رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السادس والأربعون
لأول مرة يختبر ذلك الشعور، وللحق كان أصعب ما قابله طوال حياته، تلك الدقائق التي استغرقتها لتستعيد وعيها جعلته يقتل ببطءٍ ساحق، عجزًا تام خاضه وهو تسترخي بين ذراعيه باهمالٍ.
فقد عقله وتفكيره الرزين بتلك اللحظة، فلم يلجئ لأي محاولة تعاونها على الافاقة تاركًا أمرها لعمه الذي يجاهد ليجعلها تستعيد وعيها ومن جواره تجلس فريدة الباكية على ركبتها جوار جسد ابنتها التي قامت بتربيتها وأحبتها أكثر من ابنتها ذاتها.
ومن جوارهما فاطمة وزينب يتابعن ما يحدث بخوفٍ وتوتر ساد الأجواء، ضم عُمران رأسها الماسد على قدميه، يربت برفقٍ عليها وهو يناديها بصوتٍ تحرر عن مرقده أخيرًا: مايا. فوقي عشان خاطري!
فتح أحمد زجاجة المياه الباردة التي قدمتها له زينب، سكبها بكف يده ومرره على وجهها برفقٍ وهو يناديها، فاستجابت له أخيرًا وفتحت عينيها بتمهلٍ وحذر، لتقابل وجوههم المتلهفة، ويدها تفرك جبينها بألمٍ.
رددت فريدة بلهفةٍ، ودموعها جعلت صوتها محتقن بوجعٍ: حرام عليكِ يا مايا وقفتي قلبي!
مدت فاطمة يدها لتعاون فريدة على النهوض، فتحاملت بكل ثقلها على ذراعها مما دفعها لتسألها بقلقٍ: حضرتك كويسة يا فريدة هانم؟
هزت رأسها بنفيٍ ورددت بخفوتٍ ومازالت تستند على يدها: قعديني يا فاطيما.
عاونتها على الفور بكل محبة، ومن جوارها زينب التي أمسكت بيدها الاخرى، فوزعت فريدة نظراتها بينهما ببسمة غامضة.
أغلق أحمد زجاجة المياه وانتصب واقفًا يطالعها ببسمةٍ هادئة: حمدلله على السلامة يا مايسان.
وبمرحٍ قال: متخرجيش مع الواد ده تاني لإنه مش بس طاووس ووقح لا لإنه هيقتلك من جنانه في يوم من الأيام.
انتظر أن يجيبه عُمران الذي بالطبع لن يمرر حديثه مرور الكرام دون أن يشاغبه بردوده الوقحة، ولكنه مازال يحافظ على صمته بشكلٍ جعل القلق يتسرب لأحمد ولزوجته التي مازالت تتمدد أرضًا ورأسها على ساقيه.
شعر أحمد بأنه بحاجة للبقاء برفقة زوجته بمفردهما، فإتجه للطاولة البعيدة عنهما، فاستقامت مايا بجلستها حتى باتت قبالته تناديه بخوفٍ من صمته وشروده الغريب: عُمران!
مازالت عينيه مسلطة على المياه من أمامه بسكونٍ، رفعت كفها تقربها تضم كفه المسنود لساقه، تحيطه ومازالت تناديه باصرارٍ: عُمران مالك؟
رفع رماديته ليقابل نظراتها المهتمة لمعرفة ما أصابه، وجدته يرفع يديه ليحيط بوجهها وارتفع عنها قليلًا طابعًا قبلة أعلى جبينها ومن ثم خطفها بين ذراعيه بقوةٍ جعلتها تتآوه ألمًا.
ربتت على ظهره بحبٍ، طال الوقت بهما وهو لا يتركها مما جعلها تشعر بخجلٍ عظيمًا، فهمست بتوترٍ: عُمران احنا مش لوحدنا.
بدى وكأنه لم يستمع إليها، الرهبة من فقدانها جعلته بائسًا، عاجزًا، لا يشعر بشيءٍ الا تصلب جسده وتشتت مشاعره، وقلبه كالطحونة التي لا تتوقف عن الدوران.
انهارت مقاومة مايا وانتفضت ألمًا جينما شعرت بشيءٍ ساخن يبلل رقبتها التي تمايل عنها الحجاب باهمالٍ، رمشت بعدم استيعاب من أنه بتلك اللحظة يبكي!
طاووسها الوقح يفقد صرامة شخصيته المحكمة أمام لحظاتٍ قليلة من إغمائها، تمسكت به وقالت باحتقانٍ: أنا كويسة يمكن بس علشان خرجت من غير ما أفطر، آآآ، أنا، آآ.
لم تجد ما يناسب قولهل بتلك اللحظة، فتشبثت بقميصه ورددت: أنا أسفة.
رفع أصابعه لكتفها، يزيح دموعه عن مقلتيه قبل أن يواجهها، تخلى عن جلوسه بركبتيه واستقام بوقفته جاذبها أمامه، ثم إتجه بها للطاولة التي تضم عائلته.
