قصص و روايات - قصص رائعة :

إنها تحترق قصة قصيرة للكاتب أحمد عبد العزيز

إنها تحترق قصة قصيرة للكاتب أحمد عبد العزيز

استيقظت من نومي الغير هادئ ولم أكن قد نلت قسطي الوافر منه بعد ولكن الضجيج الحائم حولي جعلني أتقلب كثيرا في مهجعي مما أضاع مني رغبة النوم، نهضت و مسحت علي وجهي كي أستفيق نهضت واقفا من مهجعي الخاص بحجرة نومنا أنا و شقيقي  راجح الغارق في نومه علي الرغم من الضوضاء المنتشرة بأرجاء الشقة الصغيرة التي انتقلت إليها بصحبة زوجتي سلسبيل  و ابنتي الغالية رحمة بعدما طال القصف منزلنا بشمال حلب و نجونا منه وكتب لنا الرحيم النجاة بأعجوبة و ذلك منذ أربعة أشهر تقريبا.

تجاوزت شقيقي الغارق في مهجعه و خرجت من الغرفة التي جمعتني بشقيقي أغلب سنوات عمري إلي أن تزوجت ولكني عدت لها مرة أخرى بحكم الظروف، قبلت يد أمي عندما رأيتها تلك العجوز المباركة التي تحمل كما فائضا من الحنان تنثره أينما كانت سواء كنت كبيرا او ّصغيرا تستحق ام لا تستحق إنها كذلك أمي هيا م . وقفت في طابور دورة المياه في شقتنا أخذ دوري..

نعم إنه طابور.. مكون من شقيقتي الصغرى  ديما  الرقيقة البريئة الهادئة التي تحمل ّجينات الحنان من أمنا التي بمجرد أن رأتني كانت تحمل عيناها نظرة اعتذار لتواجدها بأسرتها هنا أيضا برفق زوجها أمجد المتسلط ّ المتباطئ دائما في دورة المياه وكنا ننتظره.. حيث كانت تحمل عيناها عذرا عن ذلك أيضا، ومع طفليها اللذان يرتعان هنا وهناك  ماجد و محمد  ولا يعيا شيئا من حولهما و كانت ديما أتت بأسرتها منذ شهر تقريبا قبل أن تصل قوات الحكومة إلي منزلها في الشمال .. تفهمت نظرتها جيدا و اكتفيت أن أربت علي كتفيها و أداعب طفليها . وفي الطابور أمامي يقف خالي الأكبر نايف شقيق أمي الأكبر التي نجحت في إقناعه بعد وفاة زوجته وهجرة إبنته مع زوجها أن يأتي ليعيش برفقتها خصوصا بعد الدمار الذي يلحق بنا كان يقف قويا شامخا رغم كل ماحدث له ويبتسم لي و يسألني:

- كيف أحوالك يا  حسين؟
فأرد عليه مبتسما بتحدي:
- أفضل منك حالا و الحمد لله .
فابتسم لي في حنان وقال:
- لتكن إن شاء الله سعيدا دائما .

فقبلت جبينه فقط و اكتفيت به ردا على دعاءه، ثم تركت الطابور و ذهبت عدة خطوات للمطبخ ألجد روحي هناك وقفت أتطلع لهما و أرقبهما من خلف هما حيث كانت حبيبتي زوجتي سلسبيل واقفة تعد ّ لنا الإفطار بيمناها وتحمل علي يسرا ها ابنتنا رحمة، و إذ بها تقلب الطعام ووجهة ابنتي للأمام فاجأتهما من خلفهما فانتفضت سلسبيل ّمفزعة فضحكت و كذلك هي ولم تعي رحمة شيئا مما يحدث إلا أنها ِ رأتنا نضحك فابتسمت هي الأخرى صغيرتي دون أن تفهم . ّحدقت بي للحظات تلك البيضاء الجميلة ذات العيون الخضراء و ّ ّتأملتني و كأنها تعرفني هربت منها وهي أدركت هروبي قبل أن تشعر بهمومي وهي تعرفها ربما أكثر مني قائلا بابتسامة مرسومة بدقة ممزوجة بسعادة غير مكتملة:

- ماذا تعد ي لنا اليوم ؟ أما تريديني أعمل كشف هنا بالمنزل أيضا ؟!
تفهمتني جيدا و أدركت هروبي فقالت في حنان:
- كيف أخبارك في العمل حبيبي ؟
فقلت بثقة:
- الحمد لله .. الأمور علي ما يرام.

فأنزلت عن يدها صغيرتنا رحمة تلك الصغيرة البيضاء ذات العيون الخضراء مثلها كمثل أمها لا تشبهني في شيء البتة ولا حتى في أنفي كما يزعمون.. انطلقت خارج المطبخ تلهو مع الصغيرين الآخرين.. تابعنها أنا و سلسبيل وهي تجري مغادرة حتى اختفت . فنظرت سلسبيل لي وقالت:
- أنا أشعر بك حسين هل م...

أمسكت كتفيها و ابتسمت قائلا:
- أرجوك سلسبيل إنه عناء الأحداث التي نعيشها و عناء العمل والظروف هذا ليس بجديد...
تأملتني تلك العيون الخضراء التي انكسر أمامها دا ئما فتأكدت من استمرار قلقها كالمعهود فقلت لها:
- أرجوك سلسبيل تماسكي... ليس بجديد ما نحن فيه يجب أن تكوني قوية .. أحتاج أن تكوني قوية عونا لي و ابنتنا و لعائلتنا جميعا .. أدرك جيدا فقدانك لأبيك و أمك و أختك ولا تعلم حتى الآن هل هم أحياء أم...

وهنا بدأت عيناها بالدموع تنهمر فتوقفت عند هذا الجزء لقد كانت سلسبيل قوية ثورية سياسية و لكن ما حدث لأسرتها من فقدان وعدم وجود لسبيل للوصول لهم كسرها و هزمها فأصبحت هشة ضعيفة ِقلقة تتشبث بي في أفضل الظروف و أسوءها فأنا أملها الأخير في الحياة سأظل أتحمل ذلك ومرحبا به ولكن الآن الوضع مختلف الجميعّ ّمسئول مني فهي و ابنتنا و أمي و خالي في عنقي و أخي الغارق في نومه العامل بأحد الأفران بعدما ضاعت دراسته و احتلنا الدمار في عنقي حتى شقيقتي و أوالدها في عنقي ... فزوجها غير جدير بالمسؤولية، لا أتذكر كيف وافقت أبي رحمه الله علي زواج ذلك الرجل من شقيقتي فمنذ أن رأيته لم أبتلعه رغم مرور السنين و الأحداث و هاهو الآن يرقد عندنا حتى يبيض .

بدأت عيناها تنهمر بالدموع فمسحتهما بأطراف أصابعي و قلت لها:
- أرجوكي اطمئني سأستمر في البحث عن أهلك رغم الظروف و الحرب ولكن أحتاج لك قوية بجانبي كي أطمئن عليك أيضا .
توقفت سلسبيل عن تساقط دموعها ثم أومأت برأسها موافقة علي ما أقوله لها . فقلت لها:
- تعديني أن...
قاطعنا صوت خالي نايف من الخارج قائلا بصوت جهوري:
- أين الإفطار يا سلسبيل ؟

فابتسمنا علي صوته الذي بدا لنا جهوريا أكثر من اللازم و قلت لها:
- يبدو أن خالي قد نال دوره في الطابور و ينتظر الإفطار .. أسرعي في إنهاء الإفطار حتى أنال دوري أنا أيضا .
ثم ربت علي كتفها وخرجت أنا لأنال دوري و أنا أدرك أنها تتابعني حتى خرجت و أنها ستفكر كثيرا في حديثنا قبل أن تنهي إعداد الإفطار .

وعلي مائدة الإفطار المتواضعة جلسنا عليها أرضا جميعا في البداية لم يكن هناك أي صوت سوي صوت المذياع الذي يحتفظ به خالي لسماع أخر أخبار الدمار الحائم حولنا ثم بدأ صوت ارتطام الملاعق بالأطباق الشبه مليئة ببعض الطعام رمقني ذلك المتسلط أمجد الذي لم يروقني منذ أن التقيته أول مرة و رمقته بنظرة حادة لاحظتها شقيقتي البريئة ديما التي كانت تطعم طفليها فخففت نظرتي الحادة له حتى درت برأسي إلي جانبي حيث سلسبيل تحمل رحمة وتطعمها فداعبتها و ابتسمت لها وهي في أحضان والدتها تبتلع طعامها. قطعت أمي المباركة هيام حبل الصمت المشوه بأقسى النظرات التي تتعدي أحيانا قوة الكلمات حيث قالت:

- ذلك الغافل في نومه لم يقم إلي الآن .. سيتأخر عن عمله .
فقالت ديما وهي تعد نفسها للقيام:
- سأذهب لإيقاظه .
التفت لها زوجها ورمها بنظرة قاسية تذوقتها قبل ديما فأشرت لها أن تبقي و قلت:
- ابقي مع طفليك أنتي .
قلتها و أنا أرمقه بنظرة حادة و أنا متوجه لغرفة أخي راجح الذي فاجأني بقيامه قبل وصولي له فعدت لموقعي فهتفت أمي قائلة:
- لماذا تأخرت يا راجح؟ ...هيا .

مسح راجح علي رأسه وهو مازال يقاوم رغبته في النوم وقال:
- أردت فقط عدم الانتظار في الطابور... خاصة و إني أعلم أنه يطول كثيرا أحيانا .
فقالت أمي هيام:
- إذن فلتنتهي سريعا لقد تأخرت علي عملك .

لم يرد عليها و دخل ليغتسل وواصلت أمي قيادة دفة الحديث و لكن تلك المرأة لذلك المتسلط الذي لا أبتلعه و أظن شعوره كذلك نحوي ربما الظروف التي جمعتنا أوضحت تلك الحقيقة من مليون حقيقة لن تتعرفها إلا في أوقات محددة رغم مرور الأيام و السنين والسبب سيتضح حيث قالت أمي هيام:
- وأنت يا أمجد ... ألن تبحث عن عمل لك منذ أكثر من أسبوعين ؟ وأنت لا تعمل ..بل أنت لم تكمل شهرا في أي عمل بدأت به... نحن نحتاج لعملك يا بني كي تشاركنا في تدبير مصاريف ذلك المنزل فراتب حسين و راجح بالكاد يكفي .. لا ندري ماذا نفعل لو مرض أحدنا لا قدر الله.
أرتبك أمجد بسؤال أمي وتعجبت أنا أيضا فأمي حنونة علي أمجد منذ قدومه رغم فشله في إيجاد عمل له ولكنه يبد و أنها ضجرت من حاله فقررت مباغتته فرد عليها قائلا:

- تعرفي يا أمي منذ أن أتينا هنا وبعد فقداني لتجارتي هناك في الشمال مازالت لم أتجهز للعمل عند أحدهم هنا ... وعندما تجهزت لم أجد العمل المناسبة لي و..
رمقته بنظرة حادة و قاطعته أمي قائلة:
- لست في موضع يسمح لك بالاختيار بني ... فقط كل ما عليك أن تعمل مهما كان العمل .
فقال أمجد:
- ولكني يا أم..
قاطعته مرة أخري:

- لا يوجد لكن قلت لك أن كل ما عليك فعله أن تعمل من أجل المال ُ...فكر في إطعام طفليك وزوجتك ...فكر فيمن يطعمهم و يطعمك.
تبادل نظرات معي وكدت أن أبتسم عندما قام غاضبا تاركا متجها لغرفته . تنحنت شقيقتي المظلومة معه فسبقتها أمي قائلة:
- اذهبي له يا ديما فيبدو أن الحقيقة التي قلتها له أزعجته .
نظرت لي ديما نظرة استئذان فأومأت لها رأسي موافقا فذهبت له تاركة طفليها لتلقمهما أمي . وفجأة صاح خالي حيث كان منصتا لسماع الأخبار عبر المذياع ولم ّيعي شيئا مما دار حيث قال:
- أسمعتم هذا ؟!..
فقلت له:
- ماذا ؟

فصاح خالي نايف مرة أخري:
- ألم تسمع ما قاله المذيع ... قوات الحكومة تفكر في التقدم نحو الجنوب ... نحونا ؟!
يبدو أن خالي لم يعي شيئا من حديثنا و تعلقت أذنيه بما يبثه المذياع من أخبار مكررة عن أنباء الحرب ولكن هذه المرة يبدو أنه شيئا مختلفا قدمته الأخبار جعل خالي نايف يهتف هكذا و كرر هتافه مرة أخري:
- ألم تسمع .. لقد قال المذيع أن القوات الحكومية ستقرر اليوم إنها ستبدأ عملياتها في الجنوب... هنا في الرمق الوحيد الذي ينبض بالحياة .
لم أهتم و قلت لخالي:
- وهل يعقل أن يعلنوا عن ذلك هكذا علي الملأ ... هذا غير منطقي بالمرة.

انتهينا من تناول الطعام وبدأت أمي تلملم بقايا الطعام و الأطباق و تساعدها في ذلك سلسبيل التي تركت رحمة تذهب لتلعب وتركه ّفقط بعض الطعام لأخي راجح بينما رد علي خالي نايف بعد تفكير طويل:
- ولكن ماذا إذا كان إعلانهم هذا هو تحذير لنا نحن المهاجمين العاديين المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة .
فكرت قليلا في هذا الاحتمال ولكني وجدت ردت مناسبا فقلت له:

