نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني
انتفضت بفراشها بفزعٍ جعل عروقها تتصلب، فاتجهت نظراتها لزوجها الذي أسرع إليها، فضمها إليه وعينيه تتفحص الجناح في محاولةٍ لكشف مصدر الصوت المزعج، تشبثت مليكة بالتيشرت الخاص به وإرتجف صوتها المردد: ده أيه يا ياسين؟
مرر يده على شعرها المنسدل من خلفها باهمالٍ وهو يحاول احتواء خوفها: متخافيش يا روحي، أنا هخرج أشوف في أيه!
وتركها بالفراش وإتجه للخارج، فاندهش حينما وجد حازم يطوف بالطابق بأكمله ومازالت يده تطرق الوعاء المعدني بكل قوةٍ، وكأنه يدق الدفوف ليعلن عن حربٍ تكاد تفتك بحياة الجميع، اتجهت نظراته المغتاظة للباب المجاور له ومن أمامه يقف عمر عابس الوجه وعينيه لا تفارق هذا الأبله، وكلما مرت الثوانٍ لحق بحضرتهم شابًا أخر حتى خرج الشباب بأكملهم للخارج وأخرهم كان عدي الذي أنهى حمامه سريعًا بعد طرقات عديدة من زوجته المرتعبة من سماع صوتًا كذلك، فاىتدى ملابسه باهمالٍ جعله يتغاضى عن غلق سحاب سترته السوداء، لتطيح عسليته بالمتسبب بتلك الفوضى، والعجيب بالأمر استمراره بالطرقٍ حتى تلك اللحظة، برزت عروق رائد بغضبٍ جامحٍ، فدنا منه ثم جذب عنه الوعاء ووضعه على رأسه ومن ثم جذب منه المطرقة وهوى بها فوق رأسه صائحًا بعصبيةٍ بالغة: الجيران هيطلبولنا البوليس يا حقير!
جذب معتز من المطرقة باستأذن راقي: تسمح؟
منحه رائد المطرقة بصدرٍ رحب، فجذبه معتز إليه وهوى فوق رأسه بها مرات عديدة، مصرحًا له عن خطورة ما أصابه: التقوة غالبة قلبك إنزل صحي الناس في الشارع، إنت هنا في بيت محترم!
رفع حازم الوعاء عنه بصعوبةٍ، فتحركت حدقتيه يمينًا ويسارًا دون توقف تأثرًا بضرباتهم المستهدفة لرأسه، خرجت الفتيات من خلفهم بعد ارتدائهن الإسدال الفضفاض، ليرمقانه بنظراتٍ نارية، ومع ذلك مازال يجاهد بتبرير ما فعله: طنط آية اللي قالتلي أصحيكم، المفروض أمشي على كل الأوض دي وأصحيكم ومش فاضل غير نص ساعة عن الفجر ده أنا لو سوبر مان مش هلحق أصحي غير أربع خمس أوض!
اقترب منه عدي فتراجع للخلف ببطءٍ شديد، وبعد تفكير قصير، صاح يذكره: إحنا في رمضان والمسامح كريم!
لف يده حول رقبته ساحبًا قبعة التيشرت الخاص به، ثم لفه حول يده مرددًا من بين اصطكاك أسنانه: بجتهد إني أحترمك وخصوصًا إنك مبقتش صغير وبقى عندك أولاد طولك بس للأسف بتخرجني عن طور هدوئي وبتخليني أنحرف وأنا أساسًا جوايا عرق بلطجة!
ابتلع حازم ريقه بصعوبة بالغة، وهوى بالوعاء إليه عل الهواء البارد يزيح عصبيته البالغة، قائلًا بصوتٍ خافت: استهدأ بالله وإنزل كل زبادي هيطري على قلبك!
تحولت عسليته للبني القاتم مما زاد من رعب الأخير، فمال برأسه لمن يقابله بنظرةٍ حانقة، وردد بنبرة مثيرة للشفقة: أحمد أنا أخوك!
زم شفتيه بسخطٍ اتبع نبرته: أنت ابتلائي في الدنيا!
وأطلق نظرة خاطفة لعدي ليأمره بجحودٍ: مش عايز أسمعله صوت ال29 يوم الباقين، ده هيخلي صيامنا يضيع.
ردد باستنكارٍ: ليه إزازة خمرة!
توقف المصعد أمام الطابق المخصص للشباب، فاتجهت جميع الأعين في استعداد لرؤية القادم، صعقوا جميعًا حينما خرج ياسين من المصعد واتبعه بحيى، فصاح بغضبٍ تراقص بين ثبات نبرته: أيه الدوشة دي؟
افترس الصمت الوجوه، فصاحت داليا بحنقٍ: آسر يا عمي بيصحينا للسحور بالحلة!
تلقائيًا اتجهت عينيه لتلتقط ما يحمله هذا الأحمق بيده، فارتفعت نظراته لتحيط بعينيه المرتعبة من ترقب مصيره، ومررها ببطءٍ ليد عدي القابضة على عنقه، زوى حاجبيه بنفس الحركة التي ورثها عنه عدي، وقد هاج الغضب بمقلتيه، ومع ذلك حركة جسده مازالت رزينة صارمة بتحركه للدرج، ظن حازم بأنه نفد حينما رأه يتوجه للهبوط للأسفل بصحبة يحيى الذي يمنحه نظرة محذرة من إعادة ما فعله، فتوقف قلبه حينما عاد خطوتين للخلف حتى بات قبالتهما بالتحديد، ونصبت عينيه تجاه عدي متلفظًا بدقةٍ كلمته: دلعه!
إشارة صادمة للجميع وسعيدة لملامح الوحش الذي هز رأسه في حبورٍ: عنيا يا باشا!
استكمل طريقه للأسفل بينما استكمل عدي ما يفعله، فسدد له لكمة أحاطت بعينه وهو يصيح بانفعالٍ: مش هسيبك الا لما تعقل، البرود اللي حاولت إتمسك بيه من نحيتك طول السنين دي نزعته بإيدك.
