رواية فرط الحب للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الرابع عشر
-انتي فين يا ماما؟
سألت وسام الحانقة فأجابتها والدتها موبخه:
-في الطريق خلاص خمس دقايق وهبقى عندك.
-ماما انتي في الطريق بقالك ساعتين، دي لو خالتي جيبالك عريس مش هتعملي كده.
-بطلي لماضه وقله أدب واتنيلي اقفلي، محمد ابن خالتك موصلني جهزي نفسك عشان تسلمي عليه.
أغلقت "وسام" الهاتف في تذمر فدونًا عن كل الأيام تختار والدتها اليوم لزيارة شقيقتها منذ الصباح الباكر، خرجت منها صرخة طفيفة وانتفضت في رعب تملك كل ملامحها عندما أغلق "بيجاد" الباب بقوة هزت جدران المنزل معلنًا عن دخوله.
ولكن ما جعل فرائصها ترتعد في خوف هي عيناه المخيفة المشتعلة بنيران الغضب.
-كنتي مخيباه في بيتي؟
خرج صوته غريب كالفحيح وهو يتحرك نحوها فتصلبت في مجلسها غير قادرة على التنفس لا تصدق إنه اكتشف الأمر بهذه السرعة.
اقترب منها وهبط لمستواها واضعًا وجهه الجامد صوب وجهها الشاحب مستكملًا في غموض:
-كنتي مخبياه ليه؟
لمعت عيونها بالدموع وارتعشت ملامحها مهددة ببكائها السريع، ولم تستطع اجابته حتى لو رغبت لم تكن لتقدر فحلقها جاف ممتلئ بطعم العلقم المر ونفسها ضاق حتى صار من الصعب عليها سحبه لرئتيها:
-آآآآه.
خرج منها تأوه يعبر عن ذعرها عندما ضرب بكفيه على مسندي مقعدها صارخًا في وجهها:
-ردي عليا، مش بتردي ليه؟
-أنا كنت خايفة عليك.
خرجت جملتها مهزوزة بمشاعرها ومختلطة ببكائها بينما تحيط ذراعيها فوق صدرها في ارتعاب واضح.
دوت ضحكته الساخرة المكان وهو يستقيم فتابعت وسام عضلات جسده المشنجة الصارخة بعصبية بالغة قبل ان يمد ذراعه نحوها ليوقفها في مكانها في حده هاتفًا في استنكار:
-ياه قد أيه أنتي عظيمة وبتحبيني، بتحبيني لدرجة انك تستغفليني وتخليني زي العيل الصغير قدام الناس كلها.
بصق كلماته المليئة بالحقد في وجهها، فتعلقت عيون وسام المصدومة بملامح الاشمئزاز فوق وجهه لتخبره في دفاعية هشة كالمجنونة لا تعي ما يخرج من فمها من شده ارتباكها:
-أيوة عملت كده عشان بحبك، وانت اللي خلتني الجأ لكده بوحشيتك وهمجيتك..
زاد ضغطه فوق ذراعها دون أن يشعر وقد الهبه حديثها فانتقلت عيناه من أسفلها لأعلاها ليعلن في استحقار وندم:
-مهما حبيتك او عملتلك هفضل بردو متوحش وهمجي في نظرك.
دفعته وسام المتألمة بفعل أصابعه دون جدوى فصاحت في وجهه في اعتراض وقوة تخالف دموعها الملطخة لوجنتيها:
-حب؟
فين الحب ده يا بيجاد؟
انهي حب يخليك معيشني في جحيم اني ممكن افقدك في اي لحظة.
كان يطالعها بخيبة أمل وكأنها خانت ثقته فيها بكلماتها تلك، فاندفعت تمسك تلابيب ملابسه في غضب بعد أن هالها عسر موقفها فبدأت أعصابها تنفلت مزمجره:
-ايوة خبيته منك وهكررها ألف مرة طالما انت أناني وحيوان.
دفعها "بيجاد" بعيدًا عن جسده في قوة أكثر مما ينوي عادت بسببها وسام المصدومة خطوتين للوراء، كان عابسًا يتصبب عرقًا من فرط الغضب لكلماتها المستفزة.
فكان كمن أصابه سحر أسود يتحكم به فلا يري من يشاحنه بل ما يراه ويسمعه هي الخديعة والخيانة وهي بكل غباء تشعل أسوأ شياطينه.
علا صوته المستنكر وهو يجذبها من ملابسها نحوه وكأنه لم يدفعها بعيدًا عنه منذ ثوان:
-أناني وحيوان؟!
مخبية راجل في بيتي وقاعده معاه لوحدكم من الصبح ويا عالم كنتوا بتهببوا ايه وانا الاناني وحيوان ده أنا هموتك بأيدي!.
-أخرس خالص متكملش، إياك تفكر فيها او تتهمني بحاجه زي دي يا بيجاد، لانها بجد هتبقى باللي بينا...
-باللي بينا؟
واحنا في ايه بينا غير ضحك على الدقون، من يوم ما عرفتك وانا بخدع نفسي وبخفي طبيعتي عشان أقدر اتعامل معاكي كأنك ورقة خايف عليها تتكرمش في ايدي، عمري ما حسستك بالوجع من اهانتك ليا أو بالغضب اللي بيدمرني كل ثانية من جوايا.
هزها "بيجاد" في عنف كأنه يدفع بكلماته الصلبة داخل عقلها، وهو ذاته غير قادر على وصف النيران التي تضغط فوق صدره وتحول روحه إلى رماد.
تجاهل "بيجاد" المغيب تأوهاتها المتألمة في اعتراض مستكملًا في بغض:
-ولما حبيتك، كافئتي حبي بأية؟
انك تستغلي حبي ليكي عشان تخدعيني وتستغفليني !
صرخ في نهاية جملته بنبرة قاتلة حامله كل ما يشعر به من ألم وتحطم:
-استغفلتيني عشان بحبك وأنا زي الحمار جريت على حضنك من غير تفكير زي العيل الصغير.
-أفهمني عشان خاطري، والله عملت كده عشان بحبك.
همست مبررة لهجة مذبذبه مليئة بمشاعرها المضطربة المتناثرة لليمين والشمال ما بين التوسل والغضب عليه.
فخرجت منه ضحكه ساخرة وهو يتركها تتخبط في استنكار من كلماته، عائدًا ببطء للخلف هامسًا للفراغ في مُقت:
-انتي كسرتي رجولتي جوا نفسي.
تقدمت منه رغم التشنج القابع داخل معدتها تبكي مستنكرة شاعرة بالظلم فهتفت كمن تلبسها الجنون:
-دي مش رجولة مش لازم اسيبك تعمل اللي في دماغك عشان تبقى راجل.
الرجولة إنك تخاف على نفسك عشان اللي منك زي ما الراجل اللي كسرت عضمه عمل عشان خايف على نفسه وعلى أهله.
عض شفتيه يشعر بكل ذرة تعقل تنتفض هاربة من جسده ليسأل في استهجان غير مبالي بصوت الدقات الصادحة بشكل متوالي فوق باب المنزل الخشبي:
-أنا مش راجل وهو اللي راجل مش كده؟
اقترب منها في خطوات مهددة بينما تبتعد هي عنه متجاهلة صوت والدتها المنادي من الخارج مستكملة في عنادها:
-أيوة مش راجل عشان..
صرخت في ألم عندنا اندفع نحوها وانغلق كفه خلف رأسها يجذب شعرها في غضب هاتفًا:
-أنا مش راجل فعلًا عشان اتجوزت واحدة خاينه زيك.
صدحت تحذيرات والدها داخل عقلها فتحركت دن تفكير، فرفعت ذراعيها في مدافعه غريزية تلاطم جسده في غضب وهجوم مماثل لاقترابه متناسيه انتفاخ بطنها ومتناسيه عواقب غضبه الهادر بينما تصرخ في وجهه:
-والواحده الخاينة دي مش عايزة واحد مش راجل زيك.
شد خصلاتها أكثر يحاول كبح حركاتها حتى تقابل كفها مع وجهه، فلم يشعر "بيجاد" سوى بيده ترتفع وتستقر فوق وجنتها في صفعه مدوية حركت كامل جسدها ليتقابل مع الحائط جوارها.
وقف الزمن بينهما ومرت الدقائق عليهما متثاقلة كأنها ساعات، كانت الدماء تفور في جسد "بيجاد" وتتصاعد في حرارة كأنين في أذنيه.
فوقف لاهثًا لا يرى أمامه سوي هيئة زوجته المنكمشة في ذعر ووجهها المصدوم بينما أصابعها لتغطيه وجنتها المطلية بلون أحمر غاضب بفعل صفعته، ثم تابع كفها الاخر يستقر فوق بطنها في خوف صريح وكأنه وحش كاسر سيمزقها هي وجنينها.
انغلق حلقه باختناق يشعر كمن يسقط من فوق الهاوية، فأخيرًا انتصرت زوجته ووالدها لأنه أقتنع تمامًا في هذه اللحظة إنه ذلك الكائن المتوحش، عديم المشاعر والرحمة التي تصفه به دائمًا، ذلك الكائن الأعمى بالغضب، الذي يستحق الحب أو الحياة مع أحد.
انفرج باب البيت في قوة فقد زعزع الصمت الذي ساد بعد صراخهما مخاوف والدتها التي دفعت بأبن شقيقتها لكسر الباب، ليندفع منه "محمد" بعد محاولات إلى الداخل وخلفه والدتها الراكضة نحو ابنتها في ذعر متسائلة:
-وحدوا الله يا ولاد، انا دمي اتصفى من صوتكم اللي جايب أخر الشارع.
لامست ابنتها تتفحصها ثم انتقل نظرها فوق وجهها الباكي المتعلق بزوجها "بيجاد" الذي لم ينزح بنظره الغامض عنها هو الآخر فهمست مرتعبة:
-يا حوستي، حصل أيه يا ولاد؟
تركت ابنتها التي لم تفييدها أو تنطق بحرف ثم اتجهت نحو "بيجاد" المتشنج في صمت، متسائلة وحدسها يخبرها بكارثة قادمه:
-في ايه يا بيجاد؟
-طلقني...
خرج صوت "وسام" بلهجة غريبة منخفضة موجه في تعب نحو "بيجاد":
-لو راجل بجد طلقني!
-انتي طال...
وضعت والدتها كفها فوق فمه تمنع كلماته مولوله في صدمه:
-اخرسي يا بنت الموكوسة، اعقل يا حبيبي ووحد الله، فكر في اللي في بطنها دي واحده صايعة.
أبعد بيجاد يدها عن فمه قاذفًا بينما يرمق زوجته باتهام:
-أنا وبنتك مش نافعين لبعض يا خالتي.
انفجرت وسام في صرخاتها وعلا صوتها بكلمات بذيئة معترضة متتالية غير مفهومة وقد خرجت عن طور عقلها مع اقتراب مخاوفها فأقترب محمد منها يمنع حديثها بوضع يده فوق شفتيها كي لا يزداد غضب "بيجاد" بجنون كلماتها فيقتلهم جميعًا.
إلا أن "بيجاد" اندفع نحو محمد يجذبه في غضب ضاربًا بجسده في الحائط صارخًا في وجهه:
-متمدش ايدك عليها.
-اهدي يا بيجاد هو ميقصدش.
