قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل الحادي عشر

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل الحادي عشر

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل الحادي عشر

بدا وكأن الصفعات تتوالى على وجهه، حياته الماضية بأكملها كذبة! لم يرأفوا بحاله وطفولته؟ حُكِمَ عليه باليُتم والقهر وكأنه يحلم بالمرسى وهو الغريق في وسط البحر، وكأن الدنيا تخبره أن ما يطلبه أكثر بكثير مما يستحقه هو، نزلت دموعه على وجنتيه وهو ينظر في اللاشيء أمامه حتى اخترق صوت صرخات عمته لأذنه وهي تنادي على أُمها، حينها حرك رأسه جهتها وتكرر أمامه موت والديه وصرخاته وكأنه وقع أسير الماضي، لم يكن في تلك اللحظة يوسف الرجل الذي أشتد عوده وتصلب جسده، إنما هو طفلٌ صغير العمر، خرج من الغرفة كما الإنسان الآلي وصوت صرخات عمته خلفه يخالطه البكاء وهي تكرر: ماما. لأ.

دلف غرفته ودموعه كما هي تسيل بدون هوادة وكأنها انتظرت الانفجار لتخرج كما البركان، لم يكن البكاء لأجلها فهي لا تعنيه من الأساس، لكن البكاء لأجله هو، لأجل حياته ولأجل حزنه الذي عاشه وسطهم، خشى أن يتصرف بدون تعقل لذا دلف غرفته وأغلق بابها على نفسه يحاول فهم إن كان في يقظةٍ أم أن ما أخبرته به ماهو إلا كابوسًا وسيفيق منه.

ارتمى خلف الباب ينفجر في البكاء كما الطفل الصغير وصوت بكائه يتردد في أذنه حينما فاق على خبر وفاة أسرته بالكامل ليبقى معهم يعاني الويلات، ازداد صوت نحيبه بقدر كتمانه لعمرٍ بأكمله مضى عليه صامتًا، وحينما أدرك وضعه انتفض واقفًا يخرج غضبه كما الوحش المسجون على الغرفة بأثاثها، وركل كل ما قابله بل كسره بالكامل، لم يرتاح بل ازداد الأمر سوءًا حينما قابلته صورته مع أسرته، حينها ركض نحوها يجلس على ركبتيه يتلمسها بأطراف أصابعه ونطق بصوتٍ مختنقٍ ودموعه تنهمر على وجهه وهو يمرر أنامله على زجاج الصورة:.

ليه؟ مخدتنيش معاكي ليه؟ صممتي ليه أفضل معاهم؟ ليه؟ ها! سيبتيني معاهم ليه؟ طلعوا مبيحبونيش، والله طلعوا مبيحبونيش، حتى هي طلعت زيهم وألعن منهم، داسوا عليا كلهم. والله داسوا عليا
احتضن الصورة وهو يبكي جالسًا على ركبتيه وكأنه خيلٌ ضُرب في مقتلٍ ليذهب شموخه سدى وتُنكس رأسه بعدما اعتاد على الاعتزاز بالنفس، فهل سيقف من جديد كما الخيل الأصيل أم أنه هجين وأصله مختلط بأخرٍ ليس له أساس.

في حارة العطار
ركض بيشوي وخلفه أيهم بعدما أخبرهم الصبي بمشاجرة مهرائيل مع أماني فوصل الأول عند أكثر المشاهد المستفزة لرجولته وهو يرى شكرى يحاول الاقتراب منها ليصفعها و أماني تحاول الانقضاض عليها لكن نساء الحارة وقفن كما الرادع لها وقبل أن تطل يد شكري لها رفع بيشوي صوته بنبرةٍ جامدة:
إيدك عندك يا روح أمك! هتخيب ولا إيه؟

بمجرد وصول صوته حل الصمت محل همهماتهم، بينما مهرائيل حينما وجدته أمامها بدت وكأنها وجدت الملاذ الآمن لها فركضت نحوه بلهفةٍ وهي تقول بنبرةٍ باكية:
بيشوي الحقني علشان خاطري.
نظر لها بدهشةٍ من خوفها، فيما اقترب أيهم بنبرةٍ جامدة:
مين اللي جه جنبك؟ وبتعيطي ليه؟
تدخل أحد رجال الحارة ينطق بنبرةٍ هادئة في محاولةٍ منه للملمة شتات الأمور التي تفاقمت عن حدها:.

مفيش حاجة يابني خلاص حصل خير، الحمد لله سوء تفاهم وعدى على خير.
تحدث بيشوي بنبرةٍ جامدة بعدما حرك رأسه له:
أنتَ بتقول إيه ياعم هاني؟ واحد عاوز يمد أيده على واحدة عيني عينك وتقولي سوء تفاهم؟ اصرفها منين دي؟
رد عليه شكري بتبجحٍ وكأنه صاحب الحق:
وهي المحروسة تضرب أختي دا حلو ليها يعني؟ ملهاش دكر يحميها؟ اللي ييجي جنب أختي أنا أقطع وش أمه.
اقترب أيهم يسحبه من تلابيبه وهو ينطق من بين أسنانه:.

تقطع وش مين بروح أمك؟ لو سيرتها جت على لسانك أنا هقطعه، مش كان ربنا تاب علينا من النسب العِرة دا؟ مالكم بينا بقى؟
تحدث شكري بتهكمٍ:
ابنك يا حبيبي هو اللي جه يتمسح فينا، احنا احترمنا الكلمة اللي بيننا وخرجنا إيدينا منه خالص، هو اللي جه لحد هنا وأنا علشان راجل قد كلمتي خليته يمشي، عيط بقى وعمل حوار، مش بتاعتي دي يابا.

ارتخت قبضة أيهم والتفت لابنه الذي وقف يبكي بصمتٍ وكأنه شعر بالذنب بسبب فعله دون أن يفهم مجرى الأمور، فيما قالت مهرائيل مسرعة بعينين باكيتين:
أنا الغلطانة مش هو، أنا اللي اندفعت وضربتها.
انتبه لها كلاهما، فتحدثت هي بصوتٍ باكٍ بدا عليه الارتباك:
هو جه يسلم عليها بس هي والحيوان دا مرضيوش و.
قطع شكري حديثها حينما أصدر صوتًا من حنجرته يدل على استياءه وهو يقول بطريقةٍ سوقية:.

