قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والتسعون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والتسعون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والتسعون

انتهى من ارتداء ملابسه، وخرج يبحث عنها بأرجاء الشقة، فوجدها بالمطبخ تعد كوبًا من (الهوت شوكليت)، وهي تتجاهل وجوده عن عمد، زفر بسخطٍ ومال على الرخام الفاصل بين المطبخ والردهة، هادرًا بمللٍ: وبعدين؟ أخرة اللي آحنا فيه ده أيه يا دكتورة؟

سددت له نظرة نافرة، وعادت تصنع ما بيدها كأنها لم تستمع له من الأساس، فأضاف بسخريةٍ: كنت فاكر إنك هديتي بعد ما عرفتي السر الخطير اللي كنت مخبيه، فكده معتش في حاجه مخبيها عنك، يعني زعلك ده مالوش أي مبرر.

تركت الكوب على الرخام بقوة كادت أن تهشمه، وصاحت بغضب: وانت اش دخلك فيا، انا حرة نهضر معاك وقت ما بغيت و نجاوبك وقت ما بغيت،
و انت كون قولتيلي على العقدة اللي عندك كانت الامور تتحل و ما نوصلوش لهادشي،
و لكن انت ماديرش هاكا،
ماكاينش غير ليلى مسكينة اللي حنات عليا و ماهانش عليها تخليني معمية!

(إنت مالك بيا أنا حرة أكلمك وقت ما أحب وأرد عليك وقت ما أحب ثم إنك لو كنت قولتلي على العقدة اللي عندك كانت الامور إتحلت وخلصنا، لكن إنت معملتش كده، مفيش غير ليلى اللي شفقت عليا ومهنش عليها تسبني على عمايا! ).

رمش سيف بعدم استيعاب، وصاح: أنا فاهم دماغك وإنتِ عربي، عشان أفهمك بالطلاسم دي، حاولي تسيطري على غضبك وتراعي إن في إنسان قدامك محتاج يفهم اللي بتقوليه كويس، لإنه وارد جدًا يفتكرك بتشتميه بالكردي!
أجابته وهي تعقد يديها أمام صدرها: والله زي ما إتعلمت لغتك تتعلم إنت كمان اللغة المغربية.

ضحك وهو يخبرها: حرام عليكي يا زينب، إنتِ عايزاني أنشغل عنك لكام سنة عشان أجمع الطلاسم دي؟
ردت بوجومٍ: زي ما اتعلمت لغتك!

رد ببسمة هادئة وهو يسحب كوبها يتجرعه بتلذذٍ: يا حبيبتي العربي مش محتاج إنك تتعلميه ده لو إنتِ عاشرتيني يومين كنتِ هتلاقي نفسك بتتكلمي بطلاقة.
سحبت الكوب من يده، واعادته محله، هادرة بانزعاجٍ: مش موضوعنا، وبعدين إيدك متتمدش على حاجة انا عملتها، قوم إعمل لنفسك اللي إنت عايزه، أو شوفلك طباخة مصرية تطبخلك.

وحملت كوبها وإتجهت للردهة، تجذب الريموت لتشاهد التلفاز، بينما يتابعها سيف بضجرٍ، وإتبعها على مضضٍ: أنا نازل، النهاردة كتب كتاب آيوب، ولما أرجع هنبقى نكمل كلامنا ده لو إنتِ طايقه تكلميني أصلًا.
شعرت بأن المزح بينهما قد تخطى حدوده، بل أنقلب لمشاعر ضيق وحزن إلتمستها بنبرته، فنهضت تمنحه الكوب وهي تردد برقةٍ: هستناك طبعًا، وبعدين أيه مش طايقاك دي، أنا لو مش طايقاك كنت خلعتك يا دكتور!

وزع نظراته بينها وبين الكوب الممدود إليه، ثم قال ساخطًا: يا بنتي أنا مش عايز أتعافى عليكِ بردودي، مهو مش أنا اللي أسمع مراتي تقولي أخلعك وأسكت وأعديها مرور الكرام كده، فاتقي شري يا بنت الناس.
وزاد على حديثه: إنتِ من ساعة ما فوقتي لقتيني انا اللي محبوس معاكِ في الأوضة وإنتِ مش طايقة نفسك معرفش ليه، ودلوقتي متضايقة ومقموصة معرفش ليه!

تركت ما بيدها جانبًا وقالت بعصبية: عشان انا معرفش إنت هببت أيه مع ليلى، من ساعة ما رجعت روحتلها أربع مرات ومش راضية تفتحلي حتى الباب ولا ترد على مكالماتي!
ضحك بصوته كله، وسحب منها الكوب يتجرعه بأكمله، واعاده لها فارغًا وهي يهتف بنزق: يا بنتي رعبتيني، وطلع خوفي وقلقي عليكي عشان ليلى!

تطلعت للكوب الفارغ بغيظٍ، وانتقل بصرها إليه بحدة، فقال وهو يقترب منها: طيب عشان خاطر الحزن ميلقش بالعيون الشرسة دي، أنا مستعد أخليها تصالحك وتبقوا زي السمنة على العسل، بس عندي شرط صغنون أوي يا زينبو!
زوت حاجبيها باسترابة: شرط أيه؟

ابتسامة الخبث احتلت معالمه، فمال يهمس لها: اللبس اللي كنتِ لابساه وقت ما حبستيني بره، ترجعي تلبسيه تاني النهاردة، ها موافقة؟
تلون وجهها بحمرة الخجل، وهمست له: إنت مش محترم يا سيف.

تصنع صدمته من حديثها، ورد عليها بهدوء مضحك: لا كله كوم وإنك تشككي في أخلاقي وتربية دكتور يوسف كوم تاني لوحده.
وقبل أن تستوعب حديثه وجدته يلف يده حول رقبتها ويقربها إليه غامزًا بمكر: يا دكتورة لو أنا كنت محترم مع كل البنات مستحيل أكون محترم معاكِ، مينفعش صدقيني هيكون سوء سمعة مش احترام!

وتابع وهو يبتسم لها: ها أقولك على اللي هتعمليه عشان تصالحي دكتورة بقسماط ولا أسحب الاتفاق اللي بينا وأخلع.
منحته نظرة مغتاظة، وصاحت بوجوم: لا قول.

مسحت دموعها عن وجهها، وإتجهت بآليةٍ تامة لحوض الاغتسال، ملأت كفها بالمياه وغسلت وجهها أكثر من مرةٍ، منذ رحيل أخيها بالصباح وهي تحاول الحديث معه، ولكنها في كل مرة تدخل لغرفته يدعي نومه، أو يطالبها بالرحيل لجناحهما الخاص، وهو يجاهد لإيجاد أي حجة مقنعة لها.

حاولت الابتعاد عنه ولكن نصايح أخيها كانت العائق الوحيد أمامها، وها هي الآن تدعي أنها تصنع له العصير حتى تتمكن من الدخول لغرفته والبقاء برفقته قليلًا.

حملت شمس كوب العصير واتجهت للمصعد وهي تحجب آلآمها، كل شيءٍ يهون في سبيله هو، وصلت بعد خطواتها البطيئة لغرفته، طرقت بابها وولجت تبحث عنه، فلم تجده بالداخل، طالها قلقًت مضاعفًا وخرجت تبحث عنه، فلفت إنتباهها الضوء المنبعث من جناحهما.

حملت ما بيدها وإتجهت إليه، فوجدته ينتهي من إرتداء آحدى بذلاته الآنيقة، تركت شمس ما تحمله بيدها، وأسرعت إليه تسأله بدهشةٍ: إنت لابس كده ورايح على فين وإنت بحالتك دي يا آدهم؟!

أغلق باب الخزانة، وتحامل على ذاته مستندًا على الحائط حتى وصل للسراحة، يحاول إلتقاط مصفف الشعر الخاص به، فاتبعته وهي تراقبه بأعين غائرة، جلست شمس على المقعد القريب منه، وهتفت بتعبٍ أجاد التعبير عن معاناتها النفسية: حرام عليك اللي بتعمله فيا يا آدهم، من ساعة ما آيوب نزل وأنا بحاول أتكلم معاك وأعرف مالك، بس إنت مش مديني أي فرصة، مش حابب وجودب معاك وبتحاول تبعدني عنك، ودلوقتي وبالرغم من تحذيرات الدكتور بتلبس ومعرفش نازل على فين!

اخترق صوتها قلبه فألمه بكائها، استدار تجاهها يهتف بثبات: هبعد عنك إزاي وأنا على بعد خطوات منك، إنتِ بتوهمي نفسك يا شمس، وبعدين أنا مش ضعيف لدرجة إني أفضل في سريري اللي باقي من عمري كله.

نهضت تقترب منه بغضب: إنت لسه عامل عملية صعبة من يومين بس!

بقوة زائفة قال: وفيها أيه؟ إحنا لو في مهمة ومتصابين بنكملها للآخر، الوجع اللي عندي ده محتمل بالنسبة للي شوفته وإتعرضت ليه.

أزاحت دموعها بغيظٍ من برود نبرته الغريبة، وتساءلت: طيب سيادتك رايح فين؟

استدار يتحسس المصفف واستكمل ما يفعله وهو يجيب: مينفعش أسيب آيوب في يوم مهم زي ده.

تشعر وكأنها ستصاب بذبحة من بروده بالحديث، اعادت خصلاتها للخلف بعصبية، واتجهت تجاوره بمحل وقوفه، ثم قالت: آدهم عشان خاطري بلاش تعاند وتعالى ريح في السرير، آنت لسه تعبان وجرحك لسه طري، لو أتحركت يمكن يفتح تاني، آيوب أكيد فاهم ومقدر حالتك وآ.

مال بوجهه تجاه صوتها القريب منه، وهدر بانفعال: وأيه كمان يا شمس هانم، كملي.

رمشت بعدم استيعاب وهي تراقبه بدهشةٍ، ماذا حدث لمعشوقها! من ذاك الذي يقف قبالتها! صمتها جعله يستغل الأمر، واستطرد بجمود: سكتي ليه؟ ما تكملي محاضراتك اللي بدأت بدري أوي عن معادها.

وتركها وإتجه للخزانة التي تحوي أحذيته، تحسس بيده حتى سحب منها زوجان من الأحذية، كان يود أن يناديها لتختار له من بينهما، ولكنه قرر الاعتماد على نفسه، فأعاد واحدة للخزانة وسحب زوج الأحذية الذي بيده وإتجه للمقعد القريب منه حتى يرتديه.

راقبت شمس ما يفعله بتوترٍ، وخاصة حينما وجدته يحمل الزوجان من الأحذية، احدهما بالأسود والآخر بالبني، وحينما اعاد زوج منهما أعاد فردتين متنافرتين، وها هو يرتديهما بعدما تبدلت بالآخرى.

إتجهت شمس للخزانة، وسحبت الحذاء البني، وإتجهت إليه تنحني قبالته، وبدون حديث منها، خلعت عنه الحذاء الأسود، فسحب ساقه للخلف متسائلًا بحدة حينما ظن انها تحاول منعه من الخروج: بتعملي أيه؟! أنا مش مجبور أعيد كلامي مرة تانية، هروح يعني هروح سامعة!

انهمرت دمعة منها على وجنتها، أزاحتها ورددت: الجزمة اتبدلت منك، الفردتين مش شبه بعض!

وبارتباكٍ قالت: أنا هساعدك.

سحبت ساقه من جديد، ونزعت عنه الحذاء الأسود ثم ساعدته يرتدي المماثلة للتي يرتديها، بينما هو شاردًا بالفراغ من أمامه.

انتهت شمس مما تفعله ونهضت تشغل ذاتها بترتيب الخزانة والسراحة من خلفه، بينما تخطف النظرات إليه فوجدته مازال يجلس محله والحزن والألم يخيمان على مُقلتيه بشدةٍ، حتى نهض فجأة عن محله، وإتجه للسراحة، يفتح أحد أدراجها ويبحث بداخلها بفضوية جعلته يلقي محتوياته أرضًا، فلم يحتمل درج الخزانة ذاك العنف وسقط أرضًا بمجوهراتها.

صرخت شمس بفزعٍ، وانحنت تجذب الأغراض المندثرة أرضًا، وتساءلت بنبرة حاولت أن تجعلها ثابتة حتى لا تؤثر عليه: الدرج ده فيه مشكلة أصلًا كنت هقولك تشوف حد يعمله، كنت بطلع العقد بتاعي ووقع.

واستطردت بسؤالها: إنت عايز حاجة منه؟

احتقنت نظراته المصوبة أرضًا وقال: لو خايفة على شكلي قدام الناس، متقلقيش الكل بقى عارف أني أعمى فأكيد مش هيعلقوا على جزمتي اللي كل فردة فيها لون، زي ما إنتي مش مضطرة تكدبي وتحطي اللوم على الدرج عشان محسش بعجزي.

اتسعت مُقلتيها بصدمة، ها قد سلك زوجها الطريق الذي حذرها منه أخيها، ولكنها كانت تظن أنها قوية ستتتمكن من ترويضه وأن تخضعه لها ولحبها، ازدردت ريقها وهي تناديه بخفوتٍ: آدهم أنا آ...

قال مبتسمًا ابتسامة لم تصل لظلمة عينيه: متبرريش يا شمس، أنا هقدر أتعامل مع تعبي، وهقدر أتعامل بردو مع فقدان بصري، هحتاج وقت بس مش أكتر.

انحنى يفتح الدرج الذي يليه وسحب احدى نظاراته، ثم إتجه ليغادر، فلحقت به شمس، استمع لصوت خطواتها فقال بحزمٍ: أنا عارف طريقي كويس.

عجزت عن التحرك من محلها، فتوقفت كأنما يقيد قدميها أغلال، ولم تعد تملك ما تفعله لتتحرر، الا الدموع!

نظارته السوداء حجبت دموع عينيه التي تتحرر عن مرقدها، صفار المصعد يعلن وصوله للطابق الآراضي بينما بداخله صراع لن ينتهي، خرج آدهم يتلمس بيديه الطريق من أمامه، حتى وصل لباب الخروج فإذا بإبيه يخرج من غرفته بعدما استعد هو الآخر للذهاب لعقد قران آيوب، فتفاجئ بابنه يخرج وهو بتلك الحالة.

دنى بمقعده إليه وناداه: عمر!، إنت ازاي نازل وإنت في حالتك دي؟

زفر بضيق ومع ذلك سيطر على مشاعر النفور داخله من الحالة المسيطرة عليه ثم قال: بابا أنا كويس، من فضلك مش محتاج أعيد كلامي اللي قولته فوق لشمس ليك مرة تانية، أنا هحضر، كتب كتاب آيوب وهرجع على طول.

وتركه دون أن يستمع كلمة آخرى منه وخرج ينادي: أشرف.

أتى السائق الخاص بوالده يهرول قائلًا: تحت أمرك يا باشا.

استند على ال?ازات الضخمة المتطؤفة على حواف الدرج حتى هبط للاسفل: خدني حارة الشيخ مهران.

كاد السائق بأن يخبره بأنه سيذهب إلى هناك بالفعل برفقة السيد مصطفى، ولكنه تفاجئ به يشير من خلف آدهم الا يتحدث عن الأمر، وأن يطيع أمره، فأسرع بفتح الباب الخلفي وهو يشير له: مع حضرتك طول اليوم لو تحب.

صعد بالخلف وقال بامتنان: شكرًا يا أشرف، تقدر تتحرك.

غادرت السيارة وانعكاس الحزن ينقسم بين مصطفى القابع أمام الباب الداخلي للمنزل، وبين شمس التي تراقبه من أعلى شرفة جناحه الخاصة، تنسكب الدموع من عينيها كالماء المنمهر من الكوب الذي تهشم زجاجه.

سحب مصطفى مقعده وعاد لغرفته مهمومًا، هو أكثر الناس علمًا بشخصية ابنه، لذا إختار الانسحاب بعد تفكير، خلاصته أن بقائه هو الأفضل لولديه معًا!

استلمت زينب الأوردر الذي طلبته بناء على نصيحة زوجها، وخرجت من شقتها تحمل الصينية المغلفة جيدًا بالسلوفان، وهي تهتف بنزق: نصايحك هدرتلي مصروف البيت لشهر قدام، يا ويلك مني يا سيف لو مجتش بفايدة، هسرق فلوسك كلها تأديبًا ليك.

مالت بما تحمله وهي تحاول الوصول لجرس الباب، دقته وانتظرت قليلًا، وما أن استمعت لصوت حذاء ليلى وهي تقترب لترى من الطارق من العين السحرية، حتى أسرعت تقف قبالة الباب، ورفعت الصينية إلى الأعلى وهي تصيح: المرادي أنا مش لوحدي يا لوليتا، ما صدقت سيف ويوسف نزلوا وطلبت لينا حتة أكلة تستاهل بوقك.

لم تجد أي رد منها، ولكن زجاج الباب يعكس ظلها، فأسندت الصينية على الطاولة المجاورة للباب، مالت عنها باقة الزهور التي تزين الفاصل بين الشقق، ثم جذبتها قبالة الباب، وازاحت السلوفان عنها، فبدى الطعام شهيًا لمن لم تصمد طويلًا، بل فتحت الباب وأسرعت للطعام تردد بفرحه: محاشي ورز بسمتلي وممبار وطاجن عكاوي، واوووو دي مكرونة دي صح! طيب الطنجرة دي فيها أيه؟

اجابتها زينب بخبث: ممكن المندي اللي سيف قالي عليه.

ابتلعت ريقها بنهمٍ، وهي تمسد على بطنها المنتفخ، وأشارت لها وهي تسرع بحملها: شيلي معايا وخشي بسرعة بالحلويات دي.

ربعت يديها أمام صدرها بغضب: بقي انا راحة جاية أخبط عليكي وتطلعي تبصي من العين الصفرة اللي زيك دي، وتجري تستخبي ومتطلعيش الا عشان خاطر الاكل!

تركت ليلى الصينينة على الطاولة، وجذبت آحدى أصابع الأرز الملفوف تلتهمه وهي تردد: زوزو اوعي تقولي كده تاني أزعل منك، أنا كنت بتدلع عليكي يا هبلة، لكن إحنا اخوات وملناش الا كروش بعض.

احتبست ضحكتها، وانحنت تحمل برفقتها الصينية، قائلة بحماسٍ: بينا قبل ما الأكل يبرد!

صف علي سيارته خلف سيارة جمال الذي يهبط من سيارته للتو، بينما يميل للجانب، يلكز ذاك الذي يغفو بسلامٍ جواره، فوجده يبعد يده عن ذراعه وهو يهتف بتذمر: بس يا مايا.

ضحك بعدم تصديق، وعاد يكرر لكزته، فحرر تحذيرًا أكيد: لو قومت هتزعلي أوي يا بيبي!

تمادت ضحكات على بشكلٍ أزعج عُمران وجعله يفرج عن رماديته، فعبس باسترابةٍ وهو يتفحص مكان تواجده.

اعتدل بجلسته يفرك جبهته وهو يردد بنومٍ: علي!

ضم شفتيه معًا بشفقةٍ مضحكة: حبيب عيون البيبي كنت متوقع تشوف حتة طرية جنبك، بس للاسف الحظ لابسك في بابا علي.

استدار يرمقه بغضب: بطل استفزازك ده، وبعدين دي سواقة دي! إنت كأنك بتمددني على الشازلونج!

وتابع وهو يخفض المرآة الأمامية، يعيد ترتيب خصلات شعره بحرافية: أنا غلطان إني ركبت معاك أصلًا، بقالك ساعتين على الطريق ده إحنا لو طالعين الحجاز كان زمانا وصلنا!

تابعه بنظرة ثابتة لم تهتز، بل ردد: دي السواقة المنضبطة لدكتور بأخلاقي وبشخصيتي يا وقح، بس هقولك أيه ما أنت بتمشي تسابق الأسفلت زي المرضى النفسيين بالظبط.

واستطرد وهو يمسد على ذراعه: أتمنى تكون عرفت الفرق بين سواقة المجانين والدكاترة المحترمين.

أعاد المرآة للأعلى، وأعاد يسند رأسه للمقعد بإرهاقٍ: أنا مش فايقلك صدقني، ولولا أن آيوب ممكن يزعل كنت هخطف اليوم كله في سريري.

راقب علامات التعب البادية على وجهه بوضوحٍ، وسأله باهتمامٍ: مالك في أيه؟

منحه ابتسامة ساخرة ومال تجاهه يهتف وعينيه تنغلقان: ولا حاجة، مطحون بس بترتيبات المؤتمر الصحفي بكره واللي هيكون بأسيوط، وما بين اللمسات الأخيرة في قصر الغرباوي باشا واللي حاليًا بننقل فيه ومن بكره هيكون جاهز لاستقبال فريدة هانم ودكتورها اللي مبقاش يحس بأخوه المسكين، وضيف عندك البوتيك بتاع إيثان، ومجموعة المشاريع اللي هيكون بداية انطلاقها من أسيوط وسوهاج ومناطق كتيرة جوه الصعيد.

بالرغم من أن حديثه مرح الا أن قلب على إنقبض بشكل غريب، فتغاضى عن حديثه، وسأله: مؤتمر أيه ده اللي بكره؟

أجابه وهو يجذب هاتفه الذي يصيح برقم يوسف: المؤتمر اللي هناقش فيه المشاريع اللي نويت أعملها في مصر.

عاد يستجوبه من جديد وشعوره بالرهبة يتضاعف: واشمعنا المؤتمر يكون في أسيوط؟!

أجابه وهو يبعد رماديته عن الهاتف باستغراب: في أيه يا على مالك؟

صاح بعصبية بالغة: رد عليا يا عُمران!

أجابه بهدوءٍ وهو يقدر قلقه البادي على ملامحه: حبيت يكون في نفس المكان اللي هنعمل فيه المصنع، انا اخترت أسيوط لمشروع الأعلاف ومن بعدها هبدأ بباقي المشاريع بباقي المحافظات، أنا مجرد صاحب فكرة وشركاتي هي اللي هتنفذ المشروع لكن مش أنا اللي هدير، إنت عارف إني معنديش وقت لكل ده، كل مشروع هيتعمل سواء من أعلاف أو أدوية أو غيره داخل معايا فيه رجال أعمال مصريين هما اللي هيديروه.

وأضاف بابتسامة واسعة: المشاريع دي هتشغل ناس كتيرة جدًا وفوق كل ده الوزير بنفسه داعم الفكرة جدًا، لآنها لو اتنفذت صح هتساهم في تقليل استردنا للمنتجات الاجنبية بنسبة 54 في المية متخيل؟

الاضطراب يبدو بوضوح برماديتاه، وكأنه لا يستمع لاخيه، بينما يمضي عُمران بحماس: إنت عارف إننا بنستورد من أمريكا زيوت نباتية بقيمة 400 مليون دولار، وأعلاف بقيمة 500 مليون دولار، ده غير المستلزمات الطبية اللي بتوصل لقيمة 100 مليون، ومعدات سكك حديد 180 مليون، وحاجات كتيرة جدًا يا علي، إحنا نقدر نصنعها هنا ونصدرها بره مصر كمان، انا ابتديت وكلي يقين في الله إننا هننجح، وبدايتي هتكون من مصنع الأعلاف باسيوط، وبعدها هتفذ كل المشاريع واحدة واحدة.

انسحب على من غيمته السوداء، وحرر لسانه المتحجر: عُمران إنت داخل حرب كبيرة، وواقف فيها بطولك في وش ناس مش هترحمك، أنا خايف عليك.

منحه ابتسامة جاذبة، وقال: لو كلنا خوفنا من تهديداتهم وإترجعنا، البلد دي هتفضل زي مهي يا علي، وده اللي هما عايزينه.

تنهد بحزن شديد، وأجابه: أنا مش ضدك، أنا معاك، بس غصب عني خايف عليك ومش مطمن.

ربت على يده، يحاول بث الطمأنينة إليه: متخافش عليا اللي مكتوبلي هشوفه حتى لو كنت محبوس في أوضة تلاتة متر وآ...

تلاشت الكلمات عنه بشكلٍ أرعب على الذي هدر: في أيه؟

مال برأسه تجاه ما يتطلع له أخيه، فاندهش حبنما وجد آدهم يهبط من باب سيارته، تلاقت عينيه المستنكرة بعُمران الذي تمتم بغيظٍ: جوز أختك ده غبي!

رمقه بنظرة تحذيرية، فصاح بضيق: خد مني ومترجعش ورايا، غبي ومتخلف كمان، ده باصابته دي محتاج يتحبس على السرير أربع شهور.

كبت على ضحكة كادت أن تنفلت منه، ماذا لو علم بما حدث له مؤخرًا، هبط عُمران ولحق به علي، اتجهوا معًا تجاه آدهم، ناداه على ومال يهمس له: مكنش لازم تجهد نفسك يا آدهم!

رسم ابتسامة متزنة، وصاح: أنا كويس يا دكتور علي.

وأضاف وهو يحاول التلصص لسماع الاصوات من حوله: أمال فين عُمران؟

اتاه صوته يردد بسخط: كل ما أوحشك لف وراك هتلاقيني، بس مش ده الحوار، حوارنا رايح في سكة تانية بعيدة عن الاشواق والاحضان، حضرتك لابس ومتشيك ونازل تعمل أيه وإنت بالوضع المنيل ده؟!

استدار آدهم تجاه عُمران وقال مبتسمًا: متقلقش عليا أنا فعلًا كويس.

حك ذقنه النابتة وهدر: إنت أدرى بنفسك.

وصاح بمرحٍ: بس لو تعبت مننا شوفلك حد غيري يشيل الليلة، أنا ورايا يوم صعب بكره ومحتاج نوم وراحه، الصبح افتتاح قصر الغرباوي بشريط من رقة إيد فريدة هانم الغرباوي، وبعد الدهر مؤتمر صحفي باسيوط عايز راحة عميقة عشان سواقة الطريق، فلو ناوي على أي نية ريح جنب أخوك جوه وتبقى ريحت واستريحت!

ضحك آدهم ورد عليه بضجر: أيه كل ده! لا متقلقش أنا معنديش نية لأي شيء أكتر من إني أبارك وأرجع.

لف لائحته على ذراعه وقال بمشاكسة: حيث كده بقى إركب لما أوصلك.

وخطى عُمران جواره حتى صعد به للاعلى، بينما يتابعهما على بابتسامة هادئة، لطالما كان ينجح عُمران ببساطته وتعامله المرن باستجابة من حوله، والآن نجح باصطحاب آدهم للاعلى بمساعدة منه دون أن يجرفه للتفكير بعجزه، أخيه شخصًا رائعًا مثلما يراه، ولكنه مازال يحمل تعقيبًا كبيرًا عنه، أنه ينبغي ألا يغضب قط، والا حينها سيخرج منه أبشع ما فيه!

كان الشباب يجتمعون بأكملهم بغرفة ضيافة الشيخ مهران، وعلى يمين باب الغرفة يستقبل آيوب أصدقائه، ويُونس يستقبلهم بترحاب، فهو يعلم بأن آيوب لن يتمم مناسبته دون رفقائه الذين باتوا من ضمن قائمة يُونس الأساسية جوار صديقه الوحيد إيثان.

اتسعت عيني آيوب في دهشة وعدم استيعاب، حينما لمح أخيه يطل من أمامه، مرافقًا عُمران، أسرع إليه يمسك يده وهو يهتف بعدم تصديق: آدهم! معقول!

حافظ على إبتسامته ومد كفه الآخر يربت على يده المتعلقة به، قائلًا: كنت متخيل إني هتخلى عنك في يوم مهم زي ده؟

وأضاف بحزمٍ: لا يا بشمهندس، زي ما شهدت على عقد جوازك في المرة الأولى هشهد عليه للمرة التانية.

تقفزت سعادته من عينيه، فضمه بفرحةٍ ألتمسها آدهم من نبرته: والله كنت بدعي إنك تكون موجود جنبي في يوم زي ده، بس إتنازلت عن إلحاحي بالدعاء لإني عارف إنك تعبان ومش هتقدر.

احتواه بحبٍ أخوي، وهو يجيبه: ولو بموت مش هسيبك تحتاجلي وأنا لسه على وش الدنيا.
وتابع وهو يربت على ظهره بقوة: مبروك يا عريس.

مال عليهما عُمران يخبرهما بسخرية: سيفو عينه بتطلع نار حارقة، إبعد وإتكن عشان متبقاش خرجتك يابن الشيخ مهران.

وسحب آدهم وهو يتجه للداخل، هادرًا بمرح: تعالى نلحق مكان قبل ما يتزحم يابو نسب.

وغادر من أمامه فراقبهما آيوب بنزقٍ، لحق نبرته المغتاظة: طيب سلم عليا طيب!

استدار له عُمران يمنحه نظرة شملته من رأسه لأخمص قدميه، ثم قال ببرودٍ أضحك الشباب من حوله: إنت شاغل نفسك بسلامي ليه، فكر في الحضن الحلال اللي مستنيك بعد كتب الكتاب، ولو سلامي فارقلك أوي كده لما يهفني الشوق هسمحلك تسلم وتحضن غير كده محظور عليك عشان هعلم عليك.

صاح إيثان باعجاب: معلم يا خواجة، إديله في الصميم كده.

أشار له عُمران ساخرًا: إركن جنب العريس يا كابتن، مش ناقصة شماتة هي والعة لوحدها الله يكرمك.

تعالت الضحكات الرجولية بينهم، فقال يوسف: مالك يا عم الوقح داخل سخن على العريس كدليه، ده حتى ماسك في سيف من ساعتها عشان بيحاول يقنعه يطلع يصيف معانا بكره، عايز يجي معاك المؤتمر الصحفي.

تطلع إليه، فوجده ينظر له بغيظٍ، كالطفل الذي يراقب انفعالات والده، منع عُمران ابتسامته من الانبلاج وقال بجدية أسقطت الجميع ضحكًا: فوق رأسي كلامك يا دكتور بس أنا للأسف مبخدش عيال صغيرة معايا على طريق سفر!

احتقنت معالم آيوب وصاح بغضب: إنت داخل شمال فيا ليه يا عُمران، لو زعلان من حاجة إتكلم متقعدش تلقح عليا بالكلام، ما تشوف نسيبك يا آدهم!

خرجت صوت ضحكات آدهم الرجولية بعد صمت، وقال: ده محدش يقدر يشوفه يا حبيبي، ده يشوفني ويشوفك ويشوفنا كلنا، فبلاش تصدرني ليه لإني مش الشخص المناسب اللي ممكن يهديه عنك، شوف على هو اللي هيسلك معاه.

زوى عُمران حاجبيه بسخطٍ: يسلك معاه! ليه شايف سلوكي ملمسة يا حضرة الظابط، لا وأنا اللي بركبك معايا من ساعتها، طيب شوفلك موصلة غيري بقى طالما هتبتدي تأخد صف أخوك من دلوقتي.

ارتفع صوت ضحكات آدهم، وهو يجيبه: لا أنا مرتاح معاك، طريقك ملغم وأنا مبحبش الطرق السهلة، أخدت على الصعب وإنت النوع الشامل لكله.

رد عليه وقد تملكه الضحك رغمًا عنه: طريقي كله مطبات خطرة وإنت متدشمل والواجب فارض دراعاته عليك.

تحرك جمال إليه، جلس جواره يناديه بملامح جادة: عُمران تعالى بره عايزك.

تلاشت عنه ضحكاته، وهو يراقب ملامح وجهه، فمال يهمس له: مالك فيك أيه؟

رد بنفس مستوى صوته: آطلع معايا بره وحالًا.

نهض على الفور يتبعه للشرفة، بينما يتبادل الشباب الحديث المرح حتى وصول المأذون الشرعي والشيخ مهران.

بالغرفة الخاصة بآيوب.

كانت تجلس خديجة وهي ترتدي فستانها الأبيض وخمارها الأبيض الواسع، ومن فوقه نقابها الأبيض، يحفه عقد من الأزهار يتوج رأسها، بينما مازالت سدن تقف أمام المرآة، تعقد حجابها الزهري جيدًا على فستانها الشبيه باللون، الذي ينحدر على جسدها باتساعٍ ساحر.

أشغلت خديجة ذاتها بمساعدة فارس بارتداء بذلته الصغيرة، بينما يرتجف معصميها بعنفٍ، وكلما عاد عقلها يصيغ زوجها منه تُعود كل الهواجس لها من جديدٍ، كأنها حديثة الولادة، وتزورها بالمرة الأولى.

انتهت من تنظيم ملابس فارس، فقال الصغير بفرحة: أنا هخرج أوري بابا وعمو آيوب البدلة.

اكتفت بإيماءة صغيرة منها، ثم عادت لشرودها من جديد، حتى أعادتها سدن متسائلة بقلق: مالك خديجا؟ إنت مالك خايف ليه كده؟

تصنعت ابتسامة واسعة ونهضت تقترب منها: لا مش خايفة، أنا متوترة عادي يعني.

هزت رأسها بتفهمٍ، وقالت على استحياء: وأنا كمان متوتر ومكسوف أوي، إنت عارف خديجا أنا كنت أتمنى أرجع أتجوز آيوب مرة تانية بس وأنا بحبه، وسبحان الله اتحقق أمنيتي من غير تعب مني، وأنا أهو هتجوزيه.

ابتسمت على حديثها، وتمنت لها بصدق: ربنا يسعد قلبك يا سدن، ويخليكم لبعض دايمًا يارب.

رددت بصوتها الرقيق المُتمنى: يا رب.

يعني أيه يا جمال؟
قالها عُمران مستفهمًا منه، فصاح باصرارٍ: يعني زي ما سمعت كده بالظبط رجلي على رجلك، مش هسيبك تروح المؤتمر ده لوحدك.

وضع يديه بجيوب بنطاله وقال بهدوء: طيب ازاي ولازم واحد فينا يكون موجود بكره بالشركة!

أشار بلا مبالاة: أنا هكون معاك يا عُمران ده اللي أعرفه واللي هتعمله.

ابتسم وهو يطالعه بنظرة مشككة: من امته بتكلمني بالنبرة دي يا عبجليم!

أعدل من ياقة قميصه بغرور: لو أنت طاووس، فأنا صاحبك وأكيد شربت منك الصنعه يا آآ. معلم على رأي إيثو.

انفجر عُمران ضاحكًا، وأحاط كتفه وهو يشير له: المأذون وصل، تعالى وبعدين نبقي نشوف حكاية أمك أيه.

ولجوا معًا للداخل، واجتمع الجميع حول الطاولة الخشبية المستديرة، يشاهدون عقد قرآن يُونس وخديجة، حيث كان على ويوسف الشاهدان على هذه الزيجة، بينما خرج الشيخ مهران بالدفتر لخديجة توثق العقد بتوقعها.

حان الوقت وجلس آيوب محل يُونس، حيث كان وكيلها الشيخ مهران، وجلس آدهم وسيف ليكونوا شهداء على العقد، فبعد أن وقعت العروس، سلم المأذون العقد لسيف فوضع توقيعه، ومد العقد لآدهم مشيرًا له بمكان التوقيع غير مدرك كونه كفيف لا يرى.

سحب آدهم القلم وتلك اللحظة كانت ثقيلة عليه للغاية، يحاول أن يتغلب عليها بقدر ما استطاع، ولكنه عاجز عن إيجاد المكان المناسب لوضع توقيعه، فاذا بالمأذون يمازحه برفقٍ دون أن يعلم ما به: ما تشيل نضارتك السودة دي عشان تشوف كويس يابني، متقلقش إحنا بليل ومفيش شمس تأذي عينك.

توترت ملامح الجميع جراء تلك الكلمة، فما كان من إيثان الا أنه مال على المأذون يهمس له، فحلت الشفقة والدهشة ملامحه، وبتلقائية سحب يد آدهم للمكان الصائب قائلًا بحرجٍ: متأخذنيش يابني، وقع هنا.

حرك آدهم يده ليضع توقيعه، وشعوره بالاختناق يتضاعف تدريجيًا، حتى أنه سحب رابطة عنقه يحلها بعنفٍ.

خيم الحزن على الوجوه، وتخلت عنهم الأجواء المرحة تأثرًا به، فازداد حزنه على ما تسبب بفعله بيومٍ هامٍ مثل ذلك.

راقبه الشيخ مهران بشفقة وهمس: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم.

ترقب آدهم لحظة إعلان المأذون اتمام الزيجة، ونهض يتجه للمغادرة على الفور، لحق به آيوب والشباب ولكنه أصر على الرحيل بمفرده، مؤكدًا على وجود سائق برفقته، وحينما أراد عمران أن يهبط خلفه منعه على هاتفًا بصوت منخفض: بلاش يا عُمران سيبه لوحده!

خرج آدهم من عمارة الشيخ مهران يبحث عن السائق الذي أتى إليه بالسيارة مهرولًا، وما أن خرج من الباب وإتجه إليه حتى تفاجئ به يحرر الباب الخلفي بغضب، جعل رأسه يرتد بسقف السيارة، فاحنى السائق رأس آدهم وهو يهتف بذعر: حاسب يا باشا راسك!

تحرر صوته الملتقم عبر، آلامه: أنا كويس، اطلع من هنا بسرعة من فضلك!

ارتاب السائق من أمره ولكنه اضطر أن يطيعه، وصعد للسيارة يغادر به للمنزل، ويختطف النظرات إليه من الحين للآخر، وجهه كان يتفاقمه حرارة مخيفة، يبدو وكأنه غاضب بشكل لا يحتمل.

بينما تعاد لإدهم كل صغيرة تعرض لها، بداية من حادث شمس، نهاية بما حدث الآن، فازداد ظلام عالمه حتى باتت عتمته كالقبو البارد!

بعد مغادرة آدهم بهذة السرعة، جلس الشباب على، الأرائك بحزن شديد، فانقلبت فرحتهم لتعاسة، وخاصة إيثان الذي صعد يصرف الدفوف ويلغي التجهيزات التي صنعها أعلى السطوح للاحتفال بيونس وآيوب الذي تبدل وجهه تأثرًا بحزن أخيه، يراه الإن يجلس مهمومًا وعينيه تدمعان بشدة، بينما يحاول أبيه مواساته، ورده عن اللحاق بأخيه بوقتٍ كذلك.

بات الأمر أكثر حساسية لذا انسحب الشباب تباعًا واحدًا تلو الآخر، ولم يتبقى سوى على وعُمران برفقة يونس وآيوب الذي حاول استكشاف حالة أخيه من علي، بعدما علم بأنه يكن شيء يخص حالة آدهم النفسية.

صعد آدهم لغرفته وهو ينزع جاكيته، يلقي رابطة عنقه أرضًا، يحرر ذاته من أي شيء يعيق أنفاسه الثقيلة، يشعر في تلك اللحظة وكأنه ينازع أسفل مياه عتية، ترفض أن تتركه يلتقط نفسًا ينعشه بالحياة، يود أن يهرب من كل شيء، يود أن يختبئ داخل غرفته.

وما أن لمست يده بابها حتى ولج يغلقه بالقوةٍ، مستندًا بجبينه على جسد الباب، وهو يتنفس بانفعالٍ وحدة جعلته يختنق، يود لو تتحرر عنه دموعه في تلك اللحظة لتهون عنه قليلًا، ولكنها لم تستجيب له، كأنها تآمرت ضده مثلما فعل كل شيء!

آدهم!
تسلل له صوتها الآتي من خلفه، ومن فراشه بالتحديد، توسعت مُقلتيه بحدة مرعبة، لا يصدق عقله أنها خلفه تشاهده وهو في أقصى درجات ضعفه، نصب عوده واستعاد ثباته المطعون بقسوة لم يعهدها، بينما ترنو إليه شمس وهي تراقبه بقلقٍ من حالته الغريبة، وأسرعت بسؤالها المتلهف: إنت كويس؟

استدار يقابلها بهدوءٍ كان مخيفًا: بتعملي أيه هنا؟ المفروض تكوني في جناحك.

قالها وحرر باب الغرفة، دعوة صريحة لرغبته بخروجها من هنا!

ما يفعله منذ الصباح أمرًا يصعب عليها تصديقه، بل يؤلمها حد الموت، أسرعت شمس تغلق الباب بكلتا يديها، واستدارت تواجهه بغضب: لا مش هخرج يا آدهم، لان مكاني الطبيعي جنبك ومعاك، وزي ما قدرت تتحمل وتخرج وإنت بالحالة دي عشان آيوب، أنا كمان ليا حق عليك ومن حقي أحس بوجودك معايا، اللي مبقتش أحس بيه حتى وإنت جنبي، أنا مش فاهمه إنت مالك بالظبط!

إتجه للفراش يجلس عليه ويميل على ساقيه مستندًا بيديه: اطلعي دلوقتي يا شمس، نتكلم بعدين.

رق قلبها له، فاتجهت تنحني قبالته ودموعها لا تتوقف عن الانهمار، بينما تسأله بحزن: طيب على الأقل قولي فيك أيه؟

أبعد يديها عن ركبته وقال: قولتلك أنا كويس، كل اللي عايزه منك إنك تخرجي وتسبيني. بعدين هنتكلم وهقولك عن قراري.

كانت ستغادر لتتركه بمفرده مثلما أراد، ولكن جملته استوقفتها، نهضت شمس عن جلستها الغير مريحة، وجلست جواره على الفراش تسأله بخفوت: قرار أيه؟

شعر بجلوسها جواره، فكز على أسنانه غيظًا من مخالفاتها لحديثه، بل تابع باصرار: روحي نامي دلوقتي يا شمس، أنا مش عايز أشوف حد.

كان من الصعب عليها كليًا أن تقدم على خطوة مثل تلك التي تفكر فيها، حاربت حيائها الشديد منه وطوفت ذقنه بيديها معًا، عساه يتمكن من سماع ما ستقول، وجدت أن الحرب التي أخبرها على عنها قد بدأت وانتهى الأمر، وتلك أخر فرصها للنجاة بقلب معشوقها!

تطلعت له بحبٍ ليته يراه بوضوحٍ، وقالت وهي تستند بجبينها على جبينه: أنا مش أي حد، أنا روحك وقلبك يا آدهم!

أغلق عينيه يستسلم لتلك الموجة العابرة من مشاعره التي دُفنت داخله كليًا، بينما تتابع شمس ودموعها لا تتوقف عن الانسدال: متحاولش تبعدني عنك لإنك مهما تحاول مش هبعد ولا هسيبك، أنا بحبك.

تركت كل شيء جانبًا وتركت عاطفة حبها تعبر له عن مكنوناتها، تحاول فعل أي شيء حتى توقظ مشاعره لها من جديد، فرصتها الاخيرة فيه لن تتنازل عنها مهما حدث، غمرتها السعادة حينما وجدته يبادلها عاطفتها بعشقه الذي ظنته اختفى داخل عتمة عينيه المفقودة، ولكنه فجاة انسحب وهمس لها بتعبٍ: إخرجي يا شمس. أرجوكِ.

مالت على كتفه، تخبره باصرار: لا يا آدهم، مش هسيبك.

قربها منه بتلك الطريقة جعلته يخوض نوعًا آخر من العجز، العجز عن إبعادها، عن الاعتراض، عن إيقاف قرع دفوف قلبه لها، وجودها يخالف خطته النهائية ببعدها عنه، تصعب عليه كل ما رسمه وسعى إليه.

مال على مقدمة الفراش، ومازالت تستند على كتفه، فلفحت رائحة شعرهل أنفه بشكلٍ جعله يسترخي، بل وتطرق الأمر بينهما من جديد، حتى شعر بأن حصونه تسقط واحدًا تلو الآخر، فأبعدها للخلف برفقٍ وهو يهتف: شمس، من فضلك.

أبعدت يده ومالت على كتفه، تحتضنه وتحاول أن تزيح غشاوته عن عشقهما، تصاعدت أنفاسه بشكلٍ هجومي، وبعصبية جذبها عنه من خصلاتها الطويلة، ثم دفعها بقوةٍ صارخًا: شمس!

سقطت شمس عن الفراش من قوته الجسمانية التي تفوقها، استقرت أرضًا وهي تتآوه بألمٍ، لم يُقارن بانكسار روحها بتلك اللحظة، كسر فيها كل شيء جميل خلق لأجله، وبات رمادًا، بل ومن شدة صدمتها بما فعله كانت تطالعه بنظرة مشككة بفعلته، تمر اللحظة بثقلٍ جاسمًا فوق قلبه الضعيف، ومازالت تتطلع له من محلها، بينما يعتدل هو وهو يستدرج فضاحة ما فعله بتلك اللحظة.

زحف لطرف الفراش حتى اقترب منها، يردد بندمٍ وحزن: شمس أنا آسف مقصدتش صدقيني آآ.

ابتلع كلماته حينما انتشلت ذراعها منه، كأنما لمسها عقرب، بل وصرخت بجنونٍ به: متلمسنيش.

زحفت للخلف تضم جسدها وتلتفت من حولها كالضائعة، تحاول التفكير بما يتعين عليها فعله، بينما تعود لتتطلع له بريبة، لا تعلم من ذاك القابع أمامها، انهار جليدها وانسكبت دموعها، محررة شهقات إنكسار أنثى جرحت كرامتها في لحظة، وكأن ما فعلته وما أبدت بفعله كان محاولة منها للتقليل من شأنها.

تلك التي تربت في منزل، يزيد كل فردًا فيه من شأنها، حتى بات رقبتها مرفوعًا بوالدة قوية مثل فريدة هانم الغرباوي، وشقيقًا عظيمًا مثل علي، وأخرهما عُمران من علمها أن تصون كرامتها بدمائها، وها قد فعلها زوجها وأهانها بشكلٍ يُصعب عليها نسيانها ما تبقى من حياتها!

ازدادت شهقاتها تباعًا، حتى ذبحت قلب آدهم الذي يحاول الوصول إليها، مرددًا: حقك عليا أنا بس محتاج أكون لوحدي.

تلاشى صوت بكائها، مما زاد قلق آدهم، فناداها: شمس!

نهضت من محلها وانحنت تحمل مئزرها، ترتديه وتغادر بصمت لجناحها، ارتكن آدهم على الحائط بوجعٍ بعد سماعه صوت باب الجناح يُغلق، يزداد الأمر تعقدًا، وقد وجده المناسب لاتخاذ القرار الذي ظنه مناسبًا.

سحب هاتفه وحرر زر الاتصال، فما أن استمع لصوته حتى قال بجمودٍ: عايزك تجيني دلوقتي، ويا ريت تكون لوحدك.

قالها وأغلق الهاتف ثم ألقاه جواره ومال يستند على الحائط يحرر دموعه في صمتٍ تام!

ارتاب عُمران من مكالمة آدهم الغامضة، فمال لأخيه وقال: على هات مفاتيح العربية، وأنا هكلم حد من حرس عمك يجبلك عربيتي.

قرأ توتره الواضح، وسأله بشك: آدهم اللي كان بيكلمك!

تعجب من سؤاله، ومع ذلك قال: آيوه، معرفش عايزني ليه، هات مفاتيح عربيتك.

ناوله على المفاتيح والقلق يستحوذ عليه كليًا، غادر عمران وجلس على برفقة يونس الذي أصر أن يتحدث معه بأمرٍ خاص، فاستشف أن الأمر يخص فترة علاجه النفسي الذي خاضها برفقته، لذا قرر الجلوس برفقته قليلًا والانسحاب في أقرب فرصة لمنزل آدهم!

وصل عُمران إلى منزل آدهم في زمن قصير، بفعل قيادته المجنونة مثلما يصفها علي، فتح له الخادم وأرشده للأعلى مثلما أخبره سيده.

كان يتجه لجناحهما الخاص، ولكنه تفاجئ حينما أخبره الخادم باحترام: الباشا في أوضته القديمة مش في الجناح يا بشمهندس.

تقوس حاجبيه بدهشةٍ، وجل ما يهاتفه بتلك اللحظة أن آدهم ينفصل عن شقيقته بغرفة منعزلة!

إتبعه حتى وصل لباب الغرفة، فانسحب الخادم وتركه يحاول فك تلك الالغاز التي ظهرت له من العدم، ترك عُمران كل شيئًا جانبًا، وطرق باب الغرفة، وما أن استمع لصوت آدهم ولج للداخل، فوجده يجلس على طرف الفراش بملامح حادة غريبة.

سحب نفسًا طويلًا وقال: غريبة إنك تبعتلي وأنا كنت لسه معاك!
وأضاف ونظراته لا تحيل عنه: والأغرب إني ألقيك في مكان غير جناحك!

إلتحف بصمته قليلًا، ثم هتف: أنا عارف إنك جريء فمش مستغرب من سؤالك ده، عشان كده هجاوبك. أنا حر أقعد بالمكان اللي يريحني وليا الحق في اختيار الاشخاص اللي أحب أكون معاهم، زي ما فضلت أن آيوب اللي يكون معايا هنا مش شمس.

احتقنت معالم عُمران بغضب، فكور قبضته وهو يحاول السيطرة على انفعالاته، ملقيًا كل اللوم لتصرفات آدهم على ما فعله المأذون اليوم، لذا حاول الهدوء وقال: وإحنا كلنا يهمنا راحتك يا آدهم، المهم إنك تكون كويس.

وأضاف سؤاله التالي: قولي بعتلي ليه في وقت زي ده، في حاجة ولا أيه؟

ابتسم وهو يخبره: مستعجل تعرف! متقلقش الخبر هيفرحك.

تهدلت شفتيه بابتسامة جذابة، وقال يشاكسه: متقولش، معقول هتفرحني إني هبقى خال! أنا منتظر أسمع الخبر من على بس تقريبًا هو مأخر الموضوع، فلو هتيجي منكم هيبقى كده في عوض وعوض شمس هانم مش أي عوض بردو.

حافظ آدهم على ثباته، وقال ببسمة ساخرة: مش معقول إنك منتظر ابن مني أنا وشمس وبالسرعة دي! اللي يسمعك ميصدقش إنك كنت ممكن تعمل أي حاجة عشان الجوازة متمش.

اندهش عُمران من حديثه، وقد خاض سياق مريب بينهما، فطالعه بثبات وبرزانة هدر: ما تسيبك من اللف والدوران وتعالى دغري يا حضرة الظابط، وقولي إنت عايز أيه؟

ضم شفتيه مشيرًا له باعجاب: بيعجبني فيك إنك بتفهمها وهي طايرة.

تبسم ساخرًا منه: ليه حد قالك إن ظباط المخابرات هما اللي ربنا اختصهم بالذكاء بس ولا أيه! أنا بقول أقصر عليك الطريق، وتجيبلي الناهية.

هز آدهم رأسه، وقال يجيبه: زي ما سمعت من بداية كلامي، أنا محتاج جنبي الاشخاص اللي أختارهم وللاسف شمس مش منهم.

ربع يديه أمام صدره، وتمتم: أممم. مش منهم ازاي بقى وهي المفروض تكون على رأس أي قائمة حضرتك هتعملها.

رد عليه بفظاظة يعهدها عمران لاول مرة: بالعافية يعني؟

خرج عن هدوئه باجتيازٍ، فصاح بعنفوانٍ: لا واضح أوي إنك مش في واعيك، لما تتكلم عن أختي تتكلم باحترام وتوزن كلامك، والا واللي خلقني وخلقك ما هعمل أي اعتبار لأي صلة بينا، وهنسى أي حالة أنت بتمر فيها بالتوقيت ده، مش هشوف قدامي غير إهانتك ليها بطريقة كلامك، وتانيها وجودك هنا بعيد عنها بينلي المعاملة اللي بتعاملها بيها بدون علمي.

واستطرد وقد جن جنونه لمجرد تخيله ان شقيقته تعاني هنا دون علمه: أقسملك بالله يا آدهم لو طلعت شكوكي صح وآذاك طال أختي لأنهش لحمك حي، حالًا ناديها وخليها تيجي هنا.

إنت بتهددني يا عُمران!

قالها آدهم بغضب شديد، حتى كاد أن يكسر كوب العصير بين يده، بينما مازال الآخر يرمقه بنظراتٍ كالسهام، التي تستهدفه واحدًا تلو الآخر، تاركًا صوت أنفاسه العالية تعلن عن امتناعه الشديد بالاطاحة بعنق غريمه، والآن يختار طريقه بالمواجهة حينما مال إليه يخبره بهدوءٍ مخيف: أنا مبهددش يا حضرة الظابط، أنا بنفذ وقتي، أنا عارف إنت عايز توصل لأيه بالظبط، بس لو فاكر إنك كده هتطلع هيرو وبتضحي، معتقدش إني أهبل وبريالة عشان أصدقك.

ألقى آدهم الكوب من يده، وواجهه بعنف: وأنا عشان كده كلمتك، لإني عارف إنك مش أهبل ولا بريالة زي ما بتقول، فدلوقتي وبمنتهى الهدوء حابب أعرف طلباتكم أيه عشان نخلص من الحوار ده.

كور يده حتى أبيضت من فرط قوته، يحاول آدهم سحبه لبقعة لا يود أن ينجرف إليها، عن أي ماديات وطلبات يتحدث؟، بتلك اللحظة التي سيستعرض فيها أصول عائلته الثرية سيفقد فيها احترامه لنفسه، ليس هو ذاك الشخص المغرور الذي يتباهى بكونه من عائلة الغرباوي المعروفة.

سيطر عُمران على انفعالاته قدر المستطاع وقال بعقلانية فجأت آدهم الذي توقع منه أن يجيبه بفظاظة: مكنتش أعرف إنك ضعيف أوي كده يا آدهم، ممكن تكون فاكر إن محدش هيحس بيك ولا بمعاناتك، وفاكر أنك صح بقرارك الغبي ده، أنا زمان إتحطيت في الاختبار اللي إنت بتمر بيه ده، وقت ما السم قصر عليا وعملي شلل نصفي، وقتها مكنتش عارف هرجع طبيعي ولا لأ، ولا قدرت أرسم شكل لحياتي مع زوجتي بعد اللي أتعرضت ليه، بس اللي أنا فخور بيه في اللحظة اللي بكلمك فيها دي إني مكنتش جبان زيك وسبت إيدها في نص الطريق، أتمسكت بيا قيراط وأنا أتمسكت بيها 24، حاربت عشان هي تستاهل إني أرجع أقف على رجلي من تاني، لكن إنت عملت أيه؟

إلتهمته غيمة من الحزن، جعلته يخفض رأسه أرضًا بينما يستكمل عمران حديثه بغضبٍ: إخترت تتقبل ضعفك وتتخلى عنها، لا وظابط مخابرات معرفش إزاي!

وأضاف وقد عقد عزمه لينهي تلك المهزلة: أنا هعملك اللي إنت عايزه بس أقسم بالله يوم ما تيجي ندمان على اللي عملته ده وتطالب بيها هتلاقيني أول واحد واقف في وشك.

واستطرد وهو يستقيم بوقفته بثقةٍ: إنت ممكن تلف على بكلمتين أو هو ممكن يقبل إنك تلفه بمزاجه، لكن أنا لأ، مش هتقدر تلفني ولا هسمحلك حتى تحاول، هقف في زورك، عشان كده أنا مكروه لأي شخص عقله مش سوي.

وأنهى الحوار هادرًا: أنا خمدت الطوفان اللي كان جوايا لما شوفت أختي راجعالي يوم صباحيتها بالمنظر ده، واللي حشني عنك حبها ليك وخوفها عليك.

أنا اللي لا يمكن أسامح بسهولة في حق أهلي سامحتك وغفرتلك!، لكن المرادي غلطتك ملهاش عندي سماح ولا غفران، خليك هنا في أوضة مقفولة، بطل تشوف حد عشان متحسش بشفقته عليك، بطل تقبل مساعدة حد عشان متحسش بعجزك، آكسر أي شخص يقرب منك عشان تحس آنك بخير وكويس، ووقت ما هتحتاج لحد مش هتلاقي مخلوق جنبك.

وتابع وهو يمضي بخروجه: هيكون معاك وقت تقلب فيه حساباتك، فخليك فاكر أن اللي إنت كنت بتحاول تهينها دي تبقى أخت عُمران سالم الغرباوي!

أغلق الباب من خلفه وهو يصيح بجنون: شمس!

كانت تتمدد على الفراش باهمالٍ، تكبت صوت بكائها بالوسادة قدر ما تمكنت، تتمنى الصراخ بملء ما فيها لتحرر وجعها العميق، ولكنها لا تملك الجرأة لفعلها، تشعر بأنها هاشة للغاية، حتى أنها لن تستطيع تحرير صوتها، لقد نجح بكسرها وتمزيق قلبها، وكأنها بتلك اللحظة أشلاء لأنثى مازالت باقية على قيد الحياة!

تسلل لمسمعها صوت شقيقها، فاستقامت بجلستها تزيح دموعها وهي تردد بدهشةٍ من وجوده بمثل هذا الوقت: عُمران!

نهضت ترتدي مئزرها وتغلقه جيدًا، ثم خرجت من جناحها تبحث عنه، فوجدته يقف قبالتها، وما أن وجدها هرول إليه يتفحص عينيها الباكية بوجومٍ كاد بحرق آدهم حيًا، لم يشفع له الا إصابته وفقدانه للبصر والا لن يوقفه عنه أحدًا اليوم.

ارتعبت شمس من حمرة رماديتاه، وخاصة حينما قال بهدوء مريب: غيري هدومك حالًا ويلا يينا من هنا.

سقط قلبها أرضًا وعينيها تنسحب لباب غرفة آدهم المغلق، تتوسل في صمت آلا يكون قد فعل بها هكذا، أيعقل أن يجرح كرامتها ويستكمل بمهاتفته لاخيها بدلًا من تطيب خاطرها وطلبه للعفو منها، ابتلعت الغصة المؤلمة بحلقها وقالت: أغير هدومي وأجي معاك على فين يا عُمران!

هدر بانفعال شرس: إنتي سمعتي اللي قولته، روحي غيري هدومك وبسرعة، أنا مش طايق اقف في البيت ده أكتر من كده، ولو طولت فيه هخرج منه يا قاتل يا مقتول، سامعاني كويس!

ارتعبت شمس من حديثه وقد تأكدت كافة شكوكها، فحركت رأسها بضعف وعادت لجناحها باكية، تبدل ملابسها لفستان طويل وتهاتف على وهي تراقب الباب الموصود خشية من أن يدلف عُمران للداخل، فما أن أجابها حتى رددت ببكاء: الحقني يا علي، عُمران هنا ومتعصب جداا، مش عارفة آدهم اللي كلمه ولا أيه اللي حصل؟ على أنا مش عارفة أعمل أيه آدهم وجعني أوي ومش متقبل وجودي جنبه بس أنا مش عايزة أبعد عنه وهو في الحالة دي، أرجوك ساعدني أنا مش عارفة أخد أي قرار يا علي.

اتاها صوته من بين دفوف السيارات: متخافيش يا حبيبتي، أنا دقيقتين بالظبط وهكون عندك بإذن الله.

طرق عُمران على باب الجناح الخارجي، فأغلقت هاتفها سريعًا واتجهت تفتح بابها، وقالت لمحاولة كسب الوقت لوصول علي: ثواني يا عُمران بلم حاجتي.

سحب يدها وهو يخبرها: متجبيش حاجة، يلا.

رددت باصرار: دي حاجتي أنا يا عُمران.

أجابها وهو يسحبها برفق: هجيبلك غيرها وأحسن منها بألف مرة، يلا يا شمس.

سحبها حتى الدرج وهي تحاول أن توقفه، او تسترعى انتباهه لما ستقول، فأخبرته بصوت مرتفع: أنا مش عايزة أمشي، سيبني.

تغاضى عما استمع له، فصرخت فيه بصوتٍ بُحت نبرته: سيب إيدي يا عمران، قولتلك مش همشي!

قالتها، وهي تحاول دفعه عنها، بينما الأخير يجبرها على اتباعه للأسفل، توقفا كلاهما بمنتصف الدرج، بعد أن نجحت شمس بانتشال ذراعها من أخيها، استدارت للخلف تتطلع تجاه باب غرفته، ودموعها تنهمر دون توقف، تتمنى أن يخرج، تتمنى أن يواجه أخيه، تتمنى أن يتمسك بها للمرة الاخيرة!

شعر بنغزة أعتلته فور أن رأى محل نظراتها، المصوب تجاه غرفة آدهم الموصودة، بكائها قسم قلبه شطرين وجعله عاجزًا.

صعد عُمران يقابلها بمحل وقوفها، يزيح دموعها بحنان، ويؤكد لها دعمه الكامل لها: ميستاهلش دمعة واحدة منك، هو اللي اتخلى عنك يا شمس مش إنتِ!

هزت رأسها تنفي عنه تهمته، وقالت: مش هسيبه.

زوى حاجبيه ساخرًا: هو اللي سابك يا شمس، وعايزة تتمسكي بيه!
صعدت درجة للأعلى، وهي تردف باصرارٍ: مش هسيبه يا عُمران، حتى لو هو عايزني أمشي مش همشي.

أمسك معصمها بعصبية بالغة، هادرًا بانفعالٍ: أنا مقدر حالته كويس، بس هو اللي نسى آنتِ مين وأخوكِ مين، كلنا بنمر بحروب، كلنا عندنا ابتلاءات، بس لو عملنا زي اللي بيعمله مفيش علاقة هتستمر وهتكمل.

وتابع مشددًا على أوامره: ودلوقتي انزلي معايا على العربية وبهدوء بدل ما أخدك غصب عنك.

عادت تحرك رأسها بجنونٍ، وباصرارٍ تهتف: مش هاجي معاك، أنا مش هخرج من بيتي يا عُمران.

احتقنت رماديته غضبًا، ودفعها برفقٍ عساها تستيقظ: هو إنتِ مسمعتيش اللي قولته! حضرة الظابط المحترم جايبني هنا عشان اجراءات الطلاق، لا وطلع عنده بعد نظر إختارني أنا عن على لانه شايف إني هسعى لده.

وبصراخ متعصب صاح: وده اللي هيحصل فعلا، متخلقش اللي يهين كرامة أخت عُمران سالم الغرباوي وهو لسه على وش الدنيا!

تعالت شهقاتها وبكائها، هي تعلم بأن عُمران لن يسامح في حق كرامتها، بل يكاد يحرق العالم بأكمله إن تطلب الأمر، تخشى إن أصرت ببقائها تزداد الامور سوءًا بينه وبين آدهم الذي أعلن تنازله عنها بمنتهى السهولة.

جلست على الدرج تبكي بانهيار، فانحنى لها عُمران يراقبها بآعين دامعة، يخوض مرحلة جديدة من العجز، ولا يجد ما يفعله ليخفف وجعها، احتواها بين أحضانه وقال بحزن: أنا مبستحملش أشوفك بتعيطي يا شمس، عشان خاطري كفايا، قوليلي طيب أيه المفروض اعمله مع شخص بيهين أختي الوحيدة قدامي، والله أعلم إنتي مخبية عني أيه تاني، عشان خاطري قومي معايا نمشي من هنا، أنا مش مستحمل أشوفك هنا ولو ثانية، عايز أخدك بعيد عن المكان ده وعنه هو شخصيًا.

رفع ذقنها إليه، وقال وهو يتعمق بعينيها: هتيجي معايا، وحالًا.

ونهض يسحبها مجددًا: يلا.

استدار ليجذبها للاسفل، فتفاجئ بعلي يقف قبالته، يوزع نظراته بينه وبين شمس التي تقف على بعد درجات من أخيه، سحب بصره ورفعه لعمران وبهدوءٍ قال: سيب إيدها يا عُمران.

ضم شفتيه السفلى بأسنانه، ورد: على الموضوع بعيد عن المناقشة، طيبة قلبك إركنها على جنب خالص، وياريت نمشي من هنا ونتكلم في بيتنا.

تجاهل ما قال، وبهدوء قال: قولتلك سيب ايدها يا عُمران، مسمعتش اللي قولته!

سحب نفسًا ثقيلًا وتركها ثم هبط يقف قبالة أخيه، وقال: على أنا اتنازلت عشان خاطرها كتير، بس صدقني المرادي مش هقدر اتنازل، لاني لو إتنازلت هكون بتنازل عن كرامتها، الباشا اتصل بيا وجابني وبيقولي شوف طلباتكم أيه عشان ينفصل عنها بهدوء منتظر أيه تاني!

رد عليه على بثبات: آدهم مش في حالته الطبيعية.

تجهمت معالمه بغضب: بطل تشوف كل الناس مرضى نفسيين، آدهم متعمد يهين أختك عشان يوصلها إنها تتقبل قرار الانفصال بارداتها!

وتابع وهو يجذب شمس تجاهه: بص كويس وشوف، عنيها وارمه من العياط وسيادته قاعد في أوضة منعزلة عنها، وبيقولي إنه بيختار الاشخاص اللي محتاجهم جنبه واللي هي مش منهم، محتاج تسمع أيه تاني يا دكتور!

واستكمل باصرار: أنا مش هخرج من هنا غير وهي معايا، لو إتولد اللي يهين حد من عيلتي أنا أقتله بايديا ومخلهوش عايش ثانية!

زفر على بضيق: عمران أنا بأكدلك إن آدهم مش في حالته الطبيعية وبعدين القرار بالخروج من هنا لشمس، سبها تقرر ومتتدخلش! وبعدين إنت بنفسك شوفت اللي حصل في كتب كتاب آيوب.

ترك يدها وصاح بعنفوان: على أنا متدخلتش هو اللي دخلني! ثم إنه من أول مشكلة قابلته ساب إيدها ووصلها للحالة اللي هي فيها دي، ده حتى مداش لنفسه فرصة لما يتعالج ويعمل العملية، استسلم من أول الطريق فقولي آآمن على أختي معاه ازاي ودي تاني فرصة أدهاله بعد عملته اللي بحاول اغفرهاله لحد النهاردة.

وتابع بعصبية بالغة: هو انت فاكر إني ممكن انسى دخلتها عليا تاني يوم جوازها بالمنظر اللي رجعت بيه ده! طيب بلاش البيه المحترم كان أناني في اللحظة اللي فكر يهرب من عجزه ويطلقها مفكرش في شكلها ولاشكلنا لما ينفصل عنها بعد عشر أيام من جوازهم، فازاي متخيل إني هسيبها تختار! لا يا على شمس ملهاش أي اختيار.

وسحب كفها وهو يرغمها على اتباعه: امشي معايا يا شمس.

أوقفه على مجددًا بحزمٍ قاطع: عُمران، إنت اتكلمت وقولت كل اللي عندك وأنا سمعتك، لينا كلام تاني مع بعض، ودلوقتي حالا هتنفذ كلامي وهتسيب شمس تختار اللي عايزاه، والا هعتبر إني معرفتش أربي ابني الوحيد ومش هعاملك غير كأخ له واجب وحق مش أكتر من كده.

جحظت رماديتاه في صدمة، فحرر يده عنها، بينما تنهار هي من شدة البكاء، لم تكن تريد أن تصل الامور بين أشقائها لتلك الدرجة.

دنى منها على يحيط وجنتها بحنان، ماسحًا دموعها، ويسألها بهدوء: محدش هيجبرك على حاجة يا شمس، القرار هيكون ليكِ لوحدك، إنتِ الوحيدة اللي من حقك تقرري، لانك عارفة إذا كان آدهم متعمد يعمل ده ولا لا، عارف انه غلط بس بخروجك من هنا وبالفترة القليلة دي من جوازكم هتكون نهاية لا راجعة فيها لعلاقتكم، قرري وقوليلي، عايزة تعملي أيه؟

سحبت بصرها لعمران الذي يطالعها بصلابة، ومن ثم للدرج ولباب الغرفة بالاخص، ثم عادت لعين على تخبره ببكاء: طيب ممكن تسبني لبكره، عايزة أفكر كويس بس مش عايزة أطلع من هنا يا علي، خليني هنا النهاردة أقرر اللي أنا عايزاه.

هدر فيها عُمران بانفعال: مش هتقعدي هنا ثانية واحدة، قرري حالًا ودلوقتي ولو كان قرارك تفضلي مع شخص هانك بالشكل ده يا شمس اعتبري نفسك خسرتيني أنا، سامعة.

صرخ على بعصبية: . عُمران! متربطش علاقتك بيها بعلاقتها مع آدهم، أوعى تعمل كده أنت فاهم!

سحب بصره عنهما وهو يزفر بغضب، بينما مسد على فوق حجابها وقال: خلاص يا شمس، هسيبك النهاردة وبكره عرفينا بقرارك وأيًا كان قرارك أوعدك إننا هنكون جنبك.

خطفت نظرة مشككة تجاه عُمران، فتنهد وهو يكبت غضبه وقال: عندك شك إني مش هكون معاكِ؟ حتى لو أنا شايف أنك انتي وأخوكِ غلط بس أنا معاكِ دايمًا يا شمس.

قالها وسحب حزنه العميق عليها وغادر، غادر دون ان يسمح لغضبه بالتدفق إليهما، وبخروجه بتلك الطريقة علمت شمس بأنه مستاء منها.

قيدها آدهم بقيود جعلتها هي التي تشعر بالعجز، بينما هون عليها على كل تلك الصعاب وتركها تختار ما تريده.

غادرت سيارة عُمران أولًا ومن خلفه علي، بينما تبقت شمس تنظر لباب غرفة زوجها بأعين قد تورمت من البكاء، خطت كل درجة من الدرج ببطء، وكل درجة تحمل لها بداية روايتها الخاصة التي كانت هي بطلتها، تجسد لها كل مشهد حب جمعهما، كل مشهد حزن وألم وكان هو طبيبها، انتهى الأمر بها بداخل غرفته.

بحثت عنه بصمتٍ وسكون، وحرصًا منها على عدم اصدار أي حركة توحي له بوجودها، وجدته يجلس على المقعد الهزاز المقابل للشرفة، يظن بسماعه لاصوات السيارات بأنها قد غادرت.

اقتربت منه حتى باتت قبالته، فتمكنت من رؤية دموعه المنهمرة، وملامح الألم الخانقة، كادت أن تعنفه بكل قسوة بدأ بها، ولكنها خشيت أنه إن علم بأنها تراه وهو بمثل تلك الحالة يثور مجددًا، فتراجعت للخلف واختارت الحائط من خلفه، ثم جلست أرضًا تستند عليه وهي تضم ركبتها، تراقبه من مسافة قريبة وكف يدها يكبت شهقاتها خشية من أن يستمعها.

رغمًا عنها باتت شهقاتها مسموعة، فانتفض بمقعده يلتفت للخلف وهو يناديها بكل لهفة: شمس!

تمنى سماع صوتها، تمنى ألا يكون يتخيلها، ولكنه متأكد أن عُمران لن يتركها أبدًا هنا بعدما فعله وقاله، تسلل له صوت شهقة مكبوتة مجددًا، فنصب عوده وهو يردد بألم: حبيبتي إنتِ هنا!

ضمت جسدها ودفنت رأسها بين ساقيها، لا تود سماع صوته أو حتى رؤيته، ولكن بذات الوقت لا تريد الابتعاد عنه حتى لجناحها!

تلمس بيده الحائط وهو يتبع صوتها المكبوت، حتى وصل لها، لم يصدق أنها هنا، اتسعت ابتسامة على وجهه الباكي وهو يعود لندائها: شمس!

جذبها إليه بكل قوته بينما تحاول أن تبعده وهي تهتف بصوتها المبحوح: مكالمتك لعمران معناها إنك حطيت نهاية لعلاقتنا، أنا فعلًا مكنش ينفع أستنى هنا أكتر من كده، عُمران معاه حق.

هز رأسه ودموعه لا تتوقف، بينما يردد باختناق: أنا غلطت وكملت في غلطي وأنا عارف أني هندم، وهتوجع، كنت مستعد أتحمل وجعي لإني كنت فاكره أهون من وجع إحساسي بالعجز قدامك، لقيته أبشع ألف مرة.

تراجعت عنه للخلف وهي ترفض دعوته لضمها، فمال تجاهها وهو يستطرد بألمٍ: أنا آسف يا شمس، سامحيني عشان خاطري.

ابتسمت بوجعٍ وأخبرته: أسامحك على أي إهانة يا حضرة الظابط؟ قولي على أي غلطة أسامحك عشان أعرف!

وتابعت، وهي تبكي بانهيار: أنا بسببك أول مرة أجرب يعني أيه كسرة وذل، عرفت يعني أيه ست بتتهان، وكل ده ليه؟!

وانهمرت تلكمه بيديها معًا على صدره وهي تصرخ ببكاء: إنت وعدتني انك هتعوضني عن كل اللي مريت بيه، هو ده عوضك ليا، إنت إزاي تعمل معايا كده، إزاي جالك قلب تكسرني بالشكل ده، قولي أنا ازاي هونت عليك!

بالرغم من وجعه الشديد الا أنه لم يحاول منعها، هو يستحق أكثر من ذلك، بينما تستطرد هي بغصة ألمتها: معقول مش شايفني من الناس اللي بتعزهم، شايفني براهم يا آدهم! أنا أول مرة احس بالندم، أنا من أول ما أقابلتك وأنا حبيتك واختارتك وأنا معرفش حتى حقيقتك، وكنت متقبلاك وإنت مجرد حارس بسيط، فازاي تفكر إن بعد قصة الحب اللي بينا دي كلها إني ممكن أبعد بسبب اصابتك البسيطة دي! قولي بالله عليك فكرت فيها ازاي!

وتابعت وهي تنهض بعيدًا عنه: أنا قولت لعلي إني هبلغه بقراري بكره، أنت كمان هتستنى قراري زيهم بالظبط.

وتركته وإتجهت لجناحهما لتسمح لذاتها بالانهيار، اسند آدهم رأسه على المقعد، ودموعه تنهمر على وجعها الذي كان السبب فيه، لا يعلم كيف فعل ذلك أو ماذا سيفعل، كل ما يعلمه أن علاقتهما تمر بأقسى اختبارًا وضعا فيه.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة