رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السادس عشر
جسدها الهزيل لم يعد قويًا ليحتمل كل تلك الضغوطات، خرت قوتها وباتت ساقيها ضعيفة لحمل جسدها، تعلم بأنها ستخوض معركة ضد فريدة، ولكنها والله لا تمتلك النية من الأساس، ألا يكفيها ما تواجهه، ألا يكفيها ما يقلق منامتها ويكسرها كل يومٍ، بل كل لحظة، عساها تدرك بأنها أنثى محطمة تلاشت صرخاتها وتبخرت، فلم تعد تمتلك صوتًا ولا حياة.
جاهد على ليجعلها تسترد وعيها، ولحظه لم يمتلك بمنزله أي من معداته الطبية، أو حتى الدواء الخاص بها، فأسرع لغرفته وجذب زجاجة الرفيوم الخاصة به ونثر على كفه، ثم حملها لصدره وهو يقرب يده من أنفها وصوته القالق يناديها: فاطيما، سامعني!
بدأت الرائحة النافذة تكسر حاجز ظلمتها، والأروع من ذلك بأنها تعلم تلك الرائحة جيدًا، فهمست إليه: علي.
ابتسم وهو يجيبها: جانبك وطوع أمرك يا قلبي!
فتحت عينيها لتجده يتأملها ببسمةٍ هادئة، يده تتمسك بيدها وذراعه يلتف من حولها، جلست باستقامة على الفراش وأبعدته عنها وهي تتساءل على استحياءٍ: هو، آآ. أيه اللي حصل؟
مط شفتيه بسخطٍ وقال: المفروض مين فينا اللي يسأل، أنا ولا إنتِ؟
وتابع بنظرة شك أحاطت تلك التي تتهرب من لقاء رماديته: كنتِ فين يا فطيمة، وأيه اللي حصلك وخلاكي راجعة بالشكل ده؟
أخفضت عينيها تبكي بصمتٍ، مما جعله يشك بما حدث، ليس أحمقًا بالنهاية لن يمسها أحدًا هنا بالسوء الا والدته، جز على أسنانه بغضب، فانتفض عن الفراش مرددًا: أكيد فريدة هانم!
وأسرع للخروج من الغرفة ليواجهها تلك المرةٍ بشراسة تفوق هدوئه، الا أن جسده فقد قدرته على الانصياع لأوامره فور أن تمسكت فطيمة بيده وقالت باكية: لأ يا علي، بلاش تكبر المشاكل بينكم، أرجوك بلاش تخليها تكرهني أكتر من كده. عشان خاطري.
استدار إليها بعدم تصديق، تترجاه لأجل والدته التي لم يعنيها حالة تلك المسكينة، كان يعلم بأنه سيواجه معاناة طاحنة معها ولكن كان بداخله شعورًا يعاكس الأخر بأنه ولربما تتعاطف مع حالتها الصحية.
هدأ من روعه أولًا قبل أن يحاوط وجهها الباكي، ليته يحيطها بأربع حوائط ويمنعها من أن تختلط بأحدٍ سواه، ليته يملك كل أسرار سعادة العالم بأكمله ليمنحها إليها عن طيب خاطر، أزاح على دمعاتها وقال بحزنٍ: دموعك بتجلدني وبتتحسسني بالعجز، فلو مش عايزاني أنزل ليها حالًا بلاش تعيطي!
هزت رأسها بلهفة وأزاحتهما عن وجهها، فمنحها ابتسامة جذابة من بلسم شفتيه، ونادها: فطيمة.
الويل لقلبها الضعيف حينما يستمع لصوته المنادي، يطحن عضلاتها الهاشة من فرط دقاته العنيفة، أسبلت إليه بارتباكٍ فقال: لو حابة إننا نمشي من هنا ونشتري شقة نعيش فيها أنا معنديش مانع.
صمتت قليلًا تفكر بالأمر، نعم ستحصل على راحة مثالية بعيدًا عن فريدة، ولكنها ستخسر عائلة تحيطها بحنان مثل شمس ومايسان والعم أحمد وعمران التي لم يسبق لها التعامل معه خوفًا من أن تجتاحها التشنجات القاتلة لجسدها، ولكنها لمست حنانه واحترامه لها من الموقف الصباحي لهذا اليوم مما جعلها تتغمد بالراحة تجاهه، وبعيدًا عن ذلك إن أطاعت على بما يريد حينها ستتأكد فريدة بأنها أخبرته بعرضها وأرادت أن تسوء الامور بينها وبين ابنها لذا ستزيد من كرهها واضطهادها إليها، فأجلت صوتها الرقيق: لا أنا مرتاحة هنا.
تنهد على بضيقٍ، تلك الحمقاء لا تعلم بأنه يستطيع سماع صوت تفكيرها الطاحن بينه وبين ذاتها، ليس لكونه طبيبًا نفسيًا ماهرًا، لكونها تعد محور حياته الاساسية فبات يفهم كل حركة تصدرها حتى إشارات عينيها!
أراد أن يبدل الحديث الخانق بينهما، فسألها باهتمامٍ: خلصتي الكتاب؟
هزت رأسها نافية، وأجابته بحماس: لسه، بس ممكن على بليل أخلصه.
ابتسم وهو يتأمل ابتسامتها التي يفتقدها، ثم قال: خلصيه وادخلي المكتبة خدي غيره. أنا هنزل الصيدلية أجيبلك أدويتك لأني نسيت خالص الموضوع.
أشارت إليه بهدوء فإتجه للمغادرة، وقبل أن يصفق باب غرفتها قال بمزحٍ وهو يغمز لها: جهزي نفسك علشان لما أرجع هنكمل جلساتنا، متفكريش إنك خلاص لما بقيتي مراتي هتنفدي من جلسات دكتور علي!
وجدها مطيعة تهز رأسها لكل أمرًا يخبرها به، فابتسم وهو يطالبها: هتحني وتديني حضن؟
جحظت عينيها صدمة وركضت تجاهه، فتهللت أساريره ظنًا من أنها ستمنحه ضمة تشفي صدره، فوجد ذاته يحتضن باب غرفتها المغلق بقسوة بوجهه عوضًا عنها، فتمردت ضحكاته عاليًا وردد بصعوبة: ماشي يا فطيمة، الأيام بيننا!
بالأسفل.
استمرت مايسان بالعمل برفقة أحمد فور عودتهما من الشركة، فقدمت له عدد من الملفات الهامة، وحملت البعض منها ثم نهضت تخبره: دول الملفات اللي حضرتك طلبتهم يا أنكل، ودول اللي واقفين على توقيع عمران، هطلع أخليه يوقعهم وهتصل بحد من الشركة يجي يأخدهم.
هز رأسه بتفهم وعينيه مشغولة بقراءة الملف من أمامه، وحينما شعر بخطوات حذاء يعلم صاحبته جيدًا قال بمكرٍ: بقولك يا مايا.
تراجعت عن الدرج متسائلة: أيوه.
قال بحماس وأعين لامعة: اتصلي بمدام أنجلا خليها هي اللي تيجي تاخد الأوراق، متنسيش إنها ملفات مهمة ولازم نختار حد ثقة وآمين ولا أيه يا بنتي؟
تعالت ضحكاتها، وبالرغم من عدم معرفتها بقصته مع خالتها الا أنها قالت بترحاب لظنها بأنه على وشك السقوط بحب تلك الموظفة: حاضر، هخليهم يبعتوها هي، أي أوامر تانية يا أحمد باشا؟
منحها ابتسامة خبيثة ورد باستحسان: والله ما حد فاهمني بالبيت ده أدك.
منحته بسمة مشرقة قبل أن تكمل طريقها للأعلى، فاستوقفها صوت فريدة الحازم: رايحة فين؟
تلاشت ابتسامتها بشكلٍ ملحوظ، وبجفاء قالت: في أوراق عمران لازم يوقع عليها.
وكادت باستكمال الدرج للأعلى، ولكن يد فريدة كانت الاسرع أليها أوقفتها وهي تتساءل بذهول: مالك يا مايا؟ بقالك فترة بتعامليني بالشكل ده ليه؟
انخفضت درجتين لتصبح أمامها، فقالت بحزن لمع بدمعاتٍ بريئة: لإني مصدومة فيكِ يا فريدة هانم، طريقة معاملتك لفاطيما وجعاني أوي، ومخليني مش قادرة أستوعب إن اللي قدامي دي هي نفسها الست اللي ربتني وأخدتني في حضنها بعد وفاة أمي، ولا الحنان اللي عاملتيني بيه ده كان لإني بنت أختك، ويمكن لو كنت مرات ابنك بس كنت هلاقي نفس معاملة فاطيما.
صاحت بانفعال: أيه الهبل اللي بتقوليه ده!
ده مش هبل يا أمي دي الحقيقة.
قالها على بابتسامة ممتنة لزوجة أخيه التي بادلته نفس الابتسامة واستكملت طريقها للأعلى، بينما هبط على ليقف على نفس الدرجة التي تحمل فريدة، منحها نظرة حزينة وقال: انا مش عارف إنتِ قولتي أيه لفطيمة خلاها تفقد الوعي بالشكل ده بس صدقيني لو حصلها حاجة هتكوني خسرتي على ابنك للأبد.
وتابع بنفس نبرته المنكسرة: بالرغم من كل اللي بتعمليه معاها الا أنها رفضت تقولي اللي حصل بينكم، فاكرة إنها بكده مش هتكبر المشاكل بينا، بتمنى تقدري اللي عملته يا فريدة هانم.
وتركها محلها وغادر بصمت بعدما قابل عمه المنشغل بالعمل ببسمة صغيرة، بينما وقفت هي تتطلع لأعلى وتهمس بحقد: حرباية وعارفة تتلوني بمية لون.
مازالت تصر أن ما تفعله فاطيما ليس الا لتنال شفقة على وتكسبه لصفها، مع أن الحقيقة تبرهن صلاح القول بأنه بالفعل يحبها وينحاذ إليها، ليست تلك المعركة التي ستجعل الكفة الاخرى الرابحة، مازالت تحارب لشيءٍ قد حدث بالفعل!
هبطت فريدة للأسفل، فجلست على المقعد واضعة ساقًا فوق الأخرى، تراقب أحمد بنظرة مشتعلة، جعلته يمنحها نظرة طعنها بالذهول الكاذب، وببراءة سألها: مالك يام علي؟ بتبصيلي كأني قاتلك قتيل على المسا ليه؟
استفزتها بمنادته الغريبة، فقالت بغضب: يا تناديني فريدة هانم يا متنادنيش من الاساس.
منحها بسمة باردة، وعاد يتطلع للملف من أمامه ببرود: أوكي، مالك يا فريدة هانم؟ حلو كده؟!
ازداد غيظها ورددت من بين اصطكاك أسنانها: متستفزنيش يا أحمد.
رفع رماديته لها وتنهد بيأسٍ: أنا مش فاهم إنتِ فيكِ أيه بالظبط؟
وانتصب بوقفته يجمع الاوراق وحاسوبه قائلًا: هطلع أكمل فوق أحسن، أنا مش حمل مناهدة كفايا فرهدة الشغل!
وقفت تحرر غيظها: استنى هنا رايح فين؟
وبغيرة تمردت رغمًا عنها قالت: ولا حابب تقابل مدام أنجلا فوق في أوضتك، مش لسه بدري على الخطوة دي؟
أخفى بسمته بتمكنٍ، واستدار إليها بعدما ارتدى قناع جموده بحرفية، ارتبكت فريدة أمامه وقالت توضح له ببعض التوتر: يعني لسه في خطوبة وبعد كده جواز.
هز رأسه وهو يشير لها جادًا: عندك حق، بس أنا قلقان لإن أنجلا لسه خارجة من علاقة فاشلة مش عارف بالوقت الحالي هتقدر تدي نفسها فرصة تانية ولا لا.
انقبض قلبها لسماع ما قال، ظنته سيعترض على حديثه، سيبرهن بأنها تخطئ ظنها، وللعجب لم تجد بعينيه أو بحديثه أي مجالًا للمزح، كان جادًا بتعابيره ونبرته مما دفعها لسؤاله: حبيتها يا أحمد؟
سؤالًا ألمها قبل أن يتحرر على لسانها، إن كانت تستعيد ثباتها لكانت منعته من الخروج فأي حبًا هذا الذي سيولد من لقاء عابر مضى منذ ساعات قليلة بشركة عمران، ولكن الغيرة تصيب العاشق بحماقة تجعله لا يرى قبالته سوى نيران تأكل قلبه دون رحمة.
احتقنت عينيه وقال بكبرياء يلملم به جرح كرامته المهدورة: ميخصكيش.
واستدار ليتجه للمصعد فتفاجئ بها تنحني للطاولة وتجذب السكين المدسوس وسط طبق الفاكهة، وإتجهت إليه تجذبه من جاكيت بذلته بقوةٍ جعلت الحاسوب والأوراق تسقط منه أرضًا فانصدم حينما وجدها توجه سكينها لعنقه ونظراتها تواجهه بشراسة وغضبٍ جعلها تصرخ: أقسم بالله أقتلك وأقتلها لو فكرت تعملها يا أحمد، أنا مش هبلة ولا عبيطة عشان أصدق إنك وهبت قلبك اللي مفيش حد قدر يدخله من سنين لواحدة لسه شايفها من كام ساعة، أنا عارفة أنت بتعمل ده كله ليه!
تعمق بالتطلع لعينيها اللامعة بالبكاء رغم ثباتهما عن الخروج عن مخضعها، غير مبالي بالسكين الموضوع على عنقه، قال بصلابةٍ: هعملها يا فريدة، أنا مش هعيش وأخرج من الدنيا دي وأنا لوحدي وبطولي، كفايا.
وتابع بنظرة احتلت كرهًا وغضبًا يجابه خاصتها، جعلها تسحب يدها عنه رويدًا رويدًا والصدمة تجعلها لا ترى أمامها: كفايا تكوني أنانية ومبتفكريش غير في نفسك، أيوه أنا مستحيل هيسكن قلبي ست غيرك، بس مستعد أعيش مع واحدة تملى حياتي وتحسسني إني راجل.
واستطرد ببسمة طعنتها بكل قوته: والله أعلم يمكن مع الوقت أحبها وأتعلق بيها.
واستمد أنفاسه وتابعها وهي تتراجع للخلف بصدمة، كلما ألقى إليها كلمات جديدة كأنها تركلها بعيدًا عنه: اللي واثق منه إني مستحيل هقبل بظلمك تاني، مستحيل هعيش لوحدي في قصر كبير بيخنقني بعد النهاردة، وإنتِ هنا عايشة وسط اولادك ومش حاسة بعذابي ولا بوجعي طول السنين دي كلها.
أخفضت عينيها أرضًا تكبت دموعها قدر الامكان، فوضعت سن السكين بيدها الاخرى تقبض عليه بكل قوتها حتى استجاب لحمها الرقيق لنصله الحاد فتناثرت الدماء بكثرة أسفل قدميها على أرضية الرخام الأبيض، وزع أحمد نظراته المندهشة عليها.
حالتها كانت غريبة له بشكلٍ استدعى قلقه، وخاصة حينما وجد الألم الجسدي والنفسي يسيطران على عينيها المنغلقة، فأخفض بصيرته ليدها فانتفض بمحله، هرع إليها يبعد السكين عن يدها وهو يصرخ بها: إنتِ مجنونة!
أبعد السكين عن يدها وجذب المناديل الورقية يحاول بها كتم الدماء المنسدلة، ومازالت تتابعه بنظرة خالية من الحياة، بينما هو يجاهد لوقف نزيفها، فقال وهو يكبت المناديل بيده: الدم مبيقفش، تعالي معايا نروح لأي دكتور.
جذبت يدها منه وقالت ببرود يناهز بروده: ميخصكش.
وتركته واتجهت للمصعد فلحق بها وهو يصرخ بانفعالٍ: بطلي عند يا فريدة ايدك بتنزف.
ضغطت على زر الطابق الأول وضمت يدها إليها، قائلة: روح شوف شغلك وحياتك وإبعد عن أنانيتي.
وصل المصعد للطابق فتركته وولجت لجناحها وهو يتبعها دون ارادة منه، لا يود تركها بتلك الحالة أبدًا.
ولج أحمد لجناح أخيه للمرة الأولى، فسبقته خطاها لحمام غرفة نومها تجذب عُلبة الاسعافات الأولية، بينما تبلدت خطواته فور أن لمح فراشها، صورتها برفقة أخيه الموزعة بأرجاء الغرفة وبالأخص تلك التي تقابله أعلى الفراش.
كانت تبتسم بها بسعادة جعلته يدقق النظر بوجعٍ، يقنع ذاته بتلك اللحظة بأنه فقط من كان يعاني، وتمكنت تلك الجالسة على الأريكة القريبة منه من فهم سبب شروده، فلفت على يدها شاش أبيض، وإتجهت لتكون قريبة منه، تتطلع للصورة برفقته وشق صوتها مسمع قاعته الصامتة: دلوقتي فاكر ان سر الابتسامة دي وراها حب وراحة وسعادة إنت اتحرمت منها صح؟
بالكد تمكن من سحب عينيه ليتطلع بها إليها، فوجدها تتطلع للصورة وهي تردد: الضحكة دي سببها الخيانة.
ضيق عينيه باستغرابٍ: خيانة أيه؟!
التفتت إليه وهي تخبره ببسمة ألم: كنت بعتبر نفسي عايشة معاك إنت.
وتابعت بحرجٍ تنطق بجريمتها التي تأنبها: أحمد أنا كنت عايشة مع أخوك وعقلي وقلبي معاك إنت، كنت كل هدية بجبهاله بختارله الحاجة اللي كنت إنت بتحبها، بطبخ نفس الأكل اللي بتحبه، حتى البرفيوم كنت بجبله نفس النوع اللي بتحطه عشان أحس إني عايشة معاك إنت.
وأخفضت عينيها أرضًا تردد ببكاءٍ: كل لحظة كانت بينا كانت معاك إنت مش معاه! أنا كنت خاينة حتى في أحلامي!
وتابعت وهي تجلس على حافة فراشها: مستكترة على نفسي أعيش معاك بعد كل اللي عملته، أنا لازم أتعاقب.
انهمرت دمعة على خده وهو يتابعها، فمالت بجسدها للوسادة تجذب من أسفلها صورته ونزعت عنها سلسال ترتديه تخرج له صورته، وتلك المرة رفعت عينيها إليه تواجهه: إنت معايا في كل ثانية يا أحمد.
اقترب منها فتراجعت للخلف وهي تترجاه: لا أرجوك متقربش، كفايا الذنب اللي أنا شايلاه لحد النهاردة.
وتابعت وهي تضم السلسال إليها بوجع: عيش حياتك يا أحمد، أوعدك إني مش هقف في طريقك بالعكس أنا بنفسي اللي هخطبهالك بس من فضلك اختار الانسانة اللي تستاهلك متختارش أي واحدة بدافع الانتقام مني.
ابتسم من وسط سيل دمعاته، وردد ببحة صوته: مش كنتِ هتقتليني انا وهي من شوية!
صمتت قليلًا تفكر بالأمر، وقالت بحيرة: مش ضامنة ردة فعلي وقتها، بس سبها للوقت ومتشغلش بالك غير بالعروسة.
هز رأسه باقتناع، فدث يده بجيب بنطاله وهو يتطلع لباقي الجناح بصمتٍ قطعه حينما قال برزانته: أنا خلاص اختارت وقررت.
ودنى ليستند بقدمه على الاريكة المتطرفة بنهاية الفراش ليكون على محاذاة طولها: هتجوزك يا فريدة برضاكِ أو غصب عنك، وفرحنا أخر الشهر ده حضري نفسك.
وتركها وغادر ومازالت متصنمة محلها وفمها يكاد يصل للأرض من فرط صدمتها بجراءته الغير معتادة، فاغتصبت بسمة صغيرة على شفتيها وأزاحت دموعها بخجل أعاد صباها وجدد أفراحها المنتهية!
طرقت باب الغرفة مرتين وحينما لم تستمع لصوته يأذن لها بالدخول فتحت باب غرفته وولجت تناديه بقلقٍ: عمران!
بحثت عينيها عنه حتى وجدته يجلس بالشرفة الخارجية للغرفة، فعلمت بأنه لم يستمع لها، اقتربت حتى بقيت خلف مقعده تتأمله ببسمة هادئة انقلبت لتوتر فور نطقه دون الاستدارة لها: قربي، هتفضلي واقفة عندك كتير؟
دنت منه وهي تتطلع بدهشةٍ انتقلت لسؤالها: عرفت منين، أنا بقالي ساعة بخبط على الباب؟!
رفع عينيه لها وقال بنظرة تحوم عاطفته بها: قلبي بقى يحس بوجودك.
ابتسمت ساخرة ودنت منه تنحني، لتضع على قدمه الملفات، قائلة: الأوراق دي واقفة على توقيعك يا بشمهندس.
تمعن بعينيها طويلًا، وكأنه يبحث عن ضالته بعد غيابًا ونظراته غامضة لدرجة ألمت قلبها، فرددت بتوتر: مالك؟
انفلت ببسمة صغيرة تحمل تعاسته: مخدتش على قعدة البيت، أنا مكنتش بلمح أوضتي ولا سريري غير على وقت النوم يا مايا.
لم تتمكن من حجب دمعاتها المتأثرة به، فرفعت يدها تحيط جانب وجهه النابت بلحيته، لمستها جعلته يعيد النظر إليها ببسمة عاشقة، وخاصة حينما قالت بصوتها الرقيق: عمران اللي فات من عمرك كله كانت مرحلة سيئة، خدت فيها قرارات متهورة وبعدت فيها عن ربنا، لو فكرت كويس هتلاقي ربنا بيحبك عشان كده أدلك فرصة تانية والفرصة دي لازم تستغلها كويس.
واستكملت ببسمة حب: الوقت الفاضي اللي عندك ده المفروض تفكر باللي فات من حياتك واللي جاي، صلي واتقرب من ربنا، مش يمكن تعبك ده ابتلاء عشان ربنا وحشه صوتك وإنت بتدعيله على سجادة الصلاة وبتقوله يا رب!
وتابعت بحماس: ربنا بيعز عليه عباده وبيديهم أكتر من فرصة عشان يبعدوا عن المعاصي، لمس فيك ندمك وعزمك على البعد عن معصيته فمدلك إيده وإنت مينفعش ترجع عن عزيمتك يا عمران، صلي واتقرب من ربنا ولو حسيت إنك مخنوق طلع مصحفك اللي أراهنك مش بتفتحه غير كل رمضان.
وأخفضت يدها لموضوع قلبه تؤكد له: صدقني ده وقتها هيرتاح.
رفع يده يحيط بيدها الطابعة لموضع قلبه، فرفعها لفمه ملمسًا إياها بقبلته التي لامست أصابعها، تركت مايسان قدمها تستند أرضًا واحتضنته بحب جعله يغلق عينيه طاردًا كل احاسيس الاكتئاب والحزن خارجه، أحاطها بقوةٍ وهمس بما ينتاب أضلعه: بحبك.
ابتسمت وهي تردد على استحياء: وأنا كمان بحبك.
ابعدته ورتبت حجابها جيدًا، ثم رفعت القلم نصب عينيه لتخبره بارتباك وهي تلهي ذاتها بتفحص الملفات التي سقطت أرضًا منه: امضي على الملفات بسرعة أنكل أحمد هيترفز مني في أول يوم شغل معانا.
جذب الورقة ووقع الأوراق وعينيه تخطف النظرات إليها، فحملت الملفات وإتجهت للمغادرة ليوقفها سؤاله الغامض: بتعرفي تطبخي؟
رمشت باستغراب، واستدارت توجهه بحيرة: أيوه، ليه؟!
تطلع أمامه ببسمة هادئة جعلتها تعود أدراجًا، لتقف قبالته من جديدٍ: بتسأل ليه؟
وبمزحٍ قالت: عايز تجرب أكلي يا بشمهندس؟!
لعق شفتيه الجافة وقال ببعض الحرج: بصراحة بقالي فترة واعد جمال ويوسف إني هعزمهم على أكل بيتي، وإنتي عارفة طبعًا فريدة هانم ملهاش في نوعية الأكل دي، فبقول يعني هتبقى فكرة لطيفة لو عزمتهم هنا بكره، أهو يقضوا معايا اليوم بدل ما أنا قاعد كده.
أشارت له بفرحةٍ حملتها داخلها بأنه يطالبها بمسؤولية هكذا، وإن كانت ستفعل شيئًا بسيطًا مثل ذلك لاسعاده بالطبع لن تتأخر، فقالت بحماس: اتصل بيهم حالًا واعزمهم وأنا اوعدك إني هشرفك بكره قدامهم وهتشوف.
وضعت الملفات عن يدها وأخذت تردد وكأنها تتحدث مع ذاتها: أنا هنزل السوبر ماركت اجيب اللي هحتاجه بس الأول لازم أحضر القايمة باللي هطبخه وهحتاج ليه.
راقب حماسها ببسمة جذابة، لا يعلم إلى أي حد سيصل عشقها داخله، تحرر صوته أخيرًا فقال: بالنسبة للملفات والشكل وأنكل أحمد اللي هيتضايق؟
خطفت نظرة سريعة للملفات الموضوعة على المقعد بحزن ثم قالت ببسمة معاكسة: الشغل يستنى، أي شيء في الدنيا يستنى لو الموضوع فيه تحدي لقدرات الست بالمطبخ.
وأشارت له ومازال يتابعها ببسمة جذابة: عن أذنك بقى يدوب ألحق أرتب نفسي، بفكر أخد فطيمة معايا أهو انجدها ساعتين من فريدة هانم.
ضحك عاليًا وتطلع لها بعدم تصديق، فقال مستهزءًا: ده من أمته ده؟ مش معقول مايا معارضة لفريدة هانم عشان خاطر مرات أخويا اللي لسه داخلة البيت من يومين!
جذبت المقعد البعيد منهما وقربته منه، جلست مايسان واحتلت الجدية معالمها، فقالت بحزن: بصراحة يا عمران أنا مش مع خالتي بطريقة معاملتها مع فاطمة، البنت حرام اتعرضت لحاجات كتيرة مفيش مخلوق يستحملها على وجه الأرض، وكونها ك ست المفروض تقدر وجعها وتحتويها، أنا مندهشة من طريقتها الغير مفهومة معاها، إنت مشفتهاش وهي بتكلمها يوم كتب الكتاب والخوف الكبير هو يوم الفرح قلبي مش مطمن للي هيحصل.
لأول مرة يجمعهما حوار مماثل لما يحدث بين أي زوج وزوجته، ابتهج لمسار حياتهما الجديد، ويزداد تأكدًا كل مرة بأنه يحصل على فرصة تستحقها تلك الفتاة ليعوضها عما فعله، فرفع يده يربط على كفها بحنان: متخافيش على فطيمة يا مايا، على راجل وقادر يحميها حتى من أمي نفسها.
هزت رأسها والابتسامة تتسع على وجهها، وانتفضت فجأة وهي تشير له بغضب: ورايا حاجات كتير لازم أعملها، عن إذنك.
وهرولت للخارج ثم عادت إليه تشير باصبعيها معًا بطريقة جعلته يتراجع برأسه للخلف وهو يتساءل بخوف مصطنع: أيه؟!
قالت وهي تشير مجددًا: عندي طلبين...
هز رأسه والابتسامة لا تتركه، فقالت: الأول تكلم على تقوله إني هأخد فطيمة معايا.
مال بوجهه متسائلًا: والتاني؟
أضافت بحماسٍ وهي تشير على المقعد: إنك تتصل بنفس التليفون بردو تخلي أنكل أحمد يبعت حد من الخدم يأخدله الملفات لاني ورايا شوبنج وحاجات كتيرة جدًا، سلام.
وهرولت من أمامه بسرعة كبيرة جعلته يراقبها وصوت ضحكاته تصل الغرفة بأكمله، فصاح إليها بحذر: على مهلك يا مجنونة مش هتلحقي توصلي لتحت هتتقلبي على السلم ومش هقدر أشيل وأنا بالوضع ده.
واعتدل بجلسته يهمس بمكر: مع إنها كانت هتبقى فرصة تشجع على الانحراف!
اقتحمت مايسان غرفة فطيمة وبحثت عنها، فاندهشت حينما وجدت الغرفة فارغة، فنادتها: فاطمة!
تفاجئت بها تزحف من خلف مقعد الصالون الجانبي بابتسامة واسعة، جعلت الاخيرة تردد بصدمة: أيه اللي مقعدك كده؟
منحتها نظرة مرتبكة قبل ان تجيبها: بصراحه افتكرتك فريدة هانم.