شوف برضك بتغلط إزاي؟ طب واللي خلق الخلق أنا اللي مسكتني عليكي إنك بت.
اقترب منه بيشوي بُغتةً وهو يهدر في وجهه:
بت تلعب في مصارينك طب فكر تقرب علشان أخليك مرحوم الليلة دي، شكلك متعرفش إنها تبعي، ولو عاوز تعرف أنا جاهز بس مترجعش تزعل.
تدخل الرجال يفصلون بينهما حتى تحدث أيهم بغلظةٍ:
كملي يا مهرائيل؟ حصل إيه تاني؟
مسحت وجهها ثم نطقت بنبرةٍ مُحشرجة:.

جيت اكلمها لما هو عيط لقيتها بتقولي انها ماضية على ورقة وأنها مش هينفع تقرب منه، محسيتش بنفسي غير وأنا بضربها، بس هي عصبتني و إياد كان صعبان عليا أوي.
أغمض جفونه وشدد قبضتي كفيه ثم اقترب من أماني يقول بتحسرٍ وهو ينظر لها بحزنٍ وانكسارٍ أظهرته مقلتاه بدون قصدٍ منه:.

لو كنتي حضنتيه عمري ما كنت هقولك عملتي كدا ليه، ولو كنتي فكرتي مرة واحدة تيجي تسألي عنه عمري ما كنت هردك من غير ما تشوفيه، بس كدا أنتِ جيبتي نهايتها، علشان لو شوفتك في مكان تاني أنا هموتك في أيدي، عارفة ليه؟ علشان الغريب أحن عليه وعلى قلبه منك.
التفت يحمل صغيره ثم عاد يقف أمامها من جديد وهو يقول برأسٍ مرفوعٍ بشموخٍ وثقةٍ زائدة عن الحدِ:.

الفرصة الزبالة اللي جمعتنا سوا أنا عمري ما هندم عليها علشان إياد عندي بالدنيا، يلا يا بيشوي متوسخش إيدك بالعالم العرر دي، خلينا احنا أصلنا نضيف.
ابتسم بيشوي بتهكمٍ ثم نطق يقلل منهما بقوله:
وعلى رأيك يا أيهم قليل الأصل لا يتعاتب ولا يتلام وفي أول بيعة تقابلك قوله سلام.
بتر حديثه ثم اقترب يربت على كتف شكري وهو يقول برسالةٍ مُبطنة حملها حديثه وأظهرتها طريقته:
سلام. يا شُكري.

تحرك بيشوي نحو مهرائيل يشير لها ناطقًا بجمودٍ:
قدامي. يلا.
تحركت بعدما انتظمت أنفاسها وهدأت ثورة بكائها، بينما هو أخذ أبانوب ابن شقيقته ثم تحرك خلفها محاولًا تهدئة نفسه قبل أن يثور ويعود لذلك الوغد الذي تطاول عليها.
وصل أيهم بيته فدلف للمندرة أولًا وخلفه البقية فركضت لهم آيات تسأل بتعجبٍ من هيئتهم المريبة تلك:
مالكم؟ شكلكم عامل كدا ليه؟ هي مهرائيل معيطة؟

حركت رأسها موافقةً فنزلت دموعها من جديد وفي تلك اللحظة دلف عبدالقادر بلهفةٍ بعدما وصله الخبر وانتشر في الحارة بأكملها كما انتشار النار في الهشيم ونطق بعدما وزع نظراته على البقية:
إيه اللي حصل دا والناس بتقوله برة؟ فهموني.
وجهوا أنظارهم نحوه بصمتٍ فلحقه أيوب نحو الداخل وهو يسأل بقلقٍ:
حصل إيه؟ ومين اتخانق مع مين؟
تنهدت مهرائيل ثم نطقت بنبرةٍ مهتزة باكية:.

أنا السبب والله، أنا اللي اندفعت من غير تفكير ومديت أيدي عليها، بس أنا مفكرتش ثانية واحدة.
سألها عبدالقادر بثباتٍ:
إيه اللي حصل؟ احكيلي كله مرة واحدة.
قامت بسرد الموقف بأكمله لتنزل دموع إياد من جديد مُرثيًا حاله على أمه التي نُزعت الرحمة من قلبها، فيما وقف أيوب مصدومًا بعينين مُتسعتين، حتى أضافت هي من جديد:
أنا آسفة لو عملت مشكلة بس أنا عملت كدا علشانه.

رد عليها بيشوي بعدما فلت منه ذمام التحكم في صبره:
نفسي مرة تبطلي تهور زي العيال الصغيرة، بتتصرفي من غير تفكير في الخطورة اللي حطيتي نفسك فيها، وأخرتها عمالة تعيطي وتتأسفي، طب كان ليه من الأول.
سألته بنبرةٍ باكية بعدما أحزنها حديثه:
بتعاتبني ليه؟ أنا قولت إن دا كان غصب عني.
اقترب منها يقف مقابلًا لها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:.

علشانك أنتِ، واحد صايع زي دا كان عاوز يمد أيده عليكي، تفتكري أنا كنت هسكت لو دا حصل؟ أكيد كنت هموته فيها، ودي أصولها، اللي يرفع أيده على ست تتقطع، واحدة زي دي واقفة عاوزة تمسكك من شعرك؟ وأنتِ انضف من أصلهم كله، أنا ضيقتي علشانك مش منك.

علي الرغم من جمود طريقته وقسوته في الأسلوب إلا أن مُجمل حديثه طمئنها وجعل ترتاح من تأنيب الضمير، فيما اقترب أيوب من الصغير يجلس أمامه على ركبتيه ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
طبعًا إحنا رجالة والعبط دا مياكلش معانا صح؟ بابا عندك هنا أهو وأنا معاك وكلنا هنا رهن إشارة واحدة منك تطلب حاجة فيها ننفذهالك، أوعى تزعل نفسك، قولنا لما تحصل حاجة تزعلنا بنعمل إيه؟
مسح الصغير دموعه بظهر كفه ثم نبس بنبرةٍ مختنقة:.

نقول الحمد لله علشان ربنا يكرمنا بالأحسن.
ابتسم له أيوب ثم قربه منه يُلثم جبينه ثم نطق يفتخر به:
صح، قولها من قلبك بقى علشان ربنا يكرمك بالأحسن ليك في كل حاجة وافتكر وعود ربنا ليك عارفهم؟
أبتسم إياد وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
يلا نقولهم سوا إحنا الاتنين.
ارتسمت البسمة على وجه أيوب وضع كفه على كتف الصغير يشدد من أزره ثم نطق كلاهما مع الأخر:
أربعة وعود ربانية: ‏الوعد الأول ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.

‏الوعد الثاني فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.
‏الوعد الثالث لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.
‏الوعد الرابع وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
كُن مع الله يكون معك، أحفظ دينك يحرسك.
ارتمى إياد عليه يحتضنه ويشدد بذراعيه الصغيرين مسكته لعمه وهو يقول بنبرةٍ طفولية:
أنا بحبك اوي يا أيوب كفاية إنك معايا.
ربت على خصلات رأسه وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما لثم جبينه:.

أنا اللي بحبك أوي وروحي فيك كمان، أنتَ أحلى هدية ربنا كرمنا بيها نورت علينا البيت دا.
ابتسم البقية من موقفه مع الصغير، فيما نطق بيشوي بنبرةٍ هادئة:
عن إذنك يا حج، هروح أوصلها قبل ما أبوها يتكلم.
حرك عبدالقادر رأسه موافقًا وما إن وقفت أمامه مهرائيل قال بنبرةٍ أظهرت امتنانه لها:
ألف شُكر يابنتي، تسلمي، كدا أنتِ تربية بيت العطار بصحيح.
سألته بلهفةٍ تمحي الظنون التي سكنت عقلها:
يعني حضرتك مش زعلان مني؟

ابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة يُطمئنها:
لأ طبعًا، أنا مقدر موقفك وحبك ل إياد اللي عملتيه دا كان بدافع الحُب، أنا اللي بقولك حقك عليا لو حد زعلك، أنتِ مقامك عندنا كبير ومن مقام بنتي.
اتسعت ابتسامتها أكثر وهي تقول بفرحةٍ أظهرت صوتها مختنقًا:
شكرًا لحضرتك بجد، أنا كنت فاكرة إنك هتزعل.
التفت بوجهٍ مبتسمٍ يقول ل بيشوي:
روح وصلها زمان أبوها عرف وهيعمل مشكلة.

أومأ له موافقًا ثم أشار لها ومعه أبانوب و كاتي ورحل بذويه من بيت عبدالقادر فيما وقف أيوب وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما شبك كفه بكف الصغير إياد:
أنا هاخده ونطلع نلعب دورين ملاكمة كدا وأعلمه شوية، إيه رأيك؟
هتف الصغير بحماسٍ ومرحٍ وكأنه نسى حزنه فور حديث عمه الحبيب الذي بخر ألامه:
بجد؟ هتعلمني؟
حرك رأسه موافقًا ثم حمله و وضعه على كتفيه وهو يقول بزهوٍ:
هعلمك وأربيك وأربي أبوك كمان.

أبتسم أيهم لهما فيما قال عبدالقادر مُغيرًا مجرى الحديث:
المهم خلونا في الحاجة اللي تفرح وسيبوا الحزن دا على جنب، عاوز أعرف رأيكم في الموضوع دا علشان مهم.
انتبهوا له فيما توجه لابنته يسألها بنبرةٍ هادئة:
فيه حاجة بخصوصك عاوز أعرف رأيك فيها.
انتبهت له وهي تقول بأدبٍ:
أنا؟ خير إن شاء الله يا بابا، اتفضل.
تابع حديثه بدون مقدمات للموضوع قائلًا:
تَيام اتقدملك وعاوز يخطبك موافقة عليه؟

اتسعت عيناها من هول الصدمة عليها لم تتوقع حدوث هذا ولو حتى بأحلامها، لاحظ عبدالقادر صمتها لذا هتف من جديد بنبرةٍ أقوى:
ها! قولتي إيه؟
تنهدت مُطولًا ثم اخفضت رأسها بخجلٍ لا تعرف سببه، فيما تشدق هو من جديد هاتفًا بثباتٍ:
علي العموم أخواتك معاكي أهم أنا عارف إنك بتثقي في رأيهم، اتكلموا سوا وقولولي القرار الأخير، عن اذنكم.

تحرك وترك لهم المكان لينظر كلٌ مِن أيوب و أيهم لها ثم نظرا لها وهي تفرك كفيها ببعضهما وتنكس رأسها للأسفل.

في منطقة الزمالك.
انقلبت أوضاع البيت وتم تجهيز الجثمان للدفن في حالةٍ غريبة وكأن البيت خاليًا من الأرواحِ، لاحظ عاصم اختفاء يوسف لذا اقترب من الممرضة يحدثها بتعالٍ:
تعالي ورايا.
حركت رأسها موافقةً ثم سارت خلفه حتى وقف بها في حديقة البيت الصغيرة وسألها باهتمامٍ جليٍ اتضح على معالم وجهه:
أمي قبل ما تموت، اتكلمت مع حد؟ يوسف تحديدًا!
ارتبكت وهي تقول بصوتٍ مهتزٍ:.

مع. معرفش يا بيه، هي مكانتش قادرة تتكلم أصلًا، وملحقتش تقول حاجة، بس هي كانت عاوزة أستاذ يوسف وهو كان برة. ولما وصل وعرفته أنها فاقت كانت للأسف ماتت.
لاحظ هو اهتزاز وتيرة صوتها وارتباكها وحركة بؤبؤيها المهتزة وكأنها تهرب من نظراته لذا هتف بنبرةٍ جامدة:
شوفي عاوزة كام وبزيادة كمان، بس افتكري إذا كانت كلمته ولا لأ، وايه اللي حصل خلاه يختفي كدا؟
زاد خوفها وقالت بنبرةٍ متقطعة من فرط قلقها:.

مانا. مانا قولتلك يا عاصم بيه هي ملحقتش تكلمه أصلًا. وباقي حسابي أنا خدته الصبح، وهمشي بعد العزا إن شاء الله، تؤمرني بأي حاجة؟
أشار بعينيه نافيًا لتفهم هي مقصده وتحركت من أمامه بخنوعٍ وكأنها لاذت بالفرار من الموت المحتوم، فيما وقف هو يتابع أثرها بنظراتٍ غامضة جعلته يزفر بقوةٍ ثم دلف البيت من جديد.
دلفت الممرضة غرفتها فوجدت فيصل و زوجته بها، اقتربت منهما بلهفةٍ تنبس بخوفٍ:.

سألني يا عم فيصل وقولتله معرفش حاجة، خوفت لاحسن يصمم، بس كويس إنك حذرتني.
رد عليها مؤكدًا بقوله:
الله يباركلك يا بنتي، الواد دا طلع عينه وسطهم هنا من صغره، وكويس إني سمعتهم بيتكلموا أنه مينفعش يتكلم معاها، يمكن تكون عملت حاجة كويسة علشانه قبل ما تموت، ربنا يكرمك إن شاء الله.
هتفت بلهفةٍ تُدلي أمامه بنيتها:.

والله ما عاوزة حاجة غير أني بس أبعد عن المشاكل وخلاص، هما عيلة يتصرفوا سوا لكن الغلابة اللي زيي بيروحوا في الرجلين.
حرك رأسه موافقًا وهو يوافقها الأمر فيما تحركت هي نحو الخارج وخلفها زوجته وعقبهم في الخروج هو الأخر ليقوم بتجهيز البيت لواجب العزاء.
وقف سامي أمام عاصم يسأله بخوفٍ:
متأكد يا عاصم؟ أمك لو كلمته قبلها هتبقى مصيبة وحلت على راسنا، مش بعيد ياكلنا بسنانه.
هتف عاصم باقتضابٍ:.

ما تبطل خوف بقى! هتكلمه إزاي هي إذا كانت بتوه وبتنسى احنا مين ساعات، يبقى هتفتكر حاجة عدى عليها العمر دا؟ بعدين هي مستحيل تعمل كدا لأنها عارفة إن دا هيفتح علينا باب احنا مش قده.
رد عليه الأخر بنفاذ صبرٍ ويأسٍ تمكن منه:
مش يمكن مثلًا أمك قالت تعمل حاجة عدلة لأخرتها؟ وساعتها تبقى لبستنا كلنا في الحيطة؟ لو دا حصل أنا ماليش دعوة بأي حاجة.
رمقه عاصم بسخطٍ ثم زفر بقوةٍ وتشدق بنذقٍ:.

بعدين بعدين، خلينا بس نشوف العزا.
تحرك عاصم من أمامه فيما قال سامي بسخريةٍ:
وهي أمك عمرها عملت حاجة كويسة علشان حد ييجي عزاها؟ دي أمي كانت صاحبة واجب عنها.
أتاه من خلفه صوتٌ يقول:
طول عمرها صاحبة واجب و مغرقة الكل بخيرها.
اتسعت عيناه بدهشةٍ والتفت فوجد يوسف يقف من جديد أمامه بشموخٍ لم يتوقعه فيما رفع يوسف حاجبه وهو يقول بسخريةٍ:
كدبت أنا يعني؟ مش أمك طول عمرها صاحبة واجب؟

سأله سامي باندفاعٍ لم يحسب له نتيجةً:
أنتَ كويس؟ أنا قولت حصلك حاجة!
اقترب منه يرفع رأسه ثم نطق بزهوٍ:
دا بعينك وعين تماسي أمك، أنا زي الفل بعدين واحدة ماتت الله يرحمها هزعل عليها ليه؟ دي حتى ملحقتش تقول كلمة سامحني.
ظهرت علامات الارتياح على وجه سامي وقد زالت بقايا ظنونه عن عقله خاصةً وهو يرى يوسف أمامه بثباتٍ يرتدي حلةً سوداء اللون، فيما ابتسم الأخر وهو يقول بعدما لاحظ تفحصه له:.

دي علشان واجب العزا، هيبقى فيه بنات حلوة بصراحة أهو أي حاجة عدلة تيجي من المرحومة.
مزاحه وسخريته كلاهما يدل على عدم معرفته بأي شيءٍ يدينهما، لذا اقترب منه يقول بنبرةٍ آسية:
البقاء لله يا يوسف المرحومة كانت والدتي بالظبط وليها فضل كبير عليا، ورغم طريقتها الصعبة بس قلبها كان طيب أوي.
رد يوسف مؤكدًا بطريقةٍ تهكمية:
أنتَ هتقولي؟ كانت متتخيرش عن المرحومة أمك.

تحرك سامي من أمامه بعدما رمقه بيأسٍ فيما تتبع يوسف أثره بنظراته ثم تنهد بعمقٍ وضغط على قبضته في محاولةٍ يائسة للتحكم في غضبه وانفعاله، فلولا علمه أن غيابه سيثير فضولهم لكان جلس في غرفته يعاني الويلات، لكنه كما عادته رجح الحل الأذكى في حل مشكلته حتى وإن كان على حساب قلبه المتألم.

جلست آيات أمام أخويها بخجلٍ تشعر وكأن حرارة الغرفة أصبحت نيرانًا تحاوطها، فيما تصنع كلاهما الجمود والنظرات الغامضة لينطق أيهم بنبرةٍ جامدة:
ما تخلصي يابت! نقول للواد إيه؟
زفرت بيأسٍ وضغطت على شفتها السفلى ثم نطقت بحيرةٍ ونفاذ صبرٍ:
مش عارفة. مش عارفة والله، أنتم رأيكم إيه؟
رفع أيهم حاجبيه مستنكرًا فيما علق أيوب مُصححًا:.

لأ مش رأينا إحنا، رأيك أنتِ، دي حياتك وانتِ اللي هتعيشيها، اختيارنا إحنا ملكيش دعوة بيه.
زادت حيرتها أكثر فيما تحرك أيهم يجاورها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:.

بصي أنا مش هقولك الجواز زفت ولا أي كلام ناتج عن تجربتي، لأننا مش واحد وكل واحد فينا بظروف خاصة مش هقدر أحكم على حد ولا تجربة تانية، بس هقولك لو احساسك مريحك من الأول أمشي وراه، وصلي استخارة، متعمليش زيي، عيل صغير فرح أنه بقى فيه واحدة في حياته قالك اتجوزها وخلاص، بس قوليلي احساسك إيه؟
ابتسمت بخجلٍ و زاد تورد وجهها وهي تقول:.

