قصص و روايات - روايات عالمية :

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الرابع

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الرابع

كانا يتفاوضــان على قتلي، هذا آخر ما أذكره قبل أن أشعر بألم عظيم يعصف برأسي، وبمذاقٍ مالح يقتحم حلقي، لأغرق بعدها نحو ذاك السواد الحالك، حينها فقط شعرت بالسكينة والاسترخاء، نغص عليّ ذلك الشعور الجارف بالاستسلام تلك الضغطات العنيفة على ضلوعي، فتحت بثقلٍ جفناي لألمح أطيافٍ مبهمة المعالم تتجول فوق رأسي، حتى الأصوات المنتشرة من حولي، بدت كوخزات حادة تؤلم أذناي، فقط نداء قريب للغاية، متكرر باسمي، ظل ينتشلني من راحتي المؤقتة:

-"ريانا"! "ريانا"!

ثم أحسست بذراعان تلتفان حولي، وباهتزازات سريعة من أسفلي؛ وكأن أحدهم ينقلي من مكان لآخر، بعدها اجتاحت جسدي رطوبة باردة، وشعرت برجفات متتالية تنال مني، ومع هذا أطبقت على جفناي بقوةٍ لاستدعي استرخائي اللذيذ واستمتع به، لا أعرف كم مضى عليّ من الوقت وأنا على تلك الحالة الهادئة؛ كنت في حالة سكون تام، إلى أن بدأت استفيق من غفوتي على شعوري بلمسة حنون، تطال جبيني تارة، وظهر كفي تارة أخرى، بدأت استجمع طاقتي المستهلكة لأفتح بها جفناي، وأنا أرهف السمع لتلك الهمهمات غير الواضحة.. صوت والدتي كان الأقرب إليّ، خاصة حين هللت بسعادة غريبة:
-يا إلهي! أخيرًا عدتِ إلى وعيك.

ضغطت على عيناي لأعتاد على الإضاءة، رغم كونها غير مزعجة؛ لكنها كانت مؤلمة بالنسبة لي، شعرت بوخز طفيف بهما، ربما نتيجة الملوحة التي أصابت حدقتاي، أدرت رأسي مع حركة جسدها المتحمس لأتابعها، وهي تضيف:
-أنظر "رومير"! لقد أفاقت ابنتي.
تحولت نظراتي نحو خالي، حين سألني بلطفٍ:
-كيف تشعرين الآن، "ريانا"؟

أجبته متسائلة بوهنٍ، وأنا أحاول الاعتدال في رقدتي، ساحبة الغطاء على جسدي، فمازلت أشعر بالبرودة تضرب أطرافي:
-ما الذي حدث؟ وأين أنا؟
مسح على رأسي برفقٍ، وجاوبني بابتسامة لبقة:
-أنتِ في مأمن من أي خطر.
سألته محاولة تذكر ما مررت به:
-ألم أكن بالخليج وآ..؟

بترت سؤالي لأنظر إلى قميص النوم الحريري –ذي اللون الأسود- الذي أرتديه، كان يكشف عن كامل أكتافي بسبب حمالاته الرفيعة، لا أذكر أبدًا أني كنت أمتلك واحدًا أسفل ثيابي الرسمية، ولا أعرف أين يصل طوله بسبب الملاءة التي تغطي جسدي، للحظة دار في خلدي هاجس موتر، جعل بشرتي تتورد خجلاً؛ ألا وهو احتمالية قيام "فيجو" باستغلال الموقف، وتجريدي من ملابسي، في حالة اللا وعي التي كنت غارقة فيها، لهذا هتفت متسائلة في جزعٍ، وأنا أتطلع إلى والدتي:
-ما هذه الثياب؟ وأين ملابسي؟

رد "رومير" بقليلٍ من التهكم:
-ليس من المعقول أن نبقي ثيابك المبتلة على جسدك.
بينما أوضحت والدتي بابتسامتها الرقيقة، وهي تمسح على وجنتي بأناملها الناعمة:
-لا تقلقي ابنتي، لقد أحضرنا لكٍ ثيابٍ جديدة، وقمت بتبديلها لكِ، بمساعدة إحدى خادمات القصر.
تنهدت في ارتياح، وأنا أجاهد لابتسم حين رددتُ:
-شكرًا أمي.

عادت الأسئلة الفوضولية تقتحم عقلي بقوة، وتساءلت بجديةٍ، ونظراتي تجول على وجه خالي:
-وكيف جئت إلى هنا؟
نظر في عيني بشيءٍ من الغرابة، وأجاب متحفظًا:
-أنقذك "فيجو" حينما اختل توازنك، وسقطت عن الممر.
ارتسمت علامات الدهشة على كامل وجهي، وهتفت في استنكارٍ، رافضة تصديق ذلك الجانب الملفق من الرواية:
-ماذا؟

ضمت "صوفيا" يديها معًا، في حركة متضرعة، وقالت بنبرة ممتنة بشدة:
-حمدًا لله أنه رأكِ، وإلا لهلكتِ صغيرتي!
شعرت بالإحمرار الغاضب يتسرب إلى بشرتي الذابلة، حتى دبيب قلبي كان في ارتفاعٍ عجيب، ارتكزت عيناي مجددًا على وجه خالي الذي قال بنبرة جافة، أو الأحرى أن توصف بأنها خالية من التعاطف معي؛ وكأن الذنب يقع على عاتقي فقط:
-نعم، هو أحسن التصرف بإحضارك إلى هنا، بعيدًا عن أجواء حفل الزفاف، وإلا للفت الأنظار إليكِ، ونحن لسنا بحاجة لأي فضيحة الآن!

لم أتحمل الصمت، وصحت محتجة، موجهة حديثي لوالدتي، ولوحت بذراعي، بالرغم من الأنين الصارخ في كامل عظام جسدي:
-أمي، الحقيقة غير ذلك.. كان هذا الوغد، وقريبه متربصان بي!
شهقت والدتي وهي تضع يدها على فمها مصدومة، قبل أن تبعدها لتسألني بنفس الدهشة المرتابة:
-ماذا تقولين؟
أنكر خالي الحقيقة التي مررت بها، ليقول ببرود استفزني:
-إنها تهزئ أكيد.

احترقت أحشائي، وتلوت معدتي ألمًا لفرط انفعالي المرتعد، وأنا أصرخ بشدةٍ، لأزيح تلك الغشاوة التي تحجب الحقيقة المخيفة عنهما:
-لا، اللعنة عليهما، أراد المدعو "لوكاس" قتلي!
شهقة أخرى مفزوعة انطلقت من فم "صوفيا" تلقائيًا، لتردد بعدها بأنفاسٍ مرتبكة، وعلامات الجزع تنبعث حتى من نظراتها نحوي:
-قتلك؟ يا إلهي!
تدخل خالي معترضًا بهدوئه غير المفهوم، وهو يحاوطها من كتفيها لتخفيف روعها:
-"صوفيا"، إنها تبالغ!

ثم التفت نحوي محذرًا، بلهجةٍ لم أسترح لها:
-وأنتِ "ريانا"، اهدئي! هذه تراهات.
تشبثتُ برأيي، وقُلت:
-ليس كذلك.
حدجني بتلك النظرة المستهجنة قبل أن ينطق بنبرته الهازئة:
-يبدو أن أثر الارتطام أصابكِ بلوسةٍ غريبة.

احتججت بغضبٍ أكبر، واكتسبته تعابير وجهي أيضًا:
-أنا واعية لما أقول.
كانت نظرته لي غاضبة تقريبًا، وهو يدفع والدتي نحو باب المنزل، تباطأت خطواتها، وأصرت على البقاء قائلة له بما يشبه التوسل:
-انتظر "رومير"، أريد أن أعرف التفاصيل من طفلتي.
بتهذيب رفض رجائها:
-لاحقًا "صوفيا"، دعِ "ريانا" تستريح الآن.
زمت شفتيها قائلة باعتراضٍ:
-ولكن..!
أسبل عينيه يرجوها بحنوٍ استشعرت زيفه:
-من فضلك..

نظرت لي بحيرة، قبل أن تباعد عينيها عني لتحدق في شقيقها الذي ألح بتشديدٍ:
-"صوفيا"! أحتاج للحديث مع "ريانا".. بمفردنا، سأتحرى منها عما حدث، والمخطئ سيعاقب.
هزت رأسها في إذعانٍ، وقالت له، وهي تمنحني تلك النظرة الحنون منها:
-لا ترهقها، "رومير".. إنها لا تزال متعبة.
كانت ابتسامته هادئة وهو يرد:
-لا تقلقي.

تابعت حركة والدتي إلى أن انصرف من الغرفة، فأغلق "رومير" الباب من خلفها، واستدار ليواجهني، لم أنهض عن الفراش بعد؛ لكني كنت متحفزة بدرجة كبيرة، رمقت خالي بنظرة جادة، وأنا أسأله مباشرة، خاصة حين طالت نظراته الغامضة نحوي.
-ما الأمر خالي؟
بادر بسؤالي عن منحي إجابة صريحة:
-هل أنتِ بخير؟
أجبتُ بنفاذِ صبرٍ:
-نعم.. وأريد الذهاب من هنا فورًا...

انفلت لساني بالمزيد، وبوحت له دون تمهيدٍ:
-أنت لا تعلم المؤمرات التي تُحاك من ورائك، إنهم يترصدون حركاتك، وربما يريدون قتلك.
نظر لي مليًا قبل أن يعقب:
-أعلم كل هذا.. وأكثر.

شكلت صراحته مفاجأة صادمة له، وانفرجت شفتاي عن دهشة عظيمة، ما لبث أن تضاعفت حينما اقتحم هذا الوقح الغرفة، لم أتوقع أبدًا أن يفعل ذلك، رجفة موترة عصفت بجسدي المتعب، منحني "فيجو" نظرة سريعة؛ وكأنه يتفقدني بها، تخشبت تقريبًا في جلستي على الفراش حينما تقدم للداخل، كان جريئًا بشكٍل لا يصدقٍ، ونظراته النافذة تنخفض على بشرتي، مما دفعني لسحب الغطاء لتغطية كامل جسدي، فلم يظهر إلا رأسي منه. ضاقت عيناي بتحفزٍ عندما أردف مستئذنًا بتهذيبٍ، وتلك الابتسامة الباردة مرسومة بعناية على محياه:
-هل تسمح لي بالدخول؟

وبدلاً من طرده قام "رومير" بدعوة "فيجو" للدخول، بترحيبٍ دافئ:
-تفضل.
شعرت بدمائي الحارة تنتفض في كل عروقي، فرفعت ذراعي لأصرخ في وجهه بعصبيةٍ كبيرة، مما أزاح قدرًا من الغطاء عن كتفي:
-خالي! إنه مخادع، ليس وديعًا كما يدعي.

لم أشح بنظراتي النارية عن وجهه القاسي، وفاجأني مجددًا، وجعل قلبي يهوي برعبٍ في قدمي، حين هتف بتلك الابتسامة المميتة، وعيناه تتجولان على بشرتي بحريةٍ؛ كأنه يؤكد لي استباحته للأمر:
-ومن قال أني كذلك؟ أنا من أشرس القتلة! ربما أشدهم وحشية!
أكاد أجزم أن قلبي توقف عن النبض للحظة، لأتمتم بعدها بصوتٍ انحبس غالبيته في جوفي:
-اللعنة!

رأيته يدير رأسه في اتجاه خالي يسأله، ووجهه مشدود بشكلٍ منزعج:
-ألم تخبرها بعد سيد "رومير"؟
أجاب الأخير محاولاً الابتسام له، بصوتٍ خافت؛ لكنه مسموع لي، وهو يشير بيده:
-كنت أمهد لها عزيزي "فيجو".
احتدت نظراتي نحو الاثنين، وسألتهما بنبرتي المهزوزة، والتي لم تخلُ من العصبية:
-ما الأمر؟ لماذا كل هذا الهمس، خالي؟

لم يمنحني الإجابة، بل كان يتوسل لعدوه باستعطافٍ شديد، حتى شعرت أنه سينحني ليقبل قدمه كذلك ليقبل بالذهاب:
-من فضلك "فيجو"، اذهب الآن، هذا أفضل.. للجميع.
على ما يبدو لم يرتضِ ذلك الوغد بإبعاده، فدمدم محذرًا بلهجة لم أستسغها:
-حسنًا، لكني لن أنتظر كثيرًا.
همست من بين شفتاي أنعته، ونظراتي الحقود تكاد تقتله:
-حقير!

أغلق الباب ورائه، وتشدقت هاتفة بنبرة متعجلة، وأنا أدفع الغطاء عني، لأنهض عن الفراش، معتقدة بيقين كبير أن صوتي الغاضب اخترق الخشب، وحتما وصل إليه، فدمائي الحانقة لم تحط بعد:
-خالي أريد الرحيل من ذلك المكان فورًا، لا أطيق البقاء في مكان يجمعني بهؤلاء القتلة.
رأيتُ خالي يلوح لي بكفيه قائلاً:
-لحظة "ريانا".

احتفظت بحدة نبرتي المتشنجة، وأنا أسأله:
-ماذا؟
أخفض يديه، وعلق بملامح جادة:
-أريدك أن تصغي جيدًا لما سأقوله، اتفقنا؟
اكتفيت بهز رأسي، فاستطرد يوضح لي، بنوعٍ من المراوغة:
-تعلمين صغيرتي، بأن مصلحة العائلة وسلامتها، هي من أولى اهتماماتي.

أيدتُ قوله مرددة دون إعادة تفكيرٍ:
-نعم، أنا متأكدة من إخلاصك في شئوننا خالي.
تنهد ببطءٍ قبل أن يتابع بنبرته الجادة:
-وأنا أحاول جاهدًا أن أحافظ على حياة الجميع سالمين، وبعيدًا عن أي أذى.
أصغيت لما يخبرني به باهتمامٍ، فلم يبدُ ذلك غريبًا؛ ومع هذا شعرت بالخوف يتسرب تحت جلدي، عندما واصل القول:
-لكن.. للأسف.. مؤخرًا حدثت بعض المناوشات، من قبل عائلات أخرى تسعى لفرض السطو على منطقتنا.

سألته بصوتٍ مضطرب، وقد ازداد تغلغل إحساسي بالخوف:
-وكيف تعاملت معهم؟
مط فمه، وضغط عليه شفتيه لثوانٍ قبل أن يحركهما ليجيب:
-حسنًا، لقد اتفقت مع عائلة "سانتوس" على الاتحاد لمواجهة ذلك التمرد.
قلت باستحسانٍ، وبلا أدنى تشكيك في نواياه:
-جيد.
انقبض صدري، وهو يضيف الجزء الأخير الغامض، والذي أشعرني أني متورطة فيه بقوةٍ:
-لكن، كي يكتمل هذا الاتحاد، لابد من حدوث المصاهرة بيننا.

حاولت إنكار ما ينبئني به حدسي، وسألته:
-وما شأني بالأمر؟
انتظر لبرهةٍ، وكأنه يستعد لإطلاعي بالكارثة الكبرى، ثم هتف أخيرًا بتهملٍ حريص، وقد اتلفت هذا كامل أعصابي:
-طلب "مكسيم" يدك.. لابنه "فيجو"!
صرخت ناعتة بهديرٍ متشنج:
-اللعنة، ماذا تقول؟
تفاجأ خالي من وقاحتي، وحذرني بنوعٍ من التأديب في صوته:
-احذري لسانك "ريانا"!

هتفتُ، وأنا ألهث تقريبًا من انفعالي الشديد:
-أعتذر منك خالي، ولكني أرفض بشدة أن أتورط مع هذا القاتل الملعون.
بدا صوته واثقًا وهو يعقب عليّ:
-لن يمسك بسوء، "مكسيم" تعهد لي بهذا.

اغتظت من الصفقة الدنيئة التي تمت من دون علمي؛ كما لو كنت جارية أباع في سوق الرقيق، لمن يدفع ثمني مسبقا، ومع هذا كنت متمسكة بأمل ضعيف، من احتمالية تراجع خالي عن قراره، إن وجدني مُصرة على رفضي، فتساءلت، وقلبي يدق بقوة، حتى كدت أحس أنه سيقفز هاربًا من بين ضلوعي:
-ومن يضمن لك ألا يخل بوعده معك ويقتلني؟ أنا ابنة أختك؟
رد ببرود:
-لن يفعل.

صحت بنزقٍ:
-إنه يتحدث مع قريبه عن ثأر يخصني.. كيف أثق أنه لن ينحر عنقي؟
فقدت إحساسي كليًا بالأمان، وهو يؤكد لي مخاوفي:
-للأسف زواجك منه سيمنع هذا، لأن لكِ علاقة مباشرة بمقتل "ماركوس".
هتفت في يأسٍ من تكرار سماعي لهذا الاسم الغريب:
-من هذا الرجل؟ أنا لا أعرفه! كيف أتحمل ذنبه؟
أوضح لي بترددٍ:
-"ماركوس" هو.. الشقيق المحبوب الأصغر للزعيم "مكسيم".

شهقت مذهولة من معرفة الحقيقة الغائبة، وامتلأت تقاسيم وجهي بدلالات الارتعاب، بينما أكمل خالي بمزيدٍ من الغموض المخيف:
-ربما كنتِ صغيرة، لا تعين ما حدث، ولكن دعيني ألخص لكِ الأمر..
تأكد من حوزته على انتباهي بالكامل، قبل أن يستأنف قائلاً بنبرته الثابتة، وكأنه يقص عليّ أقصوصة ما قبل النوم؛ ولكن من النوع المفزع جدًا:
-كانت الحرب مشتعلة بضراوةٍ مع عائلة "سانتوس"، عشرات القتلى عشية كل عطلة أسبوعية، وخلف ذلك الكثير من الأرامل واليتامى، خرجت الأمور حقًا عن السيطرة، و"ماركوس" بالأخص توعد زوج أمك بقتله، وإنهاء نسله، لخلافات جمة بينهما، ومراهنات لا نهاية لها..

قاطعته متسائلة بخوفٍ أكبر، ودقات قلبي تكاد تسد أذناي من قوتها:
-وما شأني بهذا النزاع الدموي المميت؟
بتمهلٍ لبك بدني أكثر أجابني "رومير":
-حينما جئتِ مع أمك لمقابلة "أندور" الراحل، أحد الوشاه الخائنين أخبروه بوجودك، لاعتقاده بأنكِ ابنته، لذا أراد خطفك، وأنا منعته في اللحظة الأخيرة، وأرديته قتيلاً.
استوعب عقلي جملته الأخيرة بوعيٍ أكبر، واعترفت له دون احترازٍ:
-إذًا ثأره معك، وليس معي!

لم أتوقع أن يجاريني في رأيي حين عقب بصوته الهادئ:
-يمكنك قول هذا؛ لكن رأكِ رجال "سانتوس"، وأنتِ ممسكة بسلاح "ماركوس"، حينما سقط بكِ أرضًا، كان السلاح بين يديكِ، فاعتقدوا أنكِ من فعلتِ هذا.
مع توضيحه المسهب الأخير، أصبت بالصدمة الشديدة، بدا الأمر بالنسبة لي، كما لو أن صاعقة برق ضربت عمود إنارة وحيد في طريقٍ منعزل، فطرحته أرضًا
-اللعنة! أنا أرتعد من منظر الدماء، كيف أقتل أحدهم ببساطةٍ؟

تنحنح قائلاً بحذرٍ طفيف:
-هذا ما تناقله أفراد العائلتين، تحولتِ مُصادفة لقاتلةِ "ماركوس".
علقت ساخرة، وأنا أكتف ساعداي أمام صدري:
-وبالطبع عزز ذلك كل الكراهية نحوي.
وافقني خالي القول مرددًا بصراحة تامة:
-للأسف.. نعم.

تنفست بعمقٍ لأستعيد ضبط أنفاسي المضطربة، فلم أعد على ما يرام، بعد كل ما سمعته، حتى جسدي لم يكف عن الارتجاف، وقدماي تكادان تفشلان في حملي، عدت لأجلس على طرف الفراش، وأطبقت على جفناي للحظة، وكلتا قبضتاي تمسكان بطرف الغطاء، ثم فتحت عيناي، ونظرت إلى "رومير" بعينين تائهتين، وأنا أطلب منه:
-وما العمل إذًا؟ أنا لا أريد هذا الارتباط، لا أستطيع أن أقبل به.

رد "رومير" بتعابير لا تبشر بخير:
-أنتِ مضطرة للقبول بـ "فيجو"، وإلا لنال منكِ "لوكاس"، هو من يمنعه عنكِ.
كنت في وضعٍ لا أحسد عليه، الاختيار بين الموت الحتمي، أو الزواج من قاتل لا يعرف الرحمة، وكلا الاختيارين أرفض القبول بهما، كدت أبكي، وأنا أصر على رفضي:
-اللعنة.. أنا أهرب من الموت للجحيم، لا أريد ذلك.

ثم دفنت وجهي بين كفي، أنتحب بعجزٍ واستياءٍ شديدين، جلس "رومير" إلى جواري، شعرت بيده تضغط على كتفي برفقٍ، قبل أن تنخفض نحو ظهري شبه العاري لتمسح عليه بحنو، صوته الخافت وصل إلى أذني، وهو يجاهد لإقناعي، بتقبل ما تم إقراره بشأني:
-ليس الأمر بهذا السوء "ريانا"، "فيجو" هو الرئيس القادم لعائلة "سانتوس"، وستصبحين زوجته، وإن أنجبت لـ "مكسيم" حفيدًا، ستصبحين في منزلة عظيمة.

توقفت عن البكاء لأرفع رأسي، وأديرها في اتجاهه، وجدته يبتسم لي ببرود؛ وكأنه يفرض عليّ ثوبًا من ذوقه، وليس زواجًا محكومًا عليّ فيه بالموت، حملقت فيه مليًا، بشيءٍ من الكراهية، وأنا فقط أردد بين جنبات نفسي:
-كيف يقرر مصير حياتي بتلك السهولة؟ لن أسمح بإجباري على الزواج منه مهما حدث، سأهرب فورًا.

انسحب "رومير" من الغرفة، تاركًا إياي أستريح، أو الأدق تركمي بمفردي لأفكر بحكمة في مصير ومستقبل العائلة الذي بات بين يدي، ذرعت المكان جيئة وذهابًا، أدور حول نفسي في حلقات مفرغة، محاولة وضع تصور مبدأي لخطة الهروب الخاصة بي، أهم ما كنت أحتاجه حاليًا؛ هو الخروج من هنا أولاً، دون أن أخبر حتى والدتي، فلا تعيق حركتي، أو تخبر خالي، فيمنعني من تنفيذ هذا، ثم الذهاب إلى الفندق، وجمع متعلقاتي سريعًا، والتوجه إلى المطار، و...

يبدو أني استغرقت في التفكير، فلم أنتبه للباب الذي فتح لتوه، تسمرت في مكاني مذهولة، وأنا أرى "فيجو" يحتله بجسده الضخم، بالطبع بدل ثيابه المبتلة، بأخرى جافة، وأنيقة؛ سروالٌ رمادي داكن، يعانق ساقين مليئتين بالعضلات، وقميصٌ أسود اللون، يلتصق بعضلاته البارزة من أسفله؛ لكن بدون رابطة عنقٍ، وياقة مفتوحة.

تراجعت تلقائيًا للخلف، لأوفر مسافة آمنة لي، نظراته الوقحة تجولت على جسدي بجراءة لا مثيل لها، مما أشعرني بالخجل، وجعل الدماء الحارة تندفع بغزارة إلى وجهي، لتشعرني بالمزيد من السخونة، تداركت سبب تحديقه المطول بي، كنت لا أزال أرتدي قميص النوم القصير، وبالتالي كانت الرؤية متاحة له، عفويًا ضممت يداي إلى صدري لأحجبه عن نظراته، قبل أن أوبخه بغلظةٍ، رغم ارتجاف صوتي:
-كيف تتجرأ على الدخول إلى هنا؟ وأنا في تلك الحالة؟

استقام في وقفته، فظهرت هيبته المطعمة بقوة تدب الخوف في القلوب، ابتسم واضعًا يديه في جيبي سرواله، ورمقني بتلك النظرة المستخفة المثبتة على مفاتني، وهو ينطق ساخرًا مني:
-وكأنك تملكين شيئًا لم أشاهده من قبل!
اغتظت بشدة من اقتحامه لخصوصيتي، واستحقاره البادي في صوته نحو ممتلكاتي الأنثوية، فهتفت أنعته بعصبيةٍ:
-أنت .. وقح!

رد بابتسامته المتسلية؛ وكأنه يتعمد استفزازي، وإثارة حنقي أكثر:
-لم ترِ الوقاحة بعد آنستي!
شهقت لصراحته الفجة، وارتعبت من نظراته الغامضة المهددة لكينونتي، استجمعت شجاعة هربت منذ أزل، لأوبخه بضيق، وأنا اتجه للفراش لأسحب الغطاء، وألف به جسدي، لأمنعه من التطلع إليه بتلك الجرأة:
-كيف تتحدث هكذا مع سيدة محترمة مثلي؟

كنت متأكدة أنه يتبعني بنظراته، وإن لم أكن أنظر في اتجاهه، تصلبت أكثر في وقفتي، واستدرت كليًا نحوه بنصف استدارة، حين قال بصوته الصارم:
-لننهي تلك السخافة، اسمعيني جيدًا...
ضاقت عيناي على الأخير للحظة، قبل أن تتسع في هلع، وهو يؤكد لي بلهجته التي تجعلني انتفض خوفًا، وإصبعه مرفوع في وجهي:
-أنتِ لي!
لعقت شفتاي الجافتين، وتداركت خوفي الظاهر مؤكدًا على ملامحي، لأرد محتجة على امتلاكه المعلن لي:
-لن يحدث.

تقدم نحوي بثباتٍ، وعلى الفور تراجعت بخطواتٍ مرتبكة للخلف، لأبتعد عنه؛ لكني اصطدمت بالحائط البارد، وقبل أن أفكر في الهروب من تهديده المحيط بي، وجدت نفسي محاصرة بين ذراعيه، حيث أقبل عليّ، في لمح البصر، مستندًا بكفيه على الحائط، وأصبحت فعليًا أسيرته.

التصقت أكثر بالحائط، وأدرت رأسي للجانب، وأنا أغلق عيناي، لأشيح بعيدًا عن نظراته التي تمنحني شعورًا بالبرودة القاتلة، كانت رائحة عطره الذكوري قوية، تخترق أنفي، وتصيبني بالدوران، خنقت شهقة مذعورة، حين لفحت أنفاسه الساخنة، بشرتي الباردة، وهو يهمس بنبرة أقرب للتعهد:
-سنرى.

حبست أنفاسي بترقبٍ، متوقعة حدوث الأسوأ، وحاولت أن أحتمي بالغطاء الذي يمنعه من لمسي تقريبًا، دون أن أجرؤ على فتح عيناي، وانتظرت .. لكن خفت حدة العطر، وشعرت به يبتعد عني، هنا تنفست الصعداء، واستدرت ناحيته لأجده يسير بتؤدة في أرجاء الغرفة متابعًا حديثه معي:
-أرى أنكِ أصبحتِ بخير.

ادعيت الثبات وأنا أصرح له بسماجةٍ:
-لن تحظى بشكرٍ مني.
انطلق ضحكة هازئة منه استفزتني قبل أن يبترها ليرد بكلماته الموحية، وعيناه مثبتتان على جسدي:
-لا أريد شكرك، أطمع في شيء آخر أهم..
فطنت لما لمح له، فنعته بوجه محمر خجلاً:
-قذر.

استهزأ بي مبتسمًا، وهو يغمز لي بطرف عينه:
-لماذا يتجه عقلك دومًا لتلك المسائل...
بدا معتدًا بنفسه، وصوته مغترًا بشكل أربكني أكثر وهو يكمل:
-هل لأنكِ ترغبين بي؟ اعترفي!
قال جملته الأخيرة وهو يخترقني بنظراته النافذة؛ كأنه يجردني من ثيابي، صحت بعصبية مهددة رافضة تواجده بالقرب مني:
-أنت وغد، اذهب من هنا، قبل أن أصرخ وأتسبب لك في فضيحة.

لم يأخذ حديثي على محمل الجد، فقط رمقني بتلك النظرة القاتمة، غير المريحة، وقال ببرود متناهٍ:
-حسنًا هذه المرة سأذهب، لكن لن أسمح لكِ بطردي مجددًا.
منعت لساني من سبه بصعوبة؛ خشية أن يفكر في الاعتداء عليّ، وأنا في موقف ضعيف، إلى أن خرج من الغرفة، لأقول بعدها، وكل حنق العالم يعتريني:
-احترق في الجحيم.

على عجالة، ارتديت الثوب الفيروزي الذي وجدته على طرف الفراش، لا أعرف حقًا كيف أحضرته والدتي، ولم أهتم للسؤال، فقد كان مناسبًا لجسدي، ومعانقًا لمنحنياته المغرية، بكتفٍ واحد مغطى؛ كان أنيقًا، وملائمًا لي، كأنه تم تفصيله لأجلي؛ لكنه أيضًا كان كافيًا لأموه به أفراد التأمين أثناء خروجي، فلن يتعرف عليّ أحدهم، لكوني لم أخرج بنفس الثياب التي أتيت بها، صففت شعري، وتركته منسدلاً، لأخفي به ملامح وجهي، تشجعت وخرجت من الغرفة، أسير بخطوات حذرة في الردهة الطويلة، بحثت عن الدرج، ورأيته في النهاية، بالطبع استعنت بمساعدة إحدى الخادمات، لأصل إلى حيث يتواجد الحفل.

نظرة سريعة حذرة اختلستها، وأنا اختبئ خلف إحدى الشجيرات العالية، كان أغلب الحضور في حالة سُكر، ومشغولين بالرقص والمرح، فتشت عن والدتي وخالي لم أجد الأولى، ورأيت الأخير يضحك مع "مكسيم" وابنه الوقح، أما "لوكاس" فكان يُراقص إحدى وصيفات العروس، حسنًا، ذلك أمر جيد، لن يدرك أحدهم اختفائي، سيظنون أني استريح؛ كنت فقط قلقة على والدتي، لكني سألتقي بها لاحقًا على أي حال..،

تسللت من المكان لأتجه للممر المؤدي لبوابة القصر، وهناك نثرت شعري المتحرر، على جانب وجهي، لأخفيه عن الأمن كما خططت، انتصبت خلال سيري، حتى لا أبدو مهتزة أمامهم، فأثير الريبة دون داعٍ، مررت بهم، وأنا أدعي انشغالي بالتطلع إلى ما داخل حقيبة يدي الصغيرة، والتي حمدًا لله لم أفقدها، واصلت السير إلى أن خرجت من هذا المكان، حابسة لأنفاسي، وما إن ابتعدت عنهم حتى ارتخت عضلاتي بالكامل، وشعرت أني على وشك الإغماء من فرط حماسي.

حقًا لا أصدق نجاحي في الفرار بتلك البساطة الشديدة، تراقصت ابتسامات فرحة على محياي، حتى نبض قلبي شعرت به ينفجر من قوته داخل ضلوعي، تابعت السير المتعجل إلى أن وصلت لطريق السيارات، لوحت بيدي لإحدى عربات الأجرة، آملة أن أجد واحدة شاغرة، قبل أن يستوقفني أحد الرجال المسئولين عن صف السيارات، وحدث ما توقعته، وجدت أحدهم ينادي من خلفي:
-آنستي! أتريدين مساعدة؟

تجاهلت الرد عليه لأهرع نحو السيارة التي توقفت على الجانب الآخر، رفعت طرف ثوبي، حتى لا أتعثر في خطواتي الراكضة، استقريت في المقعد الخلفي وأنا أوجه أوامري للسائق:
-تحرك من هنا سريعًا.
لم أشعر بالاسترخاء إلا والسيارة تبتعد عن القصر، عنئذ غصت في المقعد، وتنفست بعمقٍ لأثبط من حدة الانفعالات المشبعة بالأدرينالين، انتبهت للسائق حين سألني:
-إلى أين سيدتي؟

أجبته مبتسمة بسعادة:
-أي مكانٍ غير هنا!
اعتبر ردي ساذجًا، فكرر سؤاله بوجهٍ عابس، رأيته من انعكاسه في المرآة الأمامية:
-أين تحديدًا؟
تنحنحت قائلة بحرج:
-إلى فندق (...).

ما حدث بعد ذلك كان ضربًا من الجنون، كالمندفعة انطلقت في ردهة استقبال الفندق، مستقلة المصعد إلى غرفتنا بالطوابق العُليا، جمعت أشيائي، وأقحمتها عنوة في الحقيبة دون ترتيب، كنت أعيد سرد أفكاري المتهورة في رأسي مرة أخرى؛ الذهاب إلى المطار، حجز مقعد بالطائرة العائدة إلى روما، مهاتفة والدتي، لأطمئنها على أحوالي بمجرد جلوسي بداخلها، اعتدلت في وقفتي، وصفقت بيدي محدثة نفسي عاليًا:
-وأخيرًا انتهاء ذلك الكابوس المزعج للأبد، لن يتمكن ذلك الوقح من إزعاجي، أو إجباري على الزواج به.

بدا كل شيءٍ على ما يرام، وأنهيت توضيب أمتعتي في زمنٍ قياسي، ثم بدلت ثوبي ببنطالٍ من الجينز، وكنزة وردية واسعة، وعقدت شعري بأنشوطة صغيرة، لأطرحه خلف ظهري كذيل حصان، سمعت طرقًا على باب الغرفة، فظننت أنها خدمة الغرف، وفتحته دون أن أتحقق من الطارق، لأستدير عائدة إلى حقيبتي، لأضع الثوب الجديد بها، وتعذر علي إغلاقها بسبب امتلائها، تجمدت في ارتعابٍ لم أشعر به أبدًا، كان أشد وطأة عن تلك المرات، عندما سمعت صوته القريب يسألني من خلفي، بنبرة أجفلتني، وجعلتني أموت رعبًا من حضوره المباغت:
-أين تظنين نفسك ذاهبة...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة