رواية في قبضة الأقدار الجزء الأول للكاتبة نورهان العشري الفصل التاسع
الحنين هو زائر غير مرغوب به عادةً ما يأتي في الليل ليطرُق أبواب قلوب ظنت أنها إستطاعت لملمة أشلائها ليُبعثِرها من جديد.
نورهان العشري.
و كعادتي كلما أشتد بي الشوق أبحث بين رسائلنا القديمه علِ أجد مخدرًا لأوجاعي و لكن تلك المرة تعثرت برساله تشرينيه تُخبرني بها بأن يومك لا يكتمل سوي بوجودي فابتسمت بسخريه و أردت سؤالك كيف حالك بعد مرور عامًا كاملًا بدوني.
نورهان العشري.
أحيانًا يكون النوم هو الحل الوحيد لإنهاء يوم سئ أستنفذ طاقاتنا و أهلك الروح التي قاومت كثيرًا حتى بلغ منها التعب ذروته و لكن الأمر لم يقتصر على يوم واحد فقد طال حتى تخطي الاربعه أشهر منذ أن إستيقظت على خبر تلك الحادثه المشؤمه و هي بتلك الدوامه التي لم تنتهي. بل أخذت تبتلعها أكثر حتى وجدت نفسها تعيش حياة تختلف كثيرًا عن ما تمنته. بمكان لا تُطيقه مع أُناس لا يتحملون وجودهم و الأدهي من ذلك أنها مُجبرة على تحمُل كُل ما يحدث حتى تلد شقيقتها صغيرها و بعد ذلك ستبدأ معركه من نوع آخر فما شاهدته للآن من تلك العائله يوحي بأنهم لن يتنازلوا بسهوله.
كانت تنظر إلى الكلام المُدون أمامها بشرود بينما عيناها لم تمس حرف واحد من الكتاب المفتوح بين يديها. فقد كانت تود الهرب من التفكير بالقراءة و لكن لم تفلح محاولاتها فنهضت من مكانها تنوي الهروب إلى النوم فأغلقت الكتاب لتضعه مع باقي الكتب فإنفلت من بين يديها ليسقط على الأرض و تسقط منه ورقه صغيرة بحجمها كبيرة بما تحمله من مشاعر جعلت قلبها يرتجف حين رأتها و بأنامل مرتعشه إلتقطتها و قامت بفتحها و شرعت تقرأ الحروف المدونه بخط مُنمق كَصاحِبه.
وحشتيني! يومي كان طويل و ممل أوي النهاردة عشان مشوفتكيش لدرجه حسيت أنه مش هينتهي! متغبيش عن قلبي تاني. بحبك!
عِدة حروف بسيطه كانت قادرة على سحق قلبها بين طيات معانيها فمنذ أربعه سنوات كانت قادرة على أن تُحييها من قلب الحُمي التي أرهقت جسدها و أجبرتها على التغيب عن العمل لمدة أسبوع كامل و لم يُعيدها إلى صحتها سوي رسائله المُرفقة مع أزهار يعلم كم تحبها كما كان يعلم كيف يخترق جميع حصونها و يحتل قلبها و كأن عشقه كان سفينه نجاتها التي إنتشلتها من بحور الوحدة و العذاب و ظنت بأنها أخيرًا وجدت بر الأمان الذي إتضح بعد ذلك أنه سراب كان بدايه لرحلة عذاب لا يُحتمل و أن سفينه نجاتها ماهي إلا زورق مثقوب رست بكل ثقلها فوقه فأغرقها في بحور الألم الذي لا نهايه له.
دون أن تدري جعدت الورقه بين قبضتها تعتصرها بقوة كما إعتصرت الذكريات قلبها الذي للآن مازال ينبُض بالألم الذي لم تستطع السنين إخماده و كم كانت تكره ذلك الضعف الذي ينتابها حين تتذكره و هذا الحزن الذي يتسرب إلى قلبها فيُدميه و يجعل تنفسها ثقيلًا فلم تشعر بنفسها سوي و هي تجذب وشاح و تضعه فوق كتفها متوجهه إلى الخارج لتأخذها قدماها إلى ركن مُنعزل في الحديقه الكبيرة التي تحيط بها الأشجار في كل مكان فأخذت تسير بلا هوادة تنظر إلى الزهور الجميله و قد كان ضوء القمر يضئ كل شئ حولها فيعطيه مظهر ساحر إستطاع أن يُعطيها شعور بالهدوء قليلًا و قد خطف أنظارها ركن الزهور الجميله ذات الرائحه الرائعه فاقتربت تتأملها بإعجاب و مدت يدها تتلمسها بحنو و هي تتذكر كم كانت تتمني أن تُعامل مثلهن. تتمني لو تجد من يعتني بها مثل الوردة يسقيها حبًا و حنانًا تحتاجه كثيرًا. أن تشعر بأنها شيئُا ثمينًا لدي أحدهم فيضعها في إناء يحميها من بطش الزمن الذي وضعها في تلك المواقف التي تفوق قدرتها بكثير و على الرغم من مقاومتها و لكنها تتوق إلى الإنهيار على كتف أحدهم. أن تُسقِط ذلك الحِمل عن أكتافها لتستطيع للتنفس براحه و لو قليلًا.
حاسبي الشوك يعورك!
كانت تُغمِض عيناها و هي تتلمس الورود غارقه في تفكيرها دون أن تدري كم كان مظهرها ساحرًا بشعرها الذي يطير بكل مكان حولها و ملامحها التي سرقت فتنتها من ضوء القمر الذي كان يضئ تقاسيم وجهها الجميله ليأتيها صوته الحاد الذي أخترق هدوئها و سلامها المؤقت فجفلت و تحركت يدها بسرعه لتنغرز إحدي الأشواك بجلدها الرقيق فصرخت بخفوت جاذبه يدها بلهفه لتجد بعض قطرات الدماء تنساب منها و قبل أن تقوم بمسحها وجدت يد ضخمه ذو كف خشن كصاحبه إمتد ليقبض عليها بحنو أربكها فتعلقت أنظرها بإهتمامه المُنصب على يدها التي وجدتها ترتفع لتُعانق شفتيه الدافئه حين قام بوضعها فوق جرحها ليسحب الشوكه العالقه بجلدها بأسنانه فشعرت و كأنه إنتزعها من قلبها لا إصبعها! فصارت دقاتها تتقاذف بعنف داخل قفصها الصدري فيما إنحبست أنفاسها به و هي تري رأسه المُنحني على كفها و قد أزهلها ما رأت فذلك الرجل الضخم الفظ المتعجرف ينحني على كفها ليسحب شوكه أخترقته!
كان الأمر مُثير بدرجه يصعب وصفها و الأكثر حين أرتفع رأسه يُطالِعها بعيناه التي أظلمت للحظات حين قال بخشونه
مش تخلي بالك!
هزت رأسها في محاوله منها لجعله يعود إلى العمل قبل أن تقول بصوت مبحوح
عا. عادي. دا جرح بسيط.
ضاقت عيناه و هي تطوف فوق ملامحها قبل أن يقول بخفوت
و جرح بسيط يخليكي تعيطي كدا!
جفلت من كلمته و إرتفعت يدها لتجد بعض قطرات من عبراتها لازالت عالقه بجفونها فأزالتها بلهفه و هي تبتسم بتصنع قبل أن تقول بحرج
تقريبًا حاجه طرفت عيني و أنا بتمشي. بسيطه يعني متاخدش في بالك!
ظلت نظراته مثبته عليها قبل أن تلوح بهما بسمه ساخره وكأنه يخبرها بأنها تكذب و لكنه أجابها مُغيرًا الموضوع
إيه إلى مخرجك دلوقتي في البرد دا؟
بهدوء أردفت
كُنت زهقانه قولت أشم شويه هوا!
أختارتي المكان الصح! مزرعتنا هواها يرد الروح!
ناظرته بإندهاش دام لوهله فقد بدا مُسالمًا هادئًا على غير عادته و لكنها سيطرت على دهشتها إذ قالت بتأييد
فعلًا المزرعه حلوة أوي شبه الجنة بالظبط. و هواها جميل و نقي.
أرتفع إحدي حاجبيه تزامُنًا مع كلماتها التي خرجت منها دون وعي مُتأثِرة بالمظهر الخلاب المُحيط بهم لتجد صوته الساخر قد عاد إلى طبيعته حين قال
غريبه! مع إن دا مكنش رأيك الصبح!
إغتاظت منه و لكنها قررت المواجهه فقالت بتقريع
أنت عارف رأيي دا كان بناءًا على إيه!
على إيه؟
هكذا أجابها بتحدي فتجاهلت غضبها المتصاعد و قالت بهدوء ظاهري
أنت أذكي من إنك تسأل السؤال دا!
لم تُمهله الوقت للإجابه فسارعت بالقول
مقولتليش أنت إيه مخرجك في البرد دا؟
هل يُخبرها بأنه رآها تهرول في الحديقه كتائه ضل طريقه بمنتصف صحراء قاحله و أراد أن يكون هو وجهته!
هل يُخبرها بأن مظهرها و هي تعدو كالفرس الجريحه هنا و هناك كان أكبر من قوته على التحمُل و أجبره للخروج لرؤيتها أمامه مجردة من جميع أسلحتها و حصونها؟
هل يُخبرها بأن حديثها صباحًا عن إحتمالية نسيانها له ولدوا شعورًا قويًا داخله بغرس ذكري له بداخلها أكبر من مجرد قلم ليُذكِرها به!
كنت زهقان فقولت أخرج أتمشي شويه! و بصراحه شكل القمر النهاردة لا يقاوم.
كان يتحدث و عيناه مُسلطه على ملامحها بقوة و كأن الحديث موجه إليها لتشعر بموجة برد قويه تجتاح جسدها من تلك المشاعر التي ضربتها كعاصفه جراء نظراته فامتدت يدها تلقائيًا تحاوط كتفها و التي تجمدت حين شاهدته يقوم بخلع معطفه مقتربًا منها خطوتان و قام بوضعه حولها فغزت رائحتها الشهيه أنفه لتُثير بداخله رغبه عاتيه في الإقتراب أكثر و إستنشاق عبيرها أكثر. كانت رغبه مجنونه و لكنها مُثيرة بدرجه لم يختبرها مسبقًا و الأكثر إثاره عندما رآي إنعكاس رغبته بغابات عيناها الجميله التي لأول مرة يلمح بها هذا الإستسلام و كأن المقاومه أهلكتها و صدمه فرار قطرة هاربه من طرف عيناها جمدته بمكانه حين رآها تسير فوق خدها لتستقر على يده الممسكه بالمعطف حولها و كأنها سقطت فوق قلبه فخرجت الكلمات من بين شفتيه دون وعي.
فرح! أنتي بتعيطي؟
أخرجتها كلماته من بحر شرودها فإندفعت خطوتان إلى الخلف و إمتدت يدها بلهفه إلى عيناها تمحو بصمات ضعفها أمامه و هي تقول بإندفاع
ما قولتلك عيني مطروفه.
قامت بخلع معطفه و ناولته إياه قبل أن تتمتم بخفوت و تلعثم
ميرسي مش محتجاه. أنا هدخل بقي الوقت أتأخر. عن إذنك
أوشكت على الإلتفات فوجدت قبضتة القويه التي أوقفتها بمكانها و هو يُزمجِر بخشونه
أنتي في حد في حياتك؟
توقفت لثوان تحدق به بصدمه تحولت لغضب و هي تقول بجفاء
بتسأل ليه؟
متجاوبيش على سؤالي بسؤال!
هكذا أجابها مُغتاظًا فاستمهلت نفسها قبل أن تنزع يدها من بين قبضته و تُجيبه ببرود مستفز
تمام. الإجابة دا شئ يخصني.
برقت عيناه من الغضب الذي أخفاه خلف ستار من السُخريه التي تجلت في نبرته حين قال
مكنتش متوقع منك غير كدا!
تقصد إيه؟
أنتي فهمتي إيه؟
متردش على سؤالي بسؤال!
بدا مُستِمتعًا بشجارهم إذ وضع يديه بجيوب بنطاله و هو يقول بتسليه
براحتي! زي مانتي بتلفي و تدوري و تهربي براحتك.
مبهربش على فكرة. من حق أي حد أنه يحافظ على خصوصياته
هكذا أجابته ليشتعل الحنق بداخله محل التسليه فضيق عيناه قبل أن يقول بلامبالاه مصطنعه
آه طبعًا عندك حق. عمومًا دا كان مجرد سؤال عابر. مش ذات أهميه!
أغضبها الآن كثيرًا لذا أرادت أن ترد الصاع صاعين فقالت ببرود.
أعذرني في إسلوبي بس أنا من النوع إللي مبيعرفش يفتح قلبه لأي حد. و دايمًا أسراري بحب أحتفظ بيها لنفسي
أخذ نفسًا حادًا قبل أن يقول بفظاظه
حقك طبعًا! بس نصيحه مش كل حاجه هايفه الإنسان يعتبرها سر يستاهل يقفل قلبه عليه.
إغتاظت من حديثه و ما أن أوشكت على الرد حتى فاجأها عندما التفت إلى الجهه الآخري قائلًا بفظاظه
يالا عشان وراكي شغل بكرة بدري. مش عايز تأخير من أول يوم!
ذلك الوغد لا تعرف عدد المرات التي أشتهت ضربه بحجر فوق رأسه حتى تُشفي نيران غضبها منه.
في الصباح كانت تغلي من الغضب و إنعدمت قدرتها على التحمل و الإنتظار أكثر لذا إتخذت قرارها و توجهت إلى مكتبه و قامت بدق الباب مرتان قبل أن تقوم بفتحه دون الإنتظار أن يسمح لها بالدخول و ما أن أطلت برأسها من الباب حتى توقفت أمامه قائله بنبرة طفوليه مُتذمِرة
أظن أنا من حقي أدافع عن نفسي!
كان ينظُر إليها بصدمه سارع بإخفائها خلف جدار من الصمت الذي لا يُفسر و لكن من الداخل تحولت صدمته إلى رغبه قويه في الضحك فقد كانت كطفله تتذمر من عقاب والدتها الذي تظنه غير منصف!
و إلى له حق بيطلبه بالشكل الهمجي دا؟
هكذا أجابها بلهجته الجليديه كعادته لتقترب إليه مكتبه ناظره إليه بغضب كبير و هي تقول بإنفعال
ماهو حضرتك مدتنيش فرصه إمبارح أدافع عن نفسي و سحبت مني الورقه قدامهم كلهم و قولت عليا غشاشه!
قالت جملتها الأخيرة بنبرة أوشكت على البكاء الذي كتمته بصعوبه بينما نطقت جميع ملامحها به فشعر بالشفقه عليها و لكنه تابع بجمود
مش مفروض كبرتي على موضوع العياط دا!
حلا بحنق
معيطش على فكرة!
بس شكلك بيقول إنك دقيقه كمان و هتنفجري في العياط زي العيال الصغيرة. و أنا بصراحه معنديش خُلق للجو دا!
إندفع الغضب إلى رأسها و هي تسمع حديثه فإندفعت تقول بحنق مكتوم.
أولًا أنا مش عيله صغيرة. ثانيًا معيطش و لا ناويه أعيط. أنا جايه أتكلم مع حضرتك و أوضح سوء التفاهم إلى حصل!
ياسين بتسليه
إذا كان كدا. يبقي أتفضلي أقعدي.
أقتربت منه و جلست على المقعد أمامه و قامت بوضع هاتفها على المكتب بينما أخذت نفسًا طويلًا قبل أن تلتفت إليه لتُحاول شرح ما حدث و لكنه فاجأها حين قال بإستفزاز
ها قوليلي كنتي بتغشي ليه و مذاكرتيش!
تصاعد غضبها للحد الذي جعلها تقول بإنفعال.
مكنتش بغش هقولها للمرة الكام عشان حضرتك تصدقني!
أصدقك و أكذب عنيا مثلًا!
أجابها ببرود لتقول برجاء
أحيانًا مش كل إلى بتشوفه العين بيبقي صح. في مُلابسات للموضوع لو عرفناها هتوضح الرؤيه و هنغير رأينا.
ياسين بتسليه
جميل! و مقولتيش الكلام دا لنفسك ليه و إنتي بتزعقي في مكتبي و بتقولي عليا حرامي!
إغتاظت من حديثه فقالت بحدة
الوضع كان مختلف أنا فوقت لقيتك بتفتش في شنطتي!
على أساس إني مقفشتكيش ببرشام في إيدك في نص إجابات الإمتحان إلى كان قُدامك!
صمتت للحظات قبل أن تقول بنبرة تتنافي تمامًا مع حدتها مُنذ قليل
وربنا ما بتاعتي. أنا كنت قاعدة في أمان الله لقيت الورقه دي طارت جت في إيدي. حتى معرفش مين إلى حدفها!
ياسين بسخريه
يمكن تكون السما بتنقط برشام! أو تكون حست إنك محلتيش أي حاجه خالص فحدفتها عليكي مثلًا!
إغتاظت من حديثه و لكنها لم تستطع سوي أن تقول بجمود.
يعني أفهم من كدا أن حضرتك مش مصدقني؟
ياسين ببراءه مفتعله
الحقيقه يا آنسه حلا كلامك غير مُقنع بالمرة!
هبت من مكانها و قالت بغضب
على فكرة بقي حضرتك من ساعة الموقف إلى حصل دا و أنت مستقصدني و أنا عارفه. بالرغم من إني عرفت غلطي و جيت أعتذرت بس حضرتك بردو مُصمم تحُطني في دماغك. بس أقولك مش مهم ربنا مبيرضاش بالظلم و أقولك كمان حسبي الله ونعم الوكيل هيه.
ألقت كلماتها دفعه واحده و قامت بإنتزاع الهاتف و توجهت إلى الخارج بإندفاع و غضب كان من المفترض أن يُغضبه و لكنه على العكس تمامًا قد شعر بالتسليه فهو منذ أن رآها أول مرة قد أعجبته بملامحها الجميله الحزينه حتى أنه كان يتقصد الإحتكاك بها بصورة تبدو على أنها صُدف و كان يوجه لها النظرات خِلسه فقد كان مُنجذبًا بطريقه ما إليها ولكن اليوم كان لملامحها المُشتعِله الغاضبه و قع خاص على قلبه الذي شعر به لأول مرة يدق بإنفعال هكذا.
أخرجه من شروده تلك النغمه الغريبه على أذنيه فنظر إلى الهاتف أمامه فوجد رقمًا غريبًا فأخذ يقلبه بين يديه بإندهاش و ما أن إنقطع الرنين حتى قام بفتح الهاتف ليتفاجئ بصورتها الجميله التي تزين شاشته و لكن كان بجانبها شخص آخر يلتصق بها بقوة جعلت الغضب يندفع إلى أوردته فبرزت عروقه من فرط الصدمه.
كانت جنة عائدة من الإسطبلات صباحًا بعدما سرقت بعض الدقائق مع مُهرتها المُفضلة و التي أحبتها كثيراً و قد قررت أنها ستزورها في الصباح حين يكون الجميع نيام و قد نفذت مُخططها من اليوم و ذهبت صباحًا لرؤيتها و تمضيه بعض الدقائق معها وها هي عائدة تحاول الإستمتاع بنسيم الصباح العليل لتتفاجئ بهذا الصوت البغيض الذي لوث الهواء حولها
شيفاكي عماله تروحي و تيجي في المزرعه و لا أكنك بقيتي من أصحابها!
