نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الخامس عشر
قذفت جسدها على السرير الوثير بأريحية، في إحدي الغُرف التابعة لأحد الفنادق، وتنهدت بعمق وعيناها مُعلقة على السقف الأبيض النظيف، ربما أبيض من قلبها نفسه.
فردت ذراعيها بجانبها متأففة، ثم تقلَّبت وضمت ذراعيها أسفل رأسها متوسدة، تحملق في الستائر الساكنة كما سكن روعها، ومن ثم تقلَّبت إلى الجهة الأخرى زافرة بعدم راحة، وانتصبت جالسة ونزعت شعرها المُستعار بغضب وقذفته بعصبية، وتبعه عدساتها اللاصقة التي التصقت بالأرض المصقولة بالخشب.
مسحت بكفها فوق رقبتها باختناق وهي تبلع لُعابها بحلقٍ مُجدب وبيدها الأخري تفك أزرار قميصها بعنف وحرارة عنيفة تزحف إليها تجتاحها فترفع ضغط دمها، قذفته هو الآخر ثم هرولت إلى المرحاض وجلست داخل حوض الاستحمام وفتحت المياه لتتساقط فوق جسدها علها تُبرِّد نيرانها المشتعلة ولهيبها الحارق.
مساءًا كان خبر مقتل خالد منتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وكذلك في الجرائد التي طُبعت والخبر يُزين صفحتها الأولي وستكون في أيدي الجميع غدًا وعلى أول تلك القائمة جدته التي مازالت تقرأ الجرائد إلى يومنا هذا.
اليوم التالي، وقت الظهيرة والشمس ساطعة في كبد السماء، داخل مكتب المحقق الذي ضم أربعتهم، تحدث المحامي الذي بعثته ياسمين.
أنا المحامي يحيي مخلوف حاضر عن موكلي يعقوب المهدي.
ناظره يعقوب بجمود دون أن ينبس بحرف وحيد ليطلب المحامي بلطف.
ممكن أتكلم مع موكلي على أنفراد لو تسمحلي؟
وقف وحمل سجائره وهاتفه بنفاذ صبر ودسَّهُ في حزامه وترك الغُرفة إليهم وأشار إلى الكاتب ليلحق به إلى الخارج.
عدل المُحامي جلسته وشرع في الحديث بصوتٍ مُنخفض فور اختفائهما.
متقلقش هنقول إنه دفاع عن النفس، ومعايا نتيجة التشريح هو مات بسبب الأزمة، لما يسألك هتقول كُنت بتدافع عن نفسك وتحكيله كل حاجة حصلت ومتقلقش.
وكأنهُ لم يسمع، وكأن ما تفوه به وصل إلى أذنه كأزيز ذبابة وطنين البعوضة.
سامعني؟ فهمت انا قولت ايه؟
يبدو أن ياسمين أخبرته أنه القاتل وتريده أن يتنصل من تلك الجريمة بحجة الدفاع عن النفس كما قالت تمامًا، فكل كلمة يتفوه بها ستخدم مصلحتها وإن لم يتفوه سيخدم مصلحتها كذلك.
حرك رأسه ببطء كرجل آلي ونظر إليه بصمت ليعيد المحامي بريبةٍ.
إنت بتتكلم؟
اعتلي ثغرهِ ابتسامة ساخرة وسأل بجفاء.
ولما أقول كدة ايه اللي هيحصل هاخد براءة مثلًا؟
حك المحامي طرف ذقنه التي يتخللها بعض الشُعيرات البيضاء وقال.
في الوقت الحالي لأ، بس هحاول وهشتغل على وقت موته وسببه يمكن نقدر نخرجك منها بس الاحتمال ده بعيد وإنت عارف كده كويس، بس نقدر نخفف الحُكم ولو سلوكك فضِل كويس المُدة هتقِل وتقضي مُدتك وتخرج.
فلا مناص من هذا، ولن يظل صامتًا أكثر، سيتحدث في مرحلةٍ ما لا محالة ورغمًا عنهُ فليفعل الآن برضاه التام أفضل.
ولج المحقق وهو يشمر كُميه إلى الأعلى واستقر على كرسيه وبدأت وصلة أسئلته.
ها يا يعقوب قتلتو ليه؟
أجاب الإجابة التي أرادها المحامي وقبْلهُ ياسمين.
كان هيقتلني كُنت بدافع عن نفسي.
همهم وعيناه شاخصة عليه ؛ وسأل وهو يمسك بقلمٍ في يده
كان هيقتلك ليه؟
علشان ياسمين.
مالها ياسمين؟
ألَّف قصة خيالية أفضل من قصتهم هذه، ورُبما تكون الأفضل، فهو لم يكن ليتعرض للخيانة إن كانت صحيحة تلك القصة.
طلب مني أسيبها عشان يتجوزها عُرفي، بس قدام الناس نفضل مرتبطين واكون واجهة، أما الحقيقة كان عايزها ليه يتمزج بيها شوية وبعدين يرميها.
ارتفع كلا حاجبيّ وكيل النيابة وسأل بريبةٍ.
يعني مكنش مديون لأبوها وكان بالنسبة ليها أب؟
ابتسم بمقتٍ شديد ورد بتهكم.
هو كان بيقول كده بس الحقيقة مكنش عايز كده.
حكَّ طرف ذقنه بتفكير وسأل بخشونة.
وايه اللي وصلو إنه يهددك بالمسدس؟
ردَّ بنظرة خاوية.
عشان قولتله إننا خلاص هنتجوز وهقول لياسمين على كُل حاجة عشان تقطع علاقتها بيك.
أومأ بتفهم وسأل بنظرات مدققة.
المطوة اللي طعنته بيها بتاعتك؟
أجاب بملل.
أيوة خالد إدهاني هدية.
أشعل لِفافة تبغ وسأله سؤال مُبطن بسخرية.
ودي بقي بتشيلها في جيبك دايما ولا كانت معاك صُدفة اليوم ده؟
ابتسم باستخفاف وأجابهُ بغير مرح.
دايمًا بمشي بيها لاني اتثبت قبل كده.
همهم بتفهم وهو يهز رأسه وسأل.
تعرف إن خالد كان بيتاجر في السلاح والمخدرات؟
أجاب بنبرة صلبة.
أيوة.
مفكرتش تبلغ عنه ليه؟
كان بيهددني.
بمين؟
بجدتي.
اضطجع على الكرسي ونفث دخانه في الفراغ وبسمة ساخرة تشق شفته الغليظة، إنه داخل متاهة شديدة التعقيد، كُلما ظن أنه وصل يتم التفرع وتتفرق الحقائق ويعود للركض لكي يصل.
استشف يعقوب الملل الذي يحيطه والسأم كذلك، فهو لم يكمل عشر دقائق وملَّ فماذا سيحل به هو بتلك الساعات، فقرر توفير الطاقة والمجهود على كليهما وبادر بالشرح واشباع فضوله.
خالد عرض عليا أشتغل معاه بس انا رفضت واكتفيت بوظيفتي في الشركة.
وتنهد بعمق وانحني كتفه وعاد مع ذكرياته إلى تلك الفترة العصيبة.
بس جِه وقت جدتي تعبت جدًا واحتاجت عملية وكُنت مِحتاج فلوس كتير طلبتها منه وادهاني واستغربت انها من غير مقابل في الاول، بس بعدين لقيته بيلمح إني لو اتكلمت عنه او عن طبيعة شُغله جدتي هتموت عشان كده فضلت ساكت وعايش عارف بلاويهم وساكت غصب عني.
أومأ المحقق بحركة متكررة كأنه يسمع غناء أحدهم بشجن، وغمز وهو يلقي سؤاله الماكر.
يعني مجاش وقت كده وعقلك وزك إنك تشتغل معاهم؟
ابتسم ابتسامة مُبتسرة وأجاب بهدوء يستفز الآخر.
حصل بس كُنت حاطت جدتي قدامي دايمًا وأكيد مش هأكلها من فلوس حرام.
وتمنى على وجه الخصوص لو كان صادقًا وهذه هي الحقيقة، لكان تقريع ضميره الآن لا يفسد عليه أيامه جاعلًا من ليله كنهاره في حياته التي لا جميل بها.
همم إليه وأضاف.
يعني نقدر نقول إنه دفاع عن النفس مع حِمل ضغينة.