جذب مفاتيح سيارته ومازالت يده تحكم مسكة يدها، وإتجه بها ليغادر فأوقفته فريدة المتسائلة بذهولٍ: رايح بيها فين يا عُمران؟
توقف عن الخطى وأجابها دون أن يستدير، تهربًا من أن يلاحظ أحدًا بأنه كان يبكي للتو: هنروح المستشفى نعرف سبب الأغماء ده.
مدت يدها الاخرى تتمسك بذراعه: أنا كويسة قولتلك اني مفطرتش عشان كده آآ.
قاطعها ووجهه يميل لمقابلتها: قولت هنروح المستشفى يعني هنروح!
شعر أحمد بخوفه الشديد، فقال برزانةٍ: روحي معاه يا حبيبتي. يمكن يكون ضغطك واطي أو عندك أنيميا فالأفضل نطمن عليكي.
هزت رأسها باستسلامٍ ولحقت به للسيارة، صعد لمقعد السائق وانطلق بها ويده تعبث بهاتفه حتى حرر زر الاتصال، واضعًا سمعته الحديثه على أذنيه، وما هي الا ثواني حتى سمعته يقول: إنت فين يا يوسف؟
خليك عندك أنا جايلك!
وألقى سماعته قبالته دون أن يضيف حرفًا واحدًا، مما جعل الخوف يتعمق داخلها، ليس ما يقلقها تشخيص حالتها القلق الأكبر كان عليه. على تلك الحالة الغامضة التي تستحوذ عليه بالأخص!
في أيه يا بابا، بقالك ساعة بتتهرب من إجابة سؤالي، أنا مش فاهم أيه اللي مخليك متردد تتكلم بعد ما كنت مُصر جدًا على نزولي من لندن!
ردد آدهم جملته بضيقٍ شديد، بعد أن فشل في سبر أغوار أبيه، ولكنه كان مبهمًا لمرته الأولى، تنهد مصطفى بحزنٍ زحف كالوحش القاتل ملامحه الطيبة، فقال وهو يجاهد لرسم ابتسامة فشلت باخفاء حزنه: عمر أنا مش بخبي عليك حاجة بس أنا مش حابب نتكلم دلوقتي.
هز رأسه باحترامٍ وبالرغم من عدم اقتناعه تمسك بثباته: طيب يا حبيبي حابب نتكلم أمته؟
رد عليه بعقلانيةٍ: لما مراتك وأخوها يسافروا.
زوى حاجبيه بحيرةٍ، وتأكدت شكوكه أن ما يخفيه أبيه ليس بالأمر الهين: طيب أقدر أعرف ليه؟
حرك زر مقعده فتحرك به تجاه غرفته، اتبعه آدهم وهو يستمع له يخبره: مينفعش نقصر في استضافتهم هنا. ومينفعش كمان مع أول زيارة ليهم يحسوا بالخلافات بينا.
اتجه لفراش أبيه يجلس أمام مقعده بصدمةٍ: خلافات! للدرجادي يا بابا!
أخفض الأب عينيه للأسفل بانكسارٍ جعل آدهم يندفع أسفل قدميه، يقبل يديه بحبٍ اندث بنبرته الحنونة: عمر ما في خلافات هتكون بينا في يوم من الأيام، أنا بس قلقان عليك ومحتاج أفهم مالك عشان أحاول أساعدك.
هز رأسه وعينيه تتهرب من لقاء خاصته، قائلًا بصوتٍ محتقن: أكيد هيجي الوقت المناسب وتسمعني، المهم دلوقتي تطلع تستريح إنت لسه راجع من سفر.
حزنه، انطفاء ملامحه، كل شيءٍ به يمزق قلبه هلعًا لما يخفيه، فأراد أن يرسم الابتسامة على وجهه قبل أن يتركه، فقال بابتسامة مرحة: يا درش لو عامل كل ده علشان تتجوز صارحني وأنا هنقيلك بنفسي.
تعالت ضحكات مصطفى، وقال وهو يزيح ما علق بعينيه: مش عارف أيه القناعة والثقة الغريبة اللي عندك من نحيتي دي إنت مش شايف حالتي! جواز أيه ده أنا محتاج أكتب كتابي على سرير مريح في المستشفى!
عاد يقبل يديه مجددًا، هاتفًا باحتجاجٍ: بعد الشر عليك متقولش كده، أنا مبقاش ليا غيرك يا بابا. إنت عيلتي الوحيدة اللي بمتلكها!
بعد نطقه لجملته الاخيرة انهمر الدمع المحتبس بأعين والده، فأسرع بمسحهم وصاح بصوتٍ جاهد لجعله مارحًا: بطل تمارس ذكاء المخابراتية ده عليا يا واد. ويلا قوم غير هدومك وسبني أريح شوية.
انتصب بوقفته يغادر وهو يخبره: ماشي يا درش بس اعمل حسابك من النجمة هتلاقيني عندك بروق الأوضة وهصحيك أحميك بإيدي زي زمان. والمرادي جبتلك شاور وكريمات إنما أيه!
ابتسم بمحبة وردد بحزنٍ: أهو أنا بستنى رجوعك علشان الدلع ده.
أشار له وهو يغلق بابه: تصبح على خير يا صاصا.
رد عليه بخفوتٍ: وإنت من أهل الخير يا حبيبي!
