قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السابع عشر

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السابع عشر

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السابع عشر

اختنقت أنفاسه واحتسبت داخله بعد ما حدث، رؤية دمائها تقطر أمام عينيه جعلته يشعر بانكسار بكل عظمة يمتلكها، وقف بشرفته ينحني على السور الحديدي المحاط بها، والهواء يحرر خصلاته الفحمية المزينة ببعض الخصلات البيضاء، أغلق عينيه بقوة ورغمًا عنه انفلت ببسمة هادئة حينما تذكرها وهي ترفع السكين على رقبته وتهدده بشراستها التي مازالت تمتلكها حتى بعد مرور كل تلك السنوات، فعاد بذكرياته لاحدى المشاهد التي تمرد بها جنونها باجتيازٍ.

صعد لغرفته بعدما انتهى جده من الحوار المتبادل بينهما، كانت تستحوذ على اهتمامه بعدما تركت الصالون فور سماع جده يعرض عليه عروسًا من الطبقة المخملية التي تليق بعائلة الغرباوي، فلم تطيق سماع المزيد ونهضت للاعلى على الفور.

أغلق أحمد الباب من خلفه وخلع جاكيته ليلقيه على الأريكة باهمالٍ، وما ان استدار ليتجه لحمامه الخاص حتى تراجع للخلف وهو يتفادى تلك المزهرية التي كانت بطريقها لاحتضانه، فسقطت شظاياها أسفل قدميه ومازال يتطلع للأرض بصدمة جعلته يرفع عينيه لتلك التي تستعد برمي الأخرى تجاهه!
تراجع للخلف وهو يشير لها بعدم تصديق: تاني يا فريدة تاني!

لم يعنيها كلماته وصوبت إليه ما تحمله فإنحنى للأسفل بسرعةٍ جعلت المزهرية تعبر لمرآة السراحة، فانهار زجاجها أرضًا، ابتلع ريقه بصوتٍ مسموعًا، وصاح بها وهو يحمي وجهه مما تحمله تلك المرة: يا مجنونة أنا عملت أيه عشان تهاجميني بالشكل ده! أنا زيي زيك إتصدمت من كلامه وزي ما سمعتي رفضت!

كزت على أسنانها بغيظٍ جعل صوتها يبدو مخيفًا وهو يتحرر من بين انيابها: إنت اللي مديله الفرصة إنه كل شوية يجبلك عروسة شكل والموضوع شكله على مزاجك يا أحمد باشا.

خشى أن تفلت الأنتيكة الباهظة التي تحملها بين يده، وللحق لا تعنيه بأنها ثمينة بل ما يعينه بتلك اللحظة هو خسارة وجهه الوسيم التي تنتوي تلك الحمقاء تهشيمه تحقيقًا لتهديدتها السابقة بأنها ستشوه ملامحه حتى لا تقبل أي فتاة الارتباط به، فدنى منها ومازال منحني في محاولة بائسة للحديث: طيب اهدي يا حبيبتي، ارمي اللي في إيدك ده وخلينا نتكلم بالعقل!

رفعت حاجبيها مستنكرة لجملته وقالت: أي عقل ده يا ابن الغرباوي! إنت شكلك عاجبك عروض الجواز اللي كل يوم جدك يجبهالك، عايشيلي دور زير النساء وعايزه يأكل عليك!
ضيق رماديته بصدمة، وردد ساخرًا: زير نساء! ده جدي هيتجنن من حالة البرود اللي أنا فيها عشان كده عامل نفسه خاطبة عشان ميتأكدش الخوف اللي جواه من نحيتي!
عبثت بعدم فهم: خوف أيه؟

انتصب بوقفته قليلًا ومازال الخوف مما تحمله بيدها يعتريه، ليجيبها: إنتِ مش ملاحظة إننا عندنا في العيلة الشباب بيتجوزوا صغيرين في السن، أنا حاليًا بالسن الصغير ده وبالنسبلهم عديت السن المقرر للجواز، وده مدي انطباع سييء لجدك عني لدرجة أنه بقى معين ناس تراقبني جوه الشركة عشان نفسه يتأكد إني ليا أي علاقات نسائية، عايز قلبه يرتاح من الشكوك اللي بيتراوده نحيتي!

عاد لنفس لغزه من جديد، فسئمت بنفاذ صبر: شكوك أيه؟!
حك جبينه بحيرة من إيصال المعنى الضمني لحديثه المحرج، فنفخ بغضب: متشغليش بالك إنتِ، ارمي اللي في إيدك بس واهدي ابوس إيدك مبقتش عارف أوجه الدادة نعمات لما بتشوف الاوضة كل يوم الصبح، بقت مصدقة عني إني ملبوس وبكسر في الأوضة، مش كفايا اللي جدك والعيلة واخدينه عني بسببك لسه هيترمي عليا ابتلاءات أيه تاني!

منحته نظرة ساخرة، وقالت: والله بايدك تحل كل ده، انزل لجدك حالًا وقوله أنا عايز أتجوز بنت عمي.

برق بعينيه بدهشةٍ من خوضها نفس الحوار دون ملل، فراقب ما تحمله فوق كتفها بتوترٍ، ورفع يده يحمي وجهه وهو يقول بتعصب فشل بالسيطرة عليه: عايزاني أنزل لجدك أقوله أنا عايز اتجوز بنت عمي أم ضافير اللي لسه في تانية ثانوي وإنتِ أكتر واحدة عارفة شرع الغرباوي البنات متتجوزش الا لما تخلص تعليمها الشباب اللي بيتسحلوا من أول سن ال17، شكلك كده عايزة تضحي بيا!

اكتظم الغضب على تعابير وجهها، فبدت أكثر خطورة، فشددت من ضغط يدها لتقذف تجاهه الانتيكة، ارتطمت بذراعه قبل أن تلامس الحائط من خلفه فتلاحق بالضحايا السابقة لها.

ضم أحمد ذراعه وتأوه بألمٍ وهو يسب الحب على ذاك اليوم الذي نبض قلبه لها، وذاك ما جعلها تغوص بعصبيتها فجذبت زجاجات العطر الخاص به واستعدت لمهاجمته من جديد، فصاح بانفعال: يا فريدة مينفعش اللي بتعمليه ده، صدقيني أنا عايز أتزفت أتجوزك من دلوقتي بس اصبري حتى لما تدخلي الجامعة!

لم تهتم لحديثه وصوبت تجاهه أول زجاجة، فأسرع أحمد يحتمي بالمقعد المذهب الخاص بالسراحة، ليتفادى كل ضرباتها التي لم تنجح باصابته ولكنها كانت تسقط محطمة جوار الاجزاء الأخرى المبعثرة بالغرفة، فأطبق يديه فوق أذنيه من شدة الضوضاء وهو يهمس بغضب: الله يلعن أبو اليوم اللي حبيتك فيه يا متهورة! أنا مش متخيل حياتي معاكي بعد الجواز هتكون عاملة أيه؟!

انتهت معركتها حينما بدأت تخوض سلامها النفسي بعدما انتهى كل شيء مصنوع من الزجاج حولها، فلم يعد هناك ما تتمكن باستخدامه، لذا جلست على فراشه بحزن.
مد رقبته من خلف المقعد يطمئن لهدوئها اللحظي، فتنهد بأملٍ، وخرج يتسلل بحرصٍ الا يصطدم قدميه بالزجاج حتى وصل إليها فسألها ببسمةٍ واسعة: أحسن دلوقتي؟
هزت رأسها بيأسٍ، فجلس على بعدٍ منها وهو يقول بنفس الابتسامة: الحمد لله.

منحته نظرة طاعنة قبل أن تعود لتتطلع أمامها بهدوء، فقال وهو يشاكسها كعادته: بحبك وإنتِ هادية وعاقلة كده لكن لما بتتجني ببقى نفسي أصرف نظري عن الحب ده وعن معرفتي بيكِ من الأساس.
وتابع مازحًا: تخيلي كده يا حبيبتي لو سكنا في عمارة وعملتي اللي بتعمليه ده هيبقى الوضع أيه؟ سكان العمارة هيزفونا لجدك بلبس البيت!
لم يستطيع أن يجعل الابتسامة تزرع على وجهها المحبب لقلبه، فقال بجدية تامة: مالك يا فريدة؟

اتجهت بعينيها اللامعة بالبكاء إليه، تردد بصوتٍ محتقن: خايفة يا أحمد، حاسة إن ممكن جدك يفرق بينا بيوم من الأيام.
ضيق عينيه بذهول: ليه بتقولي كده؟
هزت رأسها وقد غدى البكاء يتمكن منها: معرفش، مجرد إحساس.