- و منذ متى و تلك الحكومة الملعونة تذكرنا أو تفكر في أحوالنا ... خالي كل هذا خطأ وهراء .. أغلب ما نسمعه عبر ذلك المذياع هراء ولا يمت الحقيقة بأي صلة...
مالت علي أمي وهي تقوم بعد أن انتهت من جمع الأطباق بمعاونة سلسبيل و قالت لي بهمس:
- دعك من خالك نايف ..و اتجه لعملك قبل أن تتأخر .
قالتها و قامت ثم التفت إلي يساري نحو ساعة الحائط العتيقة منذ مولدي تقريبا وهي تحافظ علي حيويتها وقد فقدت أنا حيويتي لأجدها تشير نحو العاشرة والربع صباحا فقط يبقي ساعة إلا ربع علي بدأ موعد عملي نهضت و بينما أنا أقوم جاء أخي راجح مهرولا لطعامه وجلس قائلا:
- هكذا تأكلون سريعا دون انتظاري !
فقلت له:

- ومن سينتظرك أيها المدلل عندما تقوم متأخرا هكذا .
نظرت له أمي في سخرية و اشمئزاز وقالت لي:
- دعك منه واذهب لعملك .
قالتها و ذهبت للمطبخ و اتجهت أنا لأرتدي حذائي و تبعتني سلسبيل عند باب شقتنا بعد أن وضعت ما بيدها هي الأخرى من أطباق في المطبخ وضعت يدا ها علي سترتي الصحفية المتواضعة و عدلتها وقالت لي في حنان:
- احذر علي نفسك و عد إلينا مسرعا .
ابتسمت لها و أمسكت بكتفيها و قلت:
- إن شاء الله .

فتنحنح أخي راجح الجالس يتناول إفطاره وليس ببعيد منا و بالقرب ّمنه يجلس خالي ينصت لمذياعه فعدلت سلسبيل من حجابها وربت علي كتفيها فنادت:
- رحمة.. إن أبيك ذاهب للعمل ألن تودعيه.
فجاءت رحمة مهرولة وقالت:
- أبي خذني معك .. خذني معك.
فانحنيت لها وقبلتها علي خدها و قلت:
- ليس اليوم يا رحمة غدا إن شاء الله.
فبدأت تصدر صوتا كالنحيب فقلت لها:

- رحمة لا تبكي غدا ستأتي معي و عندما أعود الليلة سآتي لك بحلوى.
ثم اعتدلت واقفا و فتحت الباب و ألقيت نظرة علي رحمة التي ستبدأ حلقة جديدة من مسلسل البكاء عند خروجي من المنزل و ألقيت نظرة علي سلسبيل التي همست بصوت سمعته:
- في حماية الله .
ثم انطلقت نازلا عبر سلالم البيت من الطابق الثالث حتى وصلت ّللطابق الأول حيث وجدت جاري عمار ابن الثلاثينيات الناصع البياض يهبط أيضا متجها لعمله حيث قلت له:
- السلام عليكم .. كيف حالك عمار ؟
بادلني ابتسامة باهتة سببها الإرهاق من قلة النوم اتضح ذلك من عينيه وقال:
- الحمد لله .

ثم سبقني بعدة درجات السلم حتى خرج قبلي من باب المبني .. تبعته و أنا صامت وبعد عدة خطوات ونحن نسير نحو ناصية الشارع و الشمس الربيعية مشرقة تميل للحرارة مع بعض نسمات الهواء التي تهب من حين لآخر تقطع السكون الذي يخيم علي الطريق إلا من بعض المارة القلائل و الدور القليلة العامرة بعامليها التفت إلي بعدما أصبحت علي يساره وقال:
- متى سترحل ؟! .. لقد أعددت نفسي للرحيل مساء غدا .
فوجئت بما قال و ابتسمت قائلا:
-    لماذا سترحل ؟!
فقال عمار لي:
-    يبدو أنك لا تعلم ...
فقلت:
-    أعلم ماذا ؟!
فقال:
-    ستبدأ الحكومة هجومها هنا علي الثوار الليلة أو بحلول الغد أتمني لو رحلت اليوم .
فقلت له:
-    وهل تصدق هذا الهراء ؟!... هل يعقل أن يعلنوا موعد الهجوم ؟!...
فقال لي بلهجة جادة حادة:
-    لن أدع مجالا للاحتمال .
سبقني ووقفت مصدوما بعبارته المقنعة و قلت لنفسي بعدما أمسكت برأسي:
-    إنه علي حق !

لحقت به وسرنا بعض خطوات حتى وصلنا إلي ناصية الشارع حيث بضعة من المنتظرين لسيارات الأجرة التي تحمل الثمانية ركاب ومن هنا ساد الصمت لبضعة دقائق بيني وبينه و كأن الطريق أصبح خاويا إلا منا معشر المنتظرين و أنا أفكر فيما قاله و أسترجع ما قاله خالي لي عندما سمع الخبر عبر المذياع إذن فهو الرحيل لابد منه .. ولكن إلي أين ... إلي أين ؟ لاحت تلك السيارة الزرقاء من بعيد حتى استعد الجميع للانقضاض عليها للحاق بمصالحهم ولكني لست متحمس لها فانقض الجميع عليها ولكنها لم تكف إلا لثلاثة ركاب كان منهم عمار الذي فاجئني عبر نافذة السيارة قائلا:

- فكر جيدا فيما قلت .
و ابتسم لي و انطلقت السيارة وهو يلوح بيده لي . بقيت مع بقية المنتظرين ننتظر وصول سيارة أخري عبر الطريق الشبه خاوي إلا من بعض السيارات عبر الجهة الأخرى من الطريق و ظللت أفكر في حديثي مع عمار ...
الرحيل إنه واجب وليس اختيار.. ولكن يبقي السؤال إلي أين ؟!

ومر الوقت... ومر أكثر ولم تظهر تلك السيارة المنتظرة ويبد و أني تأخرت علي موعد عملي بالفعل التفت يمينا و يسارا عن شيئا لأتأكد حتى وقع بصري علي يد تلك المرأة العجوز إنها ترتدي ساعة يد يا لثروة تلك المرأة فإن الظروف لم تشأ أن امتلك واحدة منذ عدت إلي تلك البقعة...
اقتربت من تلك المرأة العجوز و انحنيت برأسي قليلا نحو يدها لأتأكد من الوقت لأجد الساعة تشير الحادثة عشر و الربع فالتفتت المرأة يسارا لتجدني كذلك فنظرت إلي باشمئزاز بغيض فاعتدلت سريعا و ابتعدت عنها دون أن يلاحظ البقية تلك اللحظة ووقفت أنتظر.

اللعنة .. كان غباء مني أن أترك السيارة السابقة دون أن أركب لماذا تأخرت التالية هكذا لم يحدث أن تأخ... وفجأة قطع أفكاري ذلك الظل الذي بدأ يطمس الطريق و المباني الشبه خاوية مصاحبا دوي صفارات الإنذار في أرجاء المدينة فرفعت رأسي لسماء وإذ بسرب من الطيارات يحجب أشعة الشمس الممتدة وبدأ يشن غاراته دون تمييز بين مدنيين أو عسكريين فتفرقنا نحن المنتظرين مهرولين إلي أي جانب لنختبئ ووقع بصري و أنا أجري وبقية المنتظرين علي تلك العجوز و هي تقف حائرة فجريت نحوها وجذبتها من يداها ولكنها أبطأت سرعتي كثيرا فهرولنا نحو مبني وعند مدخل المبني قلت لها:
-    مضطر أن أتركك هنا.. سوف أذهب لأتفقد عائلتي .. احذري علي نفسك .

نظرت لي بشفقة و لكن لم أهتم لها و خرجت أعدو نحو مبني شقتنا و أنا أتذكر عائلتي جميعا فردا فردا أمي .. زوجتي سلسبيل و شقيقتي ديما وأخي راجح و خالي نايف و ابنتي رحمة وعندما ذكرت الأخيرة تضاعفت سرعتي و أنا أجري نحو منزلي ... هؤلاء الملاعين يستهدفون المنازل بطريقة عشوائية ويبدو أن هناك بضعة من الرجال يمتلكون سلاح الأربجي وأسقطوا طائرة من أحد الأسطح وهناك بعض السكان قد أصابهم الهلع و تركوا بيوتهم و نزلوا هربا الشارع و لكن بعد خطوات جريتها سقطت غارة علي منزل مررت بجواره فأصبتني بعض الشظايا ولكنها لم تشغلني ومضيت نحو منزلي أجري وسط الانفجارات مع الفارين . وعندما وقع بصري علي المنزل سالما زادت سرعتي و لكن قبل أن أصل كان الملاعين سبقوني و استهدفوا منزلي بأكثر من غارة جعلته يخر ساقطا متهدما و كأنهم استوصوا به شرا .
هالني ما رأيت و توقفت و جثوت علي ركبتاي و لم أشعر بنفسي و أنا أصرخ بأعلى صوت:
-    لااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا.

جذبني أحد المارة من وسط الطريق المعرض للإصابة و أنا أصرخ و استندت عليه ثم تركني لأجلس أرضا و الحزن يعميني بمدخل بيت سليم و ربت علي كتفي و تركني و ذهب لتبقي الحسرة بي تقتلني وتتساقط مني الدموع و أنا أذكرهم فردا فردا ...

بعد لحظات قمت و خرجت من مدخل المبني و دموعي تنسل من عيناي ومشيت وسط أهل الحي الذين يجرون هنا وهناك ليفروا بأنفسهم بينما أنا متوجه لمنزلي المتهدم الذي أصابته الغارات ليتهدم فكان حطام المبني بين أثار حريق وحطام و أحجار . تجولت حول الحطام وسط هلع المنكوبين الذين يجرون هنا و هناك و أنا أمسك برأسي و لا أدري إن كانت غارات الأعداء أو صفارات الإنذار تسقط علي رأسي أو تدوي في رأسي، أي نظام ذلك الذي يقيم صلبه علي أشلاء شعبه، و أي يشرف سيناله في النهاية غير اللعنات و الدعوات التي ستقصفه قبل أن يعود. مررت هنا و هناك و دموعي يتزايد تساقطها عندما أتذكر صورة أي فرد من عائلتي الهالكة حتى جلست وسط حطام وقد بدأت تظهر أشعة الشمس بعد أن عادت الطائرات أدراجها بعد أن نجحت في ضرب أهدافها وقتل شعبها و بث الهلع بين أهلها .

لم يكن هناك سوي الصمت و الدموع بعد تلاشي الغارات و الأصعب أني لم أحد أنيسا من أهلي يشاركني مرارة العذاب ويبادلني الأوجاع ولكن عجبا ... بين الحطام صوت ينادي بصوت مبحوح:
-    النجدة... النجدة
نعم لقد سمعته و يبدو أن هذا الصوت مألوف لي، توجهت نحو البقعة التي ينبعث منها الصوت كان بالأعلى حجر ضخم معلق لم يسقط بعد في بقية منزلنا الذي يبرز منه لهيب ودخان حرائق غارات العدو . و بالأسفل حطام المبني و أحجار و يبدو أن بين تلك الأحجار فجوات تصلح لبقاء أحد الضحايا حيا لوقت أكثر من رفقاءه الآخرين. استرقت النظر و السمع عبر الحطام و لكني لم أستطع أري شيئا فناديت بأعلى صوتي:
-    أيوجد أحد هنا ...
لم يجب أحد علي سؤالي . فصحت بصوت أعلي من سابقه:
-    هلا يجيبني أحد... هل من أحد هنا ؟!

فسمعت صوت حركة فقررت أن أزيح هذا الحطام وتلك الأحجار المتراكمة ولكن أنى لي فعل ذلك وحدي فتلك الأحجار ضخمة وبالكاد تتحرك من موضعها فالتفت خلفي لعلي اجد مساعدا يعاوني في إزالة ّا لحطام لابحث عن أسرتي أو ممن تبقي من أحياء فلم أجد أحدا ّمستعدا لمعاونتي فالجميع يفر هنا وهناك و البقية تؤمن سبلا للفرار من الدمار اللاحق بهم فالتفت الحطام و حاولت دفعه بقوة ولكن دون جدوى .
أبدا لن أستطيع فعل ذلك وحدي فالتفت مرة أخري ألجد أحدا فوجدت ّ شابا طويلا عريضا مناسبا لتلك المهمة و لكنه يمر بسرعة ويحمل حقيبة علي كتفه ويستعد للرحيل فناديت عليه بصوت عالي:

-    يا هذا ... يا زلمة ... يا شاب ...
فرمقني بنظرة ولم يهتم واستمر بالسير فأكملت ندائي عليه:
-    أيها الشاب ..أرجوك ساعدني ...فهناك أحياء من أسرتي تحت هذا الحطام أريد إنقاذهم ...أرجوك يا أخي ساعدني .
فالتفت لي للحظات ثم توقف ونظر يمينا ويسارا ثم أتاني فتهلل ّوجهي بمجيئه و أنزل حقيبته من علي كتفه و تأملني للحظات وقال لي:
-    كيف تعرف أن هنا يوجد أحياء أسفل هذا الحطام ؟
فقلت:
-    لقد سمعت صوت أحدهم و لكني لم أميزه .
فنظر لي بحذر و سألني بشك:
-    هل هذا حقيقي ؟!

فقلت مسرعا:
-    أقسم لك هذا حقيقي ...أرجوك ساعدني فعائلتي كلها هنا تحت هذا الحطام .
قلتها و تحركت نحو الحطام ثم نظرت له نظرة رجاء فتأملني ذلك الشاب بمنتهي الشك والحذر ثم تبعني وبدأنا بدفع الصخور و بعد مشقة و ألم كبير لامس كف يدي تحركت صخرة كبيرة قدر شبرين أو ثلاثة و بعد أن تحركت الصخرة قال الشاب وهو يهم بالرحيل.
-    يكفي هذا ...هذا كله هراء ...
فقلت:
-    أرجوك ساعدني ..دعني أجعلك تتأكد .

فالتفت إلي و اقترب مني و أنا أكاد أدفن رأسي بين الصخور و أنادي بأعلى صوتي وليس متيقنا بالإجابة:
-    هل من أحد هنا؟!... هلا يجيبني أحد...
رفعت رأسي دون رد وبعد لحظات سمعت ذلك الصوت المألوف متحشرجا:
-    أنقذو...ني .
فصحت في الشاب:
-    أسمعت ... يجب أن تتحرك لإنقاذه.
وقف الشاب مذهولا بعد سماعه الصوت ولم ينطق والتفت أنا للصخور لأتفاجأ بوجه أخر شخص تمنيت أن أراه من عائلتي ..إنه أمجد هو زوج شقيقتي ديما برز رأسه فقط من بين الصخور وبقية جسده أسفل الحطام و قد أكتسي نصف وجهه بالدماء وعندما رآني هتف بصوت متحشرجا متقطع كأنه يحتضر:
-    أنق...ذني ... أرج..و..ك ...

وقفت مذهولا عندما رأيته وعندما رأيته على تلك الحالة ألقيت كل خلافاتنا القديمة خارج ذاكرتي وجلست أرضا و تطلعت إليه فقلت له:
-    تماسك يا أمجد ... سأخرجك من هنا .
فهمس أمجد بصوته المتقطع:
-    م...ا..ء
فهتفت بأعلى صوتي:
-    ماء أيها الشاب بسرعة.
كان الشاب متسمرا مكانه يكاد لا يصدق أن أحدهم نجا من الموت حتى  إنه لم ير أمجد إلا عندما طلبت من الماء حيث أسرع وأخرج زجاجة من حقيبته و أتي نحونا و أعطاني الزجاجة وهو يحدق في وجه أمجد و انحني جالسا علي ركبتيه وهمس في أذني:
-    هل مازال حيا ؟!

تناولت الزجاجة منه ووضعتها في فم أمجد الذي تناولها بشراهة ثم أخذ نفسا عميقا علي الرغم من الدماء التي تسيل علي جبينه وتأملني وقال لي:
-    سامحني ...أرجوك سامحني يا حسين علي كل ما فعلت .
فصحت قائلا:
-    لقد نسيت يا رجل كل ما تقوله هذا... ولقد سامحتك ...الآن سأخرجك من هنا .
ثم التفت للشاب و قلت:
-    لنفعلها أيها الشاب.
ثم انتصبت قائما لأدفع الصخور فقام الشاب و جذبني وقال لي بغضب:
-    كيف ستحرك تلك الصخور وهذا الرجل أسفلها ... من الممكن أن تصيبه ...أو تقتله .
تنهدت فقال أمجد من أسفل الصخور بهدوء و ثقة:
-    حسين .. إنه محق تماما ... دعني و شأني .
نظرت لأمجد واستمعت لمقولته ثم اقتربت من الشاب ووضعت يدي علي كتفه وسألته:
-    ما أسمك أيها الشاب ؟!

فقال الشاب:
-    أسمي مروان .
فقلت له بثقة:
-    أسمعني جيدا يا مروان ... هذا الرجل هو أمجد زوج شقيقتي التي لا أعرف إن كانت حية أما لا ... هذا الرجل أخر ما تبقي من عائلتي إلى الآن لذلك سأنقذه و سأخرجه من هنا ... هل ستساعدني ؟!
قال مروان:
-    أنا لا أمانع في إنق...
قاطعته بحدة:
-    هل ستساعدني أم لا ؟
فقال مسرعا:
-    نعم .
فقلت:
-    جيد ... فلنبدأ هذا الآن .

قلتها و توجهت نحو الحطام الذي يقبع أسفلها أمجد و تبعني مروان، وبدأنا بتحريك الصخور ولم تتحرك، و عاودنا الكرة أكثر من مرة و بعد كل مرة كانت قوانا تقل خصوصا أنا حتى لمحت أمجد وهو يتطلع إلي وقد بدت قواي تقل وعزيمتي تفتر وأنا أحاول مع مروان إزالة الحطام و قال لي:
-    دعني و شأني يا حسين .. ارحل و اتركني .
انحنيت و أقبلت عليه و قلت له بجدية:
-    هذا ليس من شأنك .

ثم قمت و حاولنا مرارا إزالة الحطام ولكن... ولكن حدث ما لم نتوقعه تزايدت النيران المنبعثة من بقية أعلي المنزل وكانت هناك صخرة معلقة مع تزايد النيران سقطت بقايا الحطام عليها فحركت الصخرة وانزلقت و سقطت متدحرجة نحونا فجذبني مروان و أنا أرفض الرحيل دون أمجد ولكن بقوته جذبني لنجري بعيدا بينما تدحرجت الصخرة حتى غطت علي أمجد تماما و أنا لا أصدق عيني مما حدث .

جلست القرفصاء و أسندت ظهري علي حائط منزل خلفي و أنا أحد ق في تلك الصخرة اللعينة التي غطت علي آخر فرد من عائلتي تأكدت أنه حي، وبدأت عيناي تدمع وكذلك كان يقف بجواري مروان يحدق للصخرة ثم التفت لي و انحني لي وقال:
-    عليك أن ترحل من هنا ..
فنظرت له بعتاب. فقال:
-    هذا الأفضل لك .
فأكملت نظرتي للصخرة فاعتدل قائما وربت علي كتفي قائلا:
-    سوف أرحل... هل ستأتي معي ؟!
فنظرت له بعتاب ثانية فأردف قائلا:
-    كما تشاء .. فكر في الأمر جيدا ..و أنا سوف أتجه لدمشق تحديدا الجنوب إذا أردت اللحاق بي.

قالها ثم توجه ليتلقط حقيبته التي نجت هي الأخرى من الصخرة وألقي نظرة سريعة علي ثم ذهب في رحلته، وبعد مضي وقت قصير اعتدلت وبدأت جولة أخيرة حول حطام المنزل المتهالك لعلي أجد جديدا.. أو أسمع صوتا... أو أري شيئا ولكن يبدو ليس هناك عائلة .. العائلة غطاهم التراب، ولم أجد رفيقا يعاوني في البحث عن الضحايا أو حتى مساعدتي في إنقاذهم إن وجدتهم فالجميع يهرب أو مصاب .

هبطت بخطوات مترنحة و تملكني اليأس بعد أن فقدت كل عائلتي بسبب ألاعيب السياسين و أطماع الطامعين و شجاعة الثائرين و لست أحدا مما سبق بل كنت الخاسر من بينهم، هبطت و مررت علي مدخل المنزل المقابل لمنزلنا و سمعت صوت بكاء أحدهم .. صوت خفق قلبي عندما سمعه ولم يصدقه عقلي لفظاعة الأحداث و كأنني لم أرى ذلك المدخل من قبل وعندما اقتربت من باب المدخل تعرفت علي الصوت الباكي فدلفت للمدخل سريعا لأجدها ابنتي رحمة جالسة تبكي بجوار سيدة يبدو إنها بائسة الحال من قبل القصف و بجوارها طفلة بائسة يبدو إنها طفلتها ...

فوجئت المرأة بوجودي و سكتت رحمة عن النحيب و البكاء عندما رأتني و توجهت لها و انحنيت لها قائلا:
-    أنا أبوك يا رحمة إنه أنا ..
بعد أن تأملتني جيدا ارتمت في أحضاني لتأمن و لتقل فاجعتي في عائلتي المقتولة .. إرتحت قليلا ثم أبعدتها عني لأسألها:
-    أخبريني ... أخبريني كيف نجوت مما حدث ؟!
لم تجب هي بل أجابت تلك المرأة البائسة الحال التي تحتضن ابنتها:
-    الطعام.. كانت تأتينا بالإفطار و الغداء و العشاء منذ أن قدمنا هنا منذ عشرة أيام تقريبا ...و كانت تخبرني تلك الفتاة أن أمها هي التي ترسلها بالطعام لنا .. وددت لو شكرتها أمها بنفسي و لكني لم أنجح .

تفتت قلبي و تألم وتعذب عندما تذكرت والدة الفتاة .. زوجتي الحبيبة سلسبيل ... كيف سأكمل حياتي بدونها ؟! أين سأجد براءتها ؟ لقد كانت عطوفة علي من لا تعرفهم ؟ فكيف بحبها لمن تحبهم ؟ و هنا انهارت دموعي دفعة واحدة و عانقت ابنتي قليلا حتى تمالكت دموعي و تذكرت تلك الفتاة التي بين يدي إنها تحتاج للرعاية .. تحتاج لأكون أبا و أما .. تحتاج للقوة و الحياةّ لتنعم و لتكبر ...نهضت بها و خرجنا من مدخل المنزل و أنا أحملها وألقيت نظرة أخيرة علي منزلنا المشتعل المحطم وعلي سكانه الذين تحت أنقاضه و اعتذرت لهم عن تأخري عن مساعدتهم و دعوت لهم بالرحمة وتمنيت لهم الشهادة ومضيت في طريقي برفقة ما تبقي من عائلتي مع صغيرتي الغالية رحمة .