تحركت بسعادةٍ كبيرة جعلتها تصغر بالعمر عشرون عامًا، تعلم بأن اغلب نساء الحارة يجدون أمرها مضحك بأنها تمتلك شابًا جامعي، ومن بعمرها يكن أحفادهن بمثل عمر ابنها، فقد جنت ثمار صبرها بعد عشرون عامًا منحها الله عز وجل مكافآة ابنًا بارًا كآيوب.
أسرعت الحاجة رقية بتنظيم سفرتها الصغيرة قبل عودة زوجها وابنها من المسجد لآداء صلاة المغرب، فقد تعمدت بصنع جميع أصناف الطعام الذي يحبه ابنها، وما ان انتهت حتى وجد زوجها يدفع باب المنزل مرددًا ببسمته البشوشة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قابلته بابتسامةٍ تناهز خاصته، وبحبٍ عظيم لبت سلامه: وعليكم السلام ورحمة الله.
جذبت المقعد للخلف لتستقبل ابنها الذي يتابعهما بابتسامة مشتاقة، استجاب لها وجلس بمقعده، فبدأت بسكب الطعام بطبقه وهي تردد بفرحةٍ: كل يا نور عيني، إنت راجع خاسس النص!
ضحك بصوتٍ مسموع وشاكسها: ليه يا حاجة هو أنا كنت في الجيش!
أشمر الشيخ مهران كم جلبابه الأبيض، ليشرع بتناول طعامه، فتابع حديثهما ببسمة ظهرت على شفتيه المحاطة بلحية وشارب أبيض ينم عن وقاره: براحة على الولد يا حاجة. سبيه يأكل براحته متضغطيش عليه بالشكل ده.
استدارت إليه بابتسامتها التي عرفت طريق قلب عشقها لسنواتٍ طويلة، وقالت بدهاء الأنثى الماكرة: لو غيران من اهتمامي بالواد أنقل مكاني للكرسي اللي جنبك وأكلك بايديا، بس لعلمك مش هتقوم الا لما تمسح الاطباق اللي قدامك كلها يا شيخنا ها قولك أيه؟
تعالت ضحكاته وهو يشير مبتسمًا: خليكي جنب ولدك الحيلة، أكليه وغذيه براحتك.
وأشار باصبع تحذير لأيوب: اسمع كلام ولدتك يا أيوب. مقدرش على زعل خير وصية رسول الله.
تعمق حبه الكبير بقلب تلك المرأة العجوز، فرددت بصوتٍ هامس: عليه أفضل الصلاة والسلام.
وعادت بوجهها لآيوب، فتناول ما تضعه وهو يشير لأبيه بأنه من المحال النفاد من بين يدي الحاجة رقية، فأشار له الاخير بقلة حيلة وعجزه التام عن مساعدته!
تمدد على بإرهاق على فراشه بعدما ظل لثلاثون دقيقة يتحدث لفاطمة، وها هو الآن يحظى بفترةٍ راحة بعد رحلته الشاقة، استسلم للنوم سريعًا وبعد دقائق من غفوته القصيرة شعر بثقلٍ جاسمًا فوق رأسه، فتح عينيه بفزعٍ، تلاشى حينما وجدها تتطلع له بعينيها الواسعة وتخبره بوداعةٍ كادت باسقاطه ضاحكًا: مش عارفة أنام بالمكان الجديد ده يا علي.
مال على جانبه ولف ذراعيه من حولها قائلًا بضحكٍ أنفلت رغمًا عنه: وبعد الجواز هتأخديني أنام في النص ولا أيه النظام؟
ضحكت شمس ورددت بمزحٍ: مش هجي معاه هنا أصلًا. عايزيني يتجوزني ويعيش معايا في لندن أنا مقدرش أبعد عنك ولا عن عمران وفريدة هانم.
تحرك جسدها صعودًا وهبوطًا من فرط الضحك، وقال ساخرًا: هو لسه هيتجوزك! شمس حبيبتي انتي مش مستوعبة إنك خلاص بقيتي مراته، يعني مبقاش فيها اختيارات والشجاعة الجريئة اللي بتتكلمي بيها دي.
وبعد وجهه عن رأسها ليمنحها نظرة مشككة من عينيه الشبه مغلقة: عُمران الوقح اللي مديكي الدفعة دي!
هزت رأسها عدة مرات تؤكد له، وأضافت كمن يبلغ باخلاص عن مجرم حكم عليه بالاعدام شنقًا: قالي أصدرله الوش الخشب بحيث ميتحرش بيا وأنا هنا في بيته.
صُدم علي وسألها بدهشة: عشان كده جاية تستخبي في حضني؟!
عادت تهز رأسها عدة مرات، فصاح باندفاع: خايفة من آدهم! ده شخص متربي سبعين مرة!
أغلقت عينيها تستجيب للنوم ورددت بتثاؤب: عارفة بس عُمران قالي الشيطان هو اللي مش متربي!
ربت عليها بحنانٍ وقد نجح بكبت ضحكاته مجددًا، فما أن استسلمت للنوم حتى همس بسخطٍ: هيعقد البنت المتخلف ده!
زفرت بيأسٍ من اقناعه بأن يصلها للمنزل، صمم باصرارٍ أن يجعلها تنتظر بأحد غرف المركز الطبي الخاص بعلي، لحين أن ينتهي يوسف وأحد أطباء المعمل بفحص عينة الدم الخاصة بها.
نهضت مايسان عن الفراش بمللٍ، وفتحت باب الغرفة ثم خرجت تستكشف المكان بنظرة متفحصة، حيث كان يضم عددًا ضخمًا من الموظفين، يستعدون لاطلاق افتتاح ضخمًا يليق بمركزٍ هام كذلك، وبالرغم من إنه لم يكن على أتم الاستعداد لاستقبال المرضى الا أن علي أطلق تعليمات حازمة بعدم قفل المشفى بوجه المرضى، حتى وإن لم يكن الفريق مكتمل وجاهز، يكفي العدد القليل الذي يتولى ادارته يوسف بنفسه.
خرجت مايا للطرقة الطويلة الفاصلة بين غرف المرضى بضجرٍ، ربعت ذراعيها ومضت بطريقها شاردة، فانفكت تكشيرة معالمها حينما رأت من تقف على بعد مسافة منها، اتجهت لها وهي تردد ببسمةٍ واسعة: صبا. مش معقول!
انتبهت لها صبا التي تجلس بالكافيه الخاص بنهاية الطابق، تحتسي كوبًا من العصير، التفتت للخلف فارتسمت ابتسامة كبيرة على ثغرها، لتقابل ضمتها بترحابٍ: مايا!
ابتعدت عنها تسرع يسؤالها الفضولي: بتعملي أيه هنا؟!
ردت عليها وهي تشير على أحد الغرف: أنا هنا مع حماتي وجمال جوزي. أصل دكتور على صمم إنها تخرج من المستشفى اللي كانت بتعمل فيها العملية وتيجي تتابع هنا، فأنا بقعد معاها يوم وجمال يوم، بس لإن المركز جديد ولسه الافتتاح عليه بدري مش بلاقي حد غير الممرضين والفريق الطبي فبخرج اتمشى بالطرقة وبرجعلها تاني.
هزت رأسها بخفة وقالت: ربنا يعافيها وتقوم بألف سلامة.
رددت بتمني: يا ررب.
وسألتها بنظرة حائرة: وانتِ جاية مع البشمهندس عمران تتمي على الديكور ولا أيه؟
ضمت شفتيها معًا بضيقٍ، ورددت: أبدًا والله انا محبوسة هنا غصب عني مش بمزاجي.
برقت بدهشةٍ، فتابعت مايا توضح لها: خرجت النهاردة من البيت من غير فطار فدوخت شوية وحصلي اغماء. عمران شبه اللي مصدق وجابني هنا لدكتور يوسف سحب مني عينة دم وحاليًا منتظرين النتيجة ومصمم مرجعش البيت من غير ما النتيجة تطلع ويتكتبلي العلاج اللازم.
ابتسمت بهيامٍ، وكأنها تسمع أحد قصص الروايات الاسطورية: أممم طيب وانتِ أيه اللي يزعلك المفروض تكوني مبسوطة إنه بيحبك وخايف عليكي.
تنحنحت بخجلٍ: ايوه بس الموضوع مش مستاهل.
ردت عليها بابتسامةٍ هادئة: متقلقيش هتكون حاجة بسيطة متستهلش قلقه ولا توترك بإذن الله.
واستطردت وهي تتجه لغرفة والدة زوجها: هروح أبص على المحلول عشان لو خلص.
أشارت له بتفهمٍ واتجهت لغرفتها مجددًا.
ولجت لغرفتها فوجدته يغفو على الأريكة المقابلة لفراش والدته، اتجهت صبا إليه تهزه برفقٍ: جمال، جمال!
فرك عينيه يعافر آثار النوم الذي يداعبه: أيوه يا صبا. ماما صحيت؟
أجابته بملامح ممتعضة: لا لسه نايمة.
اعتدل بجلسته وتأكد من اعتدال ملابسه، وسألها باستغرابٍ: أمال بتصحيني ليه؟
وتفحصها بنظرة مهتمة: لو تعبتي ارجعي الشقة انتي وأنا هنام معاها النهاردة. كده كده أنا بشتغل من هنا في مشروع المول التجاري المشترك بيني انا وعمران فمبقتش أنزل الشركة زي الأول.
زمت شفتيها بضيقٍ: على فكرة هو ومراته هنا.
هو مين؟!
صاحبك عُمران. أصله قلق على مراته لانها كانت دايخه شوية فجابها بالعافية عشان يطمن عليها لإنه قلقان جدًا، شكله بيحبها أوي.
قالتها بنزقٍ لتصل له مضمون كلماتها المبطن، تنهد جمال بضيقٍ، وكل ما يحاول فعله هو التحكم بانفعالاته متحججًا بحملها وتغير هرموناتها، فقال بهدوء: ربنا يطمنه عليها.
وانحنى يجذب حذائه الأسود، يرتديه ومازالت نظراته مسلطة عليها، زفرت بنزقٍ: أنت رايح فين؟
بالرغم من أنه يحمل لها عتابًا قاسٍ الا أنه حاول أن يبدو طبيعيًا: هروح أشوف عُمران ويوسف وراجع. عن إذنك.
أغلق باب الغرفة واستند بجبينه على جسده، تراه حرم من لذة النوم والاسترخاء في سبيل الاطمئنان على صحة والدته، ومازال جميع من حولها يشغل عقلها، يعلم بأنها ليست بالحاقدة، ولكنها تفتقد من تعيش برفقته ما لا يستطيع فعله، جاهد كثيرًا ليقنعها بأنه ليس الرجل المدلل الذي تربى بين علية قوم الطبقة الآرستقراطية، وليس من يطلق سرحات عشقه على لسانه بطلاقة، هو قليل الحديث كثير الفعل، يتمنى أن تخبرها أفعاله بحبها، ألا يكفيها أنه يخاف عليها ويتمنى أن تكون سعيدة دائمًا، حسنًا سيحاول أن يصبح رجلًا متملقًا يخبرها كلمات عذباء ولكنه يخشى أن ينطق لسانه اللازع حديثًا ناعمًا مثل ذلك!
بالمعمل.
هز عُمران قدميه وقد تشربت بشرته شرارة الغضب، فصاح بنفاذ صبر: ما تخلص يا يوسف!
التفت إليه يهاتفه بحنقٍ: أنا بحاول قدامك أهو. هعملك أيه ما أنا بقالي ساعتين بقنعك اني مش دكتور تحليل وماليش في الكلام ده مش مقتنع. اصبر خلاص جاك صديقي قرب يوصل.
وإتجه يجلس جواره على الأريكة التي اهتزت من أسفله لفرط حركة عُمران، طرق جمال باب المعمل وولج يردد بتسليةٍ: تجمعك يقلق من قبل ما أدخل.
وجلس بينهما يوزع نظراته تارة لعمران الصامت بغيظٍ، وليوسف الذي يشير له بأنه يفعل قصارى جهده لينهي الأمر، وقال بضحكة شامتة: الليلة على أيه؟!
تمدد آيوب على فراشه وبصره متعلق بالفراش المقابل إليه، أدمعت عينيه بشوقٍ إليه، كان يغفو بطمأنينة فور عودة يونس من عمله ليحتل الفراش المقابل إليه.
تقاسما كل شيء، والآن باتت مقبرة دونه، كان يخشى العودة لذلك، والآن الأمر بات اجباريًا وعليه التعامل مع الأمر.
ضمت مصحفها الشريف لصدرها ودموعها تنسدل على وجهها الشاحب، تتمكن منها الحسرة وتذيقها مرارة القهر والإنكسار، ها هي تختلي بغرفة ابنها كالمعتاد لها، فلا تشعر بالراحة الا جواره، أم الغرفة الثانية فلا تحمل كرهًا داخلها الا لها.
تعد لها باب من أبواب الجحيم، دخولها إليها أبشع كابوس يتردد لها من لحظة ولوج ذلك اللعين من باب المنزل، من خلف ذلك الباب الموصود لا يوجد شيء الا إهانة كبرياء الأنثى داخلها، هناك حيث كرهت أنها خلقت أنثى!
خمسة عشر يومًا قضتهم برفقة معشوق طفولتها ومحبوبها، زرع داخل عقلها كيف يكون مسمى الحب؟ وبعدها قُذفت لأعناق جهنم، فوجدت نسخة معاكسة تمامًا ليونس، نسخة بعقل مريض، يتلذذ بكسر كبريائها قبل أن يُؤلم روحها المعذبة.
وها هو يُفتح من أمامها، فاندثت سريعًا أسفل الغطاء تحتضن ابنها بخوفٍ وتحاول ادعاء النوم قدر ما تمكنت، الا أنه جذب عنها الغطاء وهو يناديها بغلظةٍ: قومي فزي. هتعمليلي روحك ميتة الوقتي!
رفعت خديجة نفسها عن الوسادة وأجابته برفقٍ وهدوء تحاول التحلي به: معتز أنا تعبانه ومش قادرة أتكلم. ممكن تطفي النور وتخرج.
منحها نظرة ساخطة، اتبعها وابل من السباب المهين وانهاه بجملته الساخرة: مش عايزاني أخدك في حضني واطبطب عليكي بالمرة! قومي واسمعي الكلام بدل ما أدبك هنا قدام ابنك ولا هيهمني.
صرخت بصوتٍ احتبس داخله القهر: إنت أيه يا أخي مش بني آدم! أنا مبصعبش عليك!
جذبها من خمارها لتقف أمامه، تقابل وجهه الكريه، وبغضب قال: أنا هوريكي أنا أيه وهنا قدام ابنك يا
استدارت تجاه الفراش فوجدت صغيرها فارس قد استيقظ وتمسك بغطائه يختبئ به باكيًا، نهضت خديجة مسرعة تمسك يد زوجها اللعين تترجاه ببكاءٍ: مش قدام الولد يا معتز. أبوس ايدك مش قدامه!
دفعها بقوةٍ أسقطتها على الحائط، ونزع عنه حزامه الجلد ليهوي بأول ضربة على جسدها الممزع سابقًا من ضرباته، فصرخت بملء ما فيها وزحفت بكل قوتها لتحاول أن تخرج من الغرفة حتى لا تؤلم نفسية صغيرها الذي يكبت صراخاته خشية من أن يتلقى نفس المصير، الا أنه كان يجذبها من ساقيها ليلقي بها قبالة سرير الصغير متعمدًا تلقينها الدرس قبالة ابنها عن عمدٍ.
بكت وصرخت وترجت، توسلت عديم المروءة ان يرحمها، يرحم صغيرها الذي ينتفض جسده البريء لرؤية ذلك المشهد الدامي، فلم يعبئ بهما واستمر حتى استنزفت قوته فألقى حزامه أرضًا ووقف يمسح عرقه بلهاثٍ مفرط، ثم مال عليها يهمس بفجورٍ: ها تحبي نكمل كلامنا هنا قدامه ولا تقومي زي الشاطرة كده تغيري هدومك المقرفة دي؟
هزت رأسها مرددة بخفوت: هعمل اللي أنت عايزه بس سبني أهديه!
مرر نظراته على الصغير بكرهٍ، وتابع وهو يتجه للخروج: هستناكِ في اوضتنا لو اتاخرتي عن نص ساعه هرجع وأعيد اللي عملته تاني وقدامه. أصل شكل موضوع الضرب بالحزام ده عاد كيف ليكي!
غادر من أمامها صافقًا باب الغرفة بقسوةٍ، فتمددت على الأرض تبكي بانهيارٍ وصوتها الخافت يتردد: حسبي الله ونعم الوكيل. ريحني منه يا رب.
أسرع الصغير إليها بعدما تأكد من مغادرته، فضمها ببكاءٍ حارق: ماما!
انزوت بين ذراعيه الضعيفة، وكانت هي بحاجة لضمته أكثر مما كان هو بحاجة لها، لا تعلم كم ظلت هكذا وهو يبعد يده الصغيرة عنها خوفًا من أن تلامس اصابات ظهرها البارزة بدماءٍ تنسدل من لحمها الممزق.
ابتعدت عنه تتطالع عينيه بدقةٍ، عينيه الفيروزية التي تشابه أعين حبيبها ووريث قلبها الطاهر، تتفرس بملامحه بكل شيء حمله عن أبيه يونس!، سرها الأعظم الخفي والذي دفعت ثمن بقائه مكتمًا باهظًا للغاية.
مالت على ساق الصغير تبكي مجددًا وتردد بصوتٍ ضعيف هامس: يونس!
فتح عينيه وفرقهما باحثًا بين أرجاء الظلام عن هذا الصوت المنادي، لا يتوهم هو استمع لصوتٍ مكتوم يناديه وليس هذه المرة الأولى.
برق بحدقتيه بدهشةٍ، ورفع أصابعها يتحسس الدموع المنسدلة من فيروزته، بدى الذهول يشتت عقله، فكيف تنهمر دموعه ويؤلمه قلبه دون ان يبكي، كان منذ قليلٍ يغفو فمن أين أتت الدموع الآن!
عاد لمسمعه صوتًا أكثر ضعفًا يهمس: يونس!
استقام على قدميه ودنى من صنوبر المياه المنزوي بأحد أركان الغرفة يتوضئ ويتجه لتلك البقعة، يتضرع لله عز وجل ويدعو من صمام قلبه أن يزيح البلاء عن ذلك الصوت المتؤلم، فهو اعتاد دومًا على أن أحلامه لم تكن الا رؤيا، فهو على يقينٍ بأن هناك من يستجديه ليدعو له وماذا يمتلك يونس الا الدعاء!
دقائق قليلة مضت ومازال عُمران وجمال يجلسان خارج القسم يتناقشان عن المشروع وخصوصًا بأن العمال ستبدأ العمل من الغد بشكلٍ رسمي، فشدد عُمران عليه هاتفًا: خليك جنب والدتك وانا اللي هنزل مع التيم بكره. تابع كل حاجة على الفون وأول لما تخرج أبقى انزل معايا.
كاد أن يناقشه بقراره ولكنه توقف وعينيه مسلطة على يوسف الذي يقترب منهما حاملًا أوراق التحليل بين يده، فأسرع إليه عُمران يتساءل: طمني يا يوسف.
وجهه الحزين اجتاز دوره التمثيلي لدرجة جعلت عُمران يبتلع ريقه برهبةٍ جعلته لا يود سماع ما سيُقال، حتى ردد يوسف بشفقةٍ وحزن: للأسف الشديد آآ...
أمسك جمال كف عُمران بخوف، وصاح للاخير بضيق: ما تنطق يا يوسف إنت مش شايف حالته!
حرك كتفيه بقلة حيلة: الطاووس الوقح هيبقى أب.
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه جمال، بينما عبس عُمران بمعالمه في محاولة فهم مغزى الجملة التي لا تتفق مع تعابير وجه يوسف الصادمة، فسأله مجددًا عساه يتوهم: قولت أيه؟
أجابه جمال وهو يضمها بفرحة: هتبقى أب يا بشمهندس، ألف مبروووك.
احتدت عينيه التي تستهدف يوسف، فتراجع للخلف وهو يشير لجمال بخوف: أوعى تسيبه يا جمال.
دفع عُمران جمال بعيدًا عنه وهرع من خلفه يصرخ بغضبٍ: بتستظرف بروح أمك! تعالالي يا حيلتها!
سقطت السماعة المحاطة لرقبته، وصرخ به وهو يدور حول مكتب سكرتيرية الاستقبال: عيب يا عُمران هيبتي هتسقط وسط الدكاترة والمرضى!
أحاط الجانب الاخير ليمنع هروبه مرددًا باستنكارٍ: وقلبي اللي سقط من الدور العشرين ده مالوش صاحب!
وأشار بعنفوانٍ: تعالى بالذوق يا يوسف عشان أنا مش هحلك النهاردة.
أسرع للإتجاه الأخر صارخًا بضحك: اعقل يا وقح!
ابتسم بسخريةٍ وردد: أنا هوريك الجنون على أصوله.
وصعد فوق الطاولة الموازية لمدخل الاستقبال، ملقيًا بجسده إليه فبات قبالته، جذبه من قميصه بعنفٍ، فضمه يوسف وتعلق به قائلًا بجدية: مبروك يا حبيبي. ربنا يكملها على خير.
ربت على ظهره ببسمة صافية، فربت على ظهره مستطردًا بحماسٍ: يلا إطلع فرح البشمهندسة بالخبر ده.
ابتعد عنه يمنحه نظرة ساخرة: فلت مني بمزاجي ها! عشان خاطر الباشا اللي هيشرفنا على إيدك ده.
انتابته البشرة لما هو قادم، فامتعضت ملامحه بضجر: لا بقولك أيه بكفايا عليا أوي هرمونات دكتورة ليلى وغشومية جمال. مش نقصاك أبدًا!
عدل من قميصه بعنجهيةٍ: إنت بمجرد ما تكون الدكتور المتخصص عن حالة زوجة البشمهندس عُمران سالم الغرباوي فأنت كده دخلت تاريخ الطبقة الآرستقراطية من أوسع أبوابها.
لا يا سيدي متشكر أنا أبسط طموحاتي أدخل بيتنا بدري وأريح كام ساعة قبل استقبالي لحالات الولادة المتعسرة.
لوى شفتيه بتهكمٍ: لينا قعدة في شقة دكتور سيف حقنه تخص الموضوع ده، سلام.
تابعه وهو يغادر بدهشةٍ، فوضع يديه بجيوب البلطو الطبي هامسًا بقلة حيلة: شمتهم فينا ووصمتها بيك، ماشي يا سيف!
صعد عُمران للأعلى يبحث عنها بالغرفة التي تركها بها، فاندهش حينما لم يجدها، مر بالطرقة يبحث عنها فوجدها تخرج من غرفة والدة جمال برفقة صبا بعد أن اتبعتها لتقضي واجبها بالاطمئنان على صحتها، إتجه إليها يضمها إليه، ويقبل أعلى رأسها برجفة إلتمستها من كف يده، ارتعبت مايا من طريقته بضمها غير عابئ بمن يحيط به، وكلما حاولت الابتعاد شدد من قوة ذراعيه وتحكمه بها، فهتفت بقلقٍ: هي التحاليل طلع فيها أيه يا عُمران؟
ابتعد عنها ومازالت يديه تحاصرها، فمنحها نظرة جعلتها مستعدة لاستقبال ما سيقول بصدرٍ رحب ظنًا من أن الفحوصات الخاصة بها ليست جيدة، ففاجئها حينما وضع يده على بطنها قائلًا بأعين غائرة بالدمعٍ: قريب هتبقي أحلى مامي يا بيبي!
وزعت نظراتها بين كفه المحاط لبطنها ولعينيه باستغرابٍ، فاتسعت ابتسامتها تدريجيًا وبصوتٍ مرتعش تساءلت: بجد؟
هز رأسه يؤكد لها، فاندفعت تلك المرة لاحضانه بارادتها والأرض لا تسعها من فرط سعادتها، لتجده يستقبلها بفيضٍ من الدفء والعشق الذي يزداد فيما بينهما.
وهناك على بعد منهما من شاركتها الدموع، ولكنها كانت معاكسة لما تخوضه، تشعر بالحزن على ذاتها، أثرت ردت فعله لاستقبال خبر حمل زوجته بها، لتقارن بين عُمران وزوجها جمال، كانت ملامحه عادية، يظهر بها الفرح ولكن ليس حتى بنصف السعادة التي تراها الآن بعينيها، تقارن كل شيء بأعين الاعتبار، فرحته، حديثه، ضمته لزوجته غير عابئ بالمكان الموجود به ولا حتى بوجودها هي شخصيًا، اقنعت ذاتها بأن هناك فرقًا بينهما وأن الجدير لها بأن جمال لا يحبها!
تخفى الليل خشية من ضوء الشمس الساطع، وكأنها كالنيران ستحرق نضارة وجهه، فهبط من غرفته يتجه لمشواره الهام الذي تأجل لحين عودته لمصر، بعد أن وكل أحدًا مؤتمن للبحث حول ذلك الشخص، فاتضح له جُرم ما يحدث داخل ذلك المعتقل، فقرر ان يذهب للقائه بنفسه.
وصل آدهم خارج المعتقلات وبرتبته الخاصة وعلاقاته تمكن من الدخول، فقام بمقابلة صديقه، صافحه بحرارة مرددًا بود: أمجد باشا، ليك وحشة.
صافحه الأخير وعاتبه بلطفٍ: انت اللي مختفي يا سيادة الرائد. بس ما شاء الله مهاراتك ونجاحك واصل ومسمع وخصوصًا بعد مهمتك الأخيرة مع الاسطورة. الجهاز كله معلهوش سيرة غير سيرة المهمة اللي اتتفذت في زمن قياسي دي.
ابتسم وهو يخفي توتره حول ذلك الموضوع ومواجهته مع قادته فور انتهاء فترة اجازته، فتنحنح مغيرًا مجرى الحديث: كلامنا على الموبيل كان مختصر ومفهمتكش. قولتلي إن اللي ورا حوار يونس مؤمن المقدم سند برهام.
أشار له بالجلوس أمام مكتبه، تاركًا مقعده وانضم للمقعد المقابل له يخبره بصوتٍ منخفض: ده اللي اكتشفته للأسف، من ساعة ما كلمتني بالتليفون وأنا بفتش وبدور لإن السجين اللي طلبت ادورلك عنه ملفه شبه مختفي، والزنزانة اللس مسجون فيها محدش بيدخلها غير سيادة المقدم والعساكر ببقولوا إنه مشدد على تربيته بطرق تعذيب بشعة ومحدش فيهم قادر يتكلم أو يعارضه.
وضع قدمه فوق الاخرى وسأله بعد تفكير: ايه اللي إنت شاكك فيه.
رد عليه بصوتٍ شبه هامس: سند يبقى ابن خالة الشخص اللي إنت طلبت أعملك تحريات عنه.
طالعه بدهشة فأكد له مجددًا: ابن خالة معتز البنا اللي هو حاليًا يبقى جوز طليقة يونس. يعني الحوار متسبك يا باشا، سيادة المقدم خدم ابن خالته ولبس يونس التهمه ومكتفاش برميه في الحبس ده متوصي بيه هنا على الأخر.
قبض قبضته بغضبٍ كاد بتفجير أوردته، وقال وهو يهز رأسه ببسمة مخيفة: حظه الأسود حدفه في طريقي.
وتطلع إليه باهتمامٍ: أمجد ممكن أشوفه.
هز رأسه وهو يتجه به لخارج مكتبه، فاتبعه آدهم فأمر أمجد العسكري بفتح باب الزنزانة.
سئم وهو ينتظرها بالأسفل، مر بالطريق ذهابًا وإيابًا وعمه يتابعه ببسمةٍ ساخرة، فتنهد عُمران مرددًا بانزعاجٍ: حتى الأمهات بتأخد وقت في اللبس!
ضحك أحمد وقلب صفحة الجريدة قائلًا باستهزاء: على أساس إنهم بيندرجوا تحت بند سلاحف النينجا. مهي ست زي أغلب الستات يا دنجوان زمانك!
تأفف بضيقٍ وإتجه للمقعد يرتشف قهوته بنفاذ صبر، فانتبه لصوت حذاء انوثي يدق على درج القصر، استدار إليها ليجدها تخطو إليه بعنجهيةٍ، ترتدي بذلتها الزرقاء الأنيقة، شامخة رأسها كخطوات عارضات الأزياء.
رددت فريدة وهي تعدل ساعتها: أنا جاهزة يا عُمران. يلا عشان منتاخرش.
وقف محله يطالعها بنظرات محتقنة، يبدو وكأنه يصارع عفريته ليصرفه دون ان يتفوه بحماقةٍ، ولكنه لم يتمكن فحك لحيته وهو يردد بهدوءٍ زائف: الجيب ده مش قصير شوية يا فريدة هانم.
انحنت للأسفل تتأمل التنورة التي تصل لبعد ركبتها بقليل، واستقامت تقابل نظرات ابنها بغضب: إنت من امته بتتدخل في لبسي!
منع شيطانه الوقح من التطاول وردد باحترامٍ: العفو بس انا مش هتحمل نظرة أي راجل لحضرتك وأنا جنبك فمن فضلك تغيري الجيب ده.
استفزها تحكمه الغريب لمرته الاولى، فصاحت بعصبية: انت ازاي تكلمني بالطريقة دي اتجننت يا ولد!
نهض أحمد عن مقعده مغلقًا جريدته، واتجه إليهما مقررًا التدخل أخيرًا، فمرر ابهامه على طول ذراعها بحنان: عُمران ميقصدش يقلل من احترامه ليكِ يا حبيبتي، هو غيور عليكِ ومن حقه. هو راجل وفاهم نظرات الراجل اللي زيه المفروض ده شيء ميزعلكيش وتسمعي لكلامه.
أخفضت بصرها للتنورة مجددًا تعيد تقييمها، فشعرت بأنه محقًا، طرأ لها مقارنة سريعة بينها وبين زوجات أبنائها المحتشمات، حتى ابنتها المدللة لحقت بهن وباتت هي بمفردها، تنحنحت بحرجٍ لموقفها التي تخوضه لأول مرةٍ، فاستدارت عائدة لجناحها وعادت بعد قليل ترتدي تنورة طويلة تصل لاخر قدميها.