ابتسم وهو يخبرها بنبرة صوته الرخيم: معتقدش إنه يعمل حاجة ممكن تزعلني في يوم من الأيام، متنسيش إنه هو اللي رباني طول السنين دي، أنا ماليش حد في الدنيا غيره هو واخواتي، أنا عارف أنه متأثر باللي مرات أبويا عاملاه فيه وحرمانه من سالم مأثر عليه، خصوصًت إنه من وقت وفاة بابا مبقاش ينزل مصر ولا يزوره بس اللي واثق فيه إنه بيعزني وطلبي له في يوم من الأيام هيكون مجاب.

ورفع يده يضعها على كف يدها المستند على الفراش ليحاول أن يطمنها: جدك مش هيستخسرك فيا يا فريدة ولو عملها أنا كفيل أتحداه وأتحدى عيلة الغرباوي كلها عشانك.
وتابع بمرحٍ: مع إني أشك أنه يرفض ده ما هيصدق إني أقوله إني كنت بحب وهتجوز!

تغاضت عن مزحه، وتمعنت بعينيه وقالت: أوعدني.
بأيه؟
منفترقش أبدًا.
أوعدك لأخر العمر إنتِ وبس اللي هتكوني في قلبي، وعمري ما هكون لغيرك في يوم من الأيام.
بحبك يا أحمد!

فتح رماديته اللامعة بالدموع التي تحررت على خده، فأزاحها عنه واتجه بقوة لم يمتلكها من قبل لغرفة عمران وها هو الآن يقف قبالتهما بعدما صرح لهما برغبته بالزواج من فريدة، ومازال الصمت يجوب الأجواء، تقابلت نظرات عمران وعلى بحيرةٍ من أمره، عمران لا يعلم أيخبرهما بالقرار فحسْب أم يطالبهما بإعلام والدته بعرض زواجه.

أما على فكان يراقب صديقه المقرب في محاولة بائسة لفهم ما يحدث معه بتلك اللحظة، كيف قرر الخروج عن صمته فجأة دون أي مقدمات بالطبع هناك شيئًا حدث هو لا يعلمه.
سحب أحمد نفسًا مطولًا يحاول به التهيئة لوابل الاسئلة التي سيتواجه إليه بتلك اللحظة، ولكنه تعرض لصدمة جعلته يبرق لذاك الذي نطق ببسمة واسعة وهو يعود لمتابعة عمله على الحاسوب ببرود: مبروك يا عمي، ألف مبروك.

ضيق رماديته تجاه على الذي يتابعه بهدوء هو الأخر وكأنهما كانا يتوقعان ما يفعله الآن، فعاد يتمعن بعمران الذي قال باهتمام: بس قولي فريدة هانم وافقت ولا إنت عملت أيه؟
وتابع بمرحٍ وهو يغمز له بخبث: أنا شعلتك بداية النار بمدام أنجلا وشكلك استفدت من الطعم كويس أوي، عفارم عليك يا رأي مامي هانم.

تغاضى أحمد عما يقوله عمران، وأتجه لذاك الصامت فتحرر صوته بشكٍ اعتراه لحديثه السابق الحامل لمغزى ما يحدث الآن: إنت كنت عارف يا علي؟
استقام بوقفته قبالته، وهو يحاول إيجاد ما سيقوله بحضرته، وبالنهاية قال باستسلامٍ: سمعت الكلام اللي كان بينكم بدون قصد يوم ما كان عمران بالمستشفى و كنت راجع أغير هدومي بس متضايقتش يا عمي بالعكس اللي ضايقني هو فراقكم عن بعض طول السنين دي.

أخفض أحمد عينيه للأسفل بحرجٍ، الموقف حساس برمته، اقترب على منه ثم قال ببسمة هادئة: أنا عارف إن فريدة هانم عنيدة وشرسة بس واثق إنك هتقدر عليها يا عمي.
ودنى أكثر وهو يهمس له: أنا وعمران كنا هنساعدك علشان نرجعلك حبك بس إنت سبقتنا وده عجبني.
رفع عينيه له وقال ببسمة حزينة: كنت خايف من اللحظة اللي هواجهكم بيها بطلبي للجواز للمرة الأربعين وخصوصًا بعد العمر ده مكنتش أعرف إنكم عرفتوا القصة من بدايتها.

وابتلع ريقه بارتباك وهو يتساءل: يا ترى كان نظرتك ليا أيه يا على لما عرفت إني بعت حب عمري وإنت واخدني قدوة ليك؟
تابع عمران حوارهما باهتمامٍ، فترك الحاسوب وراقب رد على بتوترٍ، انساق الحديث لطرفٍ خطير بينهما، فلم يعد مجال المزح يليق به، راقب أحمد رد على بلهفة، فخطف على نظرة لعمران وصفن بكلمات عمه، ليضع ذاته بنفس تلك المقارنة الصعبة!

ماذا إن أحب عمران فطيمة وأرادها زوجة له؟ هل كان سيقف عدوًا بوجه أخيه من أجل حبه؟!
وما يقتله بتلك اللحظة ان أحمد لم يكن شقيق الأب والأم لأبيه، وهو يعلم بالعداوة التي سرت بالعائلة حينما تم كشف أمر زواج جده من امرأتين فحصل عمه وأخواته على ظلمٍ كان باينًا للجميع، وبعدما انحل الأمر بين والده سالم وعمه أحمد حينها هدأت العاصفة بين العائلة وعاش الجميع حياة طبيعية حتى تلك اللحظة.

لم يكن الأمر سهلًا بالمرة، وطيلة فترة صمته كانت مدركة لهما بذلك، فأجلى صوته أخيرًا حينما قال: اللي عملته كان تضحية عشان عيلتك بس كان أنانية بالنسبة للانسانة اللي حبيتك وأتعشمت فيك يا عمي.
ابتسم وهو يستمع لرأيه الحكيم، وقال: صح يا علي، عشان كده هقدملك نصيحة زي ما انت متعود تسمع مني.

راقبه باهتمام فقال أحمد: متبعدش عن اللي بتحبها حتى لو كان ده تمنه موت كل اللي بتحبهم، لإن موت قلبك ومشاعرك هيكون أصعب من وجع فراقهم ألف مرة.
لمعت عين على بالدمع حينما تسلل له مضمون ما خاضه أحمد من ألمٍ قاتلٍ، وخاصة حينما قال ببسمة تعاكس ألمه: أقولك سر وتصونه؟

هز رأسه بتأكيد، فانحنى أحمد يهمس بأذنيه كلماتٍ جعلت الاخير يبرق بصدمة، فاستقام أحمد واتجه بعينيه تجاه عمران الذي يتابعهما بفضول، وقال: كمل شغلك يا بشمهندس.
وتركهما ورحل ومازالت نظرات على تتابع مغادرته بصدمة جعلت عمران يناديه بقلق: علي.
عاد يناديه حينما طال صمته: علي!
التفت إليه فتساءل عمران بارتباك: كان بيقولك أيه؟!

تغاضى عن سؤاله وهرع خلف عمه للخارج، وقبل أن يتجه لغرفته وجده يقف أمام بابها ينتظره بابتسامة تسلية، وكأنه كان يضمن بأنه سيتبعه بعدما ألقى له تلك القنبلة، فردد بتلعثمٍ: اللي حضرتك قولته جوه ده، إزاي!
وضع يده بجيب بنطاله وانحنى قبالة وجهه يخبره باستفهامٍ ماكر: إنت كنت فاكرني هتخلى عن حبي بالسهولة دي! اللي قولتهولك كان السبب الأساسي اللي خلاني أعمل كده.

صمت ولم يجد كلمات تعبر عن صدمته، يحاول أن يجد سؤاله المنطقي القادم ليطرحه على من يراقبه، وقبل أن يصل لمبتغاه وجد هاتفه يضيء برقم زوجة أخيه، فرفعه قائلًا وعينيه مازالت تطارد عمه بذهول: أيوه يا مايا.
تجهمت معالمه بصورة ملحوظة، فقال: خليكي معاها وأنا جاي حالًا.
وأسرع تجاه الدرج فلحق أحمد به متسائلًا بقلق: خير يا علي، في حاجة؟

هز رأسه نافيًا وهو يجيبه باحترام: موقف بسيط حصل مع فطيمة ومايا محتاجاني أكون موجود عشان خايفة تتأثر بيه، هبقى أطمنك بالفون متقلقش
وتركه وأكمل بخطاه للخارج مسترسلًا: لينا حوار تاني وطويل يا عمي.
ابتسم الاخير مرحبًا به: مستنيك بأي وقت يا دكتور!
واستدار ليتجه إلى غرفته، فوجد الخادمة تقف خلف تخبره: السيد عمران يريدك بغرفته سيدي.

تنقلت بين حوامل الملابس ببسمة رقيقة، بدت راضية عن قرارها بعدم الدخول مع مايا وفاطمة لشراء ما يلزم الطعام، وتوجهت إلى الطابق الثاني لاستكشاف كولكشن الفساتين الجديدة لهذا العام، فجذبها اللونين الأحمر والأسود، بدت حائرة بينهما، ورددت بصوتٍ منخفض: مش لو كانت مايا معايا كانت ساعدتني في اختيار اللون!
عندي فضول أشوفك بالأسود.

ووصل الصوت الذكوري ليكون أمام عينيها يستكمل حديثه ببسمة مهلكة: أكيد هيكون مميز عليكِ!
رددت بابتسامة واسعة: آدهم.
اتسعت بسمته وأخفض وجهه قليلًا كأنه يحيي الملكة: شمس هانم.
ارتبكت أمامه وتلفتت من حولها كأنها تخشى وقوفهما، بحثت عما ستقوله بتلك اللحظة فلم تجد سوى سؤاله: بتعمل أيه هنا؟
اقترب آدهم منها ثم قال بنظرة غامضة: جاي عشانك يا شمس.

انتبهت لما سيقول باهتمام، خاصة وهي تتأمل ثباته الغامض، فقطع صمته قائلًا: إبعدي عن راكان الفترة دي يا شمس، عشان اللي حصل ليكي قبل كده ميتكررش تاني.
زوت حاجبيها بدهشة: تقصد أيه؟
أجابها ومازالت الإبتسامة تشرق على شفتيه: المرة اللي فاتت اتعرضتي لمحاولة الخطف دي بعد ما الشحنة اتمسكت بالمينا، أخاف بعد اللي هعمله يتكرر نفس الشيء معاكي عشان كده متحاوليش تشوفي راكان ولا تقربي منه الأيام دي مهما حصل.

ارتعبت شمس من مجرد تخيل السوء يمسه، فقالت بتوتر: إنت ناوي على أيه يا آدهم؟
اقترب ليقف جوارها، يمرر يديه بين حاملة الملابس وكأنه يبحث عن شيئًا يناسبه كونه زبونًا عاديًا، وأجابها وعينيه تتعلق على أحد الفساتين: هخلص من راكان واللي وراه بضربة واحدة، والطريق لده إني لازم أوصل للملف اللي أنا عايزه قبل دخول الشحنة الجاية مصر لإني لو منعناها من الدخول هتكشف قبل ما أقدر أخد الملف ده.

زاد خوفها أضعافًا، فقالت بقلق: أنا خايفة عليك يا آدهم، عشان خاطري خلي بالك من نفسك أنا، آآ، بحبك ومعنديش أستعداد أخسرك.
منحها ابتسامة هادئة قبل أن يستدير ليستعد للمغادرة هامسًا لها: مكنش عندي أي سبب يخليني أخاف على نفسي من الموت، دلوقتي بقى عندي اللي يخليني حريص بخطواتي، الحلم اللي هيجمعني بيكِ يا شمسي!
ورحل تاركًا الابتسامة تغدو على وجهها الحالم بذاك اليوم الذي ستصبح به زوجته!

وصل على للمول وبحث عنهما بالطابق الأول، فوجدهما يقفان أمام مبردة اللحوم يحملان للعربة، وعلى ما يبدو استرخاء معالم فطيمة، فأوقف العربة التي تحاول مايا التحكم بعجلاتها لثقل ما تحمله، فتصنعت دهشتها لوجوده ورددت: علي! مش معقول!
منحها نظرة ماكرة ونفذ ما طلبته منه ببراعةٍ: أنا كنت قريب منكم هنا فقولت أعدي عليكم أخدكم في طريقي.

غمزت مايا بعينيها لعلي فابتسم رغمًا عنه، تكاد تفضحهما بأن مجيئه إلى هنا لم يكن سوى اتفاق جماعي بينهما، فتنحنح بخشونة ورماديته تعود لزوجته المرتبكة بوجوده، فتساءل: فطيمة إنتِ كويسة؟
هزت رأسها بتأكيدٍ، ووضعت اللحم بالعربة وهي تخبر مايا: هنحتاجه للكسكس المغربي.
عدلت مايا الكيس البلاستيكي وهي تضيف بأعجابٍ: الله عليكي يا فطوم، شكلك كده هتبدعي.

وأضافت وهي تشير لعلي: يلا يا على على الكاشير، يدوب نرجع البيت نحضر الأكل، بحيث نصحى الصبح على التسوية.
دفع العربة وهو يشاكسها بهمس غير مسموع لفاطيما: بقى كده يا ست مايا، جايبني عشان تشغليني.

ألقت مايسان نظرة متفحصة على فطيمة، وحينما تأكدت بأنها تخطو على بعدٍ منهما قالت: على الحمد لله إنك جيت، من أول لما دخلنا الماركت وأنا حاسة إن فاطمة مش طبيعية، بتبص على الناس اللي مالية المكان بخوف غريب، حتى كان في شاب خبط فيها غصب عنه لقيتها اتوترت بشكل غريب، أنا خوفت يجرالها حاجة عشان كده اتصلت بيك.

خطف نظرة سريعة إليها قبل أن يميل تجاه زوجة أخيه يخبرها: كويس إنك عملتي كده يا مايا، فطيمة لسه متعافتش بشكل كامل، الازدحام وتعاملها مع الاشخاص الغريبة بيربكها، بس أنا سعيد أنها بتحاول تتأقلم وتتعايش مع الوضع وده بفضل ربنا سبحانه وتعالى وبفضل وجودك إنتِ وشمس.
ابتسمت برقةٍ: أنا حبيتها أوي وحاسة والله إن فريدة هانم هتحبها، فطيمة طيبة وقلبها نقي.
ذم شفتيه ساخطًا: بتمنى بس صعب.

كبتت ضحكاتها وتركته يتجه للكاشير، يضع الاغراض على الطاولة الرفيعة، فوقفت مايسان جوار فاطمة تتبادل الحديث المرح برفقتها، لتجد على يدنو منهما متسائلًا باستغرابٍ: مش بتقولوا شمس معاكم أمال هي فين مش شايفها!
ردت عليه مايا وهي تجذب هاتفها من حقيبة يدها: قالت هتطلع تبص على اللبس فوق، ثواني هكلمها تنزل.

وبالفعل طلبتها مايا وأخبرتها بأنهم بالخارج بانتظارها جوار سيارة علي، هبطت شمس للأسفل فقادت سيارتها ولحقت بهم للقصر وعقلها شارد بذاك الآدهم الذي على وشك خوض معركة مخيفة، لا تعلم بأنها ستكون أحد عناصر المرغمة بالمشاركة بتلك الحرب المجهولة!
بغرفة عمران.
تنهد بضجرٍ وهو يردد: يا عمي بقالي ساعة بحاول أسحب منك أي معلومة عن اللي قولته لعلي، ومازلت بتتهرب مني!

حدجه بنظرة باردة قبل أن ينهض عن المقعد، قائلًا: يا حبيبي وفر وقتك ووقتي، كان زماني نمت!
صاح عمران بعصبية: يعني مش هتتكلم؟
دنى أحمد منه وانحنى قبالته مرددًا: صوتك عالي على ما أعتقد.
تصنع خوفه وابتلع ريقه وهو يهمس له: مهو مفيش أي حاجة عملتها جابت معاك نتيجة.
ابتسم وأخبره بغرور: لإن الكلمة اللي قولتها لعلي مش هتخرج لحد تاني، كانت ساعة شيطان وانصرف يا عمران ارتاحت!

ضيق عينيه وباصرار قال: لما يجي على هعرف منه.
انتصب بوقفته فأغلق زر جاكيته وهو يشير له: تصبح على خير يا عمران.
وتركه يكاد ينفجر غيظًا وغادر لغرفته، بينما الأخر يهمس بفضول: يا ترى قاله أيه خلاه ارتبك بالشكل ده!

نزعت نايا مئزر الجلباب الأسود عن الطبقة الداخلية وأشمرت عن ساعديها، مرتدية مريول المطبخ لتبدأ الآن بتفريز الأكياس استعدادًا لصنع الطعام، ومازال على يحمل الأغراض من الخارج إليهما بالمطبخ، فكانت تحمل منه فطيمة الأكياس لتضعها على الرخامة، وحمل كوتون الماء المعدني فأسرعت فطيمة إليه فأشار لها ببسمة حنونة: تقيلة عليكي، أنا هدخلها.

وبالفعل وضعها على على الرخامة، وقال لتلك المنشغلة بتدوين ملاحظاتها وخطتها بالبدء: ها يا شيف مايا ناقصك حاجة تانية؟
أشارت له باسمة: بجد يا على مش عارفة أشكرك إزاي، أنا مكنتش عارفة هرجع بكمية الأكياس دي كلها إزاي، إنت ربنا بعتك لينا نجدة.
حك لحيته النابتة ليخفى بسمته الماكرة: آه ما أنا عارف إن الصدفة دي جت من حظك.
وتابع وهو يشير لفطيمة: تسمحيلي بقى أخطف منك فطيمة نص ساعة.

أشارت بالقلم الذي تحمله: نص ساعة بس عشان ورانا تجهيزات كتيرة.
هز رأسه وأشار لفطيمة قائلًا: تعالي يا حبيبتي، عايزك.

رمشت بارتباكٍ لسماع كلمته المرهقة لمشاعرها التي تخوضها لأول مرة، فاتبعته للخارج حتى وجدته يجلس على الأريكة القريبة من الباب الخلفي للمنزل، جلست قبالته تنتظر سماع ما سيقوله، فقال وهو يرتدي نظارته الطبية ويجذب نوته: هنبدأ أول جلسة لينا في حياتنا الزوجية، بس تقدري تقولي مفيش وسطات، ففكك بقى إنك مراتي وإني هكون لطيف معاكي، الشغل شغل ولا أيه؟

ابتسمت رغمًا عنها، واكتفت بهزة رأسها بخفة، فقال: ها بقى احكيلي يومك النهاردة كان عامل إزاي؟ خصوصًا إن دي من المرات المحدودة اللي خرجتي فيها لوحدك!
لعقت شفتيها بارتباكٍ، وبدت متحيرة بما ستقول، الوضع الآن مختلف، بالسابق كانت لتقص عليه كل ما يزعجها كونه طبيبها المعالج، الآن هو زوجها كيف ستخبره مثلًا بحديث والدته المزعج لها؟!
كيف ستخبره عما خاضته منذ قليل؟!، الوضع برمته يقلقها.

لمس على ما تفكر به، فتردد بما سيفعله ولكنه بالنهاية فعله، مد يده ليمسك بيدها التي تفرك بالاخرى بتوترٍ، فاسترخت بين أصابعه الخشنة، وتعلقت عينيها به فقال: متخافيش يا فطيمة، أوعدك إني مش هتعامل مع أي شيء هتقوله كزوج، هعتبرك زي أي مريضة وأسرارك مش هتخرج بينا ولا هتقصر على انفعالاتي.

وتابع بهدوءٍ: يعني مثلًا اللي حصل بينك إنتِ وفريدة هانم الصبح وقلقانه تحكيهولي دلوقتي تقدري تتكلمي وتحكيلي وأنا بعدها هرمي كل شيء ولا كأني سمعت شيء. ده وعد.
هزت رأسها ببسمة هادئة، وحررت صوتها الرقيق قائلة بارتباك: لم شوفتك بالمول فرحت، كنت متوترة جدًا من المكان وأنا لوحدي.
ابتسم وهو يتابع ربكة حدقتيها، وقال: مستعد أرافقك في كل مكان تروحيه، اطلبي إنتِ بس وأنا في الأمر بس كل شيء وله شروطه.

وخطف نظرة للردهة الواسعة قبل أن يدنو منها هامسًا: تجيبي حضن، وقتها ممكن أفكر أسيب شغلي وأجيلك بالمكان اللي تحبيه، ها موافقة؟
احتقنت نظراتها بغضب، فتعالت ضحكاته الرجولية بعدم تصديق لتبدل ملامح وجهها بثوانٍ، وقال بصوت متأثر بضحكاته: هتعملي أيه! مفيش أبواب ترزعيها في وشي هنا!

تسرب لها مغزى حديثه، فكلما طرح الأمر إليها كانت تغلق أحد الأبواب بوجهه، والآن لا يوجد أبواب مثلمة أخبره، تمردت ضحكات فطيمة بقوة جعلته يلاحظ غمازات وجهها بوضوحٍ، لأول مرة تكسر حاجز الابتسامة الصغيرة المتكلفة على شفتيها وتضحك بصوتها الانثوي الرقيق.
برق بعينيه وكأنه يرى أحد عجائب الدنيا السبع، فهمس بصوته المغري وكأنه مسلوب الارادة: عنيا مشافتش أجمل منك يا فاطمة!

تلاشت ضحكاتها تدريجيًا، ونهضت من جواره تجلي صوتها الهارب بصعوبة: هروح أساعد مايسان بالمطبخ، عن إذنك.
وقبل أن يعترض هرولت بخطواتٍ سريعة للمطبخ بينما أغلق هو نوته وخلع نظاراته ليتمدد على الأريكة بابتسامة حالمة، وهمس بعشقٍ: هحبها أكتر من كده إزاي!

بالمطبخ.
ساندت شمس عمران حتى أوصلته للطاولة الصغيرة الموضوعة بالداخل وخرجت تبحث عن على لتخبره بما يتردد لها منذ فترة، فراقب عمران ما تفعله مايا ببسمة مشاكسة، فأشار لها حينما انتهت من اعداد اللحم المفروم الخاص بالمعكرونة: دوقيني.
استدارت تجاهه قائلة بدهشة: لسه هجهز طواجن المكرونة بكره، أنا يدوب عصجت اللحمة عشان الصبح أجهز الطواجن على طول.

أجابها وهو يشير على الخبز: مهو أنا لازم أتمم على اللحمة، مش يمكن ناقصها حاجة.
ابتسمت ومالت على طاولته تسأله بنظرةٍ شك: عمران إنت جعان؟
هز رأسه بتأكيدٍ وضحكته الجذابة لا تفارقه: ريحة أكلك جوعتني!
رق قلبها له، فأسرعت للخبز تضع به اللحم وصنعت له كوبًا من النسكافا، ثم إتجهت إليه بالطعام، فتناول الخبز وهمهم بتلذذ: هممم، روعة بجد.
وبمرحٍ قال: شكلك كده هتشرفيني فعلًا بكره قدام يوسف وجمال ومرتاتهم.

تركت غطاء الوعاء واتجهت إليه بلهفة: هي دكتورة ليلى وصبا جاين بكره بجد؟
هز رأسه بتأكيدٍ، وقال موضحًا: كنت هقولك بس استنيت لما أعرف من يوسف وجمال إذا كانوا هيجوا معاهم أكيد ولا لأ.
ابتسمت بحماس: كويس أوي أنا كان نفسي ألقى أي طريقة أشكر بيها دكتورة ليلى على اللي عملته معاك وأهي فرصة نتعرف على صبا.

ترك الخبز عن يده وقال بجدية تامة احتلت معالمه: بخصوص صبا، مايا أنا عايزك تقربي منها وتفتحي معاها أي حوار ينتهي بأنك محتاجالها بالشركة لإني سبق وقولت لجمال وشكله كده طنش الموضوع.
واستكمل بتوضيح شامل: صبا قاعدة طول الوقت لوحدها ومالهاش أصدقاء هنا، أنا متأكد إنكم هتكون أصدقاء.

تابعت كل كلمة قالها بحبٍ، وهمست له بهيام: بالرغم من العيوب اللي موجودة جواك الا إنك شهم اوي مع أصدقائك وده أكتر شيء بيعجبني فيك يا عمران.
شرد بعينيها الفاتنة التي تحارب كل ذرة صبر يمتلكها، ينقلب به الأمر لشيءٍ أخطر مما واجهه من قبل، لم يسبق أنه تمنى أحدًا من النساء مثلما تمناها، أصبح يقدر قيمتها ويعلم بأنها ثمينة، غالية، لذا عليه المعاناة ليصل لسلامها، للذة الحلال الذي لم يذقه أبدًا.

رغمًا عنه وجد يديه تجذبها إليه لتسقط على قدميه، فلم يترك لها فرصة المناص من هفوة مشاعره الصادقة!
برقت فطيمة بعينيها في صدمةٍ، ورددت بحرجٍ: أنا أسفة مكنتش أعرف آآ...
لم تجد الكلمات المناسبة لاعتذارها، فهي بالنهاية تقف بالمطبخ وليست بغرفتهما الخاصة، دفعته مايسان لتقف على قدميها وقد انفلتت بموجة غاضبة: انت وقح يا عمران، مفيش فايدة فيك!

كمم ابتسامته التي كادت بالانفلات، وادعى البراءة قائلًا: الحق عليا إني مسكتك قبل ما تقعي على الأرض وتنكسر رقبتك!
واتجهت عينيه لفاطمة يستجديها بشهامته المخادعة: اتزحقلت وكانت هتقع فمسكتها وبدل ما تشكرني بتقل أدبها يرضيكي يا فاطمة؟
توترت فطيمة المرتبكة من الموقف برمته، وقالت بخجل: المهم إنها كويسة، عن إذنكم.

وكادت بالفرار فأوقفتها مايسان بغضب: استني هنا، رايحة فين وسايباني أنا مش هعرف أعمل الكسكس بتاعك ده، هتدبسيني وتخلعي!
عادت لتستقر أمام الأكياس، تلهي ذاتها بحمل الأغراض لتبدأ بعملها، بينما اتجهت أعين مايسان المحمرة حرجًا من ذاك الوقح الذي عاد يرتشف كوبه الساخن بنظرة مستمتعة لحالة ارتباكها العجيبة، فقالت: إنت قاعد هنا ليه أصلًا، اتفضل اطلع أوضتك أو إخرج اقعد بره مع علي.

وضع الكوب على الطاولة وقال بمكرٍ يلتحف خلف براءة تصرفاته المسكينة: ما إنتِ عارفة إن شمس اللي جايباني هنا، لو عايزة تخرجيني بره معنديش مانع، تعالي سانديني وأنا هخرج!
وانهى حديثه بغمزة ماكرة جعلتها تحمل الملعقة الطويلة وتكاد ان تسقطها بوجهه، فالتقطتها منها فطيمة وهي تردد باستنكار: بتعملي أيه يا مايا، حرام عليكي!

استدارت تقابلها بعصبية: ااسكتي يا فاطيما انتي قلبك طيب ومتعرفيش عمران كويس، ده خبيث بيعمل كل ده عشان أقآآ...
ابتلعت باقي كلماتها بحرجٍ جعلته يتمادى بضحكاته الصاخبة، مشيرًا لها: عشان أيه يا حبيبتي كملي واشكي لمرات أخويا البريئة اللي هتلوثي عقلها بأفكارك المنحرفة.
كزت على أسنانها وهي تشير لنفسها: أنا منحرفة؟!

أكد باشارته فبحثت جوارها عما يمكن ألقائه على ذاك المستفز، فجذبت المناديل الورقية وألقتها إليه، فجذب احد المناديل وهو يردد بجدية ساخرة: حاسة بيا والله، منحرمش يا روح قلبي.
وجفف فمه من فوم النسكافا ثم قال: ها، هتيجي تخرجيني لعلي ولا أطلب مساعدة من شمس؟

اتجهت إليه بنفاذ صبر، فأسندت ذراعه الأيسر وخطت جواره لتخرج به، فما ان ابتعدوا عن أعين فطيمة حتى همست ببسمة صغيرة: ده دكتور على طلع محترم وابن ناس جدًا جنب أخوه!
تعمد عمران ان يضمها إليه مدعيًا ارهاقه، فخطى جوارها بتأثرٍ وهو يردد بتعب مصطنع: مش قادر يا مايا، تعبان!

سددت نظراتها القاتلة إليه، فأصبحت تكشف تعبه الزائف بتمكنٍ، جاهد عمران لمنع بسمته التي تسللت له فور رؤيتها وجهها المحتقن، فخطى للردهة متبعًا الصالون الجانبي حتى بات على وشمس على بعد معقول منهما، فهمست إليه بغضب: ياريت اللي حصل ده ميتكررش تاني يا عمران، بالأخص بوجود فاطيما.

منحها نظرة حزينة، وصاح لها بمشاكسة: متشكرين لمساعدتك يا شيف مايا، ارجعي المطبخ كملي طبيخ وسيبني ألعنك مع الملايكة طول الليل مهو مبقاش ورايا شيء غير كده.

واستند على الحائط حتى أصبح بمحيط نظر على الذي أسرع إليه يسانده حتى وصل لمجلسهما، بينما تصلب جسد مايا مما استمعت إليه، فعادت للمطبخ شاردة حزينة بكلماته، تعلم بأنه يمزح معها ولكن مجرد فهمها لتلك الكلمات جعلت قلبها ينبض برعبٍ مما ستلقاه أمام الله عز وجل.
ارتبكت شمس من وجود عمران الذي اقتحم مجلسهما فجأة، فردد على بدهشة: كملي كلامك يا شمس، سكتي ليه؟!

خطفت نظرة متوترة لعمران الذي راقبها باهتمام، وقالت: أنا مش عايزة راكان يا علي، أنا بحب واحد غيره.
توسعت حدقتيهما بصدمة، وكان على أول من تحدث: بتحبيه ازاي! أوعي قعدتنا هنا تنسيكي إنك مسلمة يا شمس، يعني الحب والمقابلات والكلام ده حرام وهتشيلي ذنبه.
أسرعت بالدفاع عن ذاتها: محصلش الكلام ده، الانسان اللي بحبه مسلم ومحصلش بينا أي تجاوز يا علي.
تساءل عمران بحدة: مين ده؟
ارتبكت للغاية، ورددت بصعوبة: آدهم.

حارس راكان!
تفوه بها عمران بصدمة، ازدادت مع إيماءة رأسها، فاستطرد بعنف: لو كلامك صح فيبقى خاين وحقير، إزاي يخون الانسان اللي بيشتغل معاه بالطريقة الوضيعة دي!
توترت شمس كثيرًا فلم يكن بنيتها مصارحة عمران بالأمر، أرادت ان تخبر على فقط، وحينما فرض عليها الحديث بوجوده حدث ما كانت تخشاه فأسرعت تبرر: راكان مش ملاك زي ما انت متخيل يا عمران، وعلى فكرة آدهم مش حارس.

سألها على باستغراب: أمال أيه؟ وقصدك أيه من كلامك ده؟
لعقت شفتيها الجافة بلعابها، وقالت: مش هقدر أتكلم دلوقتي للأسف انا وعدته.
صاح عمران منفعلًا: هي وصلت للوعود بينكم، أيه طبيعة العلاقة بينكم بالظبط يا شمس!
تدفق الدمع من عينيها، ورددت بارتباك: مفيش شيء من اللي في دماغك ده يا عمران.

ونهضت من مقعدها واتجهت للأريكة التي يجلس بها علي، فأمسكت يده تستعطفه، قائلة ببكاء: على انا مكنتش عايزة أعرف حد بالموضوع ده غيرك لإني عارفة إنك الوحيد اللي هتفهمني، آدهم بيحبني ووعدني لما يخلص اللي جاي عشانه هيجي يطلبني منكم، أنا مكنتش هتكلم غير لما في شيء معين يتم والشيء ده مش هقدر أتكلم عنه لإني كده هعرضه للخطر، أنا متعودتش أعمل شيء من وراك علشان كده قولت أتكلم معاك.

منحها بسمة هادئة وضم وجهها بيده ليجذبها لصدره قائلًا بحنان: حبيبتي كلنا بنثق فيكِ، عمران بس خايف عليكي.
كاد عمران بالحديث فأوقفه على بإشارة يده، وتابع وهو يمسد على خصلاتها الناعمة: أنا عارف إنك عمرك ما هتعملي حاجة غلط وواثق فيكِ.
وأشار بيده: يلا اطلعي خديلك شاور وشوفي مذكرتك.

ابتهجت ملامحها الباكية، وانحنت تطبع قبلة على خده بسعادةٍ، وكادت بأن تصعد للأعلى ليوقفها عمران بضيق: يعني هو أخوكي الحنين وانا ابن ضرة فريدة هانم!
أحنت رأسها أرضًا بخجل، فقال ببسمة هادئة: هاتي بوسة ليا طيب!
ضحكت بصوت مسموع وانحنت تطبع قبلة على خده فهمس لها: ربنا يستر وفريدة هانم متضمكيش لحزب دكتور علي، وقتها هتبرى منك زي ما أتبريت منه.

تعلقت بقميصه المنزلي ورددت بخوف: مترعبنيش يا عمران أنا خايفة من غير أي شيء أصلًا.
منحها نظرة مستنكرة، ومازحها ساخرًا: راحت فين قوة الحب! ضاعت هباءًا؟!
ابتسم على وهو يراقبهما، وردد قائلًا: اطلعي اوضتك يا شمس.
اومأت برأسها إليه وصعدت للأعلى، فاقترب على من عمران وهمس له بحذر: إنت تعرف آدهم ده يا عمران؟

هز رأسه وقال ما يعرفه عنه: أنا شوفته كذه مرة مع راكان، مشوفتش منه شيء سييء، بالعكس تصرفاته كلها رجولة، راكان حكالي قبل كده أنه فداه من الموت بروحه، وبيثق فيه جدًا، بس ده مش مبرر يخليني أستريح للي بينه وبين شمس، على الموضوع يقلق!

أكد له على خطورة الموقف: الثقة الكبيرة اللي حطاها شمس فيه وراها سر هي عرفاه وخصوصًا إنها قالت إن راكان وراه مصايب وإن آدهم مش مجرد حارس، احساسي ممكن يكون في محله لإن راكان ده مريب يمكن يكون له في الشغل الشمال وآدهم يكون بيوقعه لانه ظابط مثلًا.
قوس شفتيه باقتناعٍ، ولكنه سأله بريبة: ولو مكنش ظابط هنحط احتمالات ونسيبها تضيع مننا يا علي؟

نفى نظريته تلك حينما قال بهدوء: لا طبعًا هننحرك وهنحاول نوصل للحكاية دي من أساسها بس بدون ما شمس تعرف أو تلاحظ حاجة، أنا مش عايزها تفقد ثقتها فينا يا عمران ولا تندم إنها جت واتكلمت معانا.
واستطرد بعد تفكيرًا: كلها يومين تلاته ومراد هيوصل انجلترا وقتها هكلمه عن الموضوع ده.
هز الأخير رأسه باقتناع، وانتفض بجلسته حينما تذكر أمرًا هامًا طرحه له: قولي بقى عمك لما وشوشك كان بيقولك أيه؟

احتقنت ملامح وجهه فور تذكره أمر عمه، فعادت كلماته ترد على مسمعه من جديد حينما انحنى أحمد إليه هامسًا بكلماته
«سالم خدعني عشان يتجوز فريدة! »
انتصب بوقفته وعاونه على الوقوف قائلًا: هساعدك تطلع اوضتك الوقت إتاخر خد أدويتك ونام.
منحه نظرة ساخطة قبل أن يقول: أغسل سناني بالمرة قبل ما انام ولا رأيك أيه يا بابا علي؟

تجاهل سخريته وإتجه به للمصعد، ومن ثم لغرفته، فأسنده لفراشه واتجه للمغادرة فصاح عمران بغضب: يعني مش ناوي تقولي!
أغلق الباب غير عابئًا بسؤاله وإتجه لغرفة عمه على الفور.

لاحظت فاطمة شرود مايسان الدائم بعدما عادت من الخارج، فتلاشى حماسها وفرحتها بصنع الطعام، فأصبحت تتحرك بالمطبخ ببطءٍ شديد، وأحيانًا تنسى الطعام فتفق على رائحة احتراقه، فتنحنحت تسالها بتردد لعدم اعتيادها اقتحام خصوصية أحدًا: مالك يا مايا من ساعة ما رجعتي من بره وإنتِ ساكتة وحزينة، فيكِ حاجة؟!

تركت مايسان الطنجرة من يدها واتجهت بعينيها إليها فقالت بوجع يخترق أضلعها: فاطيما في حاجات كتيرة إنتِ متعرفهاش عني، او بالمعنى الأصح عني انا وعمران، أنا متعودتش اتكلم مع حد قبل كده لإن كل اللي هنا عارفين قصتنا بس لإني حبيتك أوي وحسيتك هتكوني أختي اللي كنت بتمناها في يوم هحكيلك.

قصت لها مايسان عن قصة حبهما الطفولي وعن إجبار فريدة بأن يتزوج عمران منها، وعن خيانته لها وما حدث لها بذاك الحفل والسم الذي تسبب لعمران بحالته تلك، ارتعبت فطيمة فور سماعها عن أنها كانت ستتعرض لمحاولة اعتداء تعرف هي كيف تكون مساوئها، وانتهت حوارها الطويل قائلة: أنا دلوقتي بديله فرصة تانية وبتمنى إنه يكون اتغير فعلًا يا فاطيما، ده أملي الوحيد.

وبحرجٍ قالت وهي تضع الأرز بحبات الكوسة: بس أنا خايفة، خايفة أشيل وزر الامتناع عنه، إنتِ عارفة إن الزوجة لو امتنعت عن زوجها بتشيل وزر كبير، وفي نفس الوقت خايفة أديله المساحة دي في حياتي فيكسرني يا فاطمة، لأنه لو خاني بعد ما اكونله زوجة مفيش أي شيء في الدنيا هيداوي وجعي، وهتكون دي نهاية العلاقة بينا.

أجلت صوتها الهارب من أوردتها قائلة: أنا مش عارفة أفيدك بموضوعك ده يا مايا، لإني للاسف على وشك الدخول لنفس الدايرة دي، بس اللي هقدر أنصحك بيه إنك تسمعي لقلبك، أكيد هو قادر يحس بيه.
استندت على جذعها تهمس بهيام: قلبي بيعشقه وهيكون في صفه يا فطيمة.
ضحكت وهي تراقب هيامها هذا، فاعتدلت مايا بوقفتها وشاركتها الضحك حتى ضربنا كف بعضهما البعض بمرحٍ أحاطهما حتى الانتهاء من الطعام.

طرق الباب وولج للداخل على الفور، فوجد الغرفة فارغة، وصوت قادم من الشرفة يناديه: انا هنا يا علي.
أغلق على الباب من خلفه وأسرع للشرفة، فوقف قبالة عمه يتساءل وهو يراقب ساعة يده باستغراب: سهران لحد دلوقتي؟
ابتسم وهو يستدير له: عارف إنك مش هيجيلك نوم من غير ما تتكلم معايا عن معنى الكلمة اللي قولتها، حافظك أكتر من نفسك يا دكتور.

دنى على حتى بات يقف جواره يستند على السوار الحديدي، وقال بألمٍ: طول الطريق بحاول أحلل الاحداث اللي تخدم جملتك دي بس وجعها كان أكبر يا عمي، وبقيت بسأل نفسي إنت اتعرضت لكمية الوجع ده واستحملته ازاي؟ والاهم ازاي بابا خدعك مفهمتش المعنى!

تنهد بضيق، ولزم صمته المطول لدقائق، ثم كسره قائلًا: انسى يا علي، انسى اللي قولتهولك ومتسألنيش عن التفاصيل لانها هتوجعك وهتخليك شايف سالم بصورة تانية، صورة انا سكت عنها 15سنة ومستعد أسكت العمر كله عشان فريدة متكرهوش.
التفت إليه وقال: أيه اللي عمله يا عمي، أرجوك اتكلم وقولي!

انجرف بوقفته تجاهه وقال بعصبية اندفعن بعد فترات قضها بتفكير مرهق منذ ساعات بغرفته: أنا كنت أناني لما قررت ألمحلك عن اللي اتدفن بالماضي، كنت خايف على صورتي تتهز قدامك لما تعرف إن فريدة هي البنت اللي قضيت عمره كله بحكيلك عن قصة حبنا، خوفت على شكلي قدامك عشان كده حاولت أبررلك، اعتبرني مقولتش حاجة لإني مش هتكلم يا علي.

لمعت عينيه بالحزن تأثرًا لما يستمع إليه، لا يود طرح الحقيقة المدفونة خشية أن يكره أبيه ومازال يعاني بصمت، أدمعت عين على رغمًا عن صلابته البادية على وجهه، والتقط نفسًا مطولًا قبل ان يقول: احكيلي اللي حصل زمان يا عمي، وإنت عارفني مش هنطق بحرف بأي شيء هتقوله.

تطلع إليه بابتسامة تحتل ثغره، فجذبه بقوة يحتضنه دون سابق انذار وهمس له بحب: إنت ابني اللي مخلفتهوش يا علي، عمري ما حسيت إني بطولي بالدنيا دي وإنت معايا، مش متخيلك غير ابني اللي من صلبي، بالنهاية انت حامل لاسم الغرباوي بنهاية اسمك أيًا كان الاسم اللي ورا اسمك سواء سالم او أحمد بالنهاية انت من نسل الغرباوي.

تمسك به على ودمعاته تنهمر دون توقف، فطال باستكانته على كتفه حتى هدأ تمامًا، فابتعد يصطنع بسمة صغيرة على شفتيه وقال: مش هتحكي لابنك بقى.
ازاح أحمد دمعته المتأثرة ببكاء على كالطفل الصغير المتأثر بحزن أبيه فيبكي لأجله، وقال بابتسامة جذابة: هحكيلك!

بغرفة فريدة.
تمددت على فراشها تتأمل جرح يدها ببسمة هادئة، تتذكر جنونه الذي استحضر فور رؤيته لدمائها تنزف، عادت بذكرياتها للصبا، لايام جمعته مع ذاك العاشق الحنون الذي أفاضها بجنة عشقه الخالده، فابتسمت على استحياء من تلك الذكرى التي روادتها دون سببًا.
يا حبيبتي ارجعي بذكرياتك لورا كده افتكري هل انا في يوم سمحتلك تخرجي وجدك مش موجود وأنا معرفش إنتي راحة فين؟

هزت رأسها نافية ومازالت تكبت ألمها بصعوبة، فابتسم أحمد وهو يشير لها: شاطرة يا ديدا ودلوقتي هتقوليلي راحة فين السعادي ولا تطلعي زي الشاطرة بردو تنامي!
جزت على شفتيها السفلية بغضب؛
ما تبقاش غلس يا أحمد، أنا اتصلت على بابا واستأذنت منه، وبعدين كلها عشر دقايق وراجعة.
أغلق باب القصر الداخلي وصاح بعصبية: على فوق يا فريدة أنا مش أهبل عشان أخليكِ تخرجي الساعة 11ونص!

مسحت على وجهها بغيظٍ، وصاحت بانفعال: وبعدين معاك يا أحمد، أنا بقالي ساعة بحاول اقنعك قولتلك هنزل وراجعه بسرعة مش هتأخر.
دس مفتاحه ليغلق الباب وعاد لمقعد الصالون بهدوء، فلحقت به وهي تحاول السيطرة على غضبها أمام عناده، فقالت بهدوء كاذب: عشان خاطري مش هتأخر والله، حرام عليك أنا تعبانه ومش قادرة اتكلم.
قال وهو يعبث بهاتفه دون ان يهتم برجائها: اللي عندي قولته.

كورت يدها بعصبية، ودت حينها لو طالته أظافرها فتنهش وجهها، فدنت تستند على الأريكة القريبة منه تهمس على استحياءٍ واضح: هروح الصيدالية أجيب دوا وراجعة.
أبعد عينيه عن الهاتف ومنحها نظرة متفحصة، فارتبكت وهي تستأذنه: ها أمشي بقى؟ أنا قولتلك رايحة فين أهو!

نهض عن مقعده وجذب جاكيته يرتديه، ثم إتجه للطاولة يجذب مفتاح سيارته وأشار لها وهو يتفادى التطلع إليها حتى لا يخجلها: اطلعي أوضتك يا فريدة، هجبلك طلبك وراجعك.
برقت بعينيها بصدمة، وراحت تردد بتلعثم: طلب ايه لأ أنا آآآ، إنت فهمت غلط أنا بس آآ...
تركها تبحث عن سياق الحديث المناسب وأغلق الباب من خلفه، وغادر تاركها تكاد تقتل خجلًا، فجابت الردهة ذهابًا وإيابًا وهي تتساءل: يا ترى فهم أيه؟!

ولكمت الهواء بانفعال: ده حتى مدنيش الفرصة افهم هو فهم أيه!
انتفضت بوقفتها فور سماع صوت سيارته، فركضت للأعلى سريعًا تختبئ بغرفتها، لتستمع بعد قليل لصوت طرقات باب الغرفة، وقفت خلف الباب تردد بارتباك: عايز أيه أنا نايمة.
ابتسم على طريقتها وقال: افتحي خدي الكيس ونامي براحتك.
تصنعت دهشتها: كيس أيه ده؟!
احتضن زواية أنفه بتعب: افتحي يا فريدة.

فتحت الباب ومدت يدها دون ان تريه وجهها، فمسك ضحكته بصعوبة ومد لها الكيس البلاستيكي، حملته وأغلقت الباب بقوة جعلته يقهقه ضاحكًا وهو يردد: مفيش داعي للشكر ده إحنا ولاد عم!
واتجه لغرفته بينما فتحت هي الكيس البلاستيكي بصدمة من معرفته ما تخوضه الآن، فوجدت أدوية مسكنة لالم بطنها القاتل وما تحتاجه لتقضي عذرها الشهري بسلامٍ، ومنذ تلك الليلة لم تستطيع أن تنسى موقفها المحرج حتى تلك اللحظة!

استكان على المقعد بصدمة طعنت ما تبقى لديه، يختطف نظرة مستنكرة إليه ويعود لشروده من جديد، الصمت كان يتلاعب بهما وكلاهما يتحملان الجو المطموس بالثليج، حتى مزق على جلبابه قائلًا بعدم استيعاب: بالرغم من كل اللي عمله فيك ده سكت ازاي؟! حتى بعد موته ولحد اللحظة دي سكت ليه يا عمي؟!
استند بجزءه العلوي على الطاولة الفاصلة بينهما، وقال: كلامي هيعمل أيه يا على اللي حصل مش هيغير الحقيقة.

عارضه بتعصب: بس كان على الاقل هيقلل مسافة البعد اللي بينك وبين فريدة هانم، مكنتش هتوصل بيك العقوبة ل15سنة يا عمي!
وبعدم تصديق صاح: إنت إزاي كده؟ ازاي قادر تتحمل ومكمل بتضحيتك حتى بعد كل السنين دي! أنا عقلي هيقف من التفكير!
رد عليه ونفس ابتسامته لا تفارقه: ونهايتها خير يا علي، خلاص هنتجوز أنا وفريدة وهيتلم شملنا.
انكمشت ملامحه باشمئزاز مما فعله أبيه وقال: قدرت تسامحه إزاي أنا مش هقدر!

استقام بوقفتع وهو يردد باندفاع: على متندمنيش إني حكيتلك، متنساش وعدك ليا!
هدأت انفعالاته، وقال بتريث: انا آسف على عصبيتي بس الحقيقة بشعة اوي يا عمي اتحملتها ازاي!
أراد أن يغير مجرى الحديث الذي أشعره بالاختناق، فقال بمرحٍ وهو يدفعه للخروج: ما خلاص يا دكتور هنقضيها رغي، الساعة بقت 2 أنا ورايا شغل الصبح ومش قادر للسهر، إرجع أوضتك وسبني بقى أنام.

ضحك على وحاول تفادي دفعه قائلًا: طيب ما تكنسل الشغل بكره وتقعد معانا في عزومة بكره، أكل مصري ومغربي وحوار.
نجح بأخراجه من الغرفة وقال قبل ان يغلق بابه: بكره نشوف الحوار ده، تصبح على خير.

قضى عمران ليله يعمل على أحد الصفقات التي قرر توليها بنفسه لاهميتها، فترك العمل لأحمد وانشغل هو بأهم صفقة تخص شركة العائلة، فارتشف كوب قهوته وهو يتابع العمل، محركًا رأسه يسارًا ويمينًا بألمٍ انتابه من جلوسه الغير مريح على الطاولة والمقعد الخشبي أمام الحاسوب، فترنح له مسمع دقات خافتة على باب غرفته جعلته يتأمل الوقت من أمامه بدهشة، فهمس بخفوت: مين اللي صاحي لحد دلوقتي!
ورفع صوته الذكوري: ادخل.

تحرر مقبض بابه وولجت للداخل بخطواتٍ بطيئة مترددة، حتى انتهت بوقوفها أمامه، فردد باستغراب وهو يتأمل عينيها المنتفخة من اثر البكاء: مايا!
رفعت يديها المرتشعة تفك عنها مئزرها الأسود، لتظل بقميصها الطويل أمامه، فاندهش مما تفعله ولم يكن بالأحمق ليفسر تلك الاشارة الصريحة بموافقتها بالسماح له بالقرب منها، وأيضًا ليس بالغبي ألا يدرك سبب تورم عينيها بالبكاء ورجفة جسدها.

شعر بنيران تضرم قلبه حينها تصور ما فعله مزحه بها، أكانت تبكي كل تلك الساعات!
هل تسبب بوضعها بتلك الحالة المؤلمة، ما بين اتخاذ قرار كذلك، ليته لم يفكر يمازحها قط!
انحنى عمران يلتقط مئزرها ثم نهض يحتمل بركبة قدمه اليسرى على المقعد، ووضع المئزر حولها ليخفيها تمامًا!

فتحت مايسان عينيها بصدمةٍ مما فعله، فقال بوجعٍ سكن رماديته قبل أن يتجه لنبرته: انا مش بالحقارة دي، وبعتذرلك لو هزاري ضايقك وأجبرك تاخدي الخطوة دي، أنا آسف.
تحررت من كبتها لما تخفيه، فبكت بصوتٍ مسموع جعله يضمها إليه بقوة جعلتها تتمسك به وهي تبتسم بفرحة بأنه فعلها لأجلها.
همس لها عمران بحب وصل مضمونه لها الآن: أنا بحبك يا مايا، صدقيني اللي في دماغك ده مش فارق معايا من الأساس.

وأبعدها عنه لتتمعن بعينيه عساها تلتمس صدق مشاعره: أنا عارف انك ادتيني فرصة تانية ويكفيني آنك مازلتي بتحاولي، مش متضايق من ده أبدًا ومنتظرك لحد ما تكوني جاهزة تتقبليني وتتقبلي حقيقة إني اتغيرت عشانك.

غادر اصفرار وجهها وحل محله سعادة جعلته دمويًا، ابتسم وهو يراقب تبدل حالها بعدما حصلت على السكينة، فقربها منه وطبع قبلة على جبينها وعلى كف يدها المتعلق بقميصه قائلًا: روحي ارتاحي ومتفكريش بأي حاجة غير حاجة واحدة بس.
تابعته باهتمام فقال: إني بحبك ومستحيل هعيد أخطائي تاني يا مايا.
وترك يدها وهو يمنحها نظرة مطولة، ختمها بمزحه: هتروحي تنامي ولا أغير رأيي بشكلك المغري ده!

وتابع وعينيه تتلصص إليها وبنيته المزح: قوليلي يا مايا، هو حد قالك إن الاغراء بيكون بالاشياء المحترمة الطويلة! يعني إديني أمل إني في يوم ما تحني عليا ألقى شيء يتلبس غير ده!
جحظت عينيها صدمة وكادت أن تتحدث ليقاطعها بسخط: وقح، حفظتها دي!
وتابع بفمٍ مقوس: أهو الصيت ولا الغنى!
ضحكت رغمًا عنها فشاركها الضحك هو الأخر، وقال بحنان دافئ: تصبحي على خير.
ابتسمت وهي تجيبه بحب: وإنت من أهله.

وتركته واتجهت للخارج بفرحةٍ كبيرة وكأنها حصلت على الخلاص أخيرًا، فراقبها ببسمة هادئة وعاد يتابع عمله مجددًا.

حديث مايسان عما كانت ستخوضه من محاولة للاعتداء ايقظ بفاطمة كل ما كبت داخلها، ذاك الكابوس الذي هجرها منذ أيامٍ قليلة عاد يهاجم بكل شراسة امتلكها.

ابتل وجهها بعرقها النازف، وجسدها يتحرك بشراسة رافضة الانصياع لعقلها الباطن الذي يسحبها لتلك الدائرة التي ترى ذاتها تواجههم بمفردها، احدهم يقيد حركتها والاخر يمزق ثيابها، بينما ثالثهما كان يضرب رأسها بقوة بالأرض حتى تفقد الوعي ولا تقاوم أحدهم، تاوهت فاطمة بالمٍ وصرخت ببكاء بنومها وهي تردد بصراخ: لأ، ابعدوا عني.
وعادت تصرخ من جديد وحركتها المنفعلة لا تتوقف: محدش يقربلي، ابعدوا!

تسلل صوت صراخها لعلي الذي يقوم بتبديل ملابسه لمنامته السوداء المريحة بعد عودته من غرفة أحمد، ردد بدهشة: فطيمة!
وعلى الفور ركض لغرفتها من الباب الجانبي الفاصل بين الغرفتين، فصعق حينما وجدها تنتفض لمنامتها وتصرخ بكلمات غير مرتبة: لأ، محدش يقرب، لأ. لأ. لأ.
فتح الضوء واندفع تجاهها يحرك وجهها برفق، وصوته يغزو ليحطم أحلامها: فطيمة فووقي، فوقي يا حبيبتي ده كابوس.

وكرر باصرارٍ بعدما جذبها لتجلس: فتحي عيونك، اصحي!
أفاقت من نومها باكية بصراخ يحطم القلوب، فما أن وجدته يجلس قبالتها حتى رددت بانهيارٍ: علي!
حاوط وجهها بحنان وهو يبعد خصلاتها المبتلة بعرقها لخلف اذنيها: أنا جانبك يا فطيمة متخافيش.

ضمت ساقيها إليها والتفت ذراعيها من حولها، فتمنى لو لجئت هي لحضنه بذات الوقت ولكنه يرى حالتها المنتفضة فمن الخطر بهذا الوقت أن يحاوطها أو حتى يلامسها، فظل كما هو، وانحنى يجذب الأدوية من الكيس البلاستيكي، قدمه لها وتناولته هي دون ان جدالًا، باستسلامٍ وخضوع، وظلت تضم ذاتها كالجنين أمام ناظريه.
ساعة، ساعتان قضتهما بجلستها تلك، حتى شعرت بثقل جفنيها، فتمددت على الوسادة باستسلامٍ.

نهض على عن المقعد القريب منها، يجذب الغطاء إليها ويمسد على رأسها بحزن يجعله كالعجز، دقائق اطمئن بهما غفوتها ورحل لغرفته حزينًا، يود البقاء جوارها ولكنه يخشى ان يداهمه النوم فتراه هي صباحًا بغرفتها فيزيد الطين بلة.
جلس على الفراش يتطلع بشرود للفراغ، ليتسلل إليه مجددًا صوتها الباكي يناديه: علي!، علي!
إتجه للغرفة راكضًا فوجدها تجلس على الفراش وقد جفاها النوم، فقالت ببكاءٍ: خليك هنا متمشيش.

تهللت أساريره فرحًا حينما سمحت له بالبقاء، فجلس جوارها على الفراش قائلًا: مش هسيبك أبدًا، نامي يا حبيبتي وارتاحي وبلاش تفكري في اللي فات وعدى.
ارتبكت وهي تراقب جلوسه المجاور لها، وأشارت بيدها على المقعد القريب من الفراش الذي كان يعتليه منذ قليل، فرددت بارتباك من مطلبها: خليك هنا.

أشار لها بتفهمٍ، لم يتضايق أبدًا فهو الوحيد الذي يعلم بحالتها، فنهض على الفور ليجلس محل ما أرادته بالجلوس، فتمددت بنومتها وكلما غفاها النوم تفتح عينيها بهلعٍ تتأكد من وجوده لجوارها على المقعد، تخشى أن يتعب من جلسته الغير مريحة فيعود لغرفته ويتركها، تخشى ان يمل من مراقبتها ولكن كل مرة افاقت كانت تجده لجوارها، وأخر مرة استسلم للنوم جوارها على المقعد، وكأنه يلزمها بعهده القاطع بالحافظ على بقائه لجوارها.

نام بعمقٍ بعد سهره المطول برفقة عمه، وفجأة شعر بدفءٍ يجتاح جسده الذي يشعر بالبرد، ويد تعبث بخصلات شعره بحنانٍ، خشى أن يفتح عينيه فيجده حلمًا يوقظ نفسه منه، وفجأة استمع لصوت خطوات تبتعد لحمام الغرفة، ففتح عينيه لينصدم بأن من منحه الغطاء وضمة خصلاته لم تكن سوى أصابعها. أصابع زوجته، فطيمة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة