رواية هدوء بعد العاصفة للكاتبتان فاطمة حمدي و شيماء علي
الفصل الأول بعنوان: ذكرى حزينة
أطالت النظر إلى تلك الصورة التي تقبض عليها بكفيها، وكأنها تستنجد بها وتبثُ نفسها بالأمان الذي فقدتهُ وبات قلبها مكسور وروحها مُعذبة، فقد كانت صورة والدها الذي رحل منذ عامين والذي ترك في قلبها ندبة كبيرة لم يداوها الدهر إلى الآن، رفعت الصورة إلى فمها تُقبلها بعمقٍ وهي تغلق عينيها بألم، راح الدمع ينساب بكثافةٍ على وجنتيها دون أن تشعر، حدثته كأنه معها الآن:
-أنا كويسة يا بابا، ماتقلقش عليا، بحافظ على نفسي وبعمل كل اللي كنت بتقولي عليه.
صمتت لوهلة وهي تتأمل صورته باشتياق، فيما تُكمل:
-بس أنا زعلانة من ماما، تخيل يا بابا إنها اتجوزت.. واتجوزت مين؟ عمي "حسين"، أخوك!.. وبكل بساطة عاوز ياخد مكانك في حياتي وقلبي، مستحيل حد ياخد مكانك يا بابا مستحيل.
راحت تُقبل الصورة مرة أخرى بحُرقة، اليوم يومٍ حزين للغاية، حيث هذا اليوم ذكرى وفاته وليس هذا فحسب إنه ذكرى ميلاده، كُل عامٌ كانت تحتفل معه في جو مبهج وضحكاتها ترن بسعادةٍ، وفي أخر احتفال بمولده توفاه الله وكانت الصعقة حينها!
-كل سنة وأنت طيب..
قالتها "ليلى" بمرارةٍ وهي تشهق بحسرة، بينما تستطرد:
-عمري ما هنساك يا حبيبي..
وضعت صورته بين صفحات دفترها الوردي الذي يمتلئ بكل ذكرياتها حزينة كانت أو سيعدة، وثبت متجهة إلى خزانتها لتفتحها بهدوء وتضع الدفتر على رف ملابسها، راحت تُجفف الدمع بأناملها أمام المرآة وتعتدل من هيئتها، بينما تتأمل ملامحها الهادئة التي بدا الحزن جليًا عليها رغم جمالها الآخاذ، كانت عينيها كحيلتين متحددتين بأهدابٍ كثيفة وبشرة خمرية اللون يُميزها ملامح متناسقة، أما عن شعرها فكان أسمر كاحل يتدلى بنعومة على ظهرها يعطيها مظهرًا مفعمًا بالأنوثة وكأنها امرأة في وقارها ليست فتاة في الصف الثالث الثانوي!
سمعت صوت قهقهات والدتها تعلو، ضحكات رنانة كأنها سهام اخترقت قلبها وأحرقت ما تبقى من ثباتها، استفزت مشاعرها وأشعلت نار حُزنها، خرجت من غرفتها بخطوات عنيفة في سرعتها حتى وصلت إلى الصالة، حيث تجلس والدتها "نادية" بصحبة عمها "حسين"، يقهقهان أمام شاشة التلفاز، وبدون مُقدمات راحت تغلقه بغضب جم، عيناها تطلقان شرر وتلمعان بشراسة وهي تناظرهما بكُره، زفرت "نادية" فيما تقول بامتعاض:
-في إيه يا ليلى؟! طفيتي التلفزيون ليه!
أردفت بضيقٍ شديد:
-أنتِ إزاي كدا؟ إزاي قادرة تضحكي وتعيشي وأنا بموت من جوايا كل يوم؟، كنت فاكرة إنك على الأقل هتفتكري يوم وفاة بابا لكن للأسف أنتِ مش فاكرة حاجة إلا نفسك وبس، ومش بتحبي إلا نفسك بس!
تجهمت ملامح الأم بشدة واحمر وجهها غضبًا، كادت تنهرها وتعنفها، لكن "حسين" تدخل حينئذ بقوله:
-إهدي يا ليلى يا حبيبتي وتعالي بس إقعدي هنا.
حدجته بنظرة ثاقبة، فيما تخبره بنبرة جافة:
-أنا مش حبيبتك، وأنت مالكش كلام معايا خالص، أنت عدوي..
اتسعت عيناه جراء كلمتها الأخيرة، عدوي!، كلمة ثقيلة على نفسه جدًا، ألهذا الحد تكرهه بنت أخيه؟.. ضغط على أسنانه بقوة وظل محافظًا على ثباته الانفعالي وهدوئه معها، كادت تتكلم والدتها مرة أخرى لكنه أوقفها أيضًا وهو يقول:
-زي ما تحبي يا ليلى، بس طلعت ولا نزلتي أنا عمك مش عدوك، إن زواجي من أمك خلاكِ تشوفيني عدو ليكِ فدا يابنتي نصيب وحلال ربنا، أبوكِ مات ومش طالب مننا غير الدعاء وبس!
صرخت فيهما وهي تردد بهستيرية:
-بس بس ماتكملش مش قادرة أسمع صوتك، أنا بكرهكم بكرهكم، أبويا عايش جوايا وهيفضل عايش، وطول ما أنت واخد مكانه هفضل أكرهك وهتفضل عدوي، أنت فاهم!
برحت المكان ما إن أنهت كلامها، وانتابهما حالة ذهول من حالتها، يعلم "حسين" أنها مجروحة، جرح عميق صعب أن يشفى منذ وفاة والدها.. ولكن يبقى السؤال، ماذنبه؟ ما ذنبه إذا أحب والدتها وتزوجها بعد رحيل شقيقه؟ هو يراه حلال وهي تراه خيانة!
-مش عارفة البنت دي إيه اللي جرا لها يا حسين، أنا تعبت!
كانت جملة "نادية " وهي تتنهد بحنق، بينما يخبرها "حسين" بهدوء حازم:
-بكرة تفهم الغلط من الصح، معلش هي برضوه لسه صغيرة..
مساءً..
تراص مجموعة من الفتيات حول الطاولة ليبدأن درس اللغة العربية، وهناك يترأس الطاولة مُعلمهن "شريف" ذو الوجه الحسن والروح الشبايبة رغم كونه تخطى الأربعون عامًا، أخذ يُراجع واجباتهن بتركيز، انزعج حين وجد عدة أخطاء لا بأس بها بواجب "ليلى"، رفع بصره إليها وقال بشيء من الحدة:
-إيه دا يا ليلى! من إمتى وأنتِ مستواكِ كدا؟!
حملقت به "ليلى" دون رد، فقط نظرات حزينة بها لمعة من الألم، زفر "شريف" وهو يواصل بجدية شديدة:
-مابترديش عليا ليه؟!
تنهدت بضيقٍ بينما تجيبه:
-كنت تعبانة شوية، سوري يا مستر..
رمقها بحدة دون أن ينبت مجددًا بأي كلمة، بدأ في شرح الدرس وهو يلاحظ من حين لآخر عدم استيعابها لما يشرح، انتهى بعد مرور الوقت وانصرفت الفتيات وبقيّ معها بمفرده، سألها باهتمام:
-مالك يا ليلى، فيكِ ايه؟
أجابت بلا تردد:
-انا تعبانة أوي، النهاردة ذكرى وفاة بابا.
خبط على رأسه وقد فهم الآن؛
-ااااه، عشان كدا زعلانة ومش مركزة، يا ليلى ماتخليش حزنك يأثر عليكِ بالشكل دا، لازم تبقي أقوى من كدا يا حبيبتي..
تنهدت طويلًا دون كلام، فتابع بنبرة حنون:
-هو أنا يعني مش زي بابا الله يرحمه؟
رمقته بنظرة بريئة تحمل في طياتها الأمان وهي تخبره برفقٍ:
-أنت يا مستر شريف الحاجة الوحيدة اللي بحبها بعد بابا، والحاجة الوحيدة اللي من ريحته، أنا بحبك عشان أنت كنت صاحبه وبابا كان بيثق فيك، ماتعرفش غلاوتك عندي أد إيه، ربنا يخليك ليا يا مستر شريف.
ربت "شريف" على رأسها وابتسامة هادئة تزين ثغره مع قوله:
-يا حبيبتي إنتِ بنتي مش بس بنت اغلى صديق عندي، الله يرحمه بحس انه عايش مماتش كل لما بشوفك، بس إنتِ لازم تجتهدي عشان خاطر بابا يا ليلى عشان يبقى فرحان وفخور بيكِ.
أومأت برأسها وقالت:
-حاضر..
تلفت "شريف" حوله وهو يقول بتعجب:
-أنتِ لوحدك في البيت يا ليلى ولا إيه؟
زفرت أنفاسها بقوة وأخبرته:
-أيوة..
تابع باستغراب:
-والدتك فين وفين حسين؟
أجابته بضيق:
-خرجوا، هو خرج في شغل وهي خرجت تتفسح، ممكن مانجبش سيرتهم دلوقتي عشان انا بتخنق من سيرتهم؟
أومأ موافقًا وقال بهدوء:
-حاضر بس اهدي أنا معاكِ..
-ممكن ننزل نتمشى شوية؟
وافق شريف مرحبا:
-أوي أوي، يلا بينا.
ابتسمت بارتياح ووثبت تتجه معه صوب الباب وخرجا معًا، راحت تمسك يده وكأنه أخر ما تبقى لها في هذه الدنيا، تشعر وكأن والدها جوارها كلما اقترب منها، لمسة يده كلمسة يد والدها، حتى رائحته تشبه رائحة والدها، رائحة محملة بالأمان والحنان، هو الوحيد الذي يشاركها ابسط تفاصيلها، كالآن وهو يشتري لها المثلجات المفضلة لديها وغزل البنات، لقد جعلها تنسى حزنها بأبسط الطرق، بينما تهمس جوار آذنه:
-شكرا أوي يا عمو شريف.
ابتسم يُشاكسها:
-مش كنت المستر من شوية
قهقهت بعفوية:
-في الدرس والمدرسة بس، لكن دلوقتي انت عمو شريف
انقضى الوقت سريعًا وعادت "ليلى" حزينة، أفضل أوقاتها معه وتنتهي بسرعة البرق!، أما هو فذهب إلى بيته، وهُناك قامت العاصفة من قِبل زوجته:
-كنت فين يا شريف؟.
"شريف" وقد مسح على رأسه في هدوء:
-هكون فين يعني يا سهر؟.. في الدرس طبعا!
حركت رأسها بعنف وأخبرته بحزم:
-لا أنت خلصت حصتك من بدري، إنت كنت مع حتة العيلة بتاعتك، كمان بتكذب عليا يا شريف؟
زفر بحنق، بينما يتابع بضجرٍ:
-أنا مش فاهم إنتِ بتكرهي البنت دي ليه؟ البنت يتيمة وأبوها كان صاحبي، يعني لازم أخد بالي منها وأعاملها زي بنتي.
-دي واكلة عقلك يا مستر!
قالتها بنبرة ذات مغزى، ليرفع سبابته أمام وجهها يُحذرها بنبرة جامدة:
-خدي بالك من كلامك يا سهر، تلميحاتك السخيفة دي أنا أرفضها جدا، أتمنى تكوني أعقل من كدا وعيب بجد عليكِ عيب!
وما إن أنهى حديثه اتجه إلى غرفته والغضب يعتريه، أما هي فقوفت تعاتب نفسها على ما تفوهت به في لحظة غضب، ولكن ماذا تفعل؟ هي تغار عليه كأي زوجة مُحبة لزوجها حتى وإن كان من فتاة صغيرة في عمر ابنته، زفرت أنفاسها بقوة واتجهت خلفه تنوي مصالحته قبل أن يغفو غاضب منها...
-كنتِ فين يا ليلى؟..
هتفت "نادية" بنبرة محتدمة وهي تقترب منها، فأجابتها "ليلى" بحدة عارمة:
-المفروض أنا اللي أسألك السؤال دا؟، إنتِ اللي خرجتي وسبتيني لوحدي يا ماجدة هانم.
"نادية" وقد هدأت قليلًا:
-أنا نسيت إنك عندك درس النهاردة والله، خرجت أجيب طلبات للبيت، إنتِ ليه مفكرتنيش!؟
رمقتها بنظرة مُستهزءة، فيما تتابع بتهكمٍ:
-دا المفروض إنتِ اللي تفكريني مش أنا!، على العموم كل دا مايهمنيش، أنا كنت مع عمو شريف، نزلت معاه بعد الدرس أشم شوية هوا، إرتاحتي؟
ضغطت على أسنانها، تكظم عيظها بشدة وهي تقول:
-ماشي يا ليلى، إدخلي نامي دلوقتي عشان عندك مدرسة الصبح ولينا كلام تاني!
توجهت "ليلى" صوب غرفتها بخطوات هادئة، بينما جلست والدتها على المقعد من خلفها وهي تفكر في إيجاد حل لعلاقتها المُعقدة بإبنتها..