تطلعت لها بعدم استيعاب وتشاركا الضحك، فغمزت لها مايا بمشاكسة: ولا يهمك انا هخلصك من القعدة هنا وهخدك معايا المول نجيب شوية حاجات. ها جاهزة؟
انتابها الحماس والفرحة وهرعت للخزانة تجذب ملابسها وتسرع إليها كأنها ستبدل رأيها، فتعالت ضحكاتها وهي تراها ترتدي فستانها وحجابها بأقل من خمسة دقائق، فقالت مازحة: يا قلبي يا بنتي ده أنتي طلعتي عايشة في حبس.
ضحكت الاخيرة وهي تشير لها: يلا نخرج.
وتوقفت فجأة بتوتر لحق بنبرتها بحرجٍ: طب وعلي؟ أنا مخدتش إذنه!
ابتسمت وهي تضمها بذراعها: متقلقيش عمران هيكلمه.
وبرقت بعينيها فجأة وهي تشير للشرفة: دي عربية شمس، بينا نلحقها بسرعة أهي نبدسها في السواقة طول الطريق.
وجذبت يدها وركضت بها تجاه المصعد والاخيرة تلحقها وصوت ضحكاتها لا يتوقف، فنجحت مايسان بزرع الضحك على وجهها بعد فترة كبيرة، وخاصة حينما قصت لها على الطعام الذي ستحضره لاصدقاء زوجها وقالت: أيه رأيك لو عملتي معايا بكره كم صنف كده مغربي نزين بيه السفرة.
لمعت عينيها بشغف وقالت: كسكس مغربي وكعب غزال وبسطيلة.
هزت مايسان رأسها وأخذت تتساءل عن نوعية الطعام ومكوناتهم، فمضوا طريقهما للخارج يتناقشان دون توقف حتى وصلوا لشمس، فجلسوا بالمقعد الخلفي لتربت مايا على كتف شمس تخبرها: ما تركنيش اطلعي على أقرب ماركت على طول.
رددت الاخيرة بارهاق: ماركت أيه انتي عمرك دخلتي مطبخ يا بنتي عشان تنزلي الماركت!
أجابتها بهيام؛
عمران عايز يأكل أكل مصري وأنا طبعًا ما عليا الا السمع والطاعة.
غمزت بمشاكسة: يا عم المطيع، ماشي عنيا بس ده اكرامًا لفطوم اللي اول مرة تركب معايا.
ابتسمت فطيمة حينما مالت عليها مايا: أهو عرفنا نطلع منك بحاجة!
عاد على من الخارج فصعد لغرفة عمران بعدما وضع الأدوية بغرفتها، فوجد أخيه يتابع الحاسوب ويعيد صياغة الملفات باستخدام يده اليمنى ببراعة جعلته يصفر باعجابٍ: هو ده البشمهندس المجتهد اللي ميقفش عند حاجة، ده اخويا الصغير العنيد.
منحه عمران بسمة هادئة ثم قال مازحًا: أيه يا دكتور رجعت ملقتش العروسة قولت تطلع رومانسياتك عليا ولا أيه؟
سحب ابتسامته وجذب المقعد يجلس قبالة فراشه مرددًا بغضب: منحرف ووقح مفيش فايدة فيك!
تعالت ضحكاته الرجولية، وردد بصعوبة بالحديث من بين سيلها: لا عايزك تروق وتفوقلي بكره عامل عزومة على اكل مصري ومغربي إنما أيه يستاهل بوقك.
زوى حاجبيه بدهشة: أكل مغربي!
هز رأسه مؤكدًا: فطيمة بنفسها هتعمل الأكل، عشان تعرف اخوك واصل لفين!
سحب جسده للامام وتساءل بجدية: لا فهمني وبالتفاصيل أنا أي حاجة خاصة بفاطيما أحب أكون فيها دقيق!
عادت ضحكاته ترنو، فصاح بعدم تصديق: أنا بفرح أقسم بالله، اتدري ليش؟ لان فاطيما سحبتك من رداء الاستقامة والعفاف للوقاحة وبالنهاية تقول إني وقح!
كاد بأن يوجه اليه حديثًا سام فأوقفه ذاك الذي اقتحم الغرفة مرددًا بجمود تام: كويس إني لقيتكم انتوا الاتنين.
ازدرد على ريقه بتوتر، وتساءل: خير يا عمي؟
منحهما نظرة توزعت بينهما ثم قال: أنا وفريدة هنتجوز.
ابتسم عمران وهمس بنزقٍ: شكلها هتحلو!