رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس والستون
ضمت صغيرها لصدرها بحمايةٍ فور سماعها لصوته، مالت رأسها جانبًا وهي تتمنى أن لا تلمح وجهه مرة أخرى بحياتها، مجرد سماعها لصوته يجعلها تنفر منه بشكلٍ مخيفًا، فماذا لو لمحته أمامها؟!
ابتلع مرارة العلقم بفمه، بتلك اللحظة فقد خبرته بالحديث، حتى حديثه المرتب بعناية طيلة الطريق تساقط عن لسانه، ما فعله بها أفقده الحق حتى بالاعتذار، ومع ذلك قال بندمٍ إختزله:
أنا عارف إن غلطتي متتغفرش، بس عشان خاطر ابننا اديني فرصة تانية يا صبا.
ضمت صغيرها بقوةٍ ومازالت تتطلع للفراغ، جسدها ينتفض بعنفٍ، يقسم بأنه يستمع لخفقات قلبها من محل جلوسه، استمر جمال بحديثه، فأجلى أحباله الهادرة بصعوبة:.
أنا ظلمتك كتير، والمرادي ظلمي ليكِ ميشفعلوش كلمة إعتذار، بس أقسملك بالله إني قبل ما أوجعك أتوجعت، قبل ما أمد إيدي عليكِ إتمدت عليا ونهشت فيا، صبا أنا مش هبررلك ولا هقولك إني مكنتش في وعيي لإن بالنسبالي مش هتفرق انا بالنهاية غلطت ولازم أتعاق، أنا راضي وقابل منك أي عقاب.
واستطرد ودمعاته قد تحررت على وجهه دون ارادة منه:
لو هيريحك إنك تكسريني فأنا راضي، لو يريحك إنك توجعيني زي ما وجعتك قابلها، بس متبعديش عني يا صبا، اديني فرصة أصلح من نفسي ومن العلاقة اللي كنت السبب إنها وصلت لهنا.
مالت بجسدها للاتجاه الأخر من الفراش، زحفت حتى وصلت للسرير الصغير الموضوع جوارها، تركت الصغير به وداثرته جيدًا وعادت تجلس على أول الفراش موالية ظهرها له.
نهض جمال عن المقعد، ولف حول الفراش متجهًا إليها، انحنى أسفل قدميها يمسك يديها يفركهما بين أصابعه، يقربهما إليه يطبع قبلاته على، أطرافها بندمٍ وحرج من لقاء عينيها.
استطاعت الشعور بملمس دموعه على كفيها، كان يتمسح بها كالقطة الصغيرة، بينما هي جامدة كالصخرة، رفع وجهه إليها يحثها على الحديث:
من حقك تعاقبيني وأنا قابل والله، اعملي فيا كل اللي إنتِ عايزاه.
وابتعد عنها ينزع عنه حزامه الجلدي، فاهتزت للخلف برعبٍ ظنًا من أنه سيبرحها ضربًا، فإذ به يجثو مجددًا ويمنحها حزامه قائلًا بقهرٍ:
خدي حقك مني يا صبا، يمكن وجعي يخف!
ألقت ما وضع بيدها بعيدًا عنها كأنه قطع من زجاجٍ ستجرح كفها، استجمعت قوتها الواهنة وطالعته بنظرة مرت من جسده واخترقت شرفة قلبه المنكسرة، وبلسانٍ ثقيل رددت:
طلقني.
كان يعلم بأنها ستطالبه بذلك، أمسك كفيها وتعمق بمُقلتيها التي تبتعد عن لقائه الغير محبب، وقال:
مش هيحصل يا صبا، أنا ظلمتك فمستحيل هقدر أكمل حياتي وأنا شايل الذنب ده، لازم أكفر عنه وإنتِ في بيتي وعلى عصمتي.
وتابع وهو يتطلع للفراش الصغير بنظرة حنونة:
وفي حضني إنتِ وابني.
سحبت يديها منه ورددت بابتسامةٍ مؤلمة:
ابنك! صحيح هو إنت عملت تحليل DNA ولا لسه؟ أصلي مش فاكرة بصراحة ده ابنك ولا لأ!
ضغط بيديه على مرتبة الفراش من حولها فكادت بالسقوط عن الفراش، لولا احتمالها على مقدمته الخشبية.
