رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الخامس
- بس أنا مبقتش عايزة أخلف منك يا عاصي.
بعض الكلمات تسقط على القلب نارًا لتدفئه أو لتحرقه. فاض الدمع من عينيها اللاتي أنغلقن كي لا ترى الهزيمة بملامحه التي مازالت تغرم بها، لم يكن سهلًا على قلبها كإمرأة تجرح من تحب! فجأة تتحول جميع الكلمات غير كافية لوصف مدى المعاناة. خُلط نار الغضب بماء الحب مع عواصف الخذلان التي حطمت كل شيء ولم يبقى منها إلا جملة واحدة! هل هو سهلٌ على رجل اختار فتاته بكامل قواه العقلية أن يسمع منها عدم رغبتها بالإنجاب منه؟ عدم رغبتها فيه عمومًا؟
هزة خفيفة من رأسه وكأنه يحاول تكذيب ما وقع على أذانه! خرج عن صمته وممارسته لدور العاشق لترى أمامها شبحًا لم تواجهه من قبل. اعتصر ذراعيها بقبضته القاسية ورجها أمامه كإنه يتوسل لها أن تكذب مسامعه، ليتفوه مشدوهًا وهو يلهث: -يعني أيه الكلام ده؟ يعني أيه مش عايزة تخلفي! من يومين كنتِ متحمسة، أيه جد!
فتحت جفونها متحررة من انكسارها ومعلنة ظهور حياة جديدة غير التي أحبها وقالت بنبرة متمهلة وهي تطالعه بجراءة: -أنا مش عايزة أخلف منك يا عاصي. والولد اللي نزل ده كان ربنا بيحبه.
نبرته الرعدية: -بتعيديها تاني! يعني أيه؟ فهميني. فجاة نمتي صحيتي قررتي مش عايزة تخلفي مني؟
حررت ذراعيها من قبضته صارخة خارجة عن صمتها: -أيوة، اكتشفت إنك لا تنفع زوج ولا أب. أجيب ولد للدنيا عشان يبقى مصيره زي مصير بناتك؟ أجيب ولد وأشيل مسئوليته لوحدي عشان أبوه همه الوحيد الشغل، أجيب ولد لأب أناني مش بيفكر غير في نفسه!
ثم عادت لتبقى تحت مظلة عينيه المنفرجة وغلبها البكاء وهي تقول بضعف: -أجيب ولد عشان يعرف أن باباه كان بيتسلى بمامته!
ثم دوت صرختها وكأنها تعاتبه وأتبعت: -أجيبه يتعذب في الدنيا ليه؟ ليه اظلمه بأب زيك. ليه؟
ثم أخذت نفسًا طويلًا: -شفت أن عندي حق؟ للأسف حبك مكنش بمزاجي، بس إني أجيب ولد للدنيا دي بمزاجي. وأنا مش هشارك في الجريمة دي.
بأعين مصدومة، حائرة عاجزة عن الرد، بادلها بنظراته الغاضبة التي أن تسربت لعندها ستنهيها وتنهي علاقتهما للأبد، رمقها بأسهم الخزى وقال بحزن:.
-اللي واقفة قدامي دي واحدة تانية غير حياة مراتي، شكل أعصابك تعبانة اتمنى تراجعي نفسك قبل فوات الآوان.
تقطر الحزن من عينيها المحمرة وقالت بوهنٍ: -مفيش حاجة هترجع زي ما كانت. أنتَ هديت كل حاجة!
حطمت قلبه الذي لم يفتح إلا لها بكلماتها القاسية وقال: -يبقى أنتِ اللي اخترتي!
دنت منه وكل ما بها محطم، وسألته: -أيه، هتطلقني! سهلتها لك أهي.
انصب سواد عينيه المصدومة من جبروتها بزرقتها وقال بحسم: - مش متجوزك عشان اطلقك.
ثم جذبها من ذراعها عنوة وأكمل بنبرة الساحر: -بس أوعدك لو مرجعتيش على اللي في دماغك، هوريكِ اللي أصعب من كده.
بنبرة مهزوزة سألته: -هتعمل أيه يعني!
-خليها مفاجأة.
دفعها بكل قوته على مرقدها يائسًا مخذولًا من إمراة اتخذها كجيشه الوحيد ولكنها انقلبت عليه وحولته لأكبر عدو لها...
كانت أذني فريال تتجسس على شجارهم الذي تسربت نيرانه خارج الجدران، وما أن سمعت صوت خطوات عاصي ركضت سريعًا لتحتمي بأحد الأعمدة كي لا يراها وهي تقول لنفسها بشماته: -كدا اللعب ابتدى يحلو.
مرت ليلة مشحونة بالآسى والحزن على قلبي عاصي وحياة، ومثلها ليلة مليئة بالمؤامرات والألعيب الخبيثة تحت سقف قصر دويدار. وهناك رؤوس تكاد أن تنفجر من تفكيرها حول جملة الرسائل التي تهدده بحياة زوجته...
صباح اليوم التالي.
نهضت عالية من نومها وعينيها تبحث عن مراد الذي وجدت مكانه فارغًا بجوارها. نادت باسمه مرتين متتاليتين ولكن بدون رد. عادت إلى هاتفها كي تستفسر عن سبب مغادرته في تلك الساعة. ولكن قطع مخططها دخول والدتها التي انتبهت لإضاءة الغرفة. تراجعت عما كانت تنتويه والتفتت إليها وهي تعانقها: -مامي؟ جيتي أمتى؟
-من ساعة كده، فطرت مع مراد قبل ما يروح الشغل.
بقصر دويدار.
دخلت سميرة على زوجها وهي تحمل مائدة الطعام وكوب الشاي ووضعتهم على الطاولة أمامه وقالت بتوجس: -شاهين لو أنت وأخوك مش أد عاصي وأخوه نمشي بكرامتنا أحسن.
هب شاهين معترضًا: -أيه الكلام ده يا سميرة! أحنا هنا عشان نثبت حقنا وحق أخونا بدل ما يروح في أيدين ناس غريبة.
تنهدت بكلل: -بس أحنا مش قدهم، موقفهم أقوى لحد دلوقتي، وشاكر ممسكش دليل واحد يواجه بيه عاصي ويثبت أن وجودنا هنا على حق.
ثم توسلت إليه: -تعالى نرجعوا وناخد البنات ونراعي أرضنا في البلد. العيشة الذواتي دي مش توبي ومش قادرة اتعود عليها.
فمالت على أذانه بنبرة ناصحة: -شاكر أخوك لا وراه عيل ولا تيل. وبايع الدنيا من زمان، لكن أحنا خلينا نربي البنات اللي في رقبتنا بعيد عن المشاكل. عاصي شراني ومش بيعمل حساب لحد.
عارضها شاهين بحزم: -وأنا مش هتحرك من هنا غير وانا واخد حقي.
زفرت سميرة بضيق: -ماشي يا شاهين، خليك ماشي ورا أخوك، وافتكر أني حذرتك قبل الفاس ما تُقع في الراس...
صوت دق الباب قطع حديثهم، إذن بصوت شاكر يناديه من الخارج، فنظرت له سميرة بامتعاض: -شوفه عايز أيه؟ شكله هيغرقنا كلنا. ولا أقولك خليك انا نازلة وسيباكم.
نهضت سميرة وفارقت الغرفة فألتقت بشاكر بالخارج، وقفت أمامه بنظراتها المحذرة وقالت: -اتمنى متوديناش في داهية أنت وأخوك.
تجاهل شاكر الرد على جملتها الأخيرة ودلف الغرفة عند أخيه متعجبًا: -مراتك مالها!
-سيبك منها، كنت جاي ليك، أنتَ فين من إمبارح.
جلس شاكر بجوار أخيه وهو يرمي الملف الذي بيده على سطح الطاولة ويتنهد تنهيدة انتصار: -كنت بجيب الدليل اللي هنخلص بيه على اللي اسمهم ولاد أخوك.
بشهقة الغريق الذي تعلق في قشة النجاة: -وصلت لحاجة. قول!
وضع شاكر ساق فوق الأخرى: -كلمت يسري، ودلني على المحامي الشمال اللي كان بيداري على كل جرايم عبلة. وطلع شمال فعلًا، بقرشين سلمني رقبتهم بين أيدي.
ثم تناول الملف وشرع بإخراج الأوراق منه: -أول ورقة. دي تنازل تميم ابن شهاب عن نصيبه في التركة، وكله كان بيع وشرا لعبلة.
ثم أطلق ضحكة ساخرة: -بنت الحرام ساومته، يا إما تطعن في نسبه لدويدار وتفضح أمه، أو يتنازلها عن نصيبه في الورث.
ضحكة شريرة اندلعت من جوف شاهين وهي يستمع لأخيه باهتمام: -يعني كده طار تميم!
هز شاكر رأسه غير متأكدًا: -مش بالظبط. لأن البت عالية متنازلة عن نصيبها بيع وشرا لتميم. وبكدا تميم مش هيطلع من الحسبة دي غير لما نثبت أن عالية مش بنت شهاب، واتصرف في شيء لا تملكه. فتسقط نقل الملكية لتميم.
انكمشت ملامح شاهين: -ودي نثبتها أزاي؟
-سهلة، مراد لو مطعنش في نسب عاصي وعاليا لخالته. إحنا نطعن ونثبت. كده كده مش بت أخونا والتحاليل هتأكد كلامنا.
-طيب دي واتحلت، ناوي تعمل أيه مع عاصي.
حك شاكر ذقنه القصير وقال بحيرة: -أهو ده بقا الهم الكبير. في حلين، في حالة مراد قدم طعنه للمحكمة إحنا كمان صحاب مصلحة، نرد على الطعن ده ونأكده وأنه من أم تانية بس الست دي مش زوجة شرعية لأخونا وشهادة ميلاده معانا. وبكده طار عاصي من وشنا للابد.
ساد الصمت للحظات وكأن شاهين يفكر في الأمر وسأله بشك: -المحاكم حبالها طويلة، أنت عارف بتتكلم في سنين!
أيده شاكر: -عارف. عشان كده لازم الحل التاني.
-ال هو؟
رد شاكر بتخابث: -ده هتعرفه لما يجي. هخلي أخوه يكلمو ونشوف رأيه بعد ما روحهم بقيت في إيدينا. بس لحد ما ده يحصل، لازم نعطله شوية يمكن نقع على دليل يجيب أجلهم.
ثم أطال النظر بعيني أخيه: -أنا وعدتك مش هنرجع من هنا أيدينا فاضية...
بغُرفة تميم.
-شمس أنتِ مجبتيش شرباتي؟
ما انتهى من جولة التفتيش عن ملابسه حتى يأس تمامًا، أردف سؤاله الأخير على أذانها، فتحت جفونها بتثاقل: -يالله يا تميم! نسيت خالص.
ثم اعتدلت في نومتها: -مفيش خالص عندك.
رد متأففًا: -مفيش يا شمس.
فركت عينيها بكسل شديد: -أنتَ رايح فين وهتسيبنا مع الناس دول.
-في ميتنج مهم هخلصوا وارجع، معلش مضطر.
قال جملته وهو يرتدي حذائه بدون جوارب وقال بعجل: -أنتِ هنا صاحبة بيت وعايزك تتعاملي على الأساس ده. هما اللي لازم يفهوا أنهم ضيوف هنا.
رد بيأس: -ربنا يستر يا تميم. ارجع بسرعة.
ما كاد أن يخطو خطوتين ولكنه تراجع: -أنتِ مش نازلة المستشفى!
-مش عارفة، حاسة إني عايزة ارتاح وحاسة بإرهاق شديد ومش متظبطة، لو اتحسنت هنزل.
طبع قُبلة خفيفة على رأسها ثم قال: -سلامتك، هسيبك عشان مستعجل.
خرج تميم بعجل من غُرفته وما وطأت أقدامه أعتاب السُلم فوجئ بشهد تناديه وتعرقل خطاه، اقتربت منه بأعين لا تنوي الخير:
-تميم...
ثم تراجعت معتذرة: -تسمح لي أقولك تميم كده، أحنا بردو أولاد عم ومفيش ما بينا تكليف. ولا ايه!
ألقى نظرة سريعة على ساعة يده و رد بفتور: -اللي تشوفيه. استأذن.
تشبث بذراعه بعفوية وسرعان ما تراجعت عن لمسه: -استنى. أنتَ خارج، هعطلك لو قولت لك تاخدني في طريقك! أنت عارف عربيتي اتخبطت وو.
انكمشت ملامحه بإعتذار: -عندي ميتنج مهم، ولازم ألحقه. شوفي حد من الحرس يوصلك.
عقدت حاجبيها مفتعلة الاسف: -لسه بقولك أننا ولاد عم وكده تكسفي في أول طلب. ياسيدي اعتبره معاهدة سلام عشان نعرف بعض أكتر، ده أحنا أهل.
ثم رمقته بأعينها المتخابثة: -كنت حاسة أننا هنبقى صحاب. بس واضح أنك واخدني بعداوة بابا وعمو، على العموم مش هعطلك. هابقى أخد أوبر.
تأفف تميم بحرج ثم سألها: -عايزة تروحي فين!
انفرج شدقها بضحكة واسعة: -بجد! يعني موافق. أنا كنت عايزة اروح الجامعة اسأل على الدراسات العليا. بجد مرسي أوي يا تميم، مش قولت لك هنبقى صحاب.
فتحت شمس الباب بعجل وهي تبحث عنه ولكن كانت صدمتها عندما وجدته واقفًا مع شهد، اقتربت بخطوات مثقلة بالشك وقالت وهي تحدق النظر بتلك الفتاة: -تميم، نسيت موبايلك ومش مبطل رن.
اخذه منها: -معلش يا شمس صحيت، الاستعجال يعمل أكتر من كده.
تدخلت شهد بحوارهم بطريقة متعمدة إثارة غيرة شمس: -تميم هجيب شنطيتي وأحصلك، مش هتأخر.
بنظرات محشوة بالغضب والغيرة عقدت ساعديها أمام صدرها: -ده اسمه أيه! مش المفروض إنك مستعجل!
وشوش لها: -قصدتني أوصلها، ومعرفتش أخلع منها.
هبت بوجهه بصوتها المرتفع: -وانت مالك أنتَ! توصلها ليه، وهي تعرفك من امتى عشان توصلها.
كتم أنفاسها متوسلًا: -صوتك. أنتِ نسيتي أحنا مش في بيتنا.
أعلنت الحرب عليه: -مش هتوصلها يا تميم.
-شمس. أنتِ كبيرة وعاقلة وعارفة أن ماينفعش اقولها لا بعد ما وافقت.
أدركت أن الجدال غير مُجدى فاضطرت مجبورة للجوء للحيل. كادت أن تُجيبه ولكن فجأة افتعلت الأحساس بالدوار متمسكة برأسها وهي تتمايل نحوه. تعجب من تبدل حالها بتلك السرعة فسألها بشك: -شمس، بلاش الحركات دي أنتِ كبيرة. وو
فقاطعته وهي تتمسك ببطنها وتسد فاهه وتركض على الحمام للتقىء. ركض خلفها بلهفة وهو يتمتم: -ده بجد ولا أيه.
ثم جهر: -مالك ياشمس؟
لحق بها عائدًا إلى غرفته متأثرًا بصوت تقيؤها منتظرًا خروجها من المرحاض. خرجت بوجهٍ شاحب وأعين دامعة. أمسك بالمنشفة وأخذ يجفف قطرات العرق من فوق جبينها: -بقيتي أحسن.؟
سندت رأسها على صدره متخذة أنفاسها بصوت مسموع: -مش عارفة مالي. ليا كذا يوم بيجي لي أحساس عايزة أرجع بس مفيش حاجة. ممكن أكون خدت برد.
سحب برفق ناحية السرير: -طيب تعالى نامي وادفي كويس.
تمسكت بيده متوسلة: -تميم خليك جمبي بلاش تنزل النهاردة.
-ازاي يعني ياشمس.
تأففت بامتعاضٍ: -ألغيه يا تميم. معقولة هتسيبني وأنا كده!
جاءت شهد في تلك اللحظة فسقطت عينيها على لحظات اقتراب الثنائي من بعضهما. اقتحمت الغرفة المفتوحة بدون حياء وقالت: -تميم مش يالا.
رمقته شمس بأعينها الصقرية التي تتوعد له أن اتبعها. تعلقت أعينه المترددة بحيرة: -هاااه...
تركت شمس يده وعادت صوب الحمام بسبب نفس الشعور الوهمي الذي جاء بوقته. وقف تميم معتذرا من شهد: -سوري يا شهد. أديكي شايفة مش هينفع أسيب شمس فالحالة دي.
انطفأت ملامحها فجأة وقالت: -هااه لا عادي. أنا هتصرف.
تسربت آذان شمس للخارج فانتابتها حالة من السرور والانتصار وهي تحيي نفسها: -يس! قال يوصلها كمان...
الغردقة
تعلم ما هو أقسى شعور على الإنسان! أن ينهزم وينكسر ثم يقف من أجل اللحظة التالية مجبرًا دون أن يشعر به أحد، وأحيانًا دون أن يشعر هو بنفسه، فيكمل دون سند عاطفي ودون أن يتحدث لأحد عما يمر به، هو مستمر؛ لأن الحياة مستمرة هكذا لا تكترث لعواطفك الآدامية .
انتهت من ارتداء ملابسها وأخذت تداوي آثار البكاء بالحُمرة النسائية. تطالعت ملامحها الشاحبة بالمرآة وتسألت:.
-ناوية على أيه؟ يا ترى أي مبرره لو واجهته هيقنعني! ولا أنا مستنية أي عذر حتى ولو مش مقنع عشان اسامحه! طيب لو اطلقنا مش هرتاح؟ ولو بقينا مع بعض بالشكل ده بردو مش هرتاح
تناولت يدها قلم الكحل وشرعت برسم عينيها للمرة الأولى من زمن، رسمت عينيها باللون الأسود فانعكست صورة بالمرآة لإمراة أقوى وأكثر شراسة. تناولت حقيبة يدها وفارقت الغرفة بخطوات إمراة لا تُهزم أبدًا مهما كانت الريح قوية.
ظلت فريال منتظرة خروجها حتى سنحت لها الفرصة فركضت إليها بفضولها: -صباح الخير يا رسيل.
ردت عليها بجفاء: -شكرا.
تابعت خُطاها مستفسرة: -هو أنتِ وعاصي متخانقين! أصل استغربت لما لقيته نايم في أوضة المكتب!
توقفت رسيل عن خُطاها ونظرت لها بحدة: -لا، وخليكِ في حالك.
عقدت فريال ذراعيها وقالت ناصحة: -أنا عايزة مصلحتك. بنات الغردقة كلهم عينهم على جوزك. بلاش تضيعيه من أيدك لانه راجل ما يتسبش.
تأففت رسيل باختناق ولكنها مازالت محافظة على هدوئها وكبريائها: -ينفع تخليكي في حالك، وتبعدي عن جوزي خالص.
ختمت جملتها بصوت رنين جرس الباب، تحركت حياة لتفتح ففوجئت بإمراة ثلاثينيه بيدها حقيبة يد كبيرة ؛ سالتها بفضول: -مين!
-انا مروة. البيبي سيتر للبنات. عاصي بيه بعتني مع السواق.
رفعت حاجبها غاضبة: -والله! بقا كده...
سألتها الفتاة: -ادخل يا هانم؟
لم تُجيبها بل دفعتها من امامها وغادرت بخطوات تنافس الهواء وهي تتوعد له، استقلت سيارتها بموجة الغضب التي تحركها متجهة إلى مقر شركته: -طيب يا عاصي...
بالشركة
-ريم. خدي عنوان البيت ده وقدمي طلب أزالة وترخيص بالبنا.
أردف عاصي جملته الاخيرة وهو يجلس على مكتبه بهيبة ووقار. قرأت ريم العنوان متعجبة: -الشرقية؟ البيت ده تبع شغلنا او حاجة تخصه.
-لا يا ريم. ابعتي لاي محامي هناك وهو هيتصرف. في اسرع وقت عايز البيت يبقى كله في الارض.
ردت ريم بطاعة: -اللي تشوفه يا بص.
ما كادت أن تخطو ولكنها تراجعت: -عاصي بيه. بخصوص طلب مادام رسيل. هنعمل أيه؟
هنا اتاهم صوتها الفوضوي من الخارج وهي تعارض مساعدته للتدخل وبالفعل فتحت الباب بدون اهتمام لأوامر أحد واقتحمت المكتب مجمهرة:
-بتتحداني يا عاصي؟
اشار بعينه لريم أن تنصرف وقال: -اقفلي الباب وراكي يا ريم.
انتظر حتى فارقت ريم المكتب ونهض إليها بضيق: -متنسيش أننا في مكان شغل. مالك.
دنت منه خطوتين رافعة جفونها المحاصر بالكحل الملفت وقالت بعتب: -بتلوي دراعي يا عاصي! مين قالك أنا محتاجة مساعدة للبنات، سبق واتفقنا أننا مش هنسيب البنات لواحدة غريبة تربيهم. انت بتعاند مين، هااه فهمني!
لم يتذكر أي كلمة من حديثها الثائر، كحلها الفاتن سرق عقله وغضبه منه. تأرجحت عينيها بضجر: -والله! أنا بكلمك على فكرة.
رد بهدوء تحت سطو تلك الأعين التي يراها وكأنها أول مرة يلتقي بها: -يعني فين المشكلة!
ثارت بوجهه: -عاصي متجننيش. الست اللي جات دي انا هطردها. وتاني مرة متعملش حاجة من غير ما ترجع لي بالأخص لو تتعلق بالبنات.
عقد حاجبيه بهدوء عجيب كمن سُكر بخمر الأعين: -هتطردي مين!
أدركت أن سحر عينيها أصابه في مقتل. فقفلت جفونها محاولة تمالك أعصابها من بروده المفرط، في الحال عاد له رشده عندما غاب قمرين أعينها وقال بنبرة خشنة بعض الشيء:
-متعصبة ليه؟
ولت ظهرها عنه وقالت: -الست اللي مع البنات دي، جات ليه!
عاد إلى مكتبه وهو يلملم ما بعثرته عينين بقلبه، وقال: -بما انك هتشتغلي، آكيد مش هتكوني فاضية، شايف أن الفترة الجاية عقلك هيبقى مشغول بحاجات أهم من بيتك وجوزك. مش ده اللي أنت عايزاه! متعصبه ليه!
اشعل المزيد من النار بجوفها خاصة وهو يتحاشى النظر إليها فشعرت بالغضب الشديد او الشوق لتأمل ملامحه عن قرب حتى ولو يتشاجران. اقتربت من مكتبه محاولة تمالك أعصابها مائلة قليلًا على مكتبه:
-أنتَ شايف كده!
فارقت أعينه شاشة الحاسوب لتعود لموطنها: -مش شايف غير كده!
صمت قاتل ساد بينهم فتولت أعينهم تلك المهمة لبث شكوى القلوب المختنقة إثر عناد الاثنين. تحولت نظرته من العتاب للرغبة فيها. فتحولت بسرعة البرق ورفعت سترتها القطنية التي كشفت معالم جمالها مما جعلها تردف بارتباك: -الطلب اللي قدمته متردش لحد دلوقتي!
هجم شبح ليلة أمس وكلماتها على خاطره فتراجع محافظًا على هيبته مواريًا شوفه خلف الشاشة الالكترونية بصمت وبيده تناول سماعة الهاتف:
-ريم. مدام رسيل جيالك دلوقتي. كل طلباتها تخلص، وانا هتواصل مع مدير الحسابات.
ثم قفل السماعة ولم يتكفل بالنظر إليها تعمد تجاهلها تمامًا.
فتحت درع اللامبالاة، يكمن الجرحٍ الغائِر والعميق والحب العظيم.
ثارت النار بجوفها ولا تعلم من أين أتت بكم الحرائق الهائل. ألقت عليه نظراتها الاخيرة التي كانت تنتظر منه مبادرة بالحب حتى ولو بشق كلمة ولكنه قرر أن يحاربها بنفس سلاحها رغم جهله بسبب العداوة الكائنة بينهم، شدت حقيبتها وغادرت مكتبه على الفور مكتفية بتأففٍ مسموع. ما أن غادرت فرغ كبته بشاشة الحاسوب وقفله بضيق وهو يلعن ذلك الحظ علنًا: -انا مش فاهم في ايه لكل ده!
رن هاتفه باتصال من تميم فاجابه سريعا حتى ختم مكالمتهم قائلًا: -هو قالك كدا، تمام وانا جاي لهم...
في تلك الأثناء لفت نظرها خروج عاصي من مكتبه، شاحت بأعينها نحوه بفضول لم يُرضيها ثم تراجعت لريم: -تعرفي عاصي رايح فين؟
ردت ريم بتخمين: -هو كان قايلى هينزل القاهرة. بس مش متأكدة.
-بقيتي أحسن دلوقتي!
أردف تميم سؤاله على شمس التي قلبت لعبتها لحقيقة. شعور الإعياء والهزل. ترك المشروب الدافي من يده أكمل متعجبًا: -ما أنتِ كنتي كويسة! اكلمك دكتور طيب.
ردت بضعف: -لا يا تميم، ده برد التكييف بس ضربني في دماغي. هاخد حباية للصداع وهبقى كويسة.
شد الغطاء فوقها: -طيب ارتاحي شوية، حاولي تنامي.
اتخذت وضع الاسترخاء وسألته: -هي نوران فين؟ معقولة مصحيتش إحنا بقيت الضهر.
-سيبك من نوران وارتاحي. يالا عشان لو مقومتيش كويسة هنشوف دكتور.
طبعت قبلة خفيف بداخل كفه ثم قالت بمزاحٍ يختبئ ورائه تعبها: -اللي اسمها شهد دي دعت عليا ولا أيه، واللعبة قلبت بجد.
داعب ارنبة أنفها وقال: -عشان الف مرة أقولك حركات البنات دي مش تبعك يا شموسة.
ردت بانتصار: -مش مهم المهم أنك موصلتهاش.
-أنتِ قعادك مع نوران بقا خطر. نامي نامي...
بالغرفة الثانية.
-هتفضلي سرحانة كده ومش دريانة بحاجة! شيرين فوقي لنفسك.
أردفت شهد جملتها بضيق مشحون من شمس وزادته شيرين أختها، تنهدت شيرين قائلة:
-صورته ووقفته وكلامه مش مفارقين بالي يا شهد. أنا حاسة أني قربت اتجنن خلاص.
صرخت شهد بوجهها بنفاذ صبر: -لا انتِ اتجننتي خلاص...
اعتدلت شيرين في جلستها بحماس وقالت: -بحبه، بحبه يا شهودة. ولما قابلته حبيته أكتر، عارفة أنا لو اتجوزته مستحيب ازعله لدقيقة واحدة. ده اصلا يجي لي قلب ازعله ازاي! بس هو يجي...
ردت شهد بأسف: -يعني أنتِ سبتي رجالة الدنيا كلها وجاية تحبي عاصي دويدار! دا بينا وبينهم مصانع الحداد! اختياراتك دايما بتبهرني...
-طيب وبعدين، اتصرفي بدل ما اقوله بحبك وافضحكم.
فزعت شهد بذهول: -يخربيتك. يا شيخة يخربيتك وبيت جنانك! خبط لزق كده بحبك! انت بتفكري ازاي ولا ما بتفكريش اصلا! بصي أحنا ممكن نحاول. كمحاولة كده بس تسمعي كلامي، وانا هجيبلك عاصي ده متكتف.
شهقت نوران بالخارج بدهشة وسرعان ما تحولت لتوعدٍ: -اااه يا ولاد ال انا مكنتش مرتاحة للي اسمها شيرين دي، سهتانة كده ومسهوكة، ماشي أما وريتك يا ست شهد وهتشوفي خطة مين فينا اللي هتنجح.
سارت على طراطيف قدمها بحذرٍ كي لا يراها أحد ثم قفلت باب الغرفة برفق كاللصة وركضت نحو هاتفها باحثة عن رقم حياة: -أنا هوريكم...
عصرًا
لمست عجلات الطائرة الخاصة التي يستقلها عاصي أرض مطار القاهرة حيث كانت وجهته إلى قصر دويدار. ما أن وصل وجد تميم في استقباله أخر ممر القصر. هبط من سيارته متجهًا نحو أخيه ونزع نظارته الشمسية: -طمني عاملين معاكم أيه اللي جوه دول.
تنهد تميم بكلل: -بحاول اتجنب المشاكل على أد ما أقدر. بس حاسس بحاجة مش مريحة.
سأله باستغراب: -زي أيه؟
رد تميم بقلق: -مش عارف. شكلهم ما يطمنش.
رد عاصي بحزم: -أعلى ما في خيلهم يركبوه. مهلتهم هتخلص بكرة، وقتها هتشوف هعمل فيهم أيه.
ثم ربت على كتف أخيهم: -هما جوه!
-لا من أول الصبح خرجوا ومحدش فيهم ظهر، مش بقولك بيخططوا لحاجة!
عض على شفته مُفكرًا: -هنشوف هنشوف. خليهم يتقلوا حسابهم كمان وكمان. هتمشى في الجنينة أعمل كام تليفون شغل، تكون شفتهم فين.
سار عاصي ناحية الحديقة يجري العديد من الاتصالات التي تخص شغله قرابة الساعة تحت أعين شيرين المراقبة له باهتمام بالغ. بعد إلحاح من أختها وافقتها الرأي وأقبلت نحوه حامل فنجانين من القهوة ووضعتهم أمامه على الطاولة. تحيرت أعينه وتشتت تركيزه عن إجراء المكالمة التي بيده. جلست شيرين على المقعد المجاور له حتى انهى مكالمته ؛فقبل أن يسألها بادرت قائلة:.
-واخدة بالي إنك بتشتغل من الصبح، قلت أكيد محتاج قهوة. معرفش قهوتك أيه بس عملتها مظبوطة ويارب تعجبك.
رفع حاجبه مشدوهًا، فأسرعت معللة: -اعتبره اعتذار عن امبارح. وعربون صُلح.
إثر حاجته المُلحة لفنجان القهوة، أرتشف منه رشفة وقال: -بصراحة جيه في وقته.
فركت كفيها ببعض يوحي بارتباكها: -كان نفسي نتقابل ونتعرف على بعض في ظروف أحسن من كده!
التقطت نظرته الاستفهامية، فبررت موقفها قائلة: -يعني كعيلة وسند لبعض...
كاد أن يُجيبها ولكن توقف إثر رنين هاتفه، استأذن منها ليرد وبعد بضعة دقائق عاد إليها: -هااه يا ستي كُنت بتقولي أيه!
-أنا ممكن أطلب طلب؟
سمح لها بعينيه ثم فتحت هاتفها بلهفة وقالت: -أحنا ممكن ناخد صورة سوا مش كده!
مط شفته معجبًا: -اشمعنا. السبب؟
توترت قليلا: -هو ينفع نكون أهل وملناش صورة مع بعض. تعرف لينا صورة سوا زمان أوي، على موبايلي، ممكن ابعتهالك. اديني نمرتك.
لم تمهله الفرصة ليعترض، فارقت مكانها بسرعة واقتربت منه مشغلة الكاميرا وقالت مداعبة بلطف: -ابتسم بقا اكيد مش هصورك وأنت مكشر كده.
وعلى الناحية الاخرى التقطتهم عدسة هاتف نوران وهي تلطم على وجهها وتصيح: -دا انت ليلتك مش فايته يا عاصي.
في تلك اللحظة ضغطت على زر ارسال لحياة تالته رسالة صوتية: -شوفي بنفسك أهو، مش قولت لك دي حية ومش هتسيبه في حاله، الحقي جوزك يا بنتي دي شكلها ناوية تلهفه منك.
بالوكالة.
بعيدًا عن العاطفة، أحيانًا تستحق ما يحدث لك، كي تغيّر تفكيرك وتفيق من غبائك قليلًا.
تجوب خطوات الأرض وكأن النيران تهب من تحت قدميها. ما بين غضبها وغيرتها هناك حب عظيم يعلن بملكيته لقلبها بقية العمر. لملمت شعرها الفوضوي وهي تعيد نصائح نوران كلمة كلمة وتتأمل الصور التي ارسلتها لها. ما بين امراة متمردة واخرى متيمة أيتها ستنصر في ساحة تلك المعركة؟ اخذت تهتف مع نفسها:.
-كده يا عاصي؟ هي دي المشاكل اللي أنتَ نازل القاهرة جري عليها!
ثم ضربت الارض بقدميها بغل: -كله كذب في كذب. طيب وبعدين! هسيبه كده! وبعدين انا لسه على ذمته المفروض يحترمني شوية! ده رايح يدور على البديل بالسرعة دي؟
ثم أخذت نفسًا عميقًا ليُريحها من قسوة الغيرة المشتعلة بقلبها: -اهدي اهدي يا حياة اهدي.
ثم أمسكت هاتفها وبحثت عن اسمه الذي يتصدر أول القائمة وهو تقول بصوت عالي وهي تمنح المبررات والأعذار لنفسها: -انا اكلمه دلوقتي واقوله انا عرفت كل حاجه وأنك مش عايزني اخلف. وطلقني دلوقتي!
ذرفت دموع العجر من مقلتيها وهي تزفر بقوة: -لالا. تليفون مش هينفع. أنا اطب عليه في القاهرة واقوله طلقني. انا مش هفضل قاعدة كده وهو بيخوني. انا لازم اروح لعنده وأقوله عايزة اطلق حالًا.
تناولت حقيبتها وغادرت الوكالة بعجل وهي تفتعل السبل برأسها كي تخلق عذرًا يجمعها به. اخرجت هاتفها:
-يونس شوف لي أي طيران تبعكم على القاهرة. حالاً يا يونس...
مهما كانت الخلافات بين الطرفين هناك زاوية ما في قلب الانثى العاشقة لا تقبل الفراق، لا تقبل أن يكون حبيبها من نصيب امرأة غيرها...
مساء
هبط عاصي من جناحه الخاص بالقصر بعد ما أخذ حمامه الدافئ وبدل ملابسه، اقبل إليه تميم بأسفٍ:.
-كأن الارض انشقت وبلعتهم، هما راحوا فين كل ده!
تأفف عاصي بضيق: -دول بيلعبوا بينا وانا مش فاضي للعب العيال ده!
-طيب هدي نفسك.
انفجر عاصي عن صمته: -الساعة 11، المفروض استناهم لأمتى؟ لالا دول في حاجة في دماغهم وأنا لازم أعرفها.
صوت رنين الجرس منحهم الأمل في عودتهم. اخترقت نوران صفوفهم بمرح لتفتح الباب، سرعان ما خاب ظنهم إثر ظهور حياة المفاجئ. عانقتها نوران بفرحة وهمست لها:.
-انا عيني عليهم من الصبح، البنت بتحاول تقرب بس جوزك منفض لها!
نظر عاصي لتميم باستغراب: -دي جات الساعة دي ازاي!
اندفع نحو زوجته بفضول ووجه عابث: -أنتِ جاية من الغردقة الساعة دي لوحدك!
ثم اضطربت ملامحهم: -البنات حصلهم حاجة! حياة انطقي ساكته ليه!
نظرت لنوران بتحير ثم قالت بارتباك: -عرفت من ريم أنك هتقعد هنا يومين، وبالصدفة طلع عندي شغل مهم فالقاهرة. قلت.
انقذتها نوران وواصلت حديثها: -قالت تستغل الفرصة وتقعدوا سوا!
نظرات الشك تتطاير من عينيه إثر أمر ما مبهم يطوف حول الاثنين. جز عاصي على فكيه: -حياة حصل ايه يجيبك من الغردقة ل القاهرة.
أمعن تميم النظر بنوران ولكنها هزت كتفيها معلنة جهلها عن السبب وفرت من أمامهم تاركة حياة بوجه الريح بمفردها: -وانا مالي. هعرف منين! هو كله نوران نوران. انا هروح انام.
مال تميم على آذني أخيه: -خد مراتك في الجنينة واتكلموا. وأنا هعمل محاولة أخيرة اشوفهم راحوا فين.
سحبها من يدها عنوة صوب الحديقة تحت عيني شهد وشيرين اللاتي يتابعن الموقف من أعلى، أغرورقت عيني الأخيرة متسائلة:
-هي دي تبقى مراته!
مطت شهد شفتها قائلة: -واضح كده. وواضح كمان أن في مشكلة ما بينهم.
بلهفة الغريق سألتها: -إزاي؟
-ادنيا هنشوف...
بالاسفل.
كرر سؤاله مرارا وتكرارًا حتى جزع من جوابها وهو يقول بحدة: -لآخر مرة بسألك، أنتِ هنا ليه؟
استجمعت نبرة صوتها المرتجفة ودموعها التي فجرتها الغيرة وقالت: -عايزة أعرف إجابة سؤالي، أنت عملت فيا كده ليه؟