تأوه بألمٍ وردد ببسمة مصطنعة: نركبلك لوح تلج جديد يا باشا ولا يهمك.
واتجهت نظراته لابناء عمه مستنجدًا: إلحقني يا معتز.
عاد بجسده للأريكة، يتابع ما يحدث له دون مبالاة، فاتجهت نظراته لآخر منهم: جاسم متبقاش واطي زي أخويا.
رفع شفتيه بازدراء: تستاهل كل اللي يجرالك عشان بعد كده تستخدم عقلك اللي مالوش وجود في حياتك ده!
تعالت ضحكات الفتيات، وبدأت حفلة مشاكستهن، فقالت شروق: والله صعبت عليا يا حازم وشكلي هتوسطلك عند عدي.
اعترضت مروج برفضٍ قاطع: لأ يستاهل اللي جراله أنا اترعبت وقولت القيامة قامت!
ضحكت نسرين وهي تشير بشماتةٍ: والله حظك من السما النهاردة أنكل ياسين بنفسه اللي مشدد بعقوبتك يعني مالكش منفذ!
حاول تحرير ذاته من قبضة عدي، وصاح بها بتريثٍ: أنتي فرحانه فيا بقى ده أخرتها!
ابتسمت رانيا وتدخلت بقولها: خلاص يا عدي سماح المرادي.
أضافت مليكة بجوعٍ: سيبك منه يا عدي وخلينا نلحق السحور قبل ما الفجر يأذن.
ابتسامة ماكرة لاحت على شفتيه، فقربه إليه ليستمع لعقابه: هما عندهم حق، بس عقابك بقى ممنوع أشوفك على السحور لمدة أربع أيام، عشان لما تقدر نعمته تحترم كل ما يخصه!
برق بعينيه بصدمةٍ، وكأنه يخبره بأنه سيحرم من الطعام مدى الحياة، فردد بدهشةٍ: أنت بتهرج، إزاي يعني متسحرش وأشربلي ازازة ميه ده أنا أروح فيكم في داهية!
بحزمٍ أجابه: اللي عندي قولته!
وحل وثاقه مشيرًا للجميع بالهبوط للأسفل، واتبعهم وهو يشير باصبعيه على عينيه مردفًا: لو لمحتك تحت هعلقك في نفس الفانوس اللي قطم ظهرك في تعليقه!
بلل شفتيه بلعابه بقلقٍ من ذاك التهديد، فحاول اللجوء لأخر طريقة لاستمالته: يعني هيهون عليكم تسيبوا أخوكم جعان!
استند ياسين على درابزين الدرج، وأشار له ببسمة واسعة وهو يضع بين يده بوادر عملته المخزية: معاك مغرفة وحلة يمكن ينفعوك زي ما ساعدوك بالازعاج الراقي اللي حصل من شوية.
وتركه الجميع وهبطوا للأسفل، بينما توجه أحمد لجناحه الخاص وعلامات الصدمة تحتل وجهه مما دفع جاسم ليتبعه بقلقٍ من الحالة التي سيطرت عليه فجأة دون سابق إنذار!
وقف بجناحه الخاص وبالتحديد قبالة فراشه، يلقي نظرة منصدمة لتلك التي تنعم بنومٍ دافئ، لا تشعر بالمدفع الذي وصل صداه ليوقظ جيرانهم على بعدٍ كبيرٍ، ومازالت تغفو بأريحيةٍ تامة، أصعب من مهمته كل رمضانٍ بحملها هي لحظة إفاقتها للسحور، طوف أحمد جبهته بيده يفركه برفقٍ، ومازال يحاول التفكير بسياسيته التي سيتبعها بتلك اللحظة لايقاظها، فقطع صمته الرزين صوت جاسم المتساءل بريبةٍ: أحمد أنت كويس؟
منحه نظرة هادئة عكس توتر حركة جسده مما دفع الأخير ليتساءل: أمورك تمام ولا أيه؟!
منحه ابتسامة خبيثة قبل أن يتجه للخزانة، فجذب منها تيشرت، وأشار له: صحي آسيل عما أغير هدومي.
ضم حاجبيه وأخبره بذهولٍ: هي ازاي مصحتش بعد المهرجان اللي حازم المسحراتي عمله!
ابتسامة ساخرة ارتسمت على محياه، فهز الأخير رأسه بحيرةٍ ومازالت الدهشة تعرج لقسماتٍ وجهه، فانحنى تجاه الفراش بقامته في محاولةٍ لايقاظها، لا يعلم كم مرةٍ ناداها بالتحديدٍ، ولكنه تخطى تلك المرحلةٍ ليلكزها بعنفٍ وهو يصيح بها: أنتي شاربة منوم! آسيل!
صراخه الشبيه للازعاج الذي تسبب به حازم منذ قليلٍ لم يجدي نفعًا بتاتًا، ومع فشله للمرة الثانية جذبها بكل قوته إليه وهو يرطم وجنتها بغيظٍ: قومي يا بنتي الفجر خلاص هيأذن؟
فُتح باب الحمام وخرج منه أحمد يجفف خصلات شعره بمنشفة صغيرة يحملها بين يده، فأبعدها وهو يراقبه بسخطٍ، كان يحمل علامة مؤكدة بفشله الذريع بإيقاظها، ومع ذلك أحسن الظن، فمنحه نظرة عابسة ليبادله الاخير بوجومٍ قاتم اتبعه بتعليماتٍ طرحها إليه: اتصل بالدكتور يا أحمد، أنا ابتديت أقلق عليها.
انحنى للسراحة جاذبًا مشطه الخاص، وأخذ يصفف شعره بعنايةٍ قائلًا بفتورٍ: متقلقش أختك اللي نومها شبه الأموات.
وزع نظراته بينه وبينها بتعجبٍ، ختمه بقوله المستنكر لتلك الحقيقة: بجد! بس آسيل مكنش نومها تقيل!
هز رأسه بخفةٍ، وأجابه باستهزاءٍ: طول عمرها كده بس بعد الجواز والخلفة زادت.
ضم شفتيه معًا بحيرةٍ: طب دي هنصحيها إزاي.
ابتسم وهو يجيبه بثقةٍ: لا متقلقش أنا اتعودت وبعرف أتعامل!
راقبه جاسم باهتمامٍ، فوجده يحملها عنوة بين ذراعيه، ثم إتجه بها للحمام المقابل إليه، ليساندها إليه لحينما يحرر الصنوبر، ومازالت غافلة على صدره بالرغم من حركة جسدها الغير مريحة للنوم بالمرةٍ، مرر أحمد يده بالمياه على وجهها مرارًا حتى بدأت تستجيب إليه قليلًا، فرددت بتيهةٍ وكأنها كانت فاقدة للوعي: بتصحيني ليه يا أحمد، عايزة أنام!
رفع بصره لمن اقترب ليراقب ملامحها بعدم تصديق، ليخبره ببسمة صغيرة: لسه مفاقتش.
وعاد ليجذب المياه لوجهها مجددًا حتى فتحت عينيها، فطوفت كتفيه بذراعيها وقابلته ببسمةٍ مهلكة لجوارحه، وصوتها الخافت يردد برقةٍ: صباح الخير يا حبيبي.
حمدلله على السلامة ياختي، ده لو ميت كان زمانه حس بينا!
جحظت عينيها بفزعٍ، واستدارت بوجهها للصوت المجاور لها، فابتعدت عن أحمد بارتباكٍ حينما وجدت أخيها يقف قبالتها ويمنحها نظرات يشع بها الضيق، فتحرر لسانها الثقيل مرددًا: جاسم أنت هنا من أمته؟
لوى فمه بتهكمٍ: من بدري وشوية والفجر هيأذن وهدعي عليكي طول النهار وأنا صايم ودعوتي مش هتترد بإذن الله.
تطلعت لاحمد بعدم فهم لما يقول، فأشار لها مرددًا: البسي الاسدال عشان ننزل معتش وقت.
أومأت برأسها وتركتهما وولجت للخزانة ترتدي اسدالها، فمال جاسم على أحمد المستند على حافة الاريكة بإنتظارها، فحك مقدمة أنفه بتوترٍ وهو يجاهد لخروج كلماته: بقولك يا أحمد.
تركزت نظراته المهتمة إليه، فتابع الأخير حديثه بشفقة حملها لابن عمه الملاك من وجهة نظره: ما تطلقها وإخلص من الذنب ده!
هم عمر بحمل الأطباق من والدته، ووضعها على الطاولةٍ، فقام ياسين بتوزيع سلطة الزبادي بالخيار على الأطفال، مرددًا ببسمة واسعة: متنسوش الزبادي بالخيار مبيعطش!
أجابه مازن ساخرًا: متضحكش على الأولاد، كده كده هيعطشوا.
رد عليه عز وهو يغمسُ لقمته بالعسل الصافي: الشعور بالعطش والجوع جزء من أساسي من ثواب الصيام يا مازن.
تساءلت مريم بحيرةٍ وهي تستكمل تناول طعامها: بابي هو مش ربنا حنين علينا وبيحبنا، طب ليه بيعذبنا طول اليوم من الجوع والعطش؟!
انتقلت النظرات لرائد الذي ترك مقعده وإتجه لأخر الطاولة الضخمة حيث يجلس الصغار، فجذب المقعد المجاور لها ثم مسد على ظهرها بحنانٍ اتبع نبرته الهادئة: ربنا سبحانه وتعالى عادل ورحيم يا مريم، الصيام سببه إننا نحس بالناس الغلابة اللي مش لاقية تأكل ولا تشرب، الصيام درس لصحاب القلوب الجاحدة لو في وقت شافوا بعنيهم حد محتاج يمكن الجوع والعطش اللي جربه بصيام يوم واحد بس يخليه يحس بجوع الانسان اللي قدامه.
انتقل عمر بمقعده جالسًا جوار ياسين ورحمة مسترسلًا حينما وجد الصغار تتابع حديث رائد باهتمامٍ، وكأنه يحمل الجواب على أسئلة لا حصر لها داخلهم، فقال: ربنا عز وجل لما أمرنا بالصيام كان للسبب اللي قاله رائد إننا نحس بغيرنا، وكمان الصيام في حد ذاته مش امتناعنا عن الأكل والشرب بس.
قوس خالد عينيه وتساءل بعدم فهم: أمال عن أيه؟!
رد عليه بابتسامةٍ بشوشة: غض البصر وعدم ارتكاب أي معصية، ربنا عز وجل منحنا الشهر ده عشان نحاول نفوق ونبعد عن معصيته، يعني الانسان العاصي اللي مكنش بيصلي مش هيهون عليه صيامه يضيع بسبب اهداره للصلاة أو مثلًا صيامه يضيع بسبب شتيامه أو أفعاله اللي مش كويسة بصفة عامة، يمكن رمضان يكون بداية توبته بعد ما يحط الصيام وأجر اليوم في حساباته، فيطلع من الشهر المبارك ده شخص تاني!
أضاف عدي موضحًا نقطة هامة قد يختلط على الصغار فهمها: بس ده ميمنعش إن العبادة المثالية تكون برمضان بس، عبادة ربنا طول أيام السنة واجب ولابد منه، بس زي ما عمر قال في أشخاص بيكون رمضان بداية لتوبته وفي أشخاص ربنا نزع عنهم رحمته لا فارق معاه رمضان ولا أي شيء يساعده بالرجوع عن المعصية.
ارتسمت ضحكة مماثلة ارتسمت على جميع الوجوه المحاطة للحديث المتبادل بين الشباب والاطفال، فانتقلت عينيه تلقائيًا لها، تلك التي كان لها الفضل بعد الله عز وجل لزرع تلك القيم بنفوس أولاده وحتمًا ستوارث لاحفاده مثلما يرى برمة عينيه، رفعت آية عينيه إليه باستغراب من بسمته الهائمة بها، منحته ابتسامة خافتة وهي تناوله كوبًا من المياه كما ظنته يحتاج، فتعمد ملامسة يدها المحاطة للكوب برفقٍ، تلك اللمسة التي تعمد بها أن يمسد على أصابعها أشعرتها وكأنه يضمها لأحضانه، يقربها من قلبه المتملك، نظرة. همسة. لمسة يدها. القليل منه يكفي، اهتمامه القابع بمقلتيه حتى وإن عجز لسانه عن شرحه لها.
مازال الحياء يورد وجهها كسابق عهدها، من قال أن الشيب يفني جمال المرأة، من يعشق يرى جمال الكون برمته بعين زوجته، حتى لو لم تمتلك جمال عارضات الأزياء والممثلات اللاتي يبذلن مجهودًا وثروة لتبدو صغيرات سننًا، الجمال الحقيقي يكمن بامتلاك قلبًا وروحًا ستدوم معك للأبد، حتى وإن ذبل الجسد والوجه ستظل هي رفيقتك إلى أن يفرق الموت بينكما!، لم يستاء ياسين يومًا من عدم اهتمامها بفعل المحال ببشرتها لتعود صغيرة بالسن حتى وإن حرص هو على ممارسة الرياضة وإتباع الأكل الصحي الذي يحافظ على جسده وصحته فيبدو أصغر من عمره الافتراضي، يجدها رقيقة، سيدة نساء كونه، زوجته ومعشوقته للرمق الآخير!
سحبت يدها منه على استحياءٍ، فتقبل حرجها قبالة عائلته، لذا لم يخفض كوبه الا وأرتوى منه، فكيف لا يفعلها وهي من قدمته لها بذاتها، إنضم أحمد وآسيل وجاسم لهم، فابتسمت نور مرددة بمرحٍ: دايمًا كده يا آسيل بتكوني أخر الناس على السحور وأولهم على الفطار!
جلست على المقعد تفتح عين وتغلق الأخرى، فدفع معتز طبق الجبن والشطائر قبالتها برفقٍ، قائلًا بمزحٍ: خدي لحسن تقضي سحورك كله مخلل بتوهانك ده.
تعالت الضحكات بينهم فحملت شذا بعض الطعام إليها، وربتت على خصرها مردفة بحنانٍ: صباحك فل يا حبيبتي.
منحتها ابتسامة هادئة وتناولت طعامها ونظرات أحمد تحيط بها، جذب عدي طبقًا فارغًا فسكب به الجبن وسلطة الخضار، وغيره من الطعام ثم قدمه لنسرين هامسًا لها بحرصٍ من عدم سماع أحدٌ له: اطلعي لحازم خليه يتسحر قبل الآذان.
وضعت كوب العصير عن يدها وتناولت منه الطبق بابتسامة هادئة، من يمتلك قلبًا رقيقًا متغلفًا بملامح صارمة وأوامر لا تحتد نقاشًا سواه، أومأت برأسها وإتجهت للمصعد، بينما مال ياسين إليه ليخبره بخبثٍ: مش محتاج توطي صوتك احنا عارفين إن قلبك رهيف يا وحش!
منحه نظرة مغتاظة فكبت ضحكاته وهو يشير له بكوب العصير: اشرب العصر قبل ما الفجر يأذن!
بالأعلى.
ولجت لجناحها تبحث عنه لتقدم له الطعام قبل آذان الفجر، فصعقت حينما وجدته يجلس قبالة البراد الصغير لغرفة نومهما، واضعًا من أمامه أطباق الفاكهة والتسالي وغيرها من العصائر، ورأسه مغموس بثمرة البطيخ، يلتهمها بطريقة مقززة جعلتها تشعر بالتقيء، والادهى تردديه الساخر: فاكرني هتأثر يعني بالعقاب ده، ولا بيهمني!
وعاد ليدفن رأسه بين لحم البطيخ، ينهشها كالذئب المنقض على فريسته، وهو يسترسل حديثه الساخر مع ذاته: لأ وياسين الجارحي بيتفق مع ابنه وبيقوله دلعه، وماله مأنا بدلع نفسي أهو مش محتاج توصية!
تمكنت أخيرًا من استرداد صوتها المنسحب عنها بصدمةٍ، فصاحت بغضبٍ: كان حقه يأمر بقطع رقبتك عشان إنت انسان عديم الاحساس!
استدار برأسه الخلف بعدما اِلتقطت آذنيه هذا الصوت المألوف، فوجدها تضع طبقًا تحمله على الطاولةٍ، وتدنو منه بغضبٍ يقتاد بحدقتيها، مشيرة بيدها على ما حوله: أيه اللي أنت عامله في الأوضة ده، أنت مصاص دماء صح؟
رد عليها بحيرةٍ: يمكن، لما بجوع بقلب بعد عنك.
وأشار برأسه تجاه الطاولة متسائلًا بفضولٍ: معاكِ أيه وريني!
كانت الأسرع الطبق منه، فحملته وهي تصيح به: مش هتأخده الا لما تنضف الفوضى اللي عملتها دي يا حازم، وده أخر كلام!
حك رأسه بتفكيرٍ، فوجد بأن طاعتها أمرًا مثاليًا، لذا جمع الأغراض وأعادها للبراد مجددًا، ومازالت تراقبه بدهشةٍ، ينصاع لأمره ليتناول ما بالطبق بالرغم ما تناوله من كمياتٍ تكفيه لصيام رمضان بأكمله، ومع ذلك مازال يعيد تنظيف المكان وهو يلوك أحد قطع الشوكولا الباهظة، وفجأة تصلبت عروقه وفتح فمه بما يحمله حينما صدح صوت الآذان، فألقى ورقة الشوكولا من يده وكأن أحدًا سيكمشه يحملها فيظنه كسر صيامه، وأشار لها بريبة: أبلع ولا أجري على الحمام!
كبتت ضحكاتها على مظهره الطفولي، ومع ذلك تماسكت بقولها الجادي شفقة لما أصابه: إبلع عادي يا حازم ربنا مبسطهالنا!
ابتلع ما بجوفه واتجه لحمام الجناح مرددًا بضيقٍ: مش عارفة تيجي بدري شوية! يلا أروح أتوضى عشان ألحق صلاة الفجر!
ما أن ولج للداخل حتى انفجرت ضاحكة على كلماته التي لا تليق بعد حفلته الفارهة بالطعام!
بالأسفل.
خرج الشباب لأداء الصلاة بالمسجد، بينما قامت داليا وشروق والفتيات بتنظيف الطاولة، فتسللت رحمة الصغيرة بيد آية ووالدتها للخارج من خلفهما، فأشارت آية لزوجة ابنها قائلة: يلا ناديله.
مالت إليها تهمس باستنكارٍ: مش اتفاقنا إن حضرتك اللي هتقوليله يا ماما.
برقت آية بعينيها بدهشةٍ مخادعةٍ: حصل أمته ده!
وزعت رحمة الصغيرة نظراتها الحائرة بين والدتها وجدتها بضجرٍ من نقاشهما الذي ما أن سينتهي سيكون أبيها وجدها خارج القصر، فنادته نيابة عنهما: بابي!
تحولت نظراتهما إليها ومن ثم إلى عدى الذي استدار ليجدهما يتبعانه للحديقة، فاستأذن من الشباب وعاد يتساءل بريبةٍ: واقفين كده ليه يا ماما؟
أشارت بيدها ببسمة واسعة: رحمة عايزاك.
جحظت الأخيرة عينيها بصدمة من تخليها السريع عنها، فزوى حاجبيه وهو يوزع نظراته بينهما باستمتاعٍ، لينهى تلك الحرب الباردة بينهما: في أيه؟
تنحنحت الصغيرة لتجيبه: عايزين نروح معاكم المسجد يا بابي.
أخفض نظراته لتلك لصغيرته الفاتنة، التي لا تحمل منه سوى عسليته، ملامح وجهها بأكملها تشبه تلك التي تسكن قلبه بتمكنٍ، فمرر يده يخفي تلك الخصلة المتمردة من أسفل حجاب اسدالها المحاط بورودٍ كالتاج الذي يزينه، طابعًا قبلة على خدها وهو يردف بحنانٍ: هاخدك معايا وهستناكي تحت قدام مصلى السيدات.
وحملها وانطلق للأسفل بعدما أطلق كلماته الخبيثة التي جعلت زوجته تصيح بضيقٍ: قالتلك نروح يعني الطلب جماعي يا سيادة المقدم!
استدار تجاههما مجددًا ليمنحهما نظرة ثابتة لا تحيل عنهما، وصرح: مش الباشا الكبير مصرح إن الصلاة ليكم تكون بالبيت وده الأصح!
تمردت آية على صمتها تلك المرةٍ حينما قالت: عارفين طبعًا الكلام ده، بس أنا ورحمة حابين نخرج نشم هوا نضيف، وأنت عارف الجو بعد الفجر بيكون نقي وبالأخص في رمضان تحسه ريحته مسك كده.
ابتسم وهو يتابع حديثها، فترك صغيرته عن يده وأشار لها بالذهاب لعمر الذي يشير لها خارج البوابة الخارجية للقصر، بينما دنا هو منها ليسألها بخبثٍ: ماما إنتِ عايزاني أواجه ياسين الجارحي بحرب تانيه؟
أفلتت بسمة خافتة على شفتيها وهي تشير له بتأكيدٍ، وكأنها تستغيث لوالدها بالدفاع عنها أمام أستاذها البغيض، تعالت ضحكات عدي وردد بمكرٍ: وأنا اللي كنت فاكرك سعيدة بحالة السلام اللي بينا!
وضم يده لصدره وهو يشير لها: بينا نواجهه مع بعض وربنا يستر!
تعلقت آية بذراعه واتبعتهما رحمة بسعادةٍ، لتوقفها نور التي تعلقت برقبتها تعاتبها بسخطٍ: كنتوا هتمشوا من غيري!
ردت عليها باستهزاءٍ: شايفانا أخدنا الأذن، واحد وافق لسه التاني.
تساءلت وهي تخطو جوارها بمحاذاةٍ: مين وافق ومين لسه؟
ابتسمت وهي تخبرها بالمتبقى: ياسين الجارحي.
صمت شفتيها معًا وهي تردد بيأس: يبقى الموضوع كبير!
تفاجئ ياسين بخروج زوجته برفقة عدي للخارج، فتساءل وهو يوزع نظراته المشككة بينهما: خير؟
منحه عدي نظرة مطولة، ثم ضمها إليه واستدار بها بعيدًا عن ياسين الذي يحاول استكشاف ما يود ابنه الشرس فعله تلك المرةٍ بعد محاولاته المستميتة لترويضه، انحنى عدي لطول والدته القصير عن قامته الطويلة، ليخبرها بعقلانيةٍ جعلتها لا تصدق ببداية الأمر: بصي يا حبيبتي أنا كده كده معاكِ وفي دهرك وحضرتك عارفاني مبيهمنيش حد، بس أعتقد إنك لو اتكلمتي معاه أنتِ مستحيل يرفضلك طلب، أنا لو عملت كده هيفكرني رجعت أتحداه من تاني!
رفعت أحد حاجبيها بذهولٍ: تفتكر؟
أومأ برأسه مؤكدًا، فمنحته ابتسامة هادئة ثم استدارت تجاه ياسين الذي يتابعهما واضعًا يده بجيب سرواله القماشي وعينيه لا تفارقهما، فما أن اقتربا منه حتى صاح بوجومٍ: بتخططي لأيه أنتِ وابنك المرادي!
رفعت كتفيها ببراءةٍ مصطنعة، فتسلطت عسليته لشبله طارحًا السؤال القادم إليه: كلتا آذني صاغية. اتفضل!
ابتسم وهو يشير لزوجته: ده موضوع خاص بيكم أنا ماليش أتدخل بيه، يلا يا حبيبتي هيقيموا الصلاة.
أسرعت رحمة ونور خلفه ومازال ياسين يقف محله يراقبه بغموضٍ، انتقل لزوجته التي ما أن تأكدت من رحيله حتى حررت ضحكاتها التي سيطرت عليها بتحكمٍ، فابتسم ياسين وهو يراقبها بنظراته العميقة بعدما تسلل إليه مفهوم ما حدث بينهما، فقال بصوته الرخيم: أقنعتيني إنك جاية معايا المسجد إنتي والبنات وعملتي حوار على ابنك، أفهم أيه أنا من لعب العيال ده؟
ضحكت حتى أدمعت عينيها، وأخبرته بدهشةٍ: كنت بحاول اقتنع ان عدي إتغير بس دلوقتي اقتنعت.
اقترب منها وأبعدها بذراعه عن الطريق لتخطو محله ويصبح هو خارج الطريق، فاتجهوا معًا للمسجد القريب من القصر وهو يشير لها: سامعك!
بدأت بقص ما حدث إليه وخاصة بحديث عدي العقلاني، فابتسم وفاه براحةٍ: ابتدى يفهم!
ردد الإمام الآذان بصوته الخاشع ومن بين تردده نطق جملة تقشعر لها الأبدان من لذة معناها
«الصلاة خيرًا من النوم. الصلاة خيرًا من النوم».
تلك اللذة التي تداعب قلوب من يهم فجرًا لقضاء فرض الله عز وجل، الا يكفيه بأنه في معية الله وحفظه طوال اليوم، رزق الله على العبد لا يعد بالثروة والمال، رزقه يكمن بصلاته، محبته تكمن باستيقاظك ليلًا حينما يرحل عنك النوم وتقرر بتلك اللحظة قضاء صلاة القيام أو الفجر، عز وجل أرادك أن تهم إليه تدعوه بما يضيق صدرك، يريد سماع صوتك، يريدك مهرولًا إليه وإن كنت تقدمت إليه شبرًا يقترب منك ذراعًا.
انتهت الصلاة وخرج الرجال من المسجد أولًا لإتاحة خروج غير محرج للنساء كما اعتادنا نحن العرب، أمر ياسين الشباب بالعودة للقصر ووقف جانبًا بإنتظار حفيدته وزوجته وبناته، فوجد عدي ينضم إليه بتلك الزواية البعيدة عن مخرج السيدات ويراقبه ببسمةٍ هادئة، فبادله ياسين نفس الابتسامة بعدما قرأ بعينيه ما يود قوله، فتحرر عن خبثه معلنًا عن كشفه: شكل تعليمي ليك طول الفترة اللي فاتت مرحش هدر!
ابتسم عدي وهو يشير لذاته بإطراءٍ وغرور: أنا طول عمري ذكي بس حضرتك مش مدي نفسك فرصة إكتشاف شخصيتي.
وانحنى ليهمس له ببعض الغيرة التي تعمد ابرازها عن عمد: التفاهم والحنان كله رايح لحفيدك.
ضحك بصوتٍ مسموع، وسأله بجدية رغم مرح الاجواء بينهما: بتغير من ياسين يا عدي!
التفت خلفه يتفحص انشغال صغيره برفقة عمر، وعاد ليجيبه: بغير طبعًا لما بشوفكم متفاهمين ومفيش مشاكل بينكم.
رفع أحد حاجبيه بذهولٍ: وأيه المشاكل اللي بيني وبينك؟
أجابه ببسمةٍ خببثة وقد وصل لمغزاه: بصراحة أنا بمهد لسفري.
تقوس جبينه بدهشةٍ: سفر أيه؟
رد عليه عدي بوضوحٍ: في مهمة مطلوبة مني أنا ورحيم ومراد، هسافر عشر أيام وأكيد بجمعتنا مستحيل تفشل، فلما أجي أتكرم المرادي من الادارة عايز حضرتك تكون موجود معايا وجنبي.
تأمله بنظرة طاف بها الحزن، هل كان يوده مشاركته تلك اللحظات من قبل!، كيف غفل عن تلك الاحداث؟، لم يسبق له يومًا الاهتمام بحضور حفل تكريمه ولم يسبق له التفكير بهذا الاساس، كل ما يتذكره مشاركته الدائمة مع عمر بالمشفى وبأي مشروع خيري يقيمه لرغبته بالتقرب من الله عز وجل، رفع ياسين يده على كتفه يحثه ببسمة هادئة: المرادي هتلاقيني بهنيك وسط زمايلك وأنا فخور بيك، أوعدك بده!
ارتسمت بسمة حماس على وجهه، فاستطاع ياسين رؤية فرحة طفولية ترفرف داخل عينيه بالرغم من خشونة قوامه الرجولي، فعلقت كلمات آية بذهنه حينما أخبرته
« مهما كبر الأولاد واتحملوا من مسؤوليات بيحتاجوا لوجود الأب والأم جنبهم، يحمسه ويقوله برا?و أنا فخور بيك وباللي بتعمله، كلنا بالنهاية بنحتاج لكتف حنين! ».
قطع شروده احتضان حفيدته له، فتراجع جسده الساهم خطوة للخلف، ثم عاد يحملها بين ذراعيه وهو يسألها باهتمامٍ: صليتي ولا لعبتي بالمسجد يا رحمة؟
أشارت برأسها تؤكد: صليت مع مامي وطنط نور.
ضمها لصدره بحنانٍ، ومن ثم مال بها لعدي الذي التقطتها واتبع خطى رحمة ونور للقصر، فحافظ على المسافة بينهما، بينما انضمت آية لياسين الذي مازال شاردًا بابنه الذي يبتعد عنه رويدًا رويدًا، فرددت بقلقٍ: سرحان في أيه يا ياسين؟
استقام بوقفته وهو يجيبها: أبدًا.
وأشار بيده: يلا نرجع القصر.
خطت جواره ببطءٍ شديدٍ جعله يستدير إليه بتعجبٍ، فأبطئ من خطاه أكثر من مرةٍ حتى يكون على محاذاة خطاها، وفجأة توقف عن المشي وهو يردف بتذمرٍ: آية إنتِ مش عايزة ترجعي البيت صح؟
لعقت شفتيها بإرتباكٍ، ومن ثم اعترفت إليه: بصراحة حابة أشوف الشروق، أنا مش بخرج كل يوم ومستحيل أفوت الفرصة دي يا باشا.
دنا منها وهو يراقب السماء ببعض الضجر، وعاد ليسلط عسليته إليها مردفًا بتفكيرٍ: وهنقعد فين لحد ما ده يحصل!
استطرد بعدم تصديق: الشارع!
هزت رأسها تؤكد له ببسمة واسعة، مشيرة على المقاعد المتطرفة على جانبي الطريق، فهز رأسه ضاحكًا: ما كفايا الامتيازات اللي حصلتي عليها، لسه عايزة تعملي فيا أيه تاني!
ترجته بخبث الانثى المغرية التي تخفيها كل امرأة لوقت ضرورتها: عشان خاطري يا ياسين!
خطى لجوارها باستسلامٍ تامٍ حتى جلس على المقعد يراقبها وهي تراقب السماء بحماسٍ، وصوتها الخافت يهمس: سبحان الله!
تتابع السماء بانبهاءٍ بينما هو يراقبها، شاردة في ملكوت الله وعظمته وشاردًا هو في إبداعه في خلقها، لكلٍ منهما شروده وواديه الخاص، وبالنهاية يجمعهما مقعد واحد بشوارع المنطقة الراقية القابعة بها قصر آل الجارحي!
ولج أحمد لجناحه، فخلع عنه سترته ووضعها على مشجبه الخاص، ثم إتجه لغرفته فبرق بعينيه بدهشةٍ حينما وجدها تجلس على الأريكةٍ وبيدها مصحفها الشريف، فما أن شعرت به حتى صدقت ورددت ببسمة مشرقة: أنت رجعت يا حبيبي؟
زم شفتيه باستهزاءٍ: فوقتي من الغيبوبة الحمد لله.
تجعد جبينها في محاولةٍ لفهم مقصده، فقالت: آه فوقت من النوم عشان الورد القرآني بتاعي، أنا بحب أصحى طول اليوم في رمضان وأعمل كل شيء بالنهار لاني بليل بسافر دنيا تانية.
جلس على طرف الفراش ونظراته المغتاظة مازالت تحيطها، فهمس بوجومٍ: صيام من كله!
وتابع بغيظٍ: هونها ال30يوم دول يا رب!
نهضت عن الاريكة واقتربت منه وهي تتساءل: بتقول حاجة يا أحمد؟
منحها بسمة مصطنعة يرسمها بالكد، وزحف بجسده ليصل لمقدمة الفراش متمتمًا: ولا حاجة.
اتجهت إليه، فرفعت عنه الغطاء باستغرابٍ: هتعمل أيه؟
أجابها ببسمة ساخطة: هتقتل زيك في عندك مانع!
انكمشت تعابيرها غضبًا لطريقته الغريبة بالحديث، فأشرأب بعنقه لها وهو يعيد رسم تلك البسمة السمجة: متستنزفيش روح الملاك اللي جوايا، لسه طريقنا طويل مع بعض لنهاية الشهر، روحي كملي با حبيبتي أنا هريح شوية!
أدلت شفتيها بتعجبٍ من حديثه الغير مفهوم لها بالمرةٍ واتجهت للاريكة مجددًا ومازالت نظراتها تحيطه بدهشةٍ.
بجناح ياسين.
وجدها تغفو بسكينةٍ لجوار ابنته الرضيعة، اقترب منها ياسين وحمل عنها الصغيرة ثم أعادها للسرير الصغير الموضوع بجانب الغرفة، هامسًا بحنوٍ وهو يفرد الغطاء عليها: تصبحي على خير يا ملاكي!
وإتجه للفراش فجلس باستقامةٍ ثم جذب مصحفه الشريف بتابع قراءة ورده اليومي لدقائقٍ متتالية، مستغلًا ذاك الهدوء الطابق على الجناح، ولم يدوم طويلًا حينما انتفضت مليكة بنومتها وعينيها لا تحيل عنه بغضبٍ قاتل، لدرجة أرعبته فسألها: في أيه؟
أشارت للقرآن الكريم بحزنٍ: إنت بتخون الاتفاق اللي بينا يا ياسين، عايز تسبقني!
تهدلت معالمه باسترخاءٍ، ومنحها بسمة خافتة: وماله يا حبيبتي ما أنا هنزل المقر كمان ساعتين وهسيبك تقري أكيد هتسبقيني بردو!
كشرت عن أنيابها وسحبت منه المصحف واضعة إياه على الكومود، ثم هرعت أمام نظراته للحمام وخرجت بعد أن أتمت وضوئها لترتدي اسدالها سريعًا وتعود للفراس مشيرة له: خليك مكانك هقرأ اللي سبقتني فيه ونكمل مع بعض.
وجذبت الغطاء على قدميها وهي تخبره بحماسٍ: لازم نختم القرآن المرادي أكتر من عدد الشهر اللي فات.
منحها نظرة هادئة وهو يتابع احكام يدها على المصحف الخاص به، فقال: على أساس أني مش حافظ القرآن.
اعتدلت إليه بجلستها مرددة بحزن واستياء: ماشي يا ياسين، إنت معندكش اتفاق عادل.
ابتسم وهو يخبرها بعتابٍ: رمضان اللي فات ختمتي مرتين أكتر مني ومكنش في منافسة شريفة ولا نسيتي.
ردت عليه تبرر فعلتها: أنا أسبقك أنت لأ، يهون عليك ازاي تأخد حسنات أكتر مني!
رفع أحد حاجبيه بدهشةٍ من حديثها، فلمعت عينيها بدمعٍ استحضرته بكل طاقتها: مش هتكون ثقتي فيك يا ياسين صح؟
تعالت ضحكاته بعدم تصديق لما يحدث، فجذب الوسادة وتمدد جوارها مشيرًا لها بحبٍ وهو يغلق عينيه: اقري بصوت عالي، بحب أسمع صوتك في التلاوة.
أومأت له بحماسٍ، وبدأت ترتل القرآن بصوتها العذب والأخر يستمع لها باستمتاعٍ حتى غفاه النوم على صوتها المحبب إليه.
بغرفة عمر.
جابت الغرفة ذهابًا وإيابًا في محاولةٍ بائسة ليغفو صغيرها، وحينما فشلت بذلك، وضعته بالفراش الصغير مرددة بتعبٍ: يا أخي حرام عليك بحاول أخليك تنام شوية أنا اللي نمت منك!
واتجهت نظراتها تجاه عمر الذي يغفو بعمقٍ وكأن ما يحدث حوله بمنزلٍ أخر غير الذي يسكنه، خطر لها فكرة خبيثة، فتسللت بين ذراعيه حتى أصبحت باحضانه، منحها ابتسامة ومازالت عينيه مغلقة، فطوفها إليه ومال برأسه إليها، همست إليه بنبرتها الماكرة: عمر أنا بأحبك أوي.
مسد بيده بحنانٍ على كتفيها: وأنا كمان يا قلب عمر بعشقك!
بخبثٍ قالت: اثبتلي كلامك.
فتح نصف عين وهو يحاول التطلع إليها محاربًا نومه المغري: أثبتلك ازاي إحنا في رمضان!
وعاد ليضمها إليه وردد وعينيه تنغلق مجددا: بعد الفطار عنيا.
لكمته بيدها على صدره صارخة بغضبٍ: أنت مش محترم، أنا أقصد شيء تاني.
فتح عينيه بانزعاجٍ لحق نبرته المتريثة: عايزة أيه يا نور اخلصي!
تسللت من جواره مجددًا، حاملة الصغير إليه، وغمزت بمشاغبةٍ وهي تعود لتتمدد على الفراش بإريحيةٍ: اسهر مع ابنك يا دوك!
وزع نظراته المنصدمة إليها تارة والى ذاك الذي يلهو بيديه ويبدو أنه على استعدادًا للجلوس للصباح تارة أخرى، فجذب عنها الغطاء فوجدها تغط بنومٍ عميق، زفر بعصبيةٍ لحقت صوته المحتقن: نور متهزريش!
توسطت الشمس كبد السماء لتنسدل خيوطها بخفة على الأرجاء لتلامس ذاك المقعد الذي يضمهما، مازالت تراقب السماء بانبهارٍ وعينيه لم تغفو عنها ولو لحظةٍ، فكسر صوتها ابمتحمس جلستهما الصامتة حينما قالت: شايف الجمال ده يا ياسين؟
مفيش أجمل منك!
استدارت تجاهه فأحاطتها نظراته، ابتلعت ريقها بارتباكٍ وخاصة حينما قال: دخولك لحياتي زي نور الشمس الصافي لما بيقطع ظلام الليل، وبالرغم من سكونه الإ إنه بيحتاج للحظة اللي بيعانق فيها نور قرص الشمس في سماه، أنتِ كُلي ومن غيرك مبقاش، أنا عمري كله ابتدى بنظرة من عينيكِ!
تلألأ الدمع بعينيها، كانت عاجزة حتى عن الحديث لا تعلم ماذا يتوجب عليها قوله، رفع أصابعه يزيح عنها دمعة فرحها بحديثه وتابع قائلًا: كل يوم بعيشه معاكِ بيضفلي عمر جديد يا آية!
منحته ابتسامة وليس لديها ما تمنحه سواها، فابتسم وهو ينهض عن المقعد مشيرًا لساعته: لازم نرجع!
أومأت برأسها وعادت معه للقصر، صعدوا لجناحهما الخاص وبعد ساعات قليلة اضطر ياسين الهبوط للمقر، فاستعد حينما ارتدى بذلة من اللون البني الداكن، وخرج متوجهًا للمصعد، فتفاجئ بملك تناديه باستياء برز بنبرة صوتها: ياسين.
استدار إليها فوجدها تدنو منه وعينيها تحمل أثر الدموع، مما دفع الاخير ليتساءل باهتمامٍ: في أيه يا ملك؟
رفعت يدها تزيح دموعها، واندفعت بالحديث إليه: طول عمرك بتعاملني زي يارا، والنهاردة أنت لازم تأخدلي حقي!
ضيق عينيه بدهشةٍ من حديثها، ومازال يجاهد لاستكشاف المغزى، فقالت ببكاءٍ: يحيى من امبارح وهو بيطردني برة الجناح ومش همه حد، يا تتدخل وتشوفه بيعمل كده معايا ليه يا هروح لابني وأصغر نفسنا قدامه واللي يحصل بحصل بقى.
رمش بعينيه بعدم استيعاب، فاتفلتت منه ابتسامة صغيرة جعلتها تردد بضيقٍ: بتتريق عليا يا ياسين!
حك أنفه وهو يستعيد ثباته القاتل: لا طبعًا بس مستغرب عمركم ما دخلتم حد في مشكلكم عشان تعملوها بعد العمر ده.
واسترسل بسخرية: أو يمكن لإن تركيزنا كان على مشاكل الشباب!
فتحت باب جناحها وهي تشير إليه بغضب لم تستطيع السيطرة عليه: ابن عمك جوه ادخل اتكلم معاه والا والله العظيم هلم هدومي وأسيبله الجناح كله.
منع تلك البسمة بصعوبة، وسألها برزانةٍ: هتروحي فين يا ملك؟
عبست بعينيها وهي تفكر في ضالتها، فهزت كتفيها بحيرة: أي مكان جوه القصر يعني هروح فين!
هز رأسه وأسنانه تبتلع شفتيه الباسمة بسخرية على ما يحدث أمامه، فعادت لتشير إليه: ادخله. أنا نازلة!
وتركته وهبطت للأسفل، فمنع تلك البسمة عن شفتيه واستعاد هيبته وهو يتجه للداخل، قاصدًا المقعد المقابل لفراش يحيى الذي تقلب بفراشه بانزعاجٍ حينما ضغط ياسين على الزر الإلكتروني فارتفع الستار عن شرفة غرفته الزجاجية، فصاح يحيى بضيق: يووه يا ملك قولتلك اطفي النور وإنزلي تحت!
وحينما لم يجد منها أي رد فعل فتح عينيه ليتفاجئ بمن يجلس أمامه مرددًا ببسمة ماكرة: صباحك شكاوي!