نوفيلا غسق الأوس ( ليلة دافئة ) للكاتبة منال سالم الفصل الخامس
( الجزء السادس من ذئاب لا تعرف الحب )
حافظ على خيط الوقــار الجاد مع زوجته، خلال إشراف مدير المطعم على تلبية طلباته بتفانٍ واضح، ليستأذن بعدها الأخير في تهذيبٍ شديد، متمنيًا شهية طيبة لكليهما. نظرت "تقى" للطعام الموضوع أمامها، كانت الأطباق منسقة كتحفٍ فنية، تخشى المساس بها، حتى لا تفسد لمسة الطاهي المحترف، مطت شفتيها قليلاً، ثم استطردت هاتفة بعدها بربكةٍ ظهرت عليها:
-مش هاعرف أكل، الناس ممكن تضحك عليا.
بإشارة جادة من عينيه قال لها:
-بصي حواليكي، مافيش حد يقدر يزعجك، فكلي زي ما إنتي عاوزة يا حبيبتي.
أوضحت له بتوترٍ لم يخبت بعد:
-أنا اتعلمت شوية حاجات في دروس الاتيكيت اللي بأحضرها، بس مش عارفة إن كان ده صح ولا لأ؟
مد "أوس" يده ووضعها على راحتها المسنودة على الطاولة، احتضنها بأصابعه، ثم نظر لها في عينيها ليؤكد لها:
-"تقى"، أنا بأحبك في كل حالاتك.
ابتسمت في رقةٍ لدعمه، وحاولت أن تتخلى عن رهبتها من التطبيق العملي لما درسته خلال الفترة المنصرمة، لتبدو كسيدة مجتمع أنيقة، لا تحرج زوجها إن اضطرتها الظروف لمشاركته إحدى المناسبات الاجتماعية التي تتطلب حضورها، متذكرة تلميحات "رغد" المريضة عن جهلها، وتخلفها الفاضح، بالإضافة لعجرفتها، ونظراتها الاستحقارية الموجهة لشخصها.
هاجمتها أسوأ اللحظات البائسة؛ لكنها نفضت جميع أفكارها السوداوية، المتعلقة بالماضي، عن رأسها، واستمتعت بعشائها الشهي مع زوجها السخي، بدد الأخير لحظات الصمت التي سادت بينهما، ليسألها في اهتمامٍ:
-قوليلي، فكرتي تعملي إيه بعد ما خلصتي دراسة؟
أجابته بعد أن لاكت سريعًا قطعة الطعام الموجودة في فمها:
-في كام كورس كده بأشوفهم، "ليان" هتساعدني أختار المناسب ليا.
هز رأسه معلقًا:
-عاوزة نصيحتي، ما تعتمديش عليها.
قطبت جبينها متسائلة في استغراب:
-إنت بتخوفني منها ولا إيه؟!
علل مدللاً على أسبابه المنطقية:
-لأ، بس دماغها غيرك، ميولها عكسك تقريبًا، إنتو مختلفين عن بعض، وفي النهاية إنتي حرة في اختيارك، أنا مش هامنع.
تطلعت إليه مليًا؛ وكأنها تفكر في أمر ما، والحق يُقال أنه استحوذ على تفكيرها لوقتٍ لا بأس به، وربما جاء الوقت لإخراجه من حيز عقلها، وتطبيقه على أرض الواقع. استجمعت "تقى" رباطة جأشها، ولعقت شفتيها، لتقول له بلعثمة خفيفة:
-طب "أوس"، في حاجة كده كنت عاوزة أطلبها منك..
لم تتبدل تعابيره الهادئة، وشجعها على المضي قدمًا في حديثها قائلاً:
-قولي يا حبيبتي على طول.
بلعت ريقها، وحادثته بترقبٍ:
-أنا .. عاوزة أتعلم الكتابة الأدبية.
بدا ميلها غريبًا عليه، فسألها بلهجة جمعت بين الجد والهزل:
-الكتابة؟ هو إنتي مش بتعرفي تقري وتكتبي؟ ده باعتبار إنك خلصتي دراسة.
فسرت له مقصدها، بنوعٍ من الحماس:
-لأ مش اللي في دماغك، أنا عاوزة أكتب روايات، يعني أألف قصص كده.
زم شفتيه مكررًا كلماتها:
-تكتبي روايات!!!
راقبت بتمعن تعابيره المسترخية، لم يظهر أدنى تغيير على ملامحه، ومع هذا سألته:
-مستغرب صح؟
قال موجزًا:
-شوية، بس ليه؟
أسهبت في التعبير عن هوايتها الجديدة التي استمالتها:
-بصراحة كده، بأشوف في الدار حالات صعبة أوي لناس ظروفها مختلفة، نفسي الكل يعرف عنهم، يعرف أد إيه هما مظلومين، وفي ناس مابترحمش.
لمحة من الألم غلفت نبرته وهو يقول مباشرة:
-زيي كده؟ ما أنا كنت واحد من الناس دول.
تجمدت نظراتها عليه، ربما أفرطت في الإيضــاح، ولامست دون قصدٍ، ذلك الوتر الحساس الذي جمع بينهما، على الفور تراجعت عن زلتها لتعتذر منه:
-أنا أسفة، والله ما اقصد يا "أوس"، أنا بأتكلم في العموم.
ظنت أنه سينبذ تلك الفكرة، وربما يعارضها بشدة، وبدأت ترجح كفة ذلك القرار في تفكيرها، مع صمته الغريب الذي حل بينهما؛ لكنه باغتها بإبداء موافقته:
-خلاص يا حبيبتي، طالما ده اللي عاجبك، شوفي المطلوب ونعمله.
تفاجأت من دعمه لها، وهتفت غير مصدقة، وتلك النظرة المذهولة تبرز من عينيها الزرقاوين:
-يعني إنت مش معترض؟
قال نافيًا بنبرة شبه هازئة:
-لأ.. بس أوعي تطلعي البطل شبهي.
عضت على شفتها السفلى، وهزت كتفيها قائلة:
-على حسب.
حذرها بنظرة صارمة:
-هترجعي تندمي بعد كده.
-أنا لسه هتعلم، متقلقش.. ويعني لو خدت تفاصيل، هتبقى حاجات بسيطة أوي.
استحضر عقله تلك الجملة الساخرة التي يقرأها على مواقع التواصل، كانت مناسبة لاستخدامها في هذا الموقف تحديدًا، ولم يمانع في مشاركتها زوجته، لذا قال بصوتٍ هادئ رزين:
-تمام، كده هابقى الشرير في رواية أحدهم.
انفجرت ضاحكة على ما أسمتها طرفة عكست حقيقة مؤلمة، ومع هذا قالت مادحة إياه:
-أجمد شرير في حياتي.
لكنه عاد ليشدد عليها، بنوعٍ من العجرفة، وهو يغمز لها بطرف عينه:
-خليكي فاكرة، "أوس الجندي" واحد وبس!