انتوا صحابي مش هكدب عليكم يعني. بس أنا حاسة أني مرتاحة، المرة اللي فاتت ساعة أيمن كنت خايفة بس المرة دي أنا حاسة أني مبسوطة.
سألها أيهم بخبثٍ:
يعني عينك كانت على الواد يا سوسة؟
رفعت عينيها المُرتبكتين له فقرأ هو ارتباكها لذا كتم ضحكته فيما تدخل أيوب يقول بهدوءٍ كعادته:.

علي فكرة عارف من بدري أنه عاوزها، بدليل أنه محضرش الخطوبة وقعد في المحل، وبدليل أنه فضل أسبوع زعلان مننا، بس هو غبي حط اعتبارات ملهاش أي لازمة و وقف قدام السعي بنتيجة مشروطة، نسي أن دا نصيب ومكتوب.
تنفست آيات بعمقٍ ثم نطقت بتقريرٍ:.

مش هاخد أي خطوة غير لما أستخير ربنا الأول، أنا لسه خارجة من تجربة فاشلة وأكيد مش عاوزاها تتكرر تاني، غير كدا هو لو مش ملتزم دينيًا والخطوبة تكون شرعية أنا مش هوافق كفاية تهاون زي اللي حصل مع أيمن.
تحدث أيهم بسخريةٍ يقول:
تهاون؟ كدا كنتي متهاونة معاه؟ الواد كلمك مرة الساعة 12 بليل فضحتيه أنتِ وفضيلة الشيخ، منكم لله يا بُعدا، هتبوري بسببه.
نطق أيوب بنبرةٍ جامدة بدلًا عنها:.

أيوا هي معاها حق، مفيش رابط شرعي بينهم، هو المفروض يفرح بيها ويحترمها، وهي كويس إنها عارضته في حاجة زي دي، هو نيته كانت شر علشان كدا ربنا بعده عنها، إنما تَيام محترم، رغم حبه ليها بس محاولش حتى يعمل حاجة غلط ولو بنظرة عين.
تدخل إياد يقول بنبرةٍ مُلحة:
وافقي عليه يا آيات أنا بحبه أوي وكلنا بنحبه.
تحدث أيهم بنبرةٍ ضاحكة:.

وافقي علشان الغلبان دا، بيقولك بحبه، الواد حلو و مسمسم أوي وأنتِ مسمسمة يعني هتبقوا جوز عصافير، طب والله هتكونوا عاملين زي نجوم السما بالقمر.
عند ذكر القمر انتبه له أيوب وحضر أمامه قمره متجسدًا بهيئتها هي، فلاحت على شفتيه ابتسامةٌ حزينة حينما تذكر أمر خطبتها، فقرر الاختلاء بنفسه قائلًا بنبرةٍ خافتة:
عن اذنكم هطلع اوضتي اريح شوية كدا وهنزل ليكم تاني، استناني يا إياد هرجعلك ونقعد سوا.

حرك رأسه موافقًا فيما لاحظت شقيقته تغيره فسألت الأخر بقولها:
هو ماله؟ فيه حاجة مزعلاه؟
حرك أيهم كتفيه بحيرةٍ ثم أخذ صغيره وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
تلاقيه تعبان ماهو حاطط نفسه في مليون حاجة، هبقى أشوفه بس هاخد إياد أغيرله هدومه علشان ينام شوية.

حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم لهما، فودعها الصغير ثم توجه مع والده للأعلى فيما تنهدت آيات مطولًا وهي تتذكر عرض والدها عليها لتتأكد أن ما ظنته هي وهمًا كان حقيقةً غير ملموسة لكنها موجودة بالفعل علم قلبها بوجودها.

في شقة فضل بعد عودته وجلوسه بمفرده يفكر قليلًا طلب قمر له ومعها أسماء حتى دلفت كلتاهما له، فأجلسهما أمامه وهو يقول بنبرةٍ قصدها جامدةً:
محدش فيكم ينكر إن اللي حصل دا كان غلط وغلط كبير كمان، غلطكم دا ورطكم في مصائب اكبر منكم، غير كدا كدبتوا عليا، مش مالي عينكم أنا؟ عويل مش هعرف احمي بيتي؟ بتلجئوا للغريب في وجودي؟ خالك مقصر معاكِ يا قمر؟

حركت رأسها نفيًا ودموعها تنهمر على وجنتيها، فيما قالت أسماء بمعاندةٍ:.

لأ مغلطناش، أنا واحدة عرفت إن خطيب بنتي ابن ستين واطي ملهوش أصل، وبيرسم على قمر يبقى اتصرف ولا استنى المصيبة تقع؟ لو كنت قولتلك كنت هتعمل ايه؟ مكانش معانا دليل وكان ممكن يكذبنا، وبنتك تشك فينا، ومتقوليش لأ، إحنا مش ملايكة يا فضل أحنا بشر بدليل إنك شكيت في قمر و أيوب لما الزفت دا جالك، بس أنتَ بقى سكت علشان صدقت ولا علشان كلام أيوب اقنعك؟

أخفض رأسه للأسفل يهرب من الجواب المعلوم أساسًا لكنه حاول التحدث بقوله:
حطي نفسك مكاني، هو يعرف أيوب منين؟ يعرف محل المعز منين؟ قمر كدبت ومقالتش ليا، ودا غلطها، وغلطي أنا أني موثقتش في تربيتي، بس الغلط الأكبر عليكِ يا أسماء.
رفعت أسماء حاجبها بشرٍ، فيما قال هو يغير مجرى الحديث الدائر بينهم:
المهم قمر جالها عريس النهاردة وعريس أنا فرحان بيه أوي وكنت اتمناه ليها من زمان.

توترت قمر بسبب حديث خالها وقفزت لعقلها فورًا رؤيته تتعلق بأملٍ ربما يُحييها من جديد، فيما هتفت أسماء بحماسٍ وقد فكرت مثلها:
مين يا فضل حد نعرفه؟
ابتسم لها وهو يقول:
حد نعرفه كويس أوي أوي، وهو عارف قمر كويس أوي.
ابتسمت قمر وقد تزايد الأمل لها وبات تأكدها من هويته محتومًا، فتحدث هو يضرب بخيالها عرض الحائط ويُلكم وجهها بالحقيقة ناطقًا بفرحةٍ:.

العريس يبقى محمد ابن ربيع بتاع الفراخ اللي جنب ورشتي، فاتحني في الموضوع النهاردة وقالي عاوز قمر.
نظرت كلتاهما للاخرى وتلك المرة بدهشةٍ وملامح وجهٍ سكنها الوجوم، لينطق هو قائلًا بتفسيرٍ يحاول اقناعهما:
الواد بصراحة طيب ومحترم وتحت طوع أبوه ويعتبر تربيتي، يعني ابن حلال وأكيد قمر عرفاه.
نظرت له بعينين باكيتين، فيما قالت أسماء بمعاندةٍ:
بس أنا بقى مش موافقة.
تشدق فضل بنذقٍ مُعلقًا عليها:.

ليه إن شاء الله؟ خير ياختي؟
ردت عليه بثباتٍ وإصرارٍ:
أمه ولية رخمة وحشرية أوي، أنا مبحبهاش.
تحدث بتهكمٍ وهو يرمقها من أعلى لأسفل:
هي برضه اللي حشرية؟ حِكم والله.
زفرت بقوةٍ ثم نطقت من جديد بضجرٍ منه:
دي واحدة مش عاوزة عروسة لابنها، دي عاوزة خدامة عندها، واحدة تصحى الصبح تفطر البيت كله وتطلع السطح تأكل طيور وتروق البيت كله، ما مرات ابنها الكبير طلعان عينها وغضبانة، قولت لأ ومش موافقة.

تحدث فضل بنبرةٍ جامدة وقد نفذ صبره من عنادها:
بصفتك إيه بترفضي؟ أنتِ يدوبك مرات خالها، الحكم ليها ولأمها وليا يا أسماء.
حديثه جعلها تنفجر في وجهه بقولها:
غصب عنك وعن أمها بنتي يا فضل، أنا ربيتها من صغرها على أيدي، أمها أهيه برة متعرفش عنها اللي أنا أعرفه، غرقانة في زعلها على اللي حصل و قمر معايا أنا، حتى لو كنت مرات خالها، بس أنا صاحبتها، ومحدش ليه دعوة بعلاقتي بيها.

علم فضل أنه أخطأ في حديثه، لذا هتف بنبرةٍ هادئة:
عارف إنك بتعتبريها زي ضحى بس برضه القرار مش لينا هي اللي تقرر وتقول عاوزاه ولا لأ، ها يا قمر؟
ارتبكت بسبب سؤاله ثم نظرت لزوجة خالها تتلمس منها العون حتى فاجئتها الأخرى بقولها:
مش هتوافق ومش موافقة، ريح نفسك علشان دا مش هيحصل، بقولك أمه ست صعب أوي، ارميلها البت؟
تنهد بقلة حيلة ثم قال بأسفٍ:.

خلاص وعلى إيه، هقوله مش موافقة دلوقتي، بس هي تفكر وتحاول تحسبها صح، الواد طيب أوي، صحيح أنا مزعلها وهتاخد وقت تسامحني فيه، بس أنا طمعان في قلبها الكبير يسامحني.
ابتسمت له ثم مالت على كتفه تضع رأسها وهي تقول بشرودٍ باكيةً على أملها وحظها:
مش زعلانة منك يا خالو، مقدرش ازعل منك.
ربت على ظهرها مبتسمًا ثم سأل زوجته بمشاكسىةٍ:
وأنتِ يا ست أسماء؟ زعلانة
آه ومش طايقاك
رد عليها بنبرةٍ ضاحكة:.

أحسن ياختي، أنا هاخدهم كلهم وأخرجهم، خليكي قاعدة هنا.
رمقته بغيظٍ وهي تقلد طريقته فاقترب منها يقبل رأسها حتى يكسب رضاها فابتسمت هي له رغمًا عنها.

جلس ايوب في غرفته في ركن العبادة الذي صممه هو حيث سجادة الصلاة والإضاءة الخافتة و المصحف الشريف و بجواره كتب الدين الإسلامي، جلس يبتهل بصوته العذب الذي ملأ الغرفة يميت سكونها:
ما في الوجود سواك رب يعبد كلا ولا مولى سواك فيقصد
يا من له عنت الوجوه بأسرها وله جميع الكائنات توحد
أنت المؤمن في الشدائد كلها يا سيدي ولك البقاء السرمد
يا منتهى سؤلي وغاية مطلبي من ذا الذي عن باب حبك يطرد.

امنن على بتوبة يا من له قلب المحب مقدس وموحد.
تنهد بعمقٍ ولاح على ذاكرته ذكرى سيئة سظل ساكنة في عقله وأثره القاتل في روحه، تلك الفترة التي قُتل بها ألف مرة في اليوم الواحد.
(منذ عدة أعوامٍ).

جلس أيوب حبيسًا مكبل الأيادي في غرفةٍ مُظلمة مساحة الغرفة تتسع عن القبر بنسبة قليلة، الروائح الكريهة تملأ الغرفة و الظلام و الظلم كلاهما يحاوطه، وجهه ملئته الكدمات وكذلك جسده، عيناه مُغطاة بقماشة متسخة من المفترض أن يكون لونها أبيض، لكن أثر دماءه غطاها لتصبح طينية اللون.

في تلك الغرفة وُجِد صنبور مياه أسفله دلوٌ تقطر فيه المياه بقطراتٍ صغيرة لها أثرًا كبيرًا على أعصابه تجعله مُشتتًا دومًا وكأنه يلقى حتفه بذلك الصوت.
فتحت الغرفة ودلف أكثر الأشخاص الذي تسبب في إيذائه نفسيًا، شعر به يقترب منه و وجه كليهما ملاصقًا للأخر فنطق الضابط بتشفٍ:
ها يا أيوب مش ناوي تحترم نفسك؟
رفع أيوب رأسه بشموخٍ ناطقًا:.

مش هيحصل، أنا مبزلش نفسي غير للي خلقني، مفيش إنسان زيه زيي يستاهل أني اركلعه، ريح نفسك.
اقنرب منه الضابط يمسك خصلات شعره وهو ينطق من بين أسنانه قائلًا:
أنتَ بروح أمك رافع راسك ليه؟ اللي زيك ملهوش دية، هتفضل هنا لحد ما تموت وتعفن كمان ومحدش هيعرف عنك حاجة، بقالك هنا شهر ونص، ولسه بتكابر؟
ابتسم أيوب بتهكمٍ ثم قال بثباتٍ:.

لو سيدنا محمد مكانش صبر على إيذاء الكُفار وسلم لأذاهم من غير ما يحاول مكانش زماننا دلوقتي مسلمين، أنا راجل مسلم قدوتي سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، أنتَ داخل جايبني من مسجد مش قابض عليا وأنا بقتل حد، أنا مش هما اللي بتدور عليهم، اللي عاوزهم دول الإسلام بريء منهم ليوم الدين، أي حد يستغل الإسلام وصورة المسلمين، الإسلام في براءة منه، ومع ذلك مش هترجاك برضه، أنا مسلم وعندي عبادة اسمها الدعاء، وربنا هيستجيب ليا إن شاء الله.

انتفخت أوداج الأخر بغضبٍ لذا اخفض رأس أيوب بيده يضعها على الأرض وكأنه يخبره أنه يقدر على اذلاله وإخضاعه مهما كانت قوته وإصراره، بينما الأخر كان قلبه يتضرع للمولى طالبًا منه فك كربته واللُطف في قضاء أمره على الرغم من فرحته بابتلاء المولى له، لكنه لازال بشريًا يحزن و ينكسر من أفعال الدنيا به.
خرج من شروده على تلك الدمعة الساخنة التي شعر بها على وجنته فتنهد بعمقٍ ثم مسح وجهه وقال بنبرةٍ خافتة:.

‏ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ
ردد تلك الآية لنفسه ليذكرها أن كل شيءٍ بإرادة خالقها وهو فقط عليه حسن الظن بالله و التوكل عليه.

في اليوم التالي بعد دفن حكمت صباحًا والعودة إلى البيت حينها اختفى يوسف عن الأنظار لكن هذا لم يثير فضولهم سوى فقط شهد تلك التي كانت تحاول رؤيته وسط البقية حتى دلفت رهف البيت فركضت لها تسألها بلهفةٍ:
رهف! مشوفتيش يوسف؟
سألته بجمودٍ تقصده معها:
وأنتِ مالك بيه؟ سيبيه في حاله لو سمحتي.
تحدثت شهد بتوترٍ:
علي فكرة أنا كنت عاوزة اتطمن عليه علشان علشان هو اختفى مرة واحدة كدا، أكيد مش عاوزة حاجة يعني.

هتفت رهف بنفس الجمود وهي ترمقها بغيظٍ:
أحسن، علشان هو مش شايفك أصلًا.
تحركت من أمامها شهد بغيظٍ فيما نظرت رهف في أثرها بضيقٍ بسبب ما فعلته في قلب رفيقها، أحزنته بقدر ما أحبها وضحى لأجلها، أخبرها ذات يومٍ أنه يرى نفسه فيها وكأن كل الطرق أصبحت تأخذه إليها وأول ما خانته كانت عينيها.

بعد مرور ساعة تقريبًا في سيارة نعيم كان إسماعيل يقودها ويجواره إيهاب و في الخلف يجلس نعيم و معه محي، يذهبون بحجة تقديم واجب العزاء بعدما علم إسماعيل من مواقع التواصل الاجتماعي وخاصةً شهد تلك التي لازال يتابعها منذ أن تعرف عليها مع يوسف.
تحدث إسماعيل مستفسرًا بقوله:
يا حج، هنروح نعمل إيه؟ أكيد هي مش فارقة مع يوسف مش كنا استنينا أحسن؟
تحدث نَعيم بنبرةٍ جامدة يقول:.

رايح علشانه هو، الاستاذ مش بيرد عليا من يومين، قلبي واكلني عليه حاسس أنه مش مرتاح، هو بس يعبرني، خايف يكون حصله حاجة، دي عيلة جرابيع كان انضفهم مصطفى الله يرحمه.
تدخل إيهاب يقول بنبرةٍ خشنة:
ورب الخلق كلهم، لو لقيت فيه خدش صغير لأكون هادد البيت على دماغ كبيرهم قبل صغيرهم، أنا مش هسكتلهم يا حج، بس نطمن عليه ونبقى نشوف الحوار دا بعدين.
حرك نَعيم رأسه موافقًا ثم نظر أمامه يقول بنبرةٍ خافتة:.

ربنا ميوجعش قلبي عليك يابني، ألطف بيه يا رب.
دلف نَعيم أولًا وخلفه الشباب الثلاثة إلى وسط البيت فوجدوا عاصم و سامي و نادر ينتظرون قدوم الرجال لتقديم العزاء، عرفهم بنفسه فظهر الضجر على ملامحهم فيما نطق عاصم بتقديرٍ:
نورت يا حج، اتفضل ارتاح من المشوار.
جلس وبجواره الشباب، فيما دار إيهاب في المكان بعينيه ثم نطق مستفسرًا بقوله:.

لامؤاخذة يعني يوسف فين؟ احنا جايين هنا علشانه هو، أصل إحنا منعرفكمش علشان نيجي نعمل معاكم الواجب.
تدخل نادر ينطق بجمودٍ:
مش هنا والله، أكيد اختفى زي ماهو متعود، لو زعلان اوي كدا اتفضل واجبك وصل وزيادة.
انتفض إيهاب بعدما استشف الإهانة في حديث الأخر:
أنتَ قد كلامك دا ياض؟ تحب أعرفك مقامك هنا؟
وقف سامي يقول بتعالٍ:
إيه شغل الهمج دا؟ هما دول الناس اللي كان قاعد وسطهم؟ طبيعي تكون دي أخلاقه.

تحدث إيهاب يهدده بقوله:
تحب أوريك التربية و الأخلاق بحق؟ طب أخويا لو مخرجش من هنا واطمنت عليه أنا ههد البيت على دماغكم، الواد فين بقاله يومين؟
اقترب منه نادر يقول بثقةٍ:
طردناه، ملهوش مكان بيننا، ارتحت؟
أمسك إيهاب فكيه يضغط عليهما ثم قال من بين أسنانه:
بلاش أنتَ علشان لو جت فيك مش هسمي عليك، احترم نفسك يا روح أمك وقولي أخويا فين بدل ما اقطع وشك.

كانت فاتن تجلس بمفردها تتابع ما يحدث يعينين باكيتين لا تريد التدخل أو التحدث، حتى وقف نَعيم يقول بنبرةٍ جامدة:
لو يوسف مخرجش أو اطمنت عليه أنا هولع فيكم كلكم.
نظرت له فاتن بعينين دامعتين ثم وقفت أمامه وهي تقول بنبرةٍ خافتة وكأنها تخشى التحدث:
يوسف مش هنا، يوسف راح يزور قبر أبوه.
نظر لها نَعيم بتفرسٍ ثم نطق يهددها بقوله:
لو طلعتي بتقولي حاجة غير الصدق، متلوميش غير نفسك.

تنهدت بعمقٍ ثم تجاهلته وجلست على المقعد مرةٍ أخرى، فيما دفع إيهاب ابنها وهو يقول بخشونةٍ في نبرته:
الليلة دي لو أخويا مظهرش أنا هخليك تحصل ستك بدل ما تبقى لوحدها، واهو تاخدوا بونس بعض، واعتبره وعد مش تهديد، داير معاك الحوار سكة يا عمنا؟ اللهم بلغت.
استمرت حرب النظرات بينهم جميعًا سائدة انهاها نَعيم بتحركه خارج البيت ليتبعه الشباب فيما تحدث نادر بغضبٍ:.

كل المصايب من تحت راس الزفت دا، عمره ما هييجي من وراه حاجة عدلة أبدًا.

غريبٌ، هو حقًا غريبٌ وطأت قدماه إلى هنا، لم يجد وصفًا مناسبًا لحاله وهو يصل لهُنا، يبدو وكأنه كما الغريب يزور مدينة لم تكن له ذات يومٍ، أو يشبه المحارب الذي فقدته قبيلته ليعود لهم من جديد، ربما ليثأر لهم أو يحرقهم كما سبق وتسببوا في إحراق قلبه، ربما يكون غريبًا عاد لموطنه وربما يكون عدوًا أتى لغريمه، ولم يبقى فقط أمامه سوى التمهل.

أوقف سيارته الحديثة عند مقدمة الحارة ثم نزل بشموخٍ مرفوع الرأسِ يرتدي حلِةً سوداء اللون، عيناه تشعان بالاحمرار وقد وارى محيطهما بنظارةٍ شمسية تخفي نظراته القاتلة حتى مر عند بداية مفترق طرق فسأل الجالس بنبرةٍ جامدة:
لو سمحت، فين محل الحج عبدالقادر العطار
انتبه له الجالس صاحب المحل ولم يكن سوى سعد صاحب محل الهواتف لذا سأله بتكهنٍ:
خير عاوزه ليه؟ فيه حاجة؟
هتف يوسف في وجهه بخشونةٍ:
مش شغلك، عارف ولا لأ؟

رد عليه مستسلمًا:
خلاص يا باشا، امشي علطول واكسر يمين هتلاقي نفسك عنده، كل اللي جاي دا ملكه وبتاعه، ناس ليها الهنا وناس تلطم طول السنة.
تركه يوسف وتحرك حيث إشارات الأخر وقد تجاهله وتجاهل طريقته الغريبة ثم دلف أول زقاق قابله باسم محلات العطار.
كان عبدالقادر يسير وبجواره أيهم و بيشوي فسأل الاخر بقوله:
عملت إيه امبارح مع جابر؟ كلمك؟
رد عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
كان برة الحارة محدش قاله حاجة، عدت على خير.

حرك عبدالقادر رأسه مستحسنًا ليسأله بيشوي بسخريةٍ:
أنا عاوز أفهم مش عاوز تجوزني ليه؟ هي دي وصية جرجس ليك؟ مش قالك عيالي أمانة في رقبتك؟ مش عاوز تجوزني ليه يا حج؟
رد عليه بنبرةٍ ضاحكة:
مش أنتَ اترفضت 5 مرات؟ لسه قدامك مرة كمان نقفل نص دستة بعدها نخش في نص جديد، يلا ياض على شغلك امشي.
تحرك بيشوي وهو يحدث رفيقه يحذره بقوله:
خليك شاهد على أبوك علشان لما اخطفها لو حد سألني هقول هو اللي سلطني، براحتكم بقى.

ضحك كلاهما عليه، فيما وضع أيهم ذراعه في ذراع والده وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
العيال دي إزاي مكرهتش الجواز لحد دلوقتي؟ مش واخديني قدوة إزاي بس؟
ضحك عبدالقادر ولم يرد عليه حتى وصلا سويًا عند المحل الكبير الخاص ب عبدالقادر وقبل أن يلج أيًا منهما وصلهما صوتٌ من الخلف يقول بنبرةٍ جامدة بدت غليظة:
أنتَ الحج عبدالقادر العطار؟
التفت كلاهما له فيما تحدث أيهم بنبرةٍ جامدة:
ما تتكلم بالراحة يا عم أنتَ! داخل خناقة؟

أمسك عبدالقادر يده يمنعه من التشابك معه ونطق بنبرةٍ هادئة مراعيًا غرابة هذا الشخص عن المكان:
أيوا يابني أنا الحج عبدالقادر العطار اؤمر.
اندفع بوسف يسأله بنبرةٍ جامدة:
أنا يوسف مصطفى الراوي ابن المرحوم مصطفى الراوي الأمانة اللي ليا عندك فين يا حج؟
اتسعت عيناه حينما استمع لاسمه واسم والده، فابتسم يوسف بتهكمٍ وهو يقول بنفس الطريقة الجامدة:
اقولهالك بصيغة الصراحة؟ أمي و اختي فين يا حج عبدالقادر؟

بجملته تلك يبدو وكأن أبواب الجحيم فتحت عليهم جميعًا وهو وحده من يملك مفاتيح الأبواب الموصدة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة