رواية إلى تلك الرائعة أحبك للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع عشر
أصوات عجيبة كانت تصل اليه ما بين الحين والاخر وخيالات بلون الحلم تومض و تختفى امام ناظريه واخيرا رأها هناك، دمعت عيناه شوقا و فرحا، انها هنا، انها لم ترحل كما كان يعتقد، لا زالت حية ترزق، هتف مناديا إياها فى لهفة: - انجيل، انجيل..
تنبهت الفتاة الصغيرة لمناديها فأسرعت فى سعادة باتجاهه و احتضنته فى شوق، كاد يطير فرحا لرؤيتها بهذه السعادة و كأن ما مر حزن عليها يكدر صفوها..
داعبت الفتاة لحيته كما كانت معتادة بالسابق واندفعت مبتعدة من جديد، هتف يسترجعها الا انها اكدت فى وداعة: - لا يجوز لى العودة يا ابى، علىّ اللحاق بأصدقائى هناك..
واشارت الى موضع كحديقة غناء وارفة واستطردت: - وانت عليك اللحاق بمن ينتظرك ايضا..
اكد يوسف هاتفا رغبة فى إبقائها: - ما من احد بانتظارى، مكانى هنا جوارك.
ابتسمت الفتاة وعادت تضع قبلة حانية على خده وهمست: - بل هناك، انصت جيدا، واذهب ابى..
اكد محتجا: - لا اريد تركك وحيدة..
همست الفتاة وهى تبتعد مودعة: - انا لست وحيدة، وكيف يكون وحيدا من هو فى معية الله، وداعا ابى..
اندفعت راحلة و اختفت خلف ذاك الغمام الابيض الذى ظلل المشهد امامه، بدأ فى مناداتها من جديد لكن ذاك الصوت الذى عاد يردد صدى نداءاته لم يكن صوت صغيرته، بل صوتها، نعم صوت غفران، كانت تقف امام فراشه بالعناية الفائقة التى تسللت اليها دون وعى من احدهم ووقفت تنظر اليه فى ذعر حقيقى لمجرد تخيلها انها قد تفقده، كان ممددا على فراش تمتد اليه الأنابيب الطبيبة من كل موضع و صدره العار يلتف حوله ضمادات بيضاء الا من بقعة قاتمة لجرح بالقرب من قلبه تدل على موضع اصابته..
همست فى تضرع متشنج: - أعده يا ألهى، أعده فما عاد لى سواه..
فتح عينيه فى تثاقل متطلعا اليها فى شوق هامسا بوهن: - أحقا يا اميرة البهار..!؟
انتفضت فى صدمة وشهقت فى سعادة و دموعها منسابة على خديها و هتفت متسائلة: - هل انت بخير!؟
لم تنتظر منه جوابا ما جعل الابتسامة ترتسم على شفتيه الشاحبتين وهى ترفع أكفها هاتفة: - الحمد و الشكر لك يا الله، الحمد و الشكر..
هتف يشاكسها بوهن: - هل من المنطقى وجود فتاة ملتزمة مثلك وحيدة فى حجرة رجل غريب عنها يتمدد هكذا عار الصدر!؟..
هتفت تشاكسه بدورها: - الضرورات تبيح المحظورات، ثم انك لست غريبا، ألست زوجى!، ام انك نسيت تلك الورقة التى أظهرتها لعمى رحمه الله!؟
ابتسم رغما عنه هاتفا يغيظها: - الان تتحجج بورقة كانت تضع عليها اسمها و احتفظت بها من تغفيلى لتواتينى فكرة الزواج العرفى قبل المجئ لمزرعتكم، ما اعجب النساء!؟، اعلم انى رجل لا يقاوم سحره و انى لا اتكرر فى حياة احداهن، لكن مهملا، ليس الامر بهذه السهولة يا امرأة..
قهقت رغما عنها وخبأت وجهها بين كفيها فى خجل ليهمس وقد اطار حياءها ذاك بلبه: - انا أريدكِ..
رفعت كفيها عن وجهها ببطء متطلعة اليه فى صدمة غير قادرة على الرد بحرف واحد فقد شل اعترافه قدرتها على النطق اوالتفكير..
ليستطرد بكلمات اسكرتها كليا رغم وهنها الباد فى نبرة صوته الرخيم: - اريد روحك الطاهرة ونقاءك اللامعقول، ارغب بك حد الجنون واتمناك حد اللانهاية...
هتفت مشدوهة بعدم تصديق: - انا!؟، استطرد يزدرد ريقه فى وهن: - نعم انتِ، انتِ هدايتى من بعد ضلالى، و قبلتى التى تهت عنها دهرا، انا راهب بمحراب عينيك و راغب للأبد فى وصالك، انااا، يااا انا، عاااشق فهل تقبليننى زوجا رغم كل آثامى، رغم كل أوجاعى، رغم كل ما كان..!؟.
كان رد فعلها على ذاك الاعتراف الرائع شهقة فرح ممزوجة بصدمة باكية لذاك السيل من المشاعر التى تلقتها دفعة واحدة لتهمس بكل عشق ولازال دمعها السخين يمتزج بشهقات الفرح منسابا على
خديها: - نعم اقبل، اقبل لانك رجل لا يتكرر بحياة احداهن، وعلى اغتنام الفرصة..
امسك ضحكاته حتى لا يؤلمه جرحه و اغمض عينيه فى راحة فما عاد يشغله شيئا و قد نال قبولها..
اما هى فظلت تتطلع اليه و هى تدرك بل توقن علم اليقين ان ذاك الرجل اضحى هاجسها الذى لن تستطيع يوما الشفاء منه، اضحى جزء من روحها بل هو كل الروح، وانها عاشقة، بل متيمة بهذا الضخم الذى يرقد ممددا لا يعلم شيئا عن تلك الحروب الضروس التى تدور رحاها بين جنباتها..
همست متضرعة: - يا الله، كيف و متى حدث هذا!؟.
لا تدرى، و لا علم لها متى كانت البداية حتى، فقد تسلل الي أعماقها كما يتسلل شعاع الصبح بين ثنايا العتمة فينيرها بوهج من امان كم كانت تتوق اليه..
غامت عيناها بالدموع و تنهدت وهى لا تصدق ما فعله لاجلها عندما وقف امام الجميع يصد عنها رصاصات ذاك المجنون نادر والتى اطلقها بعشوائية تجاهها رغبة فى الانتقام منها وكذا اطلقها على عمها الذى حاول حرسه حمايته لكن ما ان ادركوا ان الامر خرج عن السيطرة حتى تخلوا عنه مغادرين المزرعة خوفا من السقوط فى دوامة الاستجوابات عندما تأتى الشرطة..
لم تكن تعتقد ان هناك إنسان يمكن ان يضحى بنفسه فى سبيلها ورغبة فى إنقاذ حياتها لكنه فعل، فعل دون تردد، منذ اختطافها على يد رجال عمها بالاتفاق مع ذاك الحقير نادر وهى لا ترى امام عينيها الا صورته هو، و لم تعلم ان دادة نوال قد استطاعت الوصول اليه ليأتى لانقاذها، كان عجيب ان تنسى هاتفها بحجرتها ذاك اليوم على الرغم انها ما كانت تفارقه، لكنها تدابير الله حتى يستطيع الوصول اليها فى الوقت المناسب..
تنهدت من جديد و هى لا تحيد النظر عن قسمات وجهه الشاحبة التى ظنت لوهلة انها قد لا ترها من جديد و كم ارعبها الخاطر حد العذاب، لكن الله كان رحيما بها كعهدها به دوما، و أعاده اليها معترفا الان بحبها لتكتمل سعادة قلبها...
انطلقت الزغاريد مدوية من هناء و الدادة نوال وام رامى ما ان طالعهما محياها بثوب زفافها اعلى الدرج، بدأت فى الهبوط فى حذّر وهى ترتعش رهبة، و سعادة قلبها لا تضاهيها سعادة وهى تراه فى انتظارها بالأسفل عيناه معلقة بخطواتها التى تقربها اليه كل لحظة، حتى ما ان أصبحت قبالته حتى التقط انفاسه بعمق من فرط الفرحة و مد كفين حاول ان يشملهما الثبات وهو يرفع عن وجهها خماره التل الذى يغطيه، و انحنى فى عشق يقبل جبينها قبلة وعدها فيها بالكثير..
صدحت المزيد من الزغاريد من كل جانب واتجه الجميع الى قلب المقهى حيث اعد كل من هناء و منير احتفالا عائليا لزفافهما لم يتعد مدعويه الستة اشخاص، كلاهما بجانب الدادة نوال ورامى وامه واخته الصغيرة..
جلس العروسان فى ذاك الجانب المخصص لهما لتبدأ الموسيقى فى الانبعاث من سماعات جانبية لينهض كل من منير ورامى لإحياء الحفل و بدأت النساء فى توزيع الحلوى والطعام و انقضى الوقت فى المزاح والرقص حتى هتفت هناء امرة: - كفاكم، على العروسين الذهاب لعشهما السعيد فقد تأخر الوقت..
اكد منير مازحا: - لقد أعلنت الحكومة ساعة الرحيل وما علينا الا السمع و الطاعة..
نهض العروسان وخلفهما الجمع يلاحقهما بالزغاريد التى تبارى فى اطلاقها النسوة من هنا و هناك، حتى اذا ما خرج العروسان حتى تعالت الضحكات على ما فعله يوسف بدراجته البخارية فقد حولها تماما و أضاف اليها بعض الزينات، اعتلى يوسف دراجته المزينة و تبعته غفران فى صدمة هاتفة: - هل سنرحل على دراجتك حقا..!؟، ان هذا لجنون..
قهقه هاتفا: - ما اروع الجنون صدقينى، تمسكى جيدا يا عروسى..
تشبثت بسترته و هى تشعر بالخجل الشديد فلم تكن ابدا قريبة منه بهذا الشكل باستثناء تلك السقطة الثأرية عندما سكبت بعض الزيت على ارض المطبخ انتقاما منه..
انطلق يوسف بدراجته البخارية ليزداد تشبثها به وهتاف الجميع مودعين يتبعهما حتى غاب، كان انطلاقهما فى شوارع المدينة بهذا الشكل مدعاة لتعجب البعض وتشجيع البعض الاخر والذى امطرهما بتعليقات رائعة ودعوات بالسعادة..
توقف اخيرا امام تلك البناية الضخمة التى تشمل شقته التى لم تكن تعلم عنها شيئا من قبل، همست بعد ان تمالكت نفسها ما ان وضعت قدميها على الارض من
جديد: - لا اصدق انك كنت تملك شقة فى بناية فخمة كهذه و تجئ لتسكن معنا فى مجرد غرفة!؟.
احتضن كفها فى أريحية أربكتها تماما و هما فى اتجاههما للمصعد و ما ان اصبحا داخله و تحرك بهما صاعدا حتى همس فى صدق متطلعا لعينيها: - تلك الغرفة كانت عندى برحابة الدنيا، كانت حصنا من أسقام ملكت روحى، و كانت جارتى بالغرفة المجاورة هى ذاك الشعاع النوراني الذى أضاء لى عتمة الطريق الذى ضللت الوصول اليه كثيرا..
كانت غير قادرة على استيعاب كل ما ينطق به، هل كان يقصدها!؟، بالتأكيد يقصدها كم هى بلهاء!، فهى تلك الجارة التى أفقده صوت مذياعها القدرة على النوم لساعات كافية حتى اعتاده..
وصل المصعد للطابق المنشود ووقف كلاهما امام باب شقتهما، فتحها فى سعادة وهو يتطلع اليها فى شوق ما جعلها لا تقو حتى على ازدراد ريقها..
دفع الباب ودخل وافسح لها الطريق، كان يعلم انها ترهبه قليلا، و كان يحاول ان يطمئنها بدوره..
دخلت متطلعة للشقة بعين حائرة و هى تقف كالمسمار لا تعرف ما عليها فعله و لا اين يمكنها الذهاب..
هتف محاولا تلطيف الأجواء التى بدأ التوتر يشملها: - ماذا علينا ان نفعل الان..!؟.
ألتفتت اليه بنظرات مصدومة ولم تجب مما دفع القهقهات لتعلو من حنجرته
و قد شعر انه زاد الطين بلة فهتف: - اقصد، أليس هناك بعض الطقوس الدينية التى يجب أداؤها حتى تعم البركة حياة العروسين!؟
اكدت بايماءة من رأسها و اخذت تجلو من صوتها وهمست اخيرا: - بلا، علينا الصلاة و الدعاء بعدها، انا لازلت احتفظ بوضوئى..
هتف يشاكسها: - دوما طاهرة، اما انا فعلى الوضوء، فرجل بضخامتى يفسد اى شئ، حتى وضوءه..
ابتسمت رغما عنها وبدأ هو فى خلع سترته ورابطة عنقه و ألقى بعيدا بحذائه و جوربه واندفع فى عشوائية حتى الحمام، كانت تتطلع اليه وهو يتعامل بتلك الفوضى، ورغم محبتها للنظام الا ان فوضاه تلك كانت محببة اليها بشكل عجيب..
اخرجها من شرودها و هو يهتف
مؤكدا: - هاقد انتهيت..
كانت لحيته و ذراعاه تقطر ماء و شعره بعد ان قصه بتلك الطريقة مشعثا كطفل شقى، ازداد وجيب قلبها أضعافا، و همست بنفسها، يا آلهى ان مجرد النظر اليه يهلكنى، اعنى يا ربى على حال قلبى..
وقف فى اتجاه القبلة و تبعته هى فى سكينة وكبر للصلاة فى خشوع ليزداد وجيب قلبها فها قد تحققت أمنية حياتها برجل يأمها فى صلاتها و يعين كل منهما الاخر فى طريق الله..
انتهت الركعتان لتسمعه و قد رفع اكفه فى تضرع هامسا بصوت مسموع لها: - يااارب، تلك المرأة الرائعة التى ارسلتها اليّ فى احلك أوقات حياتى، و التى اصبحت سبب لهدايتى، هى كل ما املك الان، احفظها لى واجعلها دوما دافعا لطاعتك، و قدرنى على إسعادها ما حييت، فأنا، انا احبها يا الله، احبها فيك..
وصمت لترتفع شهقات بكائها خلفه ليستدير فى بطء مواجها لها، تطلع الى رأسها المنكس الباكى فمد كفا مرتعشة ليرفع وجهها ليقابل عينيها الدامعتان..
همس فى عشق: - ايتها الرائعة، و الله انى احبك..
وجذبها لتستقر اخيرا بين ذراعيه، سكنت هناك و دمعها لم يسكن وهو يطوقها الى أضلعه حتى باتت جزء منها و اخيرا حملها و توجه بها لحجرتهما..
رفعت رأسها من بين احضانه لتشهق فى سعادة وهى ترى تلك الغرفة الباردة التى رأتها سابقاً و لمرة واحدة عندما علمت بأمر هذه الشقة قبل زفافهما بأيام و قد تحولت الى حجرة غاية فى الروعة و النعومة بتلك الإنارات الخافتة على جوانب الغرفة و ذاك الفراش المخملي الواسع و تلك الستائرالحريرية والبسط على الارض توحى بدفء وألفة، لقد كان ذو ذوق راق بحق..
سار بها خطوات حتى قلب الغرفة و اخيرا انزلها فى رفق، سقطت نظراتها على ذاك الرداء الحريرى الابيض الذى يتوسد الفراش و كذا منامته على الجانب المقابل، تتبع وقع نظراتها فاندفع يحمل منامته الى الحمام الخارجى هاتفا: - سأذهب لأبدل ثيابى واتركك على راحتك تبدلين ثوب زفافك بدورك..
شكرت له تفهمه و ما ان اغلق الباب خلفه حتى شرعت فى تبديل الثوب..
غاب بعض الوقت و عاد طارقا الباب و لم ينتظر جوابها لينفرج عن محياه باحثا عنها بلهفة ليجدها تقف امام المرأة تعدل من هندامها..
شهق فى صدمة و اقترب كالممسوس فى اتجاهها، كانت هى تقف ترتعش حرفيا تنتظر رد فعله على مرأها دون حجابها، هل أعجبته يا ترى!؟، كانت هذه الشهقة وتلك النظرة التى يتطلع بها الان كافية للإجابة لكنه استفاض هامسا و هو يمد كفا الى شعرها المسدول بهذا الشكل الساحر خلف ظهرها: - ما هذا الجمال الذى
أرى!؟، اين كانت كل هذه الروعة!؟.
همست فى حياء: - كانت مخبأة بأمر من الله لأجلك وحدك..
اقترب مسحورا يرفع جدائلها فى تيه و يتركها تنساب من جديد على كتفيها لتهمس وهى لا تع ما تقول: - هو ليس بهذه النعومة فلا تنخدع، لقد اصرت هناء علىّ لكى أخضعه للزينة..
اقترب اكثر متطلعا اليها من عليائه
هامسا: - اى كان فهو لك، و انا احب اى شئ و كل شئ يتعلق بكِ، اعشق براءتك و طهرك و جنونك و طيشك و صراخك عليّ و سكونك و حلمك، اعشق شعرك الغجرى و قامتك القصيرة التى تسبب انحناء لظهرى..
و هنا طوق خصرها بأحد ذراعيه ليرفعها لتوازى نظراتها عينيه لتشهق فى صدمة ليستطرد وهو يداعب خصلات شعرها بالكف الاخرى: - اعشق نظراتك التى تشبه نظرات غزال شارد لا يعرف اين المفر من قوس الصياد حينما تشعرين بالخجل، و أذوب ولعا فى نظراتك النارية عندما تثورين فى تحدى..
طبق قبلة على جبينها هامسا: - انا عاااشق، عاشق يا اميرة البهار..
لم تشعر الا و هى تطوق رقبته بذراعيها و تلقى برأسها على كتفه فى سكينة و همست بصوت رخيم: - أحبك يا انا..
وكانت تلك الكلمات كافية و زيادة ليعلم انه على اعتاب مدينة النقاء و التى فتحت ابوابها على مصرعيها لتلقاه كفارس منتصر يرفع بيارق الفوز بذاك القلب الطاهر ويستوطن تلك الروح الشفافة الى الأبد..