ابتسم يعقوب ووافقه بتسلية دون الاكتراث باعترافه الذي سيودي به.
بالظبط والحقيقي أن المفروض ماخدش فيه يوم انا خلصتكم من أوس الفساد!
ابتسم الآخر ثم قال بجدية وهو يقطب جبينه متجهما.
البلد دي فيها حكومة وإلا كُل واحد مش عاجبه حال التاني يقتله بحجة الإصلاح بقي!
ردَّ بأعين مُتسعة مع بسمة ذاهلة
صح إنت صح كمِل.
ارتفع كلا حاجبيّ الآخر وردد قوله.
أكمل!، إنت قلبك مات بقي؟
تبسم لقوله الأخير وقال بوداعة.
ده مات من زمان.
سخر وهو يلقي سؤاله.
طيب يا ابو قلب ميِّت علاقتك بياسمين بدأت إزاي؟
تنهد ب همٍ وطنَّت أُذنه بقولها اليائس. ، إنت عيشت كتير يا يعقوب سيبني أعيش ، لا يعرف لمَ يشفق عليها إلى الآن! ولمَ هُناك جُزء بداخله مازال تابعًا لها، ولمَ يتجاوب مع المحامي ويمتثل لأمرها؟ هل سوف يمنحها سنوات عمره لتظل مُتحررة وهو مقيدًا هُنا؟
أقصي شخصيته الأخري ومع اقصائها أقصي معها ذكرياتها وبدأ من جديد يوم الحفلة.
قبِلتها عند خالد وعجبتني.
والكينج؟
هز كتفه وقال بعدم اهتمام.
عادي شريك خالد معرفهوش معرفة شخصية.
تعرف تايسون؟
تقلَّصت ملامحه تعجبًا وتهجي أحرف اسمه مُستنكرًا هذا الاسم الغريب الذي لم يطرأ سمعهُ أبدًا.
تايسون؟ لأ بس احتمال يكون دراع خالد الشمال في الشغل، انا معرفش اسمه بس اعرف شكله.
همهم وهو يُحدق في الأوراق التي أمامه وسأل طلبًا للفهم.
ياسمين قالت إنك مكنش معاك فلوس تدفع الشرط الجزائي بتاعها عشان تبطل رقص في حال إن جدتك ساكنة في كمبوند بالشيء الفلاني منين كل ده؟
لم يُكلف نفسه التفكير ولو ثوانٍ قليلة ووافاه بالرد سريعًا.
البيت خالد جابهولي عشان يضمن سكوتي وجدتي تبقي تحت ايده.
هل لديك أقوال أخري؟
أجاب بإيجاز
لا
أومأ وأملى الكاتب.
يحبس أربعة أيام على ذمة التحقيق مع مراعاة التجديد.
أعاد الشاويش تكبيل يده وأخذه معهُ، فعدَّل المُحامي جلسته وتحدث وهو يعرض الأوراق التي معه إلى وكيل النيابة.
ده تقرير بيثبت إن موت خالد الصواف كان جرَّاء أزمة قلبية مش الطعنة و..
قاطعته دون منحه فرصة التكملة.
حتى لو مات من الأزمة ده هيلغي إنه طعنه وكان هيموت برضو، الكلام ده تقوله قدام المحكمة مش قدامي اتفضل.
إلحق يا باشا.
هتف بها باسم بلهاث بعد أن ولج وقبضته تشتد فوق الجريدة..
في ايه.
خبر قتل خالد منشور في الجرنال ومنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي.
أشار إليه ليقترب فاقترب وناوله الجريدة فقرأها بغضب ثم قذفها وسأله بعصبية.
مين المسؤول عن الخبر ده؟
أجاب بقلة حيلة.
مش كاتب اسمه كاتب اسم مُستعار بس الجريدة معروفة.
في صحافة برا؟
ايوة بس مش كتير.
لقيت تايسون؟
للأسف لأ كأنه فص ملح وداب ومحدش يعرف راح فين ووصلنا لعنوانه والشقة لقيناها فاضية.
مرت الأيام الأربعة، وتم دفن خالد في حضور ياسمين التي تمنت لو ألقت جسده للكلاب كي ينهشوا من لحمه نهشًا، فدفنه بمثابة تكريمًا له وهو لا يستحق هذا.
وظل التحقيق قائمًا والبحث والتقصي كذلك عن تايسون باستماتة لكن لم يجدوه ومرَّ يومان آخران وانتهي وقت يعقوب هُنا، ومن المُفترض أن يُعرض على المحكمة لتتم محاكمته، لقد إختار وعزم أمره وإعترف وكل شيء أضحي ضده الآن.
تبرعت ياسمين بأموال خالد التي ذهبت إليها، وبقية أمواله ذهبت إلى الدولة لها حق التصرف بها لأن لا وجود لوريث يورثه.
والآن في غرفة المحقق ؛ سأله للمرة الأخيرة.
مفيش حاجة عايز تضيفها يا يعقوب؟ أو افتكرت حاجة مهمة اليومين اللي فاتو؟
أجابه بهدوء.
لا في، القاتل الحقيقي.
تنبهت حواسه ونظر باهتمام وحرك يعقوب شفتيه لتبديل أقواله وتوريط ياسمين وأنهاء تلك السخرية، فهو تركها اليومين لتطمئن، فيأتيها بالضربة من حيثُ لا تدري لكن هو من تلقي صدمة عمره من حيثُ لا يدري.
اللي قتل خال..
قاطعه دون أن يكمل دخول الشاويش بعجلةٍ من أمره متمتمًا باعتذار.
آسف يا باشا.
حدجة المُحقق بغضب ليتحدث مباشرةً قبل أن يطوله غضبه.
في واحدة برا عايزة تشوف حضرتك ومصممة تدخل بتقول الموضوع يخص يعقوب.
زفر المحقق بضيق ظنًا أنها ياسمين، وكذلك ابتسم يعقوب بتشفي ظنًا أنها هُنا وقد جاءت لتلقي جزائها وليتم القبض عليها طالما هي هُنا بسهولة دون أن تكلفهم عناء الوصول إليها.
لكنها كانت شخصٍ ثانِ تمامًا، مجهولة الهوية للمحقق فاكتفي بنظرة مستفهمة منتظرة الشرح والإطناب، ويعقوب كان شاحب شحوب الموتى فور أن رآها تتقدم بذلك الوجة الباهت والملامح الآسفة والعينان المتورمة كأنها كانت تبكِ!
حرك لسانه الذي ظنَّ لوهلة أنه شُلَّ وعجز عن تحريكه بسؤاله بقلبٍ مُنقبض.
إنتِ بتعملي إيه هنا؟
انسلت عِبرات دُعاء بأسفٍ وشهقت وهي تتقدم جازعةً منهُ، وخائفة عليه من وقع كلماتها.
جدتك..
تلك الكلمة وحدها كفيلة بزلزلة كِيانه وإدخال الرُعب على قلبه كما لم يحدث من قبل، علَّقته بتلك الكلمة وأجهشت تبكِ بحرقة وهي تخفض رأسها، وتلقائيًا طفرت عيناه بالدموع وارتجف سائر جسده وعاد يسألها بصوتٍ مبحوح.
مالها جدتي؟
نطقت من بين نشيجها بلوعة صعقته.
ماتت.
وبثانية كانت أمامه بعدما سحبًا من ياقتها بعنف عقبة صراخه في وجهها بقهر.
إنتِ بتقولي إيه؟ بتقولي إيه؟
حررها المُحقق من يده بقوة ودفعهُ عنها بخشونة ليحط على الكرسي بعُنف، بأعين غائرة مُتسعة غير مستوعبة، لتشهق وتقُص عليه ما حدث بأنفاس متلاحقة.
قلبها تعب لما شافت خبر القتل في الجرنال، نقلتها المستشفى من كام يوم وماتت النهاردة الصُبح كان نفسها تشوفك.
وقف وهوي على وجنتها بصفعة قاسية أسقطتها أرضًا، شعرت بخدر وجنتها إثره، تلاها صراخه باهتياج وهو يرفع كفه ليمنحها صفعةً ثانية ناكرًا تلك الحقيقة المُدمرة.
اخرسي اخرسي.
لكمهُ المحقق بغضب أدمى شفتيه وساعدها بالوقوف بينما يصرخ بالشاويش بالخارج.