توقفت «جنة» على مضض و هي تسمع صوت تلك الفتاة التي تكرهها بقدر كُرهها لبقائها معهم و لكنها لن تسمح لها بإهانتها و إهانه طفلها لذا ألتفتت تُطالِعها بقوة بينما كانت نظرات «سما» تقطُر كُرهًا تجلي في نبرتها حين قالت
أستأذنتي قبل ما تقضيها جري هنا و هنا؟ و لا أنتي مش واخده عالأدب واخده انك تفرضي نفسك عالناس و بس.
سحبت نفسًا قويًا بداخلها قبل أن تقول بغضب مكتوم.
أنا مبفرضش نفسي على حد. لو أنا جيت أعيش هنا فدا بعد مُحايله كتير. و أظن حتى إني لو مفروض أستأذن قبل ما آجي الإسطبل فأكيد أنتي آخر واحده هستأذن منها!
إغتاظت «سما» بشدة فاقتربت منها خطوتان و هي تقول بإحتقار.
هستني إيه من واحده بجحه زيك! أنا يا حبيبتي بنت من بنات البيت دا طول عمري مُعززة مُكرمه فيه و الكل بيعملي ألف حساب. مش واحده جايه من الشارع مش معروف أصلها من فصلها. و لا معروف لها أهل و لا عيله!
بلغ الغضب ذروته فلم تعد تستطيع إحتمال حديثها المسموم لذا أشتد صوتها و زادت حدته حين قالت بقسوة.
إلى جايه من الشارع دي أحسن منك ألف مرة! و أنا ممكن أخليكي تترمي بره القصر دا زي الكلبه! لو نسيتي الحاجه عملت فيكي إيه لما فكرتي تضايقيني أنا ممكن أفكرك. و ممكن كمان أعمل إلى أكتر من كدا. ممكن أصوت و ألم الناس عليكي و أقولهم إنك حاولتي تسقطيني. و طبعًا مش محتاجه أقولك أن الكل هيصدق إنك تعملي فيا كدا. عارفه ليه؟ عشان بتكرهيني و يتغيري مني عشان حازم حبني و محبكيش!
تجمدت «سما» بمكانها جراء حديث جنة الذي أصاب صميم قلبها و لكن ما الذي يُمكِن أن ننتظره حين ندهس بكل قوتنا على جراح الآخرين فالقلب الذي ينزف وجعًا إما أن يترك الوجع يقتله أو يحيا بقتل من أوجعه و هي أختارت أن تحيا حتى لو كلفها ذلك أن تقتلها بنصل كلماتها الحادة و لكن أحدهم كان له رأيًا آخر
عشان كان غبي!
حين سمع حديثها القاسي إلى إبنه عمته التي أمتقع لونها و كادت أن تفقد وعيها فلم يستطع الصمت أكثر فقذف كلماته المُحمله بإحتقار واضح نفذ إلى صدرها كالرصاص فتجمدت في مكانها و هي تشعر بخطواته الباردة تتقدم نحوهم و هو يقول لسما بأمر
أسبقيني عالبيت!
لم يُكرر كلماته فقد كانت كمن ينتظرها حتى تجر أذيال خيباتها و هي تغادر مُنكثه الرأس و قد كان مظهرها يوحي بما تُعانيه من ألم فشعرت «جنة» بالندم لثوان و لكنها نهرت نفسها بشدة فهي أيضا آلمتها و أهانتها و هي لن تسمح بذلك أبدًا لذا ألتفتت تناظره بقوة واهيه و لم تستطع منع الكلمات من أن تخرج من فمها حين قالت بإندفاع.
طبعا كالعادة هتسمعني الكلمتين بتوع كل مرة و قد إيه أنا وحشه و مش كويسه و إني ضيعت حياة أخوك و بنت عمتك و ضيعت العيله كلها! لو جاي تقول الكلام دا وفروا على نفسك عشان حفظته خلاص!
كانت نظراته غامضه و ملامحه قاسيه كنبرته حين قال
لا مش هقولك كدا! أنتي حتى الكلمات دي عجزت أنها توصف حقارتك! وصلت بيكي الوقاحه إنك توجعيها بالشكل دا! أومال إنتي لو متجوزة زي باقي البنات المحترمين ولاد الناس كنتي عملتي إيه؟
أمتقع لونها بشدة و أنسحبت الدماء من أوردتها و تبدل توهجها إلى شحوب يوازي شحوب الأموات و شعرت بالدوار يهاجمها فقد نحر قلبها بكلماته الحادة كنصل السكين و لكنها جاهدت للبقاء ثابته على عكس نبرتها التي كانت توحي بمقدار ألمها حين قالت.
أنا محترمه و بنت ناس و يمكن دا إلى وصلني للوضع إلى بقيت فيه دلوقتي! و حقارتي دي هتشوفها فعلاً لو مبعدتش عني عشان وقتها هروح أقول للحاجه أنك أنت السبب إني كنت هسقط قبل كدا و أنك عايزني أسقط و أبقي شوف هتقولها إيه؟
أوشكت على المغادرة فما أن مرت به حتى خرجت الكلمات مصدومه مُحمله بالإحتقار
وصلت بيكي البجاحه إنك تهدديني! إنتي أزاي قادرة تكوني مؤذيه للدرجه دي! ضميرك مبيأنبكيش خالص؟
ألتفتت قائله بقوة.
زي مانتا قادر تكون ظالم و مفتري بالشكل دا!
ألتفت يُناظرها بإستنكار قائلًا
ظالم و مفتري! بعد إلى قولتيه دا كله و أنا إلى ظالم و مفتري؟
جنة بغضب
أيوا ظالم و مفتري. من أول يوم شوفتني مبطلتش تهددني و تسمعني أوحش كلام من غير حتى ما تعرفني تُهمتي إيه؟ حتى دلوقتي لما سمعت كلامي معاها مسألتش نفسك للحظه أنا قولتلها الكلام دا ليه؟ كأني من الباب للطاق وقفتها و قولتلها كدا!
كان غضبها يُخفي الكثير من الألم و العذاب الذي لم تفلح في إخفاؤه نبرتها و معالم وجهها و عيناها المُتألِمه و قد شعر بشئ يأن في أعماقه و كأنما سهام حزنها أخترقت جانبًا ما بداخله و لكنه تجاهل كل هذا و قال بإستنكار
عايزة تقولي أن هي إلى ضايقتك الأول!
جنة باندفاع
دا بالظبط إلى حصل! بس أنت كالعادة مبتسمعش غير الكلام إلى يديني أنا.
كانت تشير بإصبعها أمام وجهه فأغضبه هذا كثيرًا فأمتدت يدا تعتصر إصبعها بين أنامله القويه و قال صارخًا
بطلي كذب بقي إلى يشوف منظر سما و أنتي واقفه بتكلميها عمره ما يصدق كلامك دا. ماتحاوليش تقنعيني إنك ملاك برئ عشان عمري ما هصدقك!
فجأة أنطفأ وهج عيناها و تهدلت أكتافها و ناظرته بيأس تجلي في نبرتها حين قالت.
بس أنا مش عايزة أقنعك بحاجه! أقولك. أنا وحشه! أنا وحشه أوي. أوحش بني آدمه ممكن تقابلها في حياتك. فأبعد عني أحسنلك و أدعي ربنا يقصر أيامي معاكوا و أمشي من هنا و مشوفكش تاني أبدًا.
أختتمت كلماتها بعبرات خائنه لم تفلح محاولاتها بالسيطرة عليها و قامت بإنتزاع إصبعها من بين يديه و ألتفتت مُغادرة المكان بخطً مثقله بآلام و خيبات لم يعد قلبها قادر على حملها و قد كان رأسها مُنحني لأول مرة بحياتها و هي تواصل طريقها إلى المُلحق الخاص بهم لتتفاجئ بصوت الشر الذي تحدث قائلًا
لو تعرفي أتمنيت قد إيه أشوفك موطيه راسك كدا!