هدأت انفعالاته رويدًا رويدًا، فنصب عوده مستكملًا ببحته الهادرة:
يوسف قالي إنه هيقدر يتابعك وانتِ في البيت، هنزل أدفع مصاريف المركز ونرجع بيتنا يا صبا، وهناك هنتكلم ونتعاتب زي ما تحبي.
استندت على حافة الفراش ونهضت تقابله بوجعٍ رسم على ملامح وجهها:
رجوع لبيتك ده تنساه، أنا عمري ما هدخل بيت شخص هني وداس عليا بعزم ما فيه، إنت بدل ما تغطيني عن عيون صحابك عرتني قدامهم يا جمال، خلتني مقدرش أرفع عنيا في عين أي حد.
وببسمةٍ رغم سخريتها طالها ألمًا مقهر:
إنت حتى محطتش اللوم عليا وعليه، إنت لومتني أنا! إنت فضحتني قدامهم وكل ده ليه عشان غلطة صغيرة ارتكبتها بدون ما أقصد!
واستطردت بصراخٍ أنثى احتسبت داخل معتقلًا بعد أن نُسبت إليها أكثر من جريمة ولم يستمع لها القاضي:
العيون بتقارن يا جمال، الأم نفسها لما ابنها بيصاحب شخص مبتبقاش عايزاه يكون أحسن منه ولو قالت غير كده تبقى كدابة!
وببكاء تعالى صداه قالت:
والله العظيم نظرتي ليه كانت إعجاب لأفعاله مش لشخصه، كان نفسي تتعامل معايا زي تعامله مع مراته، ولو مضايقك مقارناتي فانت شوفت بنفسك هو اتعامل معاها ازاي وإنت عاملتني ازاي، وجاي بعد كل ده تقولي نرجع بيتنا، بيت أيه! مهو خلاص اتهد وبايدك!
واتجهت للفراش تستكين بجلستها حينما شعرت بألمٍ حاد يستهدف جرحها الحديث، تشير له:
مش عايزة أشوفك تاني قدامي، وبطل تتكلم عن الولد إنه ابنك لانه مش ابنك وأنا بأكدلك ده.
اقترب منها بعينيه الغارقة بالدموع وقال يستجديها:
أنا مقدر كل اللي هتقوليه وهتعمليه وجاهز لأي حاجه، هنزل أدفع الفلوس وهخرج أشتريلك لبس كويس نرجع بيه بدل لبس المستشفى ده وهعملك كل اللي انتِ عايزاه يا صبا.
وتركها وخرج يخفي دموعه المنهمرة على خديه، راقبت صبا الباب بنظرة قاتمة، وعزيمتها تتضاعف بما تريد فعله.
شملت الصغير بنظرةٍ حزينة ونهضت تتفحص ملابسها، كانت ترتدي ما يشبه المريال معقود من الخلف بعدة أربطة، يصل لنهاية قدميها.
استندت على الحائط تحاول التغلب على ذلك الوجع الذي هاجمها بقوةٍ، حتى وصلت للمرآة، جذبت صبا الجلباب الأسود الخاص بها، كان مازال يحتفظ بدمائها، وخزت ألمًا حينما تفرد إليها ذكريات تتمنى أن لو كان أصاب رأسها بضربة أفقدتها الذاكرة فتنسى ما فعله بها.
ارتدت جلبابها المفتوح فوق مريول المشفى، وعقدت حجابها جيدًا، ثم حملت صغيرها وخرجت بخطاها المتهدجة، تراقب الطرقة الخارجية بتمعنٍ، فما أن وجدت الطريق خالي حتى تسللت للخارج مستخدمة المصعد لعدم قدرتها على هبوط الدرج.
ضمت بطنها وهي تئن بوجعٍ هاجمها مع أول خطوات لها، ولكنها وإن تعرضت للموت لن تتوقف الا بالفرار من هنا، ما تعرضت له على يديه يحتمها على البعد.
توقف المصعد بالطابق الاخير، فخرجت تحمل صغيرها بيد وباليد الاخرى تضم جرح بطنها بألمٍ، تثاقلت خطواتها وتباطئت من فرط وجعها.
ارتكنت على الدرج الخارجي وانهمرت دموعها وهي تردد دون توقف:
يا رب.
مال رأسها على ذراعها المستند على درابزين الدرج الخارجي ودموعها لا تتوقف، فإذا بصوتٍ رجوليًا يقتحم الصمت المغلف من حولها:
مدام صبا!
رفعت رأسها تتأمل الواقف أمامها، فتفاجئت ب يوسف يقف قبالتها، تعجب من رؤيتها بتلك الحالة، فوزع نظراته بينها وبين خط الدماء البارز من ثيابها.