إنت يازفت يلي برا خد ال (، ) ارميه في الحجز.
ركض إليه من فوره وكبل يديه بالأصفاد وأوقفه ليدفعه يعقوب بعُنف، واقترب من وكيل النيابة وأخبره بهيستيريا وعينا جاحظة كمن فقد عقله.
أنا لازم أشوفها، لازم اشوفها، لازم أشوفها.
دفعهُ من أمامه وزجر الشاويش الذي يقف مكتفيًا بالمشاهدة خوفًا من الإشتباك مع شاكلته.
بقولك خده من هنا يلا.
تحرك خطوتين وفي الثالثة دفعهُ يعقوب من كتفه بقوة مضاعفة أسقطه، فعاجله المحقق بلكمةٍ في أنفه وسالت دمائه، ثم رفعه من ياقته وركله بمنتصف معدته بركبته أدى إلى انحنائه متألمًا، ودفعه من أمامه وتركه يترنح إلى الخلف، وابتعد بدوره ثم اندفع وركلهُ بكل قوته في مجددًا في منتصف معدته بقدمه فهوى وسقط بظهره وثقل جسمه على المنضدة الصغيرة فتهشمت وسقطت به أرضًا.
شهقت الفتاة وابتعدت في زاوية وحدها تبكِ وتنتحب، وتجمع بقية الحرس من الخارج وسارعوا بالفصل بينهم بعد أن جثم المُحقق فوقه وأخذ يُسدد إليه لكمات عنيفة أفسدت معالم وجهه.
كان مستسلمًا هذا ما استطاع أن يفعله بمجهوده المتبقي، الاستسلام فقط للضرب، والاستسلام للسجن، الاستسلام لأي شيء قد يؤدي به للموت، لقد غادرته روحه غادرته ولا يستطيع المتابعة.
صرخ بجهور والدماء تسقط من فمه وأنفه والعبرات من عيناه كذلك، وهم يحكمون الحصار حوله مقيدين، ويسوقونه إلى الزنزانة.
هدأ المُحقق من حِدته بتجهم وجلس على مقعده وأمرها بعصبية.
تعالي اقعدي هنا.
لم تحتاج أن يتكرر قوله فأذعنت وهرولت بتعثُّر وجلست كما أمرها.
أزاح الملفات التي أمامه بعصبية وفرد ذراعه على المكتب وأمرها.
احكي اللي حصل بالتفصيل ومن غير عياط.
أومأت بأعين متورمة حمراء وقصَّت عليه ماحدث وهي تقاوم شهقاتها.
من كام يوم جبت الجرنال زي ما بجيبه كل يوم، ماخدتش بالي من الخبر وادتهولها تقرأه فلما قرأت الخبر اتصدمت وقلبها تعبها جدًا اليوم ده، قُمت اتصلت بالاسعاف ونقلناها للمستشفى وفضلت جنبها..
محت عبراتها التي عجزت عن السيطرة على انهمارها والتقطت أنفاسها بتعب واستطردت بنشيج بينما جسدها ينتفض.
فاقت امبارح بس وطلبت تشوف يعقوب وغابت عن الوعي تاني، وانا معرفتش أعمل ايه ووعدتها أجيبه واستنيت إنها تفوق عشان أجي أطمن يعقوب عليها ويمكن يخرج معايا لأنه مستحيل يقتل لكن هي ما فقتش فا جيت على هنا حسب ما اتذكر في الجرنال.
هي فين دلوقتي؟
أجابت بحرقة.
في المستشفي هدفنها النهاردة.
إنتِ معاها بقالك كام سنة؟
ردت بنبرة ضعيفة وصوتها يخبو.
سنتين.
وفي السنتين دول ملاحظتيش حاجة مريبة من يعقوب؟
لأ.
داخل الزنزانة..
تأوهاتٍ عنيفة، وأنفاسٍ متلاحقة، وصراخٍ مبحوح، وبكاءٍ مكتوم، وتصادم الأجساد في الجدار، وتهتك العظام، وزمجرته العنيفة وهو يهِم بكسر ذراع ذلك الزميل وركله وقذفه على كوم اللحم البشري الذي خلفه، ودوى صوت دعاء بأذنه يخلف ضجيجًا يعيث داخله الفساد، رفع رأسه ولم يُفرق بين عرقه من دمائه وزمجر ولعابه يسقط مختلطًا بالدماء في خطٍ مستقيم، بعروقٍ نافرة وأعين حمراء دامية، هادرًا بعنف رجَّ أرجاء الزنزانة وأرعدت الشاويش الذي يشاهده من خلف الباب عبر النافذة من بين تلك الفراغات المُتاحة.
قوله هدبحلك المساجين اللي هنا واحد واحد لو مخرجتش.
وضرب الباب بقبضةٍ من حديد هزههُ وصرخ بعلو صوته في وجهه.
يلااااااا
ترنح الشاويش إلى الخلف وركض مباشرةً إلى غرفة وكيل النيابة وأخبره عن الجلبة والفوضى التي أحدثها ليأتيه أمره.
هاته.
ظل جامدًا ولم يُحرك ساكنًا و بدى عليه الشحوب خوفًا من بطش الآخر إن أخرجه فزعق به أيقظه.
اتحرك بقولك.
أومأ وركض إلى الزنزانة يفتحها بتذبذبٍ، وجهز الأصفاد التي تراقصت في الهواء بطريقةٍ مبالغًا بها.
وقف أمامه يعقوب بهدوء ظاهري، ومدَّ ذراعيه بقبضةٍ مضمومة ملؤها الجروح كي يضع الأصفاد حول معصمه، كأنه لم يفتعل أي شجار عُنيف في الداخل وصوته جاد يثقب طبقة الأوزون نفسها.
سار خلفه ونبضاته تتباطئ، وأنفاسه تخبو وتُسلب منهُ رويدًا رويدًا، مع كل خطوة يخطيها جسده يتفصد عرقًا والدماء دبقة على وجهه، وأخرى تسيل مع عرقه المُسال، وطعمه الصدأ يملأ فمه، وتخترق رائحته أنفه.
هو، هو ينفع يعقوب يجي يدفنها يا باشا؟
طلبت دعاء منه بخوف وهي تعتصر أناملها فيأتيها رده الجامد.
يعقوب اعترف بالجريمة وهيتحاكم خلاص.
سألت بحزن.
طب وجدته.
الله يرحمها ارتاحت.
قالها دون أي تعاطف، وولج يعقوب على سماع تلك الجملة الممزقة لأوصاله، التي وقعها عليه كان كمن جلب نصلٍ حاد وأخذ يقطع من جسده قطعٍ صغيرة على مرءي ومسمعٍ منهُ.
سأله المحقق باقتضاب.
إنت عامل دوشة وشوشرة ليه ده مش لمصلحتك على فكرة؟
وصل إليه صوته الضعيف بطلبه بقنوط.
عايز أشوفها.
رفع طرف شفته بتهكم وسأله بسخرية.
حد قالك إنك في مكتب تحقيق الامنيات ولا حاجة؟
ما تخليه يدفنها يا باشا.
ترجته الفتاة متضرعة فقام بزجرها بعنف.
مسمعش صوتك.
ثم نظر إلى يعقوب الذي بدى عليه الانكسار واستطرد.
ها خلاص خلصت ارجع زنزانتك ومسمعش شكوى لحد معاد محاكمتك، يلا اتحرك.
تقدم الشاويش وسحبه معهُ ليخرج صوته أخيرًا مترجيًا متضرعًا.
أرجوك سيبنى أروح.
أجاب بحزم.
لا خُده.
علا هدير أنفاسه وصرَّ على أسنانه وأطبق فوق كفيه بعنف، ودفع الشاويش من كتفه وركض إلى وكيل النيابة، فتأهب ظنًا أنه سيضربه لكن صدمه جثوَّهُ على ركبته أمامه وتوسل برأسٍ منحني مذلةً.
أبوس رجلك سيبني أروح لازم أروح.
تكررت إجابته الرافضة.
لأ خُده يلا..
تشجع الشاويش واقتربت وقبض على ذراعه وأوقفه معهُ وجذبهُ خلفِه فدفع به وعاد وجثي أمامه مفشيًا بالسبيل الوحيد لنجاته والهرب من هُنا إن ساءت الأمور، لكن لا يمكن أن تسوء أكثر من هذا.
الكينج هيهرب هيهرب
أوقف وكيل النيابة الشاويش بإشارة من يده ودنى من مستوى يعقوب وسأله باستفهام.
هيهرب إمتي؟
سأله متشبثًا بأي بارقة أمل قد يمنحها إليه.
لو قولت هتسيبني أروح؟
ابتسم بعصبية وهو يرفع رأسه ومن دون سابق إنذار لكمهُ أسقطه واصطدمت رأسه بالأرض، ووقف يركله في معدته بجنون مرددًا بعصبية.
انا محدش يقولي أعمل إيه فاهم يالا؟
سعل يعقوب دمًا وبصقه وهو يحاول التقاط أنفاسه بصعوبة، وتوقف وكيل النيابة يتنفس بثوران والعرق يتفصد من جبينه ومن غيظه وفرط غضبه ركله مجددًا بذلك الحذاء الثقيل المُدبب ليتلوي ألمًا، ورغم هذا آثر الصمت فلن يأخذ حرفًا قبل أن يعِدهٌ.
حرك ذراعيه بوجل، وبسط كفيه أمامه وتحامل على نفسه لكي يقف، فحال ذلك وكيل النيابة عِندما وضع قدمه في منتصف ظهر يعقوب مثبتًا إياه وضغط وضاعف ضغطه كأنه يسحق حشرة، حتى اقترن وجهه بالأرض وهو يسمع هسيس مقرون بغضبٍ سافر.
أنطق.
لم ينبس ببنت شفة وظل مسطحًا تارك نفسه يحصل على مزيدٍ من الإهانة، رفع وكيل النيابة قدمه ومال يستند على حافة المكتب يولي ظهره إليه وهو يهدئ من حدة عصبيته ثم نكص على عقبيه وجلس على الكرسي المقابل لمكتبه واضطجع عليه يمسد جبينه بأنامله بإرهاق، ويعقوب يستقر أسفل قدميه يتنفس بتقتير ويحاول الوقوف والاعتدال وهو شِبه جثة.
تقيأ دماءًا وهو يرتفع واستقر على ركبتيه أمامه جامدًا وقد تغير شيء بنظراته، بدت أكثر تحجرًا وقسوة، تم انتزاع الحياة منها وذهبت لمعتها وأضحت كدجي الليل خاوية فارغة لا يضيئها نجمٍ ولا بدر.
أعاد تكرار كلمته دون زيادة أو نقصان كأنه يُذكره أو يمنحه عرضًا جديدًا كأن شيئًا لم يحدث.
الكينج هيهرب.
مسح وكيل النيابة وجهه بكفه واستقام على كرسيه باسمًا، ثم امتدت يده وشد يعقوب من ياقته فمال عليه بعدم اتزان يسمع قوله النافذ.
يعقوب باشا اللي تؤمر بيه اتكلم.
طرف بأهدابه المبللة ونظر إليه وباح بكل شيء.
هيهرب قبل المحاكمة.
إزاي؟
عامل كمين في نص الطريق وهيهرب قبل ما يوصل المحكمة.
وإنت عرفت منين؟
عرض عليا أهرب معاه وانا وافقت.
استجوبه متهكمًا.
وعرض عليك ليه مش قولت إنك متعرفهوش معرفة شخصية وهو كذلك؟
أجابه بتهكم مماثل.
إسئله.
همهم وكيل النيابة مع هزة بسيطة من رأسه عقبها لكمة عنيفة تطاير الدماء من فمه إثرها، وحال سقوطه قبضته التي اندست داخل شعر يعقوب يقبض عليه بعنف وهمس بنبرة ذات مغزى مع رفعِهِ لحاجبه المُبعثر أمام وجهه الدامي.
إنت هتهرب معاه وهتتبعه، عشان نمسكه تاني.
برزت أسنان يعقوب الجانبية المخبأة خلف شفتيه وسأل مستفهمًا لاهثًا واهنًا.
ولما تمسكوه ايه اللي هيحصل
ولا حاجة.
ده مش هيحسن وضعي في القضية؟
كم كان سؤالًا ساذجًا يستدعي السخرية فجاءته مُتجسدة في قوله الغير مسلٍ بالطبع.
هيحسن طبعا بس متحلمش إنك تاخد براءة.