بررت والدة وسام التي ضربت كفاها فوق صدرها في خضه قبل أن تلتحم معهما تحاول إبعاد أصابع "بيجاد" من حول عنق ابن شقيقتها التي كاد يفقد أنفاسه:
-ولا يقصد يا ماما ده بني ادم مريض نفسي، مجنون مفيش فايدة منه انا بكرهك يا بيجاد خلاص وبكره اليوم اللي شوفتك فيه، أبعد عني وأبعد عن حياتنا اللي دمرتها.
صرخت وسام في اتهام فدفع "بيجاد" جسد قريبها عنه وقد انطلقت كلماتها كالسهام السامة تخترق جدران قلبه، فتراجح للخلف بأنفاس لاهثه ومشاعر عنيفة ثائرة داخله كالبركان.
أغمضت عيناه يخفي احمرارها المجنون ليلتفت بعد ثوان في استسلام نحو باب المنزل مغادرًا في صمت بقلب منطفئ، فأسطورة الوحش انتهت حين التهمته نيران الاحبة.
فتحت وسام شفتيها لإخراج مزيد من الكلمات لكن كل ما خرج منها هو أنفاسها العالية حتى انفجرت في البكاء صارخة في غضب مجنون حتى سقطت أرضًا فاقدة للوعي غير قادرة على تحمل منحنيات الواقع.
بعد مرور أسبوع فاقت أيامه كآبة الزهور في الخريف، وصل "ريان" أرض مصر أخيرًا ممسكًا بأصابع شقيقته "ليان" النحيلة خارجًا بها من المطار باحثًا عن سيارة أجرة تعيده إلى طفليه وقد كان يشعر باشتياق شديد لكليهما وكأنه غاب سنوات طويلة.
-تاكسي.
رمق جسد شقيقته التي القت رأسها بجانب نافذة السيارة مغمضة عينيها في تعب وارهاق واضح ما ان استقلا السيارة، جز على أسنانه يكبح غضبه من الاشتعال وهو يطالع الآثار الحائرة بين الحمرة والزرقة المغطية لجانب وجهها بفعل لكمات نادر الحقير!
زفر في غضب فحتى بعد أن لقنه درسًا قاسيًا لا يزال يشعر بالغضب يندلع في صدره كلما رأى الشقاء في عيون شقيقته، فعلى ما يبدو انه غير قادر على حماية أحد من أحباءه ويفشل بجدارة في تلك الأمور.
مال جانب فمه لأسفل كان عليه الإجابة على مكالماتها فمهما فعلت لا تزال ليان شقيقته الصغرى التي تقيم في الغربة وتحت سيطرة رجل غريب حتى وان كان زوجها.
الله وحده يعلم ماذا كان سيحدث لها ان لم يرسل صديقه لنجدتها حتى يصل إليها، ولن ينسى ابدًا شعوره عند رؤيته لوجهه المكدوم في المشفى فقد تملكه الذنب كالوحش يأكله من كل الجوانب.
شعرت ليان بنظرات شقيقها المشفقة فاستمرت في تصنع النوم كي تتفاداه، تشعر كأنها عادت طفلة صغيره لا حول لها ولا قوة من جديد، بل تشعر كطفلة مشاكسة لا أحد يرغب في مرافقتها أو الاقتراب.
هي لا تستحق مساعدته بعد أن خدعته لكنه كان أول شخص لجأت إليه حين هجم عليها نادر مفرغًا شحنه غضبه عليها لأنها ساومته على تقليل المبلغ، ليتركها الجبان هاربًا حين سقطت مغشيه عليها وسط دمائها، تركها تموت وحيدة دون اهتمام.
حاولت تنظيم تنفسها كي لا ترتبك مشاعرها وتبدأ في البكاء من جديد فقد فعل لها شقيقها ريان الكثير حين حرص على أخذ حقها فلم يعود بها إلا ومعها ورقة طلاقها رسميًا من نادر الذي رضه لمطلب شقيقها الذي أغراه بضعف المبلغ المتفق عليه بينها وبينه.
وبالفعل أعطاه ريان المبلغ ولكنها شعرت بشماته ورضا وهي تتذكر ما اخبرها به صديق ريان الذي أوصلها للمشفى بأنه ما ان اعطاه ورقتها حتى هشم ريان وجه نادر تمامًا كما كاد يفعل في وجهها.
رفعت أصابعها دون شعور تلامس جانب وجهها تتذكر رغمًا عنها كيف أمسك شعرها وكرر ضرب رأسها في الباب بجنون لأنها رفضت اقترابه منها مشمئزة وهو يساومها على الأموال الناقصة.
-تاخدي مسكن تاني؟
فتحت عيناها بتلقائية لكنها لم تنظر نحو شقيقها الذي ترجم اشمئزازها على إنه موجه ألم لكنها اكتفت بهز رأسها بالنفي هامسة:
-لا مبقتش توجع زي الأول، أنا اسفة تعبتك معايا.
أغمض ريان جفونه ثم حرك رأسه في قلة حيله وهو يسمع نبرة الانكسار في صوت شقيقته، مد ذراعه يقربها منه ليضمها بنصف جسده قائلًا في صدق:
-أنا اللي أسف لأني مقدرتش ألملم نفسي بسرعه واسامح.
هربت عبراتها الصامتة عندما شعرت بدفء أخويته فمدت ذراعها تضمها إليها في قوة وحاجه سامحه لذاتها بالبكاء بين ذراعيه لأول مرة منذ الحادثة.
مرر ريان أصابعه بين خصلاتها يربت على رأسه تارة وعلى ظهرها تارة حتى هدأت وعاودت الاعتذار:
-انت ما تستحقش مني لا أنت ولا ريم اللي عمل...
قاطعها ريان وهو يقبل جبهتها مؤكدًا:
-الموضوع ده تنسيه من دماغك، أنا خلاص نسيته وحابب اننا نتخطاه عشان نقدر نكمل حياتنا صح، هتبقي عملتيلي خدمة كبيرة لو عملتي كده، ممكن؟
ابتسمت في حزن لكنها حركت رأسها في موافقة وتمنت لو يكون الأمر بهذه السهولة، تتمنى لو تعود ليان الصغيرة الخرقاء التي ظنت نفسها تعسه.
كم هو غريب الإنسان فهي تشتاق لتلك الليالي التي امتلكت فيها السعادة دون أن تشعر وكانت تظن وقتها انها من التعساء، لا تعلم كيف غفلت "ليان" لكنها استيقظت حين هزها ريان قائلًا:
-يلا وصلنا.
نظرت حولها ثم اتسعت عيناها في ذعر لتخبره:
-ده بيتك انت وريم!
-ايوة، مالك في أيه؟
حدثها ريان في تعجب فأجابته:
-أنا كنت فاكرة هقعد عند بيجاد؟
-لا هتقعدي معايا الفترة دي وبعدين قرري عايزة تقعدي مع مين.
جذبها ريان من السيارة كي ينطلق السائق بعيدًا بعد أن فرغ حقائبهما وبعد ان حملها ريان وتحرك للمبنى نظر خلفه ليجد شقيقته تقف مكانها كالتمثال فسأل:
-مالك يا ليان؟
امتلأت عيونها بالدموع وهزت رأسها في رفض معلنه:
-عشان خاطري يا ريان مش هقدر اشوفها بعد اللي عملته فيها.
-انتي عارفه ريم كويس يا ليان مش هتعملك حاجه، تعالي نطلع دلوقتي وبكره هنتكلم في الموضوع أكتر.
-ريان...
حاولت من جديد فقاطعها ريان بشيء من الحده:
-ليان خلاص دلوقتي الساعة اتنين الفجر، واحنا جايين طيران فوق العشر ساعات ومش شايف قدامي خلينا نطلع نرتاح الأول وبكره يحلها الحلال.
اخفضت ليان رأسها وانطلقت باستسلام خلف شقيقها، خائفة وبائسة فقد كانت ولا تزال الشرير في رواية ريم، هي بدئت الخديعة والجبن ولا تستحق منها سوى الاستحقار لكنها لن تتحمل نظرة العتاب والقهر إن رأتهما في عيون ريم.
صعدت خلفه تضع خطوة بعد الاخرى في ثقل وكأنها متجهه لنهايتها، تشعر بالقُبح والذنب وترغب في الهروب، وقفت تتابع ريان يفتح الباب ليتقابلا بالظلام والهدوء عدى ضوء خافت قادم من بعيد.
حمدت الله انهم نائمين ودلفت خلفه في هدوء بقلب يدق في توجس، اشار لها ريان بالبقاء في الردهة ثم انطلق يتفحص غرفة ريم ليتفاجأ بها وصغيره نيام فوق الفراش، أغلق الباب في خفة واشار لليان لاتباعه نحو غرفة عمر هامسًا:
-تعالي نامي في أوضة عمر، هما نايمين هنا.
تحركت في سرعة خلفه وهي تفكر بأن الأمر ليس بهذا السوء ربما ان اغلقت الباب عليها لن ترى أيا منهم حتى تذهب إلي منزل أخيها الأصغر، تنفست في بطء متعجبة كل هذه الحيرة والتيه المتملكان لمكنوناتها، لقد خدعت نفسها بالنضوج المبكر وبانها قادرة على المواجهة وحدها بنصاحة أفكارها...
فإلى أين أوصلتها أفكارها الرهيبة الآن ؟
فكرت ساخرة وهي تغلق الباب وتناظر الغرفة من حولها في حزن وقد عاد لذاكرتها تفاصيل خيانتها من جديد.
-يا بنتي بالله عليكي كلي حاجة، أنا مش هفضل في الهم ده كتير كفاية عليا هم بيجاد.
قالت والده وسام في حرقة، فالتفتت وسام تبعد وجهها الشاحب كورقة بيضاء مزينه بدوائر سوداء حول عيناها وهي تحرك أنامله فوق بطنها المتألمة بعد أن تملك قلبها انقباض قاتل ما أن سمعت أسم زوجها لتخبرها وسام في حزن:
-لا ما تقلقيش عليا يا ماما.
-بنت انتي عنيده زي ابوكي ليه؟
-هو محمد راح الجيم انهارده؟
سألت وسام مغيره محور الحديث فلوت والدتها شفتيها في خيبة أمل مؤكده:
-ايوة بردو مقفول زي ما هو من أسبوع وبيجاد مالوش أثر.
رفعت وسام يدها فوق عينيها تخفي الدموع التي انهمرت في قهر وقلق، فزفرت والدتها مستغفره الله ثم ربتت على ابنتها مواسية بقولها:
-وحدي الله واهدي وان شاء الله خير، متعرفيش اخوه هيرجع امتى؟
حاولت وسام تجفيف دموعها وهزت رأسها بالنفي مردفه:
-لا كلمت ريم وقالتلي مكلمهاش غير مرتين مرة من المطار ومرة من المستشفى، ومش عارفة عنه حاجة عشان في مشاكل مع اخته ولسه مفضاش يكلمهم.
-عيني عليك يا بيجاد يا ضنايا، مالكش حد في الدنيا.
تمتمت والدها في قهر وهي ترمق وسام عن قصد فأبنتها أخطأت ويتوجب عليها كأم تنبيهها إلى أفعالها كي لا تكررها من جديد، نظرت لها وسام في غضب لتخبرها في غيظ:
-ماما متبوظيش أعصابي، أنا متمرطة نفسيًا اصلًا.
-أحسن تستاهلي، بقى في واحدة متربية تعمل كده وتقول الكلام الزفت ده لجوزها يا مؤمنة.
وأنا اللي كنت فاكرة نفسي مربياكي أحسن تربية، أخص عليكي.
-يا ماما أرجوكي كفاية، أنا مغلطش لوحدي هو كمان مد ايده عليا وانا بطني مليانه.
-طيب يمين بالله لو انا مكانه لكنت كسرت كل عضمه في جسمك وما همنيش اللي في بطنك حتي، عشان تبقى تخبي رجاله غريبة في بيتك يا صايعة.
أخبرتها والدتها وهي تجز على أسنانها محركه كفها كتأكيد للعنف الذي يعتريها فهتفت وسام التي توشك على البكاء من جديد:
-يا ماما حرام عليكي بقى كفاية عرفت اني غلطت أكتر منه، ممكن نركز في اللي حنا فيه ونلاقي الأول!
-ولما انتي هتموتي نفسك عليه كده، بتغلطي ليه؟
-يوووة.
قالت وسام في حرقة وقلبها يتمزق في ندم وخوف على زوجها المختفي منذ أسبوع كامل ولا أحد يعلم إلى أين ذهب.
عادت بذاكرتها إلى ثلاثة أيام ماضية حين كانت غارقة في بغضها عليه مفكرة كيف ستتعامل مع الموقف مصره على فكرة الانفصال في عناد، لتتسرب أفكارها حين دلفت عليها والدتها تخبرها وقد ارهقها الصمت بأن بيجاد لا وجود له منذ طردته.
وقتها صدمتها والدتها باختفائه وحاولت وسام التريث وعدم التفكير في الأمر والتركيز على مشاعر الغضب والنقم عليه، ولكن بعد مده من بحث ابن خالتها ووالدتها وانغلاق هاتفه ليومين كاملان تملكها الرعب والتوجس.
فهي تخشى على زوجها من جنون أفعاله وتلوم نفسها لأنها لم تستطع لجمه أو التعامل معه بشكل جيد، تكفي كلمات والدتها المحللة والساخرة لتقتنع بأنها حطمت قلبه كليًا.
-جربتي تتصلي بيه؟
خرجت من أفكارها على سؤال والدتها فحركت وسام رأسها للأعلى وللأسفل قائلة:
-اه أول امبارح اتصلت عليه خمس مرات.
-من تلفونك؟
-لا من تلفونك انتي، معيش رصيد.
ضربت والدتها بكفيها فوق بعضهما أمام وجهها وكأنها ترغب في اللطم مستنكره:
-مستنيه أيه يعني، ما تتنيلي على عينك اشحني واتصلي يمكن يرد عليكي انتي!
-الله مش هو اللي مش بيرد، مجاش في بالي اصلًا، بطلي تزعقيلي!
-يا ميلة بختي يا اني يا امى ووكستي في بنتي، وقفت تجذب حجاب الصلاة قائلة من بين أسنانها:
-هنزل ابعتلك رصيد واتصلي بيه أول ما يوصل انتي سامعة، ولو رد وتتأسفي وتراضيه وتبوسي ايديه كمان ... فاهمه!
كانت لهجة والدتها أمره وكأنها طفلة صغيرة تؤنب على أخطائها، فهزت رأسها في موافقة لأنها ستفعل كل ما يطلبه منها الأمر كي تسمع صوته فدقات قلبها تتوق إليه، شعرت بغصة تقبض قلبها فهي تشتاق لزوجها كثيرًا وترغب لو تركض بين ذراعيه متوسله معتذرة عسى أن يسامحها.
-يارب ترد عليا وتريح قلبي.
همست في خفوت فلا أحد يشعر بذلك الإحساس المتملك لجوارحها، أو بشعور الذنب المحاوط لأفكارها كالسجن الممتلئ بشتى ألوان العذاب، فهي ستموت حرفيًا إن فقدته وقرر الابتعاد عنها لأنها بالتأكيد تستحق هذا العقاب الشديد منه...
عضت شفتيها في قهر، ودعت الله أن يحفظ حبها داخل قلبه كما يحفظ حبه داخل قلبها... فهي مجنونة وتفوق زوجها جنونًا وقت غضبها لكنها نادمة ... نادمة بشدة...