبل أن تبتعد هي تمامًا لا تدري ما الذي جعلها تنساق خلف مشاعرها، كان هو يحيط خصرها ليجذبها له بعنف ويقترب بشفتاه من شفتاها ببطء في نفس اللحظات التي اقتربت هي فيها ايضا لتتقابل شفاهما في حرب العاطفة الثائرة، يقبلها هو بعنف متعمد وكأنه يعاقبها على مشاعره المقيتة، يبحث في ثغرها عما يجذبه لها ببطء ولكنه يضيع بين ملذات ذلك الشعور الحار، بينما هي تستقبل قبلته بشغف ملتهب وقلب متأهب لقبلة مالكه ومعشوقه الوحيد...
في اليوم التالي...
كانت أيسل تشرب قهوتها في في احد اركان حديقة القصر الخلفية، شاردة في اللاشيء كلما تذكرت ما حدث امس وتلك القبلة ترفع يدها لتتحسس شفتاها بذهول وفرحة كالأطفال وكانها تتأكد أن ما حدث حقيقي وأن الحجر قد لان اخيرا...
ولكن فجأه وجدت من يكتم فاهها من الخلف فسقط كوب القهوة من يدها بفزع وهي تحاول التحرر منه ولكن قبل أن تعي أي شيء كان يضرب رأسها برأسه بعنف ففقدت وعيها دون مقدمات بين يداه و...