نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع
ابتلع ريقه بتوترٍ جليٍ، حينما وجد سيارة أبيه تدنو منه، فأزاح عنه حزام الآمان وردد بتحذيرٍ مسبق لها: رحمة بابا مش لازم يعرف اللي حصل من شوية.
هزت رأسها وهي تشير إليه بتأكيدٍ، زُف بحديثها: متقلقش مش هتكلم في حاجة!
فتح باب سيارته وخرج منها وهو يخبرها: خليكِ هنا أنا راجع.
تابعته بهدوءٍ وهو يدنو من السيارة، متوجهًا للمقعد الخلفي جوار ياسين الجارحي، إنغلق باب السيارة من خلفه وانقطعت عنها الرؤيا، فلم ترى سوى الزجاج اللامع المعتم، إسترخت بجلستها وهي تفكر عن سبب وجوده بذاك الوقت، وأكثر ما شغل عقلها هل رأى ما فعله عمر بهؤلاء؟!
بسيارة ياسين الجارحي.
استقر جواره بالمقعد الخلفي للسيارة بالتحديد، حيث يراقبهما السائق بفضولٍ كان يشتعل بعينيه المتلصصة عليهما من مرآة السيارة الأمامية، يبدو بأنه كان شاهدًا على بطولة عمر منذ قليلٍ وبالطبع شاركه أبيه الأمر، ولكنه حاول استبعاد تلك الشكوك وتمنى أن يكون مرورهما عابرًا لم يتطفل على فعلته، فتنحنح وهو يتساءل بإرتباكٍ صريح: هو حضرتك كنت فين؟
مازالت عسليته تراقب توتر معالم ابنه باستمتاعٍ، وكأنه إفتقد لأيام طفولته المثالية، تردد نبرته الثابتة مجيبة على سؤاله: كنت في ميتنج وإتاخرنا بالرجوع.
واستند بيده على ساقه الموضوعة فوق الأخرى وهو يسدد إليه سؤاله: بتعمل أيه هنا في الوقت ده؟
حديثه الهادئ ينافر غموض عينيه التي تكشف شيئًا لا يرغب بتأكيده، ومع ذلك أجابه: رحمة كانت محتاجة طلب من بره وطلعت معاها.
هز رأسه بتفهمٍ، وأشار إليه: هات عربيتك وحصلنا.
فتح باب السيارة وما كاد بإنغلاقه حتى استمع لنداء أباه الخافت: عمر.
انحنى من نافذة السيارة يرى ماذا هناك؟، فمنحه ياسين بسمة خبيثة وإتبعها صوته الرخيم: اللي عملته ميتخفش منه.
برق بعينيه بصدمةٍ، ففقد القدرة على التعبير بما يود قوله، تجاهل ياسين حالته تلك، وردد بحزمٍ للسائق: إطلع يا فؤاد.
تحركت السيارة نصب عينيه ومازال يقف محله، فما أن غادرت الشارع الرئيسي حتى تهدل فمه بابتسامةٍ خاطفة، عاد عمر للسيارة مجددًا، ليجدها تسارع بأسئلتها الفضولية والقلق يناهزها: طمني يا عمر، عمي عرف حاجة؟
منحها ابتسامة ساخرة قبل أن يحرك مقود السيارة، مردفًا بتهكمٍ: هو في حاجة هو ميعرفهاش!
طال وقوفها بالشرفة ومازالت تنتظر عودته، حاولت الإتصال هاتفيًا به كثيرًا ولكنه خارج التغطية، طوفها سكينة فور أن اهتدت عينيها بسيارته التي تنهب الطريق حتى باتت داخل حدود القصر، فأسرعت نور للأسفل لتستقبله بذاتها.
هبط عمر من السيارة متجهًا للصندوق، فحمل الأكياس بين يده، وتلك المرةٍ عاونته رحمة بعد رفضها التام بأن يحمله بمفرده، ولج للداخل متجهًا للمصعد وهي من خلفه فتفاجئ بنور تسرع للأسفل، فدنت منهما متسائلة باستغرابٍ: كنت فين يا عمر؟
وتحركت بنظراتها لمن تقف جواره، مرددة بدهشةٍ: هو في حاجة ولا أيه؟ قلقتوني!
حك جبهته بمللٍ من اسطوانته المكررة كلما رأهما أحدٌ، فقال بضجرٍ: كنا في الماركت يا نور.
ارتسمت بسمة واسعة على محياها، وتساءلت بحماسٍ: وجبتلي أيه من هناك بقى؟
رمش بعينيه بدهشةٍ، وكأنه يخبرها بأنه هاجر لبلاد الغرب بزيارة سريعة وعاد إليها، لم يجد ما يجيب به فناولته عمر أحد الأكياس متوسط الحجم وهي تشير له بأن يقدمه لها، تابعها بذهولٍ ومع ذلك نفذ ما تمليه عليه من اشارات مبطنة، فقدمها لها، فتحت نور الكيس البلاستيكي بفضولٍ لمعرفة ما بداخله، فجحظت عينيها بفرحةٍ وصاحت بعدم تصديق: أيه ده مانجا معقول!
وضمته وهي تشكره بسعادةٍ غريبةٍ: كده بدأت تفهمني وهبدأ أحبك، مع إن رحمة اللي مساعداك بس ولا يهمني مش هخلي شيء يأثر على فرحتي!
ابتسم عمر وصاح ساخرًا: سهلة كل ما تزعلي مني أدخلك باتنين تلاتة كيلو!
غمزت له بمكرٍ: بدأت تدخلي من ثغراتي!
تعالت ضحكات رحمة، وهمست لعمر بغرورٍ: عد الجمايل.
قالتها وهي تلج للمصعد، تاركته يحتضن نور التي كلما وجدت نوعًا جديدًا من ثمار المانجو كانت تعود لمعانقته، فجذب الكيس البلاستيكي وولج لاحد غرف الطابق السفلي وهو يهمس لها بمكرٍ: تعالي جوه نكمل كلامنا، هنا ميصحش!
انتهى بها المصعد بالطابق الثاني، فحملت الأكياس وتوجهت لجناحها الخاص، وإبتسامة الحماس مشتعلة على معالمها، كادت بالوصول لمبتغاها حينما توقفت على صوتٍ رجوليٍ يناديها: رحمة!
استدارت لتتفاجئ بياسين يدنو منها سريعًا، وعاد ليهمس لها وهو يلتقط منها الأكياس: تعالي معايا فورًا.
ضيقت عينيها باستغرابٍ، وتساءلت: في أيه يا ياسين؟!
خطى تجاه جناحه وهو يشير لها بتحذيرٍ: ادخلي جوه وهنتكلم.
وجدته مريبًا للغاية، خاصة وهو يكبت ضحكاته بصعوبةٍ، فاقتربت وهي تتساءل: طيب فهمني، مليكة كويسة؟
فتح الباب وهو يشير لها لتطمئن: مليكة جوه.
وبنفاذ صبرًا قال: ادخلي قبل ما عدي يلمحك!
مجرد نطقه لتلك الجملة حملت طرف اسدالها الطويل وهرولت للداخل برعبٍ إجتاز تعابيرها.
أغلقت مليكة مصحفها الشريف وتأملت تلك التي تهرع للداخل برعبٍ، نهضت عن فراشها وأسرعت إليها، توزع نظرات الدهشة بينها وبين زوجها ومن ثم تساءلت باستغرابٍ: في أيه يا ياسين؟
وضع الأغراض عن يده أرضًا، ثم إتجه للمقعد المقابل إليهما وقال بضحكة فشل بكبتها: عدي خرج يشتري برفيوم وشوية حاجات خاصين بيه وبعد ما خرج بنص ساعة لقيته بيتصل بيا وكان شكله متعصب جدًا، فروحتله ودفعنا المبلغ بس طبعًا عرف إن رحمة اللي عملت فيه كده!
ضربت بيدها على فمها بصدمةٍ، وعينيها تتطلعان إليه بذعرٍ، جلست مليكة جوارها بهدوءٍ تامٍ وهي تراقب ما فعلته، مرددة برعبٍ: عملتيها ازاي دي يا رحمة!
واسترسلت بحدةٍ: ما بابا عمالنا حساب بنكي ومعاكي الفيزا بتاعتك!
أجابتها بحزنٍ رغم مرح نبرتها: كنت عايزة أحرق قلبه على فلوسه زي ما حرق قلبي على المانجا!
وبضيقٍ استرسلت: بس للاسف عمر هو اللي دفع الحساب!
ضحك ياسين بصوته كله، فحانت منها نظرة ضيق إليه، فرفع يده واستعاد ثباته وهو يردد: آسف.
ونهض عن المقعد وإتجه للغرفة الصغيرة الملحقة بالجناح، متلفظًا ببسمته الجذابة: عندي شوية شغل هخلصهم، لو احتاجتم حاجة أنا جوه.
تركهم ياسين وولج للداخل يستكمل عمله، فعادت لتتطلع لمليكة التي تساءلت بحيرةٍ: طب هتعملي أيه دلوقتي!
هزت كتفيها بضجرٍ وهي تسحب إحدى ثمار المانجو تلتهمها بشرودٍ: ولا أعرف بس تقريبًا هستخبى في أي أوضة، القصر مفيش أكتر من الأوض فيه!
جذبت منها مليكة الأكياس، ثم التقطت إحدى الثمار تتناولها وهي تشير بضجرٍ: على أساس إنه مش هيجيبك!
جذبت رحمة المناديل الورقية تجفف بها ملابسها وعادت لتخبرها بعد تفكيرٍ: يبقى خليني هنا أنا في أمان، ويمكن يفكرني لسه مجتش!
هزت رأسها بتفهمٍ، ثم عادت لتردد: مش بتقولي إن عمر كان معاكي يبقى برجوعه عدي هيتأكد إنك هنا وآ.
ابتلعت باقي جملتها حينما تعالى الطرق على باب الجناح الخاص بهما، تعلقت رحمة بمليكة وهي تتوسل إليها: مليكة عشان خاطري أوعي تفتحي!
هزت رأسها تؤكد لها ومازالت تراقب الباب بحيرةٍ، فاتجهت لغرفة المكتب الملحقة بالجناح تنادي بصوتٍ خافت: ياسين تعالى، شكل عدي بره!
أبعد المقعد عن مكتبه الصغير وهم للخروج فأسرعت تجاهه رحمة، تسأله بصدمة: هتسلمني ليه يا ياسين!
ابتسم رغمًا عنه وكأنها لصة سيقوم بتسليمها للشرطة، فابتعد عن منفذ الباب وهو يشير إليها: خليكي هنا واقفلي على نفسك الباب.
وكاد بالخروج ولكنه عاد إليها يخبرها بجديةٍ تامة: بصي يا رحمة عدي لازم يعرف انك رجعتي القصر عشان ميقلقش عليكي، ممكن أخليه ميدخلكيش ده اللي هحاول أعمله وربنا يستر.
هزت رأسها بموافقةٍ سريعةٍ، فإتجه للخارج صافقًا الباب من خلفه، فتح ياسين باب جناحه فتفاجئ بمن يقف قبالته وعينيه تجوب الجناح بالكمال وسؤاله يتردد بثباتٍ وحزمٍ: نادي لرحمة يا ياسين، وبطل حركات العيال دي!
اندفعت مليكة بحديثها: رحمة مش هنا يا عدي، دور عليها بمكان تاني.
منحها ياسين نظرة محذرة لبلاهتها، تقف أمام شرطيًا ماهرًا وأخبرته بغبائها عما يود علمه دون جهدًا منه، خرجت نبرته صارمة تلك المرةٍ: من فضلك يا ياسين خليها تخرج والا هدخل بنفسي لجوه.
ضم شفتيه معًا بحيرةٍ لتأزم الموقف، فابتعد عن باب الجناح مشيرًا إليه بهدوءٍ: هي جوه يا عدي بس من فضلك بلاش العصبية هي أكيد مكنتش تقصد اللي حصل!
داعبت بسمة خافتة شفتيه، وردد بعدم تصديق: هو أنت فاكرني هعمل فيها أيه؟
أجابته مليكة بضيقٍ: باين من عصبيتك وطريقة كلامك يا حبيبي!
منحها نفس تلك الابتسامة الثابتة، واستكمل طريقه للداخل قاصدًا غرفة المكتب الخاصة بياسين، فتح بابها ليتفاجئ بها تجلس على الأريكة الجلدية السوداء تتناول حبات المانجو بخوفٍ وشرود، وكأن أحداهما يجبرها على تناول العقاقير رغمًت عنها!
رفعت رأسها لتجده يقف قبالتها، فابتلعت ما بجوفها ونهضت عن الأريكة تشير له برهبةٍ: ما حصلش حاجة يا عدي لما استلفت منك الكريدت كارت، والله فلوسك زي ما هي ما أخدت منك مليم أحمر!
وتابعت وهي تضع المانجو عن يدها: ثم إنك رجعت بالسلامة ومحصلكش شيء، وإن كان على برستيجك فبدل ما كان هيضيع بشرا المانجا ضاع بالبرفيوم وهنا تفرق!
زوى حاجبيه بسخطٍ، وضم يده معًا لصدره يستمع لمبرراتها التي مازالت تلجئ إليها، وكلما طال صمته تبتلع ريقها بتوترٍ وتبحث عن حجة أخرى، وأخرهما حينما أشارت على بطنها بحنانٍ: ابنك اللي طالب مانجا مش أنا والله.
وتابعت حينما وجدته يتطلع على بطنها المنتفخ من فرط ما تناولته، فظنته قد تعاطف معها فاسترسلت: أنا عمري ما كان ليا طلبات، تفرق!
ضم يده لمقدمة أنفه بتعبٍ وصداع يضرب رأسه من ثرثارتها المزعجة، وأنهى سكونه حينما أشار بيده على الباب: لو خلصتي ممكن نرجع جناحنا!
ابتلعت ريقها بخوفٍ تام، ورددت: هتعمل فيا أيه؟
ردد بحزمٍ: رحمة بطلي شغل العيال ده ويلا نكمل كلامنا في جناحنا.
هزت رأسها باستسلامٍ واتجهت لتمر من جواره ثم عادت تهرول وهي تردد: المانجا!
وحملت الأكياس ثم خرجت معه بهدوءٍ، لتجد مليكة وياسين بالخارج، فقالت بسخرية: متشكرين على الواجب ده يا ياسين، سلمتني من أول دقيقة فكرتك هتصمد ساعتين تلاته!
ضحك وهو يشير لها مرددًا: النمرة غلط، نمرة ياسين الجارحي الصح، لو ضاقت أوي رنيله!
منحه عدي نظرة حادة جعلته يتراجع وهو يردد بهمس خافت: اطلبي البوليس أفضل!
ما أن ولجوا معًا للجناح حتى أسرعت إليه تضع بين يده الكريدت كارت، وتختبئ بأحضانه وهي تردد بخوفٍ: معاك الكريدت كارت وأنا اعتذرتلك خلصنا يا باشا.
انتظرت أن يحاوطها بذراعه مثلما يفعل كل مرةٍ، ولكنه بقى متخشب كما هو، فهمست بصوتٍ كان مسموع إليه: لسه ساعتين على الفجر أغريه عشان ينسى اللي عملته، ولا أعمل نفسي مغمي عليا وهو أكيد قلبه هيحن!
انحنى بقامته الطويلة إليها ليهمس لها بمكرٍ: أنا مع الحل الأول، لإنك لو اشتقلبتي وعملتي نفسك ميتة مش هيخيل عليا!
رفعت رأسها إليه وقد انكمشت تعابيرها لتردد بسخطٍ: حرام عليك لما تستفرض بيا، وكل ده ليه عشان كان عندي وحم بريء!
تأمل عينيها للحظةٍ، ثم انفترت بسمته فأرغمتها على الابتسامة، وضع عدي الفيزا جانبًا ثم سألها وهو يراقب عينيها عن كثب: أكلتي مانجا أد أيه يا رحمة؟
تلاشت ابتسامتها واستدارت عنه حتى لا يرى مكيدة عينيها: مش فاكرة بس مش كتير متقلقش.
قطع عليها تهربها الماكر، حينما أدارها إليه ليشير إليها: هتقوليلي الحقيقة ولا أعرفها بطريقتي!
زمت شفتيها وهي تخبره باستياءٍ: كتير والله ومش هعمل كده تاني.
وببراءة مصطنعة قالت: ممكن أروح أنام بقى لحسن أنا راجعة تعبانه أوي.
أوقفها حينما سألها بتريث: رايحة فين مش قولتي هتغريني؟!
وضعت يدها على بطنها الممتليء وهو تردد على استحياءٍ: أجلها لبكره لحسن أنا هموت وأنام!
حرك رأسه بخبثٍ وهو يتابع: هسمحلك تنامي طبعًا بس إحنا لسه متكلمناش عن سرقتك للكريدت كارت بتاعي! ولا على الموقف السخيف اللي حطتيني فيه من شوية!
لعقت شفتيها بتوترٍ، وادعت الانفعال حينما صاحت: مهو الحمد لله رجعت زي الفل أهو ومحدش إتعرضلك.
زوى حاجبيه مجددًا وهو يصيح بشراسةٍ: مين ده اللي يقدر يتعرضلي!
همست بمللٍ: هيرفعلي حواجبه بقى زي أبوه وأنا راجعه حاسة إني دايخة ومعنديش نفس للمناهدة.
ثم رفعت صوتها قائلة: عدي والله أنا نفسي أنام عايز تتخانق إتخانق، تعاقب اتفضل عاقبني وريحني بس بسرعة الله يكرمك أنا تعبانه ومحتاجة للراحة!
منحها نظرة طافت بها قبل أن يقول: احنا اتجرأنا أوي!
هزت رأسها ببسمةٍ جعلته يبتسم وهو يشير لها: أوكي يا رحمة نامي وبكره نكمل كلامنا.
ارتفعت بجسدها على أطراف أصابعها وهي تطبع قبلة على جبينه وتهمس له: ربنا يخليك ليا يا وحش. تصبح على خير.
وتمددت على الفراش وهي تحتضن بطنها المنتفخ بإرهاقٍ لما تناولته، فكانت تشعر وكأنها تحمل شيئًا ثقيلًا يعجزها تمامًا عن الحركةٍ، بدى عدي مرتبكًا بوقفته لا يعلم كيف سيخبرها بما يود قوله، فتمدد جوارها، وعسليته تراقبها بحيرةٍ ختمها حينما ناداها: رحمة!
فتحت عينيها بإرهاق، فتقلب بجسده تجاهها ثم قال وابتسامته تجعل جاذبيته تهاجمها بكل قوتها: مهنتيش عليا.
عبست بعينيها بعدم فهم، فانحنى بجسده للخزانة ليخرج منها طبقًا من المانجو مقطع بحرافيةٍ تامة وبشكلٍ راقي، قدمه لها فاستقامت بجلستها على الفراش وفمها يسقط للاسفل ببلاهةٍ، فوزعت نظراتها بينه تارة وبين ما يحمله تارة أخرى، لا تعلم كيف حملت عنه الطبق، فرددت بصدمة: أنا بحلم صح!
ابتسم وهو يشير لها بالنفي، فعادت لتخطف نظرة سريعة لما تحمله وقالت: بص هو شكله شيك وفخم وميوحيش إنها مانجة بس بالنسبة إنك تنزل وتجبهالي بنفسك فدي بالنسبالي كبيرة أوي، ومن فرحتي حقيقي عايزة احتفظ بيها ومقربلهاش.
ضحك وهو يردد: مش للدرجادي!
وضعته جانبًا واتجهت إليه، تحتضنه وهي تردد بحبٍ: أنا بأحبك أوي يا عدي.
ضمها إليه بحنان أحاطها بهالةٍ من الدفء، وحينما وجدها تندثر إليه بعاطفةٍ، سألها بهمسه المغري: إنتي تعبانه بجد ولا كنتِ بتهربي مني؟
رفعت رأسها إليه بضحكة مغرية فجذب الغطاء عليهما وهو يردد: مطلعتيش لصة بس لا كمان مخادعة يا بيبي!
شملها بعاصفة حبه ولم تمانع أن تشاركه، حتى بات حبهما المفتاح لعبور عالمهما الخاص.
اندلاع قرآن الفجر جعله يفق من منامته، فهز أخيه وهو يشير إليه: حازم فوق يلا عشان صلاة الفجر.
هز الأخير رأسه ونهض عن الفراش مغلق العينين، وإتجه ليخرج من الغرفة، ثم استدار إليه وهو يتساءل بجدية: طمني أحسن دلوقتي؟
هز رأسه وهو يخبره بابتسامته: بخير والله، يلا روح اتوضى وإنزل وأنا كمان هغير وهحصلك.
خرج كلاهما واتجهوا لأجنحتهما، فولج أحمد للداخل ليجدها مازالت تنعم بنومها الثقيل، ابتسم بتهكمٍ وأشمر عن ساعديه وهو يهمس باستهزاءٍ: استعنا على الشقا بالله.
وحملها عن الفراش، ثم إتجه بها لحمام الغرفة، ليكرر فعلته المعتادة بالمياه، فتحت عينيها بانزعاجٍ وما أن استردت وعيها حتى احتضنت وجهه بيدها وهي تتساءل بلهفةٍ: أحمد حبيبي طمني عليك أنت كويس؟
ضم شفتيه بسخريةٍ اتبعت حديثه: وفري مشاعرك الرقيقة دي، الفجر فاضله دقايق.
لم تفهم مغزى حديثه وخاصة حينما تركها وخرج يرتدي ملابسه، فلحقت به وهي تتساءل: لو حاسس بحاجة بكره نروح لدكتور.
استدار إليها، وقال وهو يرتدي جاكيته: أنا كويس يا حبيبتي.
وأشار لها: إلبسي إنتِ وانزلي يلا عشان السحور!
اليوم كان مميزًا للغاية بتحضر أطيب أنواع الطعام لاستقبال أصدقاء عدي الهامين، قامت آية بالاشراف على الطعام بنفسها تلبية لرغبة ابنها، فصنعت ما لذ وطاب لأجلهما، ومع اقتراب موعد الافطار جددت الفتيات تنسيق القصر لاستقبال الضيوف على أتم الاستعداد، وبناء على التعليمات الملحقة بالقصر تم الاستعانة بالطاولة الاحتياطية بغرفة منعزلة لتخص الرجلين الغريبن حتى لا يختلط بمجلس النساء، فقامت رحمة ونور بترتيبها بمساعدة آسيل وداليا، وقد حرصت مروج ورانيا على الا ينقص الغرفة شيئًا من عصائر ومياه وفواكه وغيره من المقبلات قبل أن تضع شروق ونسرين الطعام على السفرة.
وبعيدًا عن أجواء آل الجارحي، وخاصة أمام الحاجز الخاص بالقصور الخمس التابعة لعائلة زيدان العريقة، وقفت سيارة فخمة كبيرة الحجم تترقب خروج مسؤولي العائلة الجوكر والاسطورة، لتتحرك بهما لمشوارهما الهام، مازال الحارس ينتظر خروجهما بتأهبٍ تام ومن خلفه سيارتين تخص الحراس المجهزون على أعلى مستوى، وبداخل تلك الامبراطورية وقف الجوكر بالخارج يتآلق ببذلته الرمادية الآنيقة، يجوب طرقات قصره بغضبٍ وضيقٍ يلحق نظراته المتفرقة على ساعة يده، هامسًا بضيقٍ: بتعمل أيه كل ده! أنا منبه عليها متتأخرش!
أنا هنا يا حبيبي، اشتاقتلي صح؟!
قالتها القصيرة ذات اللسان السليط مثلما لقبها الجوكر المزعوم، فالتفت إليها وهالات الغضب تحتل عينيها، فتلاشت كطيفٍ عابرًا حينما رأها تقف قبالته بفستانها الرمادي المتناسب مع لون حلاه، وحجابها الأسود الطويل، وابتسامتها تلك التي تنبع بمشاكسةٍ مازالت تلاحقها حتى اليوم، تلك المشاغبة التي احتلت قلبه منذ أن فرض عليه حمايتها وباتت تصارحه بحبها الشديد إليه منذ أول مرة، أرغمته على الخضوع إليها رغمًا عن ارداته، ربما لم يكن من الهين الوقوع بغرامها، ولكن لين يعد ذاك الجنتل الخبير بتعامله مع النساء على عكس أخيه المنفر من أي تعامل يخص تاء التأنيث.
إعتاد التعامل مع أنواعٍ عديدة من النساء وتلك الفتاة هي من طرقت بابه وسكنت مبناه العتيق، إقترب منها مراد وقال بضيقٍ سعى لأن يبرزه بنبرته: ساعة عشان تجهزي يا حنين!
ابتسمت وهي تشير له بعنجهيةٍ: مش مهم الوقت المهم النتيجة يا روح قلب حنين.
وأضافت باستنكارٍ: والنتيجة مرضية وزي الفل.
وهزت كتفيها بدلالٍ وهي تخبره: ولا أنت مش واخد بالك!
وضع يده بجيب سرواله وهو يتابعها بعينيه الساحرة التي كادت باصابتها بالفتنة، فأطلق صفيرًا متغندج بجمالها: القمر نزلي من السماء على الأرض.
أخفضت رأسها خجلًا، وطرقته بحقيبتها الصغيرة بخفةٍ: عاكس بعد الفطار وأنا هوافقك.
ضحك وهو يغمز لها بمشاكسةٍ: أموت فيك وأنت فهمني!
ابتسمت وهي تنحاز بوجهها عنه، فتفحصت طرقات القصور وعادت لتتطلع إليه صارخة بحدةٍ: أخوك العم إبليس وشجن كآبة منزلوش لسه يعني! أنت مش شاطر بس غير تتشطر عليا ونازل رن على الموبيل لدرجة إني حسيتك شوية وهتطلع تخنقني!
أتاها صوتًا رجوليًا يجيبها: وبعدهالك يا حنين مش هتبطلي لفظ إبليس اللي لازقهولي ده!
قالها من هبط الدرج يضم كف معشوقة طفولته يدًا بيدٍ حتى لا يعيقها فستانها الطويل، فابتسمت أشجان وهي تراقب معركتهما الواشكة على الابتداء، فأجابته حنين: والله بحاول أناديلك بشيء تاني بس هعمل أيه يابو زين إبليس هو اللي لازق على لساني.
ضحك مراد وهو يتابع زيتونية أخيه المشتعلة، فأبعد رحيم نظراته الغاضبة عنها وإتجهت لاخيه ليردد بسخطٍ: عاجباك أوي!
هز رأسه وهو يضم شفتيه ساخرًا، فردد بثباتٍ لزوجة أخيه: ممكن نستبدلها بأي ألقاب تانية.
صاحت حنين بحماسٍ: رحيم توابيت أفضل أيه رأيك؟
تحولت عينيه لاحمرار قاتم وصاح من بين اصطكاك أسنانه: متنادليش تاني يا حنين.
وتركها واتجه للخارج فلحق به أخيه، وظلت شجن لجوارها تحاول منع ضحكاتها التي تلاشت حينما وجدتها تصيح بصوت عالي: في لقب أحسن آ...
كممت شجن فمها سريعًا وهي تصيح بها: عدي الخروجة دي على خير يا حنين أبوس إيدك، بلاش تجري شكل رحيم إحنا في رمضان ومش حمل مناهدة.
هزت رأسها تؤكد إليها، فربتت على ظهرها ببسمة واسعة: شاطرة. بينا بقى ليتعصب علينا.
لحقت بها وهي تشير باشمئزاز: انتوا اللي نازلين متأخر مش احنا أيه البجاجة دي متأخر وهيتعصب علينا كمان أهو ده اللي كان ناقص!
بالخارج.
استقبل الحرس الجوكر والاسطورة بفتح أبواب السيارة لهما، صعدوا من كل جهة، ليتفاجئوا بزين ومرين يجلسان على الأريكة المطولة المقابلة لمقعدهما، جحظت عين مراد صدمة وراح يردد: أيه ده؟!
وتابع بنفس الدهشة: مش مارال اللي كانت جاية معانا.
انحنى إليه رحيم يهمس إليه هو الاخر: مرين من أمته بتحب تخرج معانا!
همس الاخير بصدمة: أنا نفسك مصدوم ومش عايز أستوعب لاني لو استوعبت هبتدي أخاف على بناتي الاتنين!
لم يفهم مغزى حديثه الا حينما تساءل بصوت مسموع للصغرين: فين مارال؟
تطلعت مرين لابن عمها بحدةٍ، ومن ثم قالت: زين زعقلها ومخلهاش تيجي يا بابي، زعقلها وطلعها.
انتقلت زيتونيه لابنه تلقائيًا، فكاد مراد بسؤاله المندفع تجاه هذا الصغير المتسلط على ابنته منذ ولادتها ولكن منعه رحيم حينما ناب عنه وسأل إبنه: أيه اللي حصل يا زين؟
جابه أباه بنفس زيتونته الجذابة، وصاح بضجرٍ: بابي حضرتك بتغير على مامي ومسؤول عن كل البنات جوه القصر، يبقى أنا كمان من حقي أغير عليها، نازلة لابسة فستان مبين جسمها ولا محترمة اننا في رمضان ولا إنها خارجة معانا!
وتابع بفخر بقراره الحازم وكأنه رجلًا يبلغ من العمر ما يهيأه لذلك: عشان كده زعقتلها وخليتها تطلع أوضتها.
جحظت عين مراد صدمة، وكز على أسنانه وهو يشير لاخيه بعصبيةٍ: إبعد ابنك عن بنتي يا رحيم أنا لحد الآن هادي وعاقل بتعاملي معاه بس بعد كده هفقد أعصابي وأنت عارفني لما بتحول!
حك جبهته وهو يخفي ابتسامته، وقال برزانة لم تتخلى عنه حتى بضعف موقفه: وماله يا مراد، الولد خايف على بنت عمه ده بدل ما تشكره إنه غيور وبيدافع عن نخوة العيلة قصاد الأغراب!
برق بعينيه وصاح بدهشة: نخوة أيه وغيور أيه، رحيم متستفزنيش دول لسه أطفال أنت سامع نفسك!
غمز له بمكرٍ: الحب في السن ده شيء مفروغ منه اسمع مني أنا خبير!
كز على أسنانه وهو يصيح بغيظٍ: اللهم طولك يا روح.
واتجهت عصبيته للصغير مردفًا: زين إبعد عن مارال ده تحذيري الأخير ليك، انتهينا!
ضحك الصغير وهو يهمس له: هحاول بس مش هوعدك يا إنكل!
ضحك رحيم واستشاط مراد، وخاصة حينما انضمت إليهم زوجاتهما، فجلست كلا منهما جوار زوجها، فمالت عليه حنين تخبره الضربة القاضية: مراد أنا مستغربة جدًا من مرين، عمرها ما قبلت تخرج معانا في مكان، وأول لما عرفت اسم صاحبك اللي ريحنله ده لبست ونزلت على طول!
استقام بجلسته وهو يهمس برعبٍ من القادم على بناته: أهلًا. كده كملت!
انتهى طريقهما بعد دقائق قليلة، لتتوجه سيارتهما الفارهة أمام بوابة قصر الجارحي، فإنفتحت على مصراعيها واستكملت الطريق للداخل وكلا من الفتيات تراقبن الحدائق والقصر بانبهارٍ، حتى انتهت السيارة من طريقها لتتوقف أمام مدخل القصر الداخلي حيث يقف عدي الجارحي وزوجته باستقبالهم، ولجواره صغيره المتآلق ببذلة آنيقة مماثلة لما يرتديها أبيه، فما أن رآها تهبط حتى تهللت أساريره بشكلٍ أذهل من يراقبه من الشرفة، وقد بدى له صدق ما أخبره به عدي، وما كان منه الا ترسخ خطته نحو مستقبل حفيده المقرب!