رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثاني
من المؤسف أن الحياة لم تُخلق بقلبِ أم، أن وليت عنها ظهرك لا ينفطر فؤادها عليك و لا تنوح ولا تنتظر لقاءك بشغفٍ أو تحترق لأجلك ولا تنشغل لوجودك من عدمه، الحياة خُلقت بطباع أنثى نرجسية متمردة تعرف جيدًا قدر نفسها. يمكن أن تحترق كليًا حولها كي تنال نظرة، بسمة أي شيء يعبر عن رضاها عنك، تسقيها دلالًا وتبذل قصارى جهدك حتى تفوز بحُبها ولكنها لا تقع بسهولة في فخ الحب، الحياة أن رضيت وأعطت لا تعطي إلا بقدر محسوب، ولا تملك هواية المشاعر التي تعلم المرء البذخ والسخاء في كل شيء حتى يفنى كليًا لأجل من يحب.
مسحت الغبار عن الإطار الذي يحتفظ بصورة أبيها بعد ما عادت لتفتح وكالته من جديد، عادت تبحث عن حياتها التي فقدتها في رحلتها للحُب، فاض الدمع من عينيها وهي تنظر لأعين أبيها التي تحمل نفس لون مقلتيها وقال بحزن وعتبٍ وخيم:
-وحشتني أوي يا معلم قنديل. شوفت من يوم ما روحت وأنا تايهه مش عارفة استقر، بدور على حياة كنت مبسوطة فيها بس فشلت، مش عارفة أوصل.
تحركت خطوتين حتى جلست على مقعده الخشبي المبطن وأكملت بندم:
-أنا أسفة عشان سبت الشغل ومكملتش حلمك وخيبت أملك فيا، أسفة عشان سبت الوكالة مقفولة طول الفترة دي.
تقطرت دمعة حارة على سطح الإطار وأكملت: -فاكر لما كنت أدلع عليك وأقولك ماليش مزاج أنزل الشغل، أنا تعبت! كنت تقول لي العمل عبادة وصحة، متفتحيش بوابة الراحة مش بيدخل منها غير الكسل والفقر. ياريت كنت معايا. أنا محتاجة حضنك أوي، لأول مرة أحس إني لوحدي.
جاء بندق راكضًا وهو يحمل بيده فنجان القهوة: -قهوتك يا ست البنات.
رفعت رأسها عن صورة أبيها وأرسلت به ابتسامة شاحبة: -عايزة حد ينضف الوكالة يا بندق. وكلم الصنايعية يجوا يشوفوا المراكب. عشان هننزل نصطاد السمك بنفسنا، زي ما كان المعلم قنديل بيعمل بالظبط.
رد بندق متحمسًا: -أوامرك يا ست رسيل. كل طلباتك مُجابة.
في الجهة الأخرى وخاصة بمنزل عاصي.
احتشد الجميع حول بعضهم يتشاركون في مهمة البحث عن جوابًا لسؤالهم الوحيد أين ذهبت رسيل؟ . بخطوات قليلة خطاها عاصي بساحة البيت، فتراجع متسائلاً طارحًا السؤال على ذهن صغاره: -محدش فيكم شاف حياة؟ ولا هي جات تصحيكم.
هز الاثنتان رأسهما بالنفي، زفر عاصي بامتعاض وهو يطالع رشيد: -هتكون راحت فين يعني؟ مش متوعدة تخرج الوقت ده من غير ما تقول.
تدخلت فريال بحوارهم قائلة بخبث ثعابين: -أنا عارفة ممكن تكون فين بس مش عارفة ينفع أقول ولا لا!
احتدت نظرة عاصي لها بعنفٍ: -ما تنطقي، أنت لسه هتفكري؟
ألقت نظرة مترددة ناحية رشيد وأكملت: -في مكان كانت تتقابل عنده هي وفريد أخويا لما ووو.
قاطعها رشيد معاتبًا: -أنتِ بتقولي أيه؟ وهي هتروح مكان يخص فريد لي؟
-الله يا رشيد؟ بقول ممكن اتضايقت من حاجة وراحت هناك.
تدخل يونس معنفًا لها ليزيل الشكوك عن رأس عاصي: -حتى لو كانت مضايقة، رسيل مش هتروح مكان يفكرها بفريد، لانها مكنتش بطيق تسمع اسمه.
تدخل رشيد مدافعًا عنها مواجهًا أخيه: -ما تكلم بنت عمك كويس يا يونس!
عارضه يونس متأففًا: -مش برد على كلامها ال زي السم؟
نفضت فريال تراب شجار الأخوة واقتربت من عاصي الذي وقعت بغرامه من أول يوم سقطت عليه أنظارها وقالت بنبرة ناعمة:.
-أنتَ زعلتها، أو يعني حصل مشكلة بينكم تخليها تسيب البيت؟
قرأ عاصي حروف الثعلبة بعينيها، وشم رائحة المكر بكلماتها بحكم خبرته الجيدة بالنساء وخبثهن، حيث قال مزمجرًا: -متعودتش أزعل مراتي.
تعلق جمر الكلمات التي نطقهم عاصي بحلقها واكتفت بابتسامة مهزوزة متردد، حيث قطع حلقة حيرتهم دخول أحد الحراس قائلًا: -عاصي بيه، الهانم ف وكالة المعلم قنديل، لسه بندق مكلم الرجالة عشان ينضفوا المكان.
تقاذفت علامات الاستفهام من أعينهم وكل منهما احتفظ بسؤالٍ لنفسه يود معرفته. ما بين سبب ذهابها؟ وكثير من التساؤلات الحائرة. تحرك رشيد ناحية الحراس فأوقفه عاصي مستفهمًا: -رايح فين يا رشيد؟
رد الأخر بضيق: -رايح لرسيل، أشوفها.
بنبرة جادة محاولًا تمالك أعصابه التي جُنت بسبب عدم وجودها وقال بصوت آمر: -لا، سيبها ترجع براحتها. المهم اطمنا عليها.
-ازاي يا عاصي؟
رد بجدية: -زي ما سمعت. اتفضل روح خلص الشغل ال عندك.
ثم نظر ليونس آمرًا: -يونس عايزك تقف على رأس العمال في المصنع، آخر الشهر لازم يشتغل، التأخير مش في صالحنا.
رد يونس بطاعة: -اعتبره حصل.
انصرف رشيد ويونس لعملهما، وعاد عاصي لغرفة مكتبه ليراجع ملفات الميزانية التي أرسلتها ريم عن طريق الفاكس . تحركن الفتيات على غُرفهم ما عدا فريال التي غيرت مسارها وتوجهت للمطبخ وهي تسير بخطوات الشر والانتقام.
علي رصيف الحيرة يجرك الفضول إلى طُرق غامضة مبهمة، يجبرك أن تواصل السير نحو المجهول لترضي التطفل المندلع بجوفك. يتواجد بجسده معها ولكن ذهنه مشتت حول تلك الحية التي لفت سم أفكارها حول رأسه، مشط جدائل شعره أمام المرآة ؛ مرآة غرفته التي حُرمت عليه طويلًا. اقتربت عالية من مراد حاملة سترته الرمادية وساعدته على إرتدائها وهي تسأله برقة: -نمت كويس؟
-أنا منمتش كويس ليا شهرين. وبعدين كانت فين الدكتورة دي من زمان، ولا أنا لازم اتمرمط الأول.؟
-ياحبيبي. أنت عايز تبقى بابي بالسهل يعني، اتعب شوية.
رسم بسمة الإعجاب برقة ملامحها وهي تقف أمامه متدللة كالطفلة التي واصلت حديثها متسائلة: -شفت البيبي كان قمر إزاي. قول لي حسيت بأيه لما شوفته على السونار.
دفن ثغره بجدار عنقها وقام بالتهامه بلهفة تضاهي عطش النيران للماء وهو يوزع عليها عبير الحُب بمهارة رجل ماهر يعرف من أين تؤكل الكتف وكيف تروي الأفئدة المغرمة، بصرخة ممزوجة بضحكة هادئة اندلعت من تلك القطة الشقية التي امتلكها ؛ رد مجيبًا على سؤالها:
-كنت عايز أكله زي كده أهو.
تعلقت بكتفه بأعين يتناثر منها نجوم الحُب: -وحشتني أوي، ووحشني كلامنا سوا وكل حاجة فيك وحشتنى.
-أعمل أيه في ابن ال من أولها كده بيغير عليكِ وأخدك مني.
وقفت أمامه معترضة: -ياسلام؟ وليه مش بنت. على فكرة أنا حاسة أنها بنت، وهتشوف.
رد بثقة: -لالا الحركات الغتتة دي بتاعت الصبيان، أحنا رجالة وفاهمين بعض، يجي بس وأنا هطلع عليه القديم والجديد.
تحركت خطوة بأقدامها الحافية وسترتها التي لا تصل لمنتصف ركبتها وقالت: -طيب اتكلم على أدك عشان اللي هيقرب من ابني بقا هزعله.
رفع حاجبه متعجبًا من جُرؤتها أمامه وقال متيقنًا: -لا وكمان خلى قلبك جامد وواقفة قدامي وبتهدديني.
ردت بغرور وهي تضع يدها على بطنها المنتفخة قليلًا: -ذاك الشبل من هذا الأسد.
تلعثم شهد كلماتها وهو يدنو منها أكثر فأكثر هامسًا: -طيب بالمناسبة. الأسد لو كمل على كده هيبته هتروح في الغابة. شوفي حل!
طافت مقلتيها متحيرة: -أنا مش فاهمة بجد، يعني عايز أيه؟
عض على شفته السُفلية وقال بمكرٍ مصطحبًا بغمزة: -عايز موز بلبن.
رد على الفور وهي تتحرر من تحت قبضته: -بس كده، مش تقول من الصبح؟
أوقفها مندهشًا: -خدي هنا رايحة فين؟
أجابته ببراءة: -هخلي ماما تعملك يا مراد. اصل هي بتعمله حلو أوي...
هز رأسه كاظمًا حسرته وهي يقب حوارهم: -ليه يا عالية هاه. ليه الفصلان ال على الصبح ده ليه؟
تعجبت من رد فعله فسألته: -وأنا كُنت عملت أيه؟ مش أنت قولت ع.
وضع كفه على شدقها ليقطع كلماتها وقال: -والله ما أنت مكملة. يلا انزلي نفطر.
-مراد؟
-أشش ؛ مش عايز اسمع صوتك لحد ما أنسى ال حصل. اتفضلي قدامي.
قصر دويدار
تسير شيرين صاحبة الثلاثين عامًا على أطراف قدميها نحو الطابق الثالث بالقصر الذي ينتمي إلى عاصي دويدار، تنظر خلفها يمينًا ويسارًا كاللصوص خشية من أن يراها أحد. وصلت إلى جناحه الخاص، فتحت بابه بحذر شديد ثم دلف إلى الغرفة وأخذت تكتشف تفاصيلها باهتمام شديد.
بدأت بخزانة ملابسه وهي تملأ رئتيها بعطره، أخذت تفتش في كل ركن يخصه حتى الضلفة المخصصة بمها والمعزولة عن الخزانة استكشفتها وبعثرت كل ما فيها. ولم تنج منها باقيا ملابس رسيل التي دبت نيران من الغيرة بصدرها. حتى وقعت أنظارها على الإطار المختبئ بأحد الأدراج الذي يضم صورة لعاصي مع رسيل وبناته. انعقد حاجبي شيرين من شدة الغيرة وقالت:
-مين دي كمان! مش مراته ماتت؟
دخلت شهد أختها آنذاك عليها وهي تقول بثقة: -كنت واثقة إني هلقاكي هنا. يابنت اتقلي شوية، شيرين أنتِ اطلقتي بسبب حبك الوهمي لعاصي، ده حد مايعرفش إنك عايشة.
انكمشت ملامح شيرين بضيق: -لا طبعا. حُب أيه، وبعدين انا اطلقت عشان مكنتش بحبه.
قاطعتها شهد بسخرية: -ايوة عشان مش شايفة قُدامك غير عاصي، ال متعرفيش عنه أي حاجة، قوليلي أخر مرة شوفتيه كانت امتى؟ كانت يوم فرحك وهو جاي مع عبلة الحرباية يعملوا الواجب مع بنت عمهم. فوقي يا شيرين عاصي طريقه مسدود.
ثم جلست على منتصف مخدعه بارتياح وهي تأخذ نفسًا طويلًا: -اسكتي، أنا إمبارح شوفت حتة ولاه يا خرابي يا شيرين، الولد مستحمي 4 مرات قبل ما يخرج، انا وقفت قدامه متنحة مش عارفة أقول أيه. شكل قعدتنا في القاهرة هتجيبلي وجع القلب.
تأفف شيرين ساخرة من حال أختها: -حبيبتي أنتِ ماشية تحبي على نفسك، أي ولد يعجبك بتعيشي معاه قصة حب في خيالك.
ردت الأخرى مستهزئة: -شوف مين بيتكلم؟ على الأقل أنا كل شوية بغير، مش زيك ليكي 10 سنين مش بتفكري غير في عاصي وبتشمشمي كده على أي خبر عنه.
دارت أعينها بغرفته بلهفة: -أنتِ شايفة الأوضة ال عايش فيها؟ رجل فنان عايش في عالم لوحده مع الست ال يختارها قلبه.
ثم تنهدت بتمنى: -وأنا عندي أحساس كبير أن الست دي هتكون أنا.
وثبت شهد صاحبة الخامسة والعشرين من العمر وقالت بسخرية: -معلش اسمحيلي أقطع عنك الاحلام دي كلها وأقولك ماما عايزانا تحت. يلا ياختى يلا.
بالأسفل
حيث اجتماع الأخوة بين شاكر وشاهين الأخوين الغير شقيقين لشهاب دويدار. في غرفة المكتب التي تنتمي لعاصي جلس العمان بيها ينسجون خيوط الشر حول مخططهم الشراني. أردف شاكر قائلًا:
-عرفت هتعمل أيه يا شاهين؟
-عارف يا أخويا، وانسى أنهم يطولوا مليم.
قهقهه بشر: -كله هيمشي زي ما أحنا عايزين. الاتنين هنطيرهم بصباع رجلنا الصغير.
عودة إلى الغردقة
دخلت فريال حاملة فنجان القهوة وطبق يحتوي على قطعتين من الكيك مكتب عاصي الذي فرغ كل غضبه من رسيل بالعمل. تسللت إليه ببطء وهي تضع المائدة بجواره وتستند على طرف مكتبه وتقول بنبرة ناعمة: -أخدت بالي من أول ما صحيت ما أكلتش ولا لقمة. قولت وو.
رفع عاصي عينيه عن شاشة الحاسوب وهو يتفصح بسخط قُربها منه وكسرها لقانون المسافات، تلوي جسدها كالحية محاولة لفت انتباهه إليها، شد جبهته متعجبًا مسايسًا لتصرفاتها:
-قولتي أيه؟
تحمحمت بخوفت: -قولت أجيبلك حاجة تأكلها، حلو ده ولا أجيب اتنين لمون يهدوا أعصابنا.
رسم ضحكة غامضة على محياه وهو يقفل شاشة الحاسوب وينظر إليها باهتمام: -كمان لمون؟
تحمست بلهفة: -بعمل عصير مش هدوق أحلى منه تحب تجرب. قولت أيه؟
رد بنبرة مثلجة: -لا أنا أحب أنك تمشي.
ثم وشوش لها بنبرة خفيضة شرها مدفون: -أصل عندي شغُل كتير.
زام فاهها من أسلوبه الجاف ولكنها لم تيأس بل دنت منه أكثر مطلقة ضحكة خافتة: -تعرف أن دي أول مرة اركز في ملامحك من قُريب.
-ولقيتي أيه؟
حاولت أن تمرر ظهر كفها على وجهه ولكنه تراجع بالمقعد قليلًا فتلقت رفضه لها ولقربها بابتسامة عريضة:.
-كل جزء في ملامحك حوار. يعني أنا ممكن أفضل اتكلم عن العينين دي للصبح، ولا الدقن الخفيفة ال مستعدة أعدها واحدة واحدة. شعره شعره، وأقولك كام واحدة بيضة وكام واحدة سودة. وكمان وو.
ثم مالت نحوه أكثر متعمدة إظهار أنوثتها بشكل ملفت كي يقع بشباكها و بملامح منكسرة وفي اللحظة التي توقف فيها إبهامها على شفته السفلية لتكمل مدح بها باغتها بقبضة مفاجأة طاويًا ذراعها خلف ظهرها مما أصدرت أنين التأوه وهو يقول بنبرة محذرة:
-رغم اعتراض حياة على وجودك هنا انا وافقت عشان خاطر رشيد. لكن تعكي وتخبطي هنا وهنا هعرفك مين هو عاصي دويدار.
تلوت متوجعة تحت يده وهي تستغيث: -سيب أيدي بقولك، أنت اتجننت؟
جز على فكيه مكملًا: -أوعي تكوني فاكرة إني مش قاريكي من أول يوم، دا انا صايع قديم. لكن كنت مستني لك غلطة ومفيش أنسب من كده.
ثم شد قبضته عليها وقال محذرًا: -أخر فرصة ليكي، ياما تتعدلي ياما هتصحي تلاقي نفسك في الشارع، فكري.
حررها بعنفوان وهو يلملم أشياءه بسرعة ويغادر المكان الذي يحمل أنفاسها وهي يشيعها بنظرات الخسة والحقارة. ظلت ترمم ذراعها الذي يؤلمها كثيرًا وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة وتعاتب نفسها: -أنا لعبتها غلط ولا ايه؟
ثم عضت على شفتها السُفلية: -ومش أنا ال تلوي دراعها يا عاصي بيه، وهتشوف. هتشوف مين فينا هيطلع بره أنا ولا أنتَ.
-نازلة رايحة فين الصبح كده؟
أردفت شمس سؤالها على آذان أختها التي تغادر المنزل صباحًا، قفلت نوران الباب الموارب وقالت بضيق: -مخنوقة هنزل اتمشى شويه يا شمس، زهقت من قعدة البيت.
جاء تميم مرتديًا بذلته الرسمية وقال بهدوء: -أحنا اتفقنا امبارح يا شمس، تعمل ال عايزاه في حدود العقل. أخرجي يا نوران براحتك، بس متتأخريش.
-هكلمك كُل شوية!
هزت رأسها متفهمة أوامرها وغادرت البيت على الفور، دارت شمس إليه:.
-مش مستريحة والله لتصرفاتها، نوران عنيدة ياتميم، وبتقول حاضر وتعمل ال في دماغها بردو.
مسك كفيها بحب وطبع فوقهم رحيق اعتذاره: -ممكن تهدي. ادي البنت مساحتها يا حبيبتي بلا تخنقي عليها.
يبدو أنها اقتنعت قليلًا بكلامه، فغيرت مجرى الحديث: -بس أنت متشيك كده ورايح فين؟
هندم رابطة عنقه: -أيه رأيك؟
-قمر، بس بردو معرفتش رايح فين للشياكة دي كُلها؟
طافت عينيه بحيرة حولها ثم لأعلى حتى ثار شكوكها واحتدت نبرتها: -تميم. متحورش وبص لي هنا.
غمز بطرف عينه وهو يتذوق شفتيها بخفة: -بالليل هتعرفي، يا دوب ألحق أنزل.
اوقفته منادية: -تميم، تعالى هنا.
ألقى نظرة في ساعة يده: -حبيبتي، يا دوب الحق. قلت لما أرجع هتعرفي.
قبلت على مضض ثم قالت: -هنزل المستشفى الساعة 12 وارجع أعمل الغدا، أعمل حسابك عشان متاكلش حاجة بره. هعمل لك الأكل ال بتحبه.
-حاضر.
قال جملته وهو يفتح باب الشقة وتشيعه بقلب أم قائلة: -لا اله إلا الله...
ارسل لها ابتسامة مع قُب: لة طائرة في الهواء: -محمد رسول الله، ادخلي بقا.
هبط تميم بالمصعد وعادت شمس إلى مطبخها لتكمل مهامها، ثم خرجت سريعًا منه متجهة إلى المرحاض كي تظفر بحمام دافئ قبل مرور الوقت. قطع تميم مسافة لا بأس بها من الطريق وهو يستمع لصوت فيروز الصباحي الذي فجر برأسه العديد من الأفكار. فجأة بدون مقدمات ومع أول فرصه للف السيارة، قطع الطريق مارًا بالاتجاه المعاكس وهو يتحدث مع نفسه بصوت مسموع:.
-يعني نوران مش في البيت، وأنت زي الغبي خدت بعضك ونزلت؟ مفيش أي أكشن كده؟ جايلك يا شمس يلي بتخوفيني بنوران. دانا هسرب نوران كل صُبح.
عاد إلى البيت على عجل، فوقف أمام باب الحمام يستمع لصوت الصنبور، أخذ يفرك كفيه ببعضهما متحمسًا: -كده كُل حاجة متيسرة.
هرول إلى غرفته وتخلص من ملابسه العلوية التي تكتف حركته، فتح خزانة الملابس كي يختار لها ما ترتديه بحرية بعيدًا عن قيود نوران التي تكبلهما. وهو يطلق صفيرًا مسمعومًا وأخذ يرش قطرات العطر بكثافة. خرجت شمس مكتفية بلف المنشفة الصغيرة حولها منشغلة بتجفيف شعرها متجهة ناحية غرفتها دون علمها بعودتها. ما أن وقعت عيناه عليها فقال ضاحكًا:
-مش بقول أنا كل حاجة متيسرة!
وقعت منشفة رأسها من يدها وهي تتفوه باسمه بدهشة: -تميم؟ أنت أي رجعك؟
اقترب منها ببطء: -تصدقي أنا قلبي كان حاسس.
-حاسس بايه؟ أنت مش عندك شغل و
تناول المنشفة الواقعة بالأرض وبدأ في تجفيف شعرها بتأني وهو يدور حولها كما تدور الكواكب حول شمسها، كررت سؤالها بنبرة خفيضة:
-أنت رجعت لي؟
رد بعفوية: -أصلح ال عملته.
عقدت حاجبيها: -عملت أيه. تميم ممكن متتكلمش بالألغاز؟
سحبها من خصرها بيديه بقوة حتى ارتطمت بسياج صدره وهمَ باستنشاق عِطرها بشراهة مكملًا بنبرة يملأها الهيام: -نزلت وسبتك لوحدك. مكنش ينفع أضيع فرصة زي دي؟
تمسك يدها بطرف المنشفة الملتفة حولها وهي تنادي باسمه: -تميم!
كانت تصرفاته كوريقات خريف محترقة متساقطة على كتفيها وعنقها وهو يرويها بعبير الشوق. أحست بضعفها الذي دومًا ما تنهزم أمامه بقربه بعطره فتململت معترفة لنفسها بأن العشق والهوى ابتلاءان يحتاجان إلى جسد قوي كي يتحملهما . رفع رأسه عنها كي يلتقط القليل من أنفاسه وسألها: -أنتِ بتعرفي ترقصي؟
شهقت بخجلٍ وهي تبتعد عنه: -لا طبعًا. أنتَ بتقول أيه؟ تميم أنزل شوف شغلك.
-لا بقول لك أيه ننجز، هي ساعة بالظبط وهرجع عايز أشوف بهلوان في الشقة.
بمخالب امراة ثورية اضناها العشق صرخت بوجهه: -لا طبعا معرفش أنا الحاجات دي. تميم متهرجش.
دنى منها ضاحكًا وهو يقول: -كنت عارف بختي. مايل! تعالى أقول لك بقا رجعت ليه.
مساءً
عادت رسيل بعد يوم طويل وشاق عاشته بالوكالة بين العمال وهي تسترجع أيام أبيها، بعد أيام اعتادت فيها على الراحة عادت إلى منزلها تجر نفسها جرًا من شدة التعب، رمت جسدها فوق الأريكة وهي تتخذ أنفاسها بتثاقل وتعب، لحظات قليلة من الراحة لم تنعم بأكثر منها، هجم الفيتات نحوها بشوق وترحاب:
-أنتِ فين يا حياه، كنا هنموت من القلق عليكِ.
فتدخلت داليا معبرة: -و هنموت من الجوع كمان.
عقدت حاجبيها بلهفة: -أنتوا مأكلتوش حاجة خالص؟ ازاي؟
وثبت قائمة من مكانها مسرعة ناحية المطبخ، فاتبعن الاثنتين خُطاها وهن يسردن أحداث اليوم: -أنتِ مش قولتِ ممنوع نقرب من البوتجاز. وأنطي فريال روحنا نقولها تعمل أكل قالت متعرفش.
حيث أكملت تاليا: -وكمان بابي موبايله مقفول.
ضمتهم معتذرة بحنان بالغ: -أنا أسفة، حقكم عليا بجد. بصوا حالًا هعملكم أحلى أكل.
ثم ركضت مسرعة نحو الثلاجة وأخرجت منها ثمرتين من الخيار: -ممكن تتسلوا في دول لحد ما أخلص. مش هتأخر.
هز الاثنتان رأسهم بطاعة ثم اندفعت تاليا لتعانفها بحبٍ وأقرت معترفة: -أنا كنت خايفة اوي وأنتِ مش هنا.
ضمتها بقوة وهي توزع على ملامحها نسمات الاعتذار وردت بحنو: -مش هسيبكم تاني وحياة ربنا، أنا معاكم أهو، متزعلوش بقا. ليه العياط طيب.
شرعت في إعداد وجبات سريعة من الغداء المكونة من قطع الدجاج المقلية مع مكرونة، ملأت ثلاثة أطباق، وجلست في أجواء هادئة تأكل معهن كأنها فرغت طاقة الاعتراف بالذنب والاسف بالوقت الجميل الذي قضته معهن. فسألتهم بمرح تقدم أعتذارها بوجبة تسد فراع معدتهم:
-حلو البانية؟
أردفت تاليا بفرحة وهي تلتهم قطعة اللحم الأبيض: -حلو أوي أوي. ده أحلى بانيه.
بأجواء يغمرها الضحك واللطف واللحظات الجميلة التي لم تكتمل، ما فرغت أطباقهم امتلأت بنوع أخر من الحزن. عاد عاصي برفقة أخواتها. مجرد سماعها دكة خُطاهم وشوشت للصغار: -ممكن تطلعوا فوق وأنا هخلص كلام مع بابي والحقكم.
فر الاثنتان بدون جدال ثم شرعت رسيل في لملمت الأطباق الفارغة من فوق المائدة. تبادلت النظرات بين يونس ورشيد تاركين ساحة النقاش لعاصي الذي جلس على الأريكة بدون أي كلمة. ظلت ترسل نحوهم نظرات من حين لأخر منتظرة اندلاع الحرب عليها، طالت لغة الصمت حتى قطعه رشيد:
-نزلتي الوكالة ليه يا رسيل.
حدجه عاصي بحدة جعلته يبتلع بقية كلماته: -أنت هتحاسب مراتي قُدامي يا رشيد!
برر رشيد موقفه: -عايز أعرف بس ايه طلعها في دماغها فجأة.
نصب قامته القوية وقال بحزم: -ولو. الكلام ده قبل ما تبقى مراتي. لكن مراتي محدش يسألها كانت فين وجات منين غيري. فاهم.
قطع يونس الحوار المشتد بينهم وقال بلطف: -عاملة أكل أيه يا رسيل. أنا على لحم بطني.
نظرت لعاصي طويلًا وكأنها تتحداه: -معملتش، اطلبوا أكل من بره.
ثم تناولت المنشفة وجففت يديها من أثر المياة: -أنا تعبانة. طالعة أنام شوية...
اكتفى برفع حاجبه ردًا على جملتها، ضرب يونس كف على الأخر مزمجرًا: -انا هطلب أكل هتاكلو معايا؟
رد عاصي باختصار: -أنا لا. طالع اريح شوية.
همس رشيد في أذان أخيه: -عاجبك تصرفات اختك وجوزها دي؟
-ياعم وأحنا مالنا. ها تاكل أيه متخفش هعزمك؟
رد رشيد بصوت حائر: -اعمل حساب فريال معانا.
-وانا مالي، أعمل حساب فريال ليه، هي خطيبتك ولا خطيبتي.
لكم أخيه بضيق: -دا أنت غتت. اقولك متطلبش أنا هطلب أنا وهي وأنت روح شوف اي مكان كل فيه لحد ما رسيل ترجع تحن علينا تاني.
ثم غمغم: -ميبقاش اسمي رشيد لو ما كان المعلم ال فوق ده هو ال منكد عليها وأحنا بتربى بسببه.
حدجه يونس: -خليك في حالك بردو.
وصل مراد إلى مقر المكتب العملاق المذكور عنوانه في البطاقة الورقية التي بيده، وبعد تردد وتفكير طويل دلف من سيارته ليحسم تلك المعركة المندلعة برأسه خاصة عند تلقيه مكالمة هاتفيه آخرى من نفس الفتاة المجهولة. صعد درجات سلم المكتب ببطء حتى وصل إلى الطابق الأول الذي يخلو من المارة. دلف نحو طاولة السكرتيرية وأخبرها بفظاظة:
-قولي للمشغلينك مراد المحلاوي بره.
مجرد أن رأت روفان صورته بالكاميرات هرولت لاستقباله، حيث فتحت الحائط الخشبي الذي انشق لنصفين وهي ترحب به: -مكتبنا المتواضع نور بيك يا بيشمهندس.
فحصته أعينه الصقرية من أعلى لأسفل ثم قال: -أنتوا مين بقا؟
مدت الفتاة كفها لتُصافحه: -روفان، محامية ومديرة مكتب عادل الشيمي. غني عن التعريف طبعا.
رد بإختصار وهو يرسل لها ابتسامة باردة: -أيوه يعني أنا لسه معرفتش أنا علاقتي أيه.
أشارت بكفها نحو المكتب: -اتفضل، عادل بيه هيفهمك جوه.
سبقته الخُطى لترشده الطريق حتى وصل إلى ساحة المكتب الفخم الذي ينتمي ل عادل الشيمي من أكبر وأشهر محامي مصر. جلس مراد على الأريكة منتظرًا قدومه، فسألته روفان:
-تحب تشرب أيه؟
-مش عايز.
-ليه كده يا بيشمهندس أنت عايز تقول عليا بُخلا!
أتاه صوت ذكوري أجش من الخلف ما دار خلفه فوجده ذلك المحامي صاحب الصيت والسمعة الشهيرة. جلس عادل بجواره وقبل أن يكمل كلامه أجابه مراد: -معنديش وقت أشرب حاجة. ممكن ندخل في الموضوع على طول؟
جلست روفان بجواره، فأكمل عادل قائلًا: -أنا بحب الناس ال مركزة في الشغل كده زيك. عشان كده مش هعطلك.
-أحب اسمع!
وضع عادل صاحب الخمسين من العمر قدم فوق الأخرى وقال بتعالي: -أنا جاي افتح في وشك طاقة القدر.
تنهد ساخرًا: -والمقابل؟ قصدي مقابل الطاقة ال هتتفتح في وشي.
-نصيب مراتك في ورث دويدار كله هيبقى حلال عليك.
وهنا تفرض التساؤلات نفسها في ساحة المصالح. اعتدل مراد في جلسته ليسمع بقية العرض باهتمام، حيث أكمل عادل:
-طبعًا أنت عارف نص ثروة شهاب دويدار مكتوبة باسم مدام عبلة الله يرحمها، والوريث الشرعي ليها عاصي ومراتك.
رفع مراد حاجبه مستفسرًا: -والمطلوب؟
بنبرة ثعلبية: -دعوى بالحق المدني. من مدام جيهان أختها تطعن في نسب عاصي وعالية لعبلة المحلاوي وأن اختها مابتخلفش، ولما المحكمة تثبت الحكم، تلتين ثروة عبلة هتروح لمدام جيهان أختها وبعد عمر طويل ليكم طبعا.
خيم الصمت للحظات أعاد مراد تدوير الكلام برأسه: -بس نسيت حاجة مهمة لو أنا وافقت وقدرنا نطير عاصي وعالية من قُدام المستفيد ال لسه معرفتوش، هتعملوا أيه في تميم؟
-لا دي سهلة، سيبها علينا متشلش همها. أحنا دلوقتِ عايزين نوصل لجيهان هانم عرفنا أنها سافرت أمريكا فممكن تقنعها تعمل لك توكيل. وفي كل الحالات أنت مش خسران حاجة.
ضرب الأرض بمقدمة حذائه بلطف ثم سأله مستفسرًا: -لصالح مين بقا؟ اقصد المستفيد؟
-شاكر بيه. شاكر بيه دويدار وأخوه شاهين بيه.
قديمًا وبالأخص لما كنت استمع للمشاكل التي تضرب العلاقات الزوجية وما يصيبها من ملل وفتور، كنت اترجم الموقف على أنه فصل من فصول الحماقة، كيف لفتاة أغرمت برجل يمكن أن تمل منه للحظة، كنت اتساءل كيف تُخمد نار الحب بعد الزواج بدلًا من أن تكون شرارته؟ كيف تتحول الحياة لجدول نمطي تملأه المسئوليات والضغوطات فقط؟
أليس الحب هو مكعب سكر كل شيء؟ ألم يكن مذاق حلوى الأيام المرة بعيون من تحب؟ ربما نحن الآن في فصل الخريف الذي يتساقط فيه كل شيء منا كما يفعل بالشجر ؛ ولكن هل لنا موعد جديد مع ربيع العمر يا ترى؟
كانت تجوب بعشوائية في الغُرفة حائرة مشتتة، كيف ستواجه ما فعلته، ووتيرة من الندم أصابت رأسها عما فعلته. أهل أعطت للأمور أكثر من حجمها وأنها تُبالغ كثيرًا؟ أم أنها محقة، كانت تحمل الملابس على معصم يدها حتى أصابها صاعق التوتر والارتباك فسقط كل ماتحمله وهي تركض ناحية كوب الماء لترفعه مرتعشًا إلى فمها.
عاد عاصي بهدوء لم يحمل إي عواصف، وجلس على الأريكة بصمت زاد الشكوك برأسها. قاومت أعينها كي لا تنطر له ولكنها فشلت. أشعل لفافة التبغ وهو يقول:
-كان المفروض تحترمي وجودي وتقولي عايزة تعملي أيه، أنا مش همنعك.
لملمت شعرها المتطاير بطريقة فوضوية وهي تستجمع قوتها: -أنا معملتش حاجة غلط. وبعدين أنت مش فاضي لي أصلا عشان تهتم بيا.
رفع قدمه فوق فخذه محاولًا تمالك أعصابه: -ومين جاب سيرة الغلط، بس لما أصحى وأنا مش عارف مراتي راحت فين ده اسمه ايه.
-تمام، واديك عرفت، وأنا معنديش حاجة أقولها. وممكن تطفي النور عايزة أنام.
هز ساقه بعصبيّة مدفونة وجهر مزمجرًا: -بلاش تخرجيني عن شعوري يا رسيل وكلميني زي ما بكلمك.
هذه أول مرة يناديها ب رسيل، كان أثر الكلمة على قلبها كوقع الجمر. تمتمت بذهول: -رسيل! تمام يا عاصي.
ثم وثبت بضيق وبخطوات سريعة متجهة ناحية المرحاض الذي قفلت بابه بقوة. وصل لأذانه صوت بكائها بداخل فنسي كل ما يزعجه منها ووثب قائمًا بعد ما تخلص من سيجارته، حاول فتح الباب ولكنها أحكمت غلقه من الداخل، عاد مناديًا:
-طيب افتحي الباب وبلاش حركات العيال دي، حياة افتحي بقولك.
لم تتحمل بقائها بمفردها كثيرًا فسرعان ما تراجعت عن قرار عزلتها وهروبه من قسوته الزائدة، فتحت الباب فجأة وارتمت بين يديه بقوة لم يعهدها من قبل كطفل صغيرة تستقبل أبيها أمام بوابة المطار. اجهشت بين يديه وقالت باكية: -ممكن منتكلمش في أي حاجة.
مسح على شعرها وربت على جسدها المنتفض المصاب بحالة من الذعر: -طيب أهدي خلاص. تعالي تعالي نقعد نتكلم.
بالغرفة المجاورة.
صعد رشيد حاملًا الطعام المغلف لفريال التي تكمن بغرفتها تصنع المكائد والحيل التي يمكن أن تنتقم بها من أبناء عمها، دق رشيد الباب فهرولت لتفتح له واستقبلته بابتسامة مزيفة:
-حبيبي.
رد بتوتر: -طلبت لنا أكل. عارف مكلتيش من الصبح.
استقبلته بفرحة عارمة: -بجد، طيب تعالى جوه ناكل سوا.
فكر للحظات لم يتخيل نتيجة طلبها ولكنها قطعت حبل شكه وهي تسحبه للداخل عنوة وتقفل الباب عليهما. أخذت الحقائب منه وسألته: -تحت ناكل فين،؟ في البلكونة ولا قُدام التلفيزيون.
ثم اقتربت منه كاسر حاجز المسافات بأنوثة طاغية خافضة نبرة صوتها: -أنا عن نفسي بحب أكل على السرير ؛ وأنت!
ذهب العقل لمحله وثار فصل من الجنون، سقطت حقيبة الطعام من يدها، وبدأت جولة آخرى من المخطط الشيطاني الذي حضرت له فريال لتضمن وجود رشيد معها دومًا بعيدًا عن تهديدات عاصي...
عودة لغُرفة عاصي
-يعني أنتِ مش عارفة أن دموعك دي أكتر حاجة بتوجعني.
أردف جملته على راسها المستندة على صدره، ابتعدت عنه تدريجيًا ولكنه سبقها بمسح عبراتها:
-أيه ال حصل، أنا قولت أيه للعياط ده كله؟
أجهشت بنبرة مبطنة بالبكاء: -أنت مش بتناديني ب رسيل غير لما تكون زعلان مني.
-مش حكاية زعلان، بس فعلًا ال بكلمها قدامي رسيل، حياة ال حبيها مستحيل تعمل كده، مستحيل تعمل حاجة من ورايا.
كم هو مثير أن تكون بهذه الرقة وهي تشكو ضنا روحها: -عشان أنا تعبت من كل حاجة، مبقتش عارفة عايزة ايه. ومش لاقياك معايا، أنا حتى كنت ناوية أعاملك بنفس المعاملة، أقول لك عندي شغل وحياة أهم منك. بس مقدرتش، أنا مش عارفة في أيه، أنت معاك حق أنا أعصابي تعبانة الفترة دي وأنت كمان مش موجود. عاصي أنا مش قادرة أكمل كده.
أخذت يداه تجفف دموعها المنهمرة بحنو وسألها: -أنتِ متعرفيش تتكلمي من غير عياط؟
ردت بنفاذ صبر: -أنا بردو عمري ما كنت كده، ولا عمري ما لجأت للعياط. بس مش قادرة.
-طيب أهدي وقولي كل ال جواكي وأنا هسمعك.
-كُل حاجة يا عاصي، انا مبقتش فاهمة نفسي. هي الحياة ال بتجبرنا على النمطية والملل ولا المشكلة فينا. تعرف!
قالت كلمتها الأخيرة وهي تدنو منه وتضع كفها فوق وجنته برفق وتشكو منه إليه: -أنا كنت جاهزة ومستنياك من 7 بالليل. وبعد في الساعات عشان تيجي لحد ما يأست، قلبي اتفتت ألف حتة، زعلت منك ومني ومن كل حاجة وخدانا من بعض، قول لي أنا بطلت أوحشك؟
وضع كفها فوق ثغره ليعطره ب بلة الاعتذار أجاب: -أنا بعتذرلك عشان معرفتش أوفق بينك وبين الشغل. ده اعتراف صريح مني ومستعد لأي عقاب أنتِ هتحكمي بيه، عشان أفكر مليون مرة قبل ما أزعل القمر بتاعي.
-أنا مش عايزة حاجة يا عاصي، أنا بس عايزاك تبقى معايا. مش عايزة اتهمش من حياتك. وجودك كفاية.
فتح جداول قلبه قائلًا: -حياة، أنّا اكتفيت بيكي عن الدنيا باللي فيها. عشان بس تطمني أن مفيش غيرك في حياتي ولا هيكون، وبمناسبة الشغل هحاول أنه مايبعدنيش عنك، المهم!
جفت الدموع من عينيها وهي تلتفت إليه باهتمام: -أيه؟
-لسه مصممة على حوار الشغل ده؟
ردت بثقة: -أه طبعًا، أنا مستحيل اتراجع عن حاجة بدأتها. بس ممكن يعني...
-هااه ممكن أيه؟
ردت بلهفة: -هتراجع في حالة واحدة بس...
-أعرفها، يمكن أقدر أعملها.
سحبت كفه لبطنها بنعمومة وهي تكمل حديثها الذي بات ينعكس بريقه بعينها كبريق النجوم: -لما يبقى في بيبي هنا. هسيب الدنيا كلها وأقعد مستنياه، أنا أصلا هكون خايفة عليه من النسمة.
تبدلت ملامحها ككل مرة تفتح معه موضوع الحمل. يبتلع جمر الحيرة العالق بحلقه، بين فرحتها وخوفه المرضي عليها. شرد بعيدًا وهو يراجع شريط الماضي ومعاناته مع مها مرة ومع حياة مرة أخرى، عاد إليها مزفرًا: -إن شاء الله...
لاحظت عدم تحمسه للفكر ككل مرة، فسألته بترجي: -مش ناوي نروح لدكتور سوا؟ يعني نعرف سبب التأخير أيه؟
رد باختناق: -أنا نفسي أعرف أنتِ مستعجلة ليه على الخلفة؟ ما نأجله شوية.
-أيه؟ عاصي أحنا لينا سنة مع بعض، المفروض نأجل أد أيه؟ وليه أصلًا. أنت مش حابب يكون لك أولاد مني، عاصي من فضلك رد عليا.
جاء رنين هاتفها لينقذه من الاستجواب الذي فتحت أبوابه بوجهه، استمر الجرس طويلًا متجاهلة الرد عليه منتظرة رده بفارغ الصبر ولكنها لم تلقى جوابا، ردت على اتصال شمس المفاجئ:
-شمس؟
أتاها صوت شمس الباكي: -حياة عاصي جمبك؟ برن عليه مش بيرد.
-ااه جمبي طيب أهدي، أهو معاكي.
مدت الهاتف لعاصي وهي تلقنه: -شمس. شمس عايزاك. أنت فين موبايلك؟
همس لها: -نسيته تحت...
اعتدل في جلسته: -أيوة يا شمس.
صاحت شمس بحرقة: -ألحق يا عاصي، تميم جاله اتصال ب أن عمامه استولوا على القصر ونزل وهو مش ناوي على خير أبدًا. عاصي اتصرف أنا خايفة تميم يتهور...
وثب مفزوعًا: -طيب أنا جاي حالًا يا شمس أهدي.
حياة بفزعًا: -في أيه يا عاصي؟
شد سترته السوداء بعنفوان وهو يتوعد لعمومته: -هي بقيت كده يا ولاد دويدار؟ وديني لأعرفكم مين هو عاصي دويدار.
نادته مسرعة: -استنى يا عاصي.
فتح الباب بسرعة فصُدم برشيد الخارج من غُرفة فريال بملابسه المبعثرة وهو يتفقد المكان حوله بأعين اللصوص محاولًا إخفاء الحمرة النسائية عن وجهه...