شددت من تمسكها بابنها، وطالعته بنظرةٍ مرتعبة، صعد يوسف الدرج يطالعها بصدمة بعدما تحلل له موقفها، فسألها بريبة:
إنتِ راحة فين بالوقت ده؟
أجابته وهي تستند على الدرابزين وتحاول استكمال طريقها للأسفل:
مالكش دعوة بيا.
لحق بها واقترب على بعدٍ قريب:
مدام صبا إنتِ بتنزفي، من فضلك خليني أشوف جرحك.
ردت عليه بعصبية بالغة:
مالكش دعوة بيا، أنا مستحيل هقعد هنا ولا هراجع معاه تاني، كفايا اللي عمله فيا كفايا!
تفهم حالتها وصدقًا تمتلك كل الحق، هبط من خلفها وحاول ايقافها قائلًا بهدوءٍ:
طيب ممكن تسمعيني، صدقيني أنا ميهمنيش غير مصلحتك إنتِ والولد بس فكري فيها بالعقل، هتخرجي من هنا تروحي فين؟
نجح باستمالتها للحديث، فوقفت محلها تتطلع للفراغ بكسرةٍ وقلة حيلة، هي الآن مغتربة، وحيدة، في بلدٍ غريبًا عنها، لا تمتلك المال ولا حتى جواز سفرها، وفوق كل ذلك تحمل بين يدها طفلًا صغيرًا.
استغل يوسف نقطة ضعفها الظاهرة بمُقلتيها وتابع بمكرٍ:
طيب إنتِ جاهزة تتحملي أي ظرف هتواجهيه بره الولد ده ذنبه أيه؟
قابلت عينيه بدموعٍ الحسرة والقهر، ورددت:
لو هموت أنا وهو أهون ألف مرة إني أرجعله تاني.
هز رأسه متفهمًا، واضاف يطمنها:
وأنا معاكي، جمال غلط ولازم يتعاقب، بس لو تسمحيلي أساعدك عشان خاطر الولد.
زوت حاجبيها باستفهامٍ، فأضاف موضحًا:
دكتورة ليلى كانت قاعدة في شقة صغيرة قبل جوازنا، هخدك إنتِ والولد تعيشوا فيها وأوعدك إني عمري ما هقول لجمال حرف، لحد ما تقرري إنتِ أنه يعرف مكانك.
تمكن منها التعب وصغيرها بدأ ينزعج من برودة الجو، فاقترب يوسف يلتقطه منها وهو يستطرد:
فكري في الولد، هيتبهدل معاكي وهو مالهوش ذنب!
راقبته وهو يحمل الصغير ويداثره بجاكيته الجلدي بحنانٍ، فأخبرته بسخرية شملت ألمها النازف:
مش خايف إنه يفكر إن في حاجة بيني وبينك إنت كمان؟
شعر بما تخفيه داخلها، يبدو أن رفيقه سيعاني عمرًا كاملًا ليحصل على السماح منها:
مدام صبا أنا عارف إن جمال غلطه كبير، بس صدقيني مكنش في وعيه، أنا عايز أساعدك عشان الولد فتأكدي إني في صفك إنتِ مش هو.
وتابع يبعث لها الطمأنينة:
كمان ليلى مش هتسيبك هتكون معاكي على الأقل الفترة دي لحد ما تقومي بالسلامة.
ومال بجسده لليسار، يجذب مقعد متحرك، قربه لها وقال:
ثقي فيا وصدقيني مش هخذلك.
كانت قليلة الحيلة، لا تملك رفاهية الاختيار، وربما ساهم بكاء صغيرها باتخاذها القرار السريع، فمالت بجسدها بتعبٍ وجلست على المقعد.
انحنى يوسف يضع الصغير فوق قدميها، وانجرف بالمقعد للجهة الاخرى من الدرج المخصص لاستخدام مثل تلك المقاعد.
دفعها للاسفل واتجه بها لسيارته، عاونها بالصعود بالمقعد الخلفي وقدم لها الصغير، ثم وقف خارج السيارة يرفع هاتفه، طالبًا أحد الارقام وما أن أتاه الرد حتى قال بغموضٍ:
دكتور علي، عايز منك خدمة!
*******
احتل مقعد مكتبه، يحجب عينيه خلف نظارته السوداء، ومن خلفه يسرع سكرتيره الخاص، فإذا به يخبره دون أي مقدمات:.
بلغ العملاء اللي جيهم من فترة تبع نعمان الغرباوي إننا قبلنا عروضهم، وبسعر أقل من اللي بنشتغل بيه.
برق حسام مندهشًا من تغير رأيه، فتساءل بحيرةٍ:
حضرتك متأكد من قرارك ده؟
بفظاظة أجابه:
لا مستني أخد إذن سعاتك! روح نفذ اللي قولتلك عليه بدون رغي كتير.
تأكد بأنه اليوم خارج هدوئه، فهرول للخارج ينفذ ما طلب منه، فور خروجه نزع عُمران نظارته السوداء ولف بمقعده للجانب المعتم من الشرفةٍ، فإذا بدقات خافتة على باب مكتبه وصوت أنوثي رقيق يتساءل على استحياءٍ:
ممكن أدخل؟
نهض عن مقعده يردد بفرحةٍ مطعمة بعدم تصديق:
شمس!
وإتجه إليها يفتح ذراعيه، فانزوت بينهما وهو يضمها بحبٍ:
أيه المفاجأة الحلوة دي!
اتجهت للمقعد المقابل إليه، تخبره باستياءٍ:
مهو أنا مبقتش عارفة أتلم عليك قولت أجي أشوفك.
نزع جاكيته واتجه للبراد الصغير يجذب زجاجة معلبة من العصير، وعاد يضعها قبالتها قائلًا:
نورتي الدنيا كلها يا حبيبي.
التقطت ما يقدمه وارتشفته بامتنانٍ:
قلبي يا ميرو.
رفع حاجبه بغضب جعلها تعيد تعديل ما تفوهت به:
مش هدلعك تاني بس بلاش البصة دي.
منحها ابتسامة هادئة وقال:
شمس هانم تعمل اللي يعجبها.
أحاطته بنظرةٍ مشككة، وتساءلت:
من أمته ده! إنت كويس يا عُمران.
إتكأ على الأريكة الصغيرة الفاصلة بينهما، وجذب طرف الحجاب الذي تثبته بإبرة صغيرة على كتفها، حرره ليغطي صدرها، متخذًا شكل الخمار، وعاد يثبت الأبرة بطرف فستانها مرددًا بابتسامته الجذابة:
كده أحلى.
تمعن بعينيه الحائرة به وقال:
أنا كويس يا شمسي، إطمني.
ونهض يتجه لمقعده الاساسي، مضيفًا بخبثٍ:
بالمناسبة مش عايزة حاجه من مصر، يعني لو في جواب غرامي لحضرة الظابط موافق أوصله في سبيل الزيارة الجميلة دي.
مالت للأمام تستند على حافة مكتبه، وتساءلت بصدمة:
إنت مسافر مصر!
*******
هو إنت مبتفهمش يالا! بقولك نزل الخلاطات دي من الرف ده مش عجبني منظرهم كده يا أخي أنا حر!
تحرر صراخه بين العمال، فمنذ أن أتى وهو يصيح دون توقف، تزداد انفعالاته إن رأى أحد العمال يجلس دون عملًا.
لف العامل إليه وسأله بارتباكٍ من غضبه الثائر:
شوف كده يا معلم، مسحت كل الريش بتاعت المراوح، مسبتش مروحة غير، لما سنجفتها.
استدار إيثان الغاضب إليه، يحدجه بنظرة صارمة:
أيه معلم دي شايفني واقف في سوق الخضار! ما تظبط يا جدع بدل ما أقل معاك.
ابتلع ريقه الهادر بتوترٍ وقال:
حقك عليا يا كابتن، تؤمر بحاجة تانية؟
أشار لوجهة المحل بضيقٍ:
امسحلي ازاز المحل كله، عايزك تشوف قفاك فيه وبسرعة.
هرول العامل للخارج، بينما وقف إيثان يتابع الجميع بأعين مشتعلة، حتى سقطت على يونس الذي يتابعه من غرفة مكتبه بابتسامة شامتة
وضع إيثان يديه حول خصره وحدجه بنظرةٍ مغتاظة، واستدار يصرخ بالعمال هادرًا:
حاسب يابني على التلاجة هتتتخدش يا طور!
مر آيوب من جواره منصدمًا من سبه للعامل، فابتلع ريقه بتوترٍ وهو يشير لابن عمه هامسًا:
هي الحالة اشتغلت عنده؟
أشار الأخير له بإبهامه مؤكدًا ذلك، كاد أن ينفد بجلده من عرينه الا أنه انتبه له فقال بتهكمٍ:
نعم جاي هنا ليه يابن الشيخ مهران؟! موركش مذكرة ولا أيه!
ارتعب آيوب فور رؤيته لعينيه الحمراء، فجاهد لخروج صوته:
جاي ليونس أشوفه.
زوى شفتيه ساخطًا:
ده مكان أكل عيش مش حضانة هي!
ردد بخوفٍ من حالته الغير طبيعية:
لو مضايقك أطلع أستناه فوق عادي.
رفع يونس صوته ليلفت انتباه آيوب:
تعالى يا آيوب، واقف عندك ليه؟
صوته كان نجاة صريحة له من الوقوع بالشرك، هرع لداخل الغرفة وأوصد النافذة الزجاجية المطلة على إيثان، ثم أسرع للمقعد يتساءل:
أيه اللي مخليه بالشكل ده اتخنقتوا؟!
هز رأسه نافيًا، واجابه ببسمة واسعة وهو يرتشف من كوب قهوته بتلذذ:
اتعلم عليه.
تسللت الدهشة لتعابيره:
من مين؟!
ضحك وهو يخبره:
بنت خالته رفضته وختمت قفاه، وبصراحة اتكيفت أوي وهو راجع معايا بالبوكيه والشوكولاته، أصله كان مالي ايده منها أوي.
وتابع بسخرية مضحكة:
كان مفكر هيلف لفته المنحرفة ويرجع يلاقيها لسه مستنياه وتقوله شوبيك لوبيك! غبي هو طول عمره مفيش جديد يا بوب!
طالعه بنظرةٍ سعادة، كلما رأى الضحكة تصل لشفتيه تحفه الفرحة والسعادة، فمال للمكتب قبالته يسأله بمشاكسةٍ:
وإنت أيه اللي مروق مزاجك كده، اوعى تكون بتلعب بديلك؟
أجابه ومازال هائمًا بكوب قهوته:
حب جديد.
جحظت عين آيوب وصاح:
حب أيه؟ وخديجة؟!
فور نطقه لاسمها احتشد الغضب جيوشه وهاجم الأخير، هادرًا بخشونةٍ:
اسمها ام فارس، متنطقش اسمها على لسانك بدون ألقاب يا بن الشيخ مهران.
وتابع بنفس الابتسامة كأنه يتلبس شخصين بجسده:
وبعدين مين قالك إني واقع في غيرها؟ حرام الواحد يقع في حب طليقته! كان نفسي أقولك مراته بس مش هتركب لإن هيبقى فيها تعابير تانية!
ضحك بصوته الرجولي الجذاب، وقال:
ومالو يا معلم يونس يفرحنا إنك تكون مبسوط وسعيد.
هدأت ابتسامته وتنحنح يقول بتوتر:
ده بفضل الله سبحانه وتعالى وبفضل الدكتور علي، أنا من ساعة ما خديجة دخلت المستشفى وأنا بتواصل معاه يا آيوب، ولولاه مكنتش هقدر أسامحها ولا هديها فرصة تانية، أنا عارف إنك السبب في مجيته هنا وآ..
قاطعه آيوب ليرفع عنه الحرج:
متتكلمش في اللي فات يا يُونس، المهم دلوقتي وبكره، أنا كنت سبب وضعه ربنا سبحانه وتعالى عشان تتعرف على دكتور علي.
ابتسم بمحبة له وما كاد بضمه لصدره حتى انتفضوا معًا على صراخ أحد العمال الذي سقط بين براثين كابتن إيثو كما يلقبه آيوب
******
لم يترك إنش بالمركز الطبي الا وبحث عنها فيه، كاد أن يصيب بالجنون، فلم يجد الا اللجوء لعلي، صعد جمال لمكتب علي الغرباوي، طرق بابه وولج يخبره وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة:
دكتور علي أرجوك ساعدني، مش لاقي صبا!
نزع عنه نظارته الطبية ومنحه نظرة غامضة، ثابتة، وبهدوءٍ مدروس قال:
مش لاقيها ازاي يا جمال؟
تعالت أنفاسه داخل صدره، فحاول تنظيم تنفسه وهو يخبره:
سبتها هنا لحد ما أجبلها هدوم ورجعت ملقتهاش في الاوضة لا هي ولا الولد.
سادت معالمه الحزن وهو يستطرد:
أكيد أخدت ابني وهربت بعد اللي عملته فيها..
ترك علي محله وإتجه إليه يقرب منه المقعد:
طيب اهدي واقعد.
نفى ذلك مشددًا على قوله:
لا أنا عايز من حضرتك خدمة، لو نقدر تشوفلي الكاميرات، لو خرجت من هنا أكيد هتكون سجلت، على الأقل هعرف خرجت ازاي ومع مين او ركبت عربية نمارها أيه، من فضلك ساعدني!
نصب عوده يضع يديه بجيوب زيه الخاص:
هسمحلك بده طبعًا لو هيساعدك، ثواني.
وإتجه لمقعده مجددًا ثم عبث بالحاسوب من أمامه بخبثٍ وجملة يوسف تتردد إليه.
«عايز من حضرتك خدمة يا دكتور علي، الكاميرات جايباني وأنا خارج مع صبا دلوقتي، من فضلك أحذفها بسرعة لإن جمال ذكي وأول حاجة هيدور فيها هي السجل!».
لف الحاسوب إليه يخبره بجدية زائفة:
اتفضل يا جمال، الجهاز كله تحت أمرك.
انحنى تجاه الطاولة يبحث بلهفة عساه يهتدي لأي معلومة تدله عليها، عاد محل جلوسه يردد بحزنٍ:
مش باينه في أي لقطة!
ضم يديه يستند بها على ذقنه، مدعيًا تفكيره العميق:
يمكن خرجت من الباب الخلفي للمركز، مفيش هناك للاسف تغطية بالكاميرات.
تملكه العجز وجعله يبدو أكبر من عمره، فخرج صوته مبحوحًا:
صبا أخدت قرارها ونفذته، جيه دوري أتحمل قسوة العقاب لإني أستحقه!
******
أصر أن يوصلها للأسفل بنفسه، واطمئن أنها صعدت بالسيارة برفقة السائق، انحنى عُمران للنافذة الخلفية للسيارة وقال بابتسامته التي نجحت بأن تخفي وجعه:
متقلقيش يا حبيبتي، أوعدك هدية عيد ميلاد آدهم هتكون موجودة قبل عيد ميلاده، إنتِ لجئتيلي وأنا عمري ما أخذلك.
اتسعت ابتسامة شمس فرحة، فمسدت على يده المسنود على النافذة وقالت بحماسٍ:
كنت واثقة إنك الوحيد اللي هتساعدني، ذوقك وأفكارك في حتة تانية يا ميرو.
اعتصر، شفتيه معًا:
ميرو تاني! امشي يا شمس أنا هتصل حالًا بباريس وهلغي الأوردر!
خرجت من نافذة السيارة تتعلق برقبته:
لا خلاص Sorry مش هدلعك تاني لحد ما تجبلي الهدية.
قبل رأسها ويدها المتعلقة به، قائلًا بمزحٍ:
أنا مش ضد الدلع نهائي، بس مش عارفين نختار اللي يخدم الشخصية اللي قدامنا يبقى بلاش مته يا شمس!
وبمكرٍ أضاف:
أقولك دلعي آدهم، وزيدي في الدلع على قد ما تقدري يمكن ربنا يكرمنا جميعًا ونتلم في محكمة الأسرة.
عبست بعدم فهم لحديثه، فسألته ببلاهةٍ:
هنروح محكمة الأسرة ليه أنا فرحي في قاعة بالقاهرة!
منع ضحكة بالانفلات منه وقال وهو يعيدها لمقعدها برفق:
يلا يا حبيبتي إتاخرتي وشغلتيني عن المكالمات اللي عندي.
جلست محلها تودعه ببسمة هادئة، بينما أشار للسائق بصرامة:
خد الهانم للبيت، وخلي بالك وإنت سايق.
هز السائق رأسه في طاعةٍ وانطلق على الفور، بينما صعد عُمران للأعلى ليستكمل عمله قبل أن يستعد لسفره اليوم.
استكان بمكتبه وابتسامة شامتة تحيط شفتيه، بعدما تلقى فوق السبعة عشر رسالة شكر من العملاء، سحبوا المشاريع وأودعوها إليه، ليدق أول مسمار بنصل نعمان الغرباوي.
صدح صوت السكرتير بالسماعة الجانبية يخبره:
بشمهندس جمال برة وعايز يقابل حضرتك.
تسللت البرودة لأطرافه، عدة مشاعر ضربته في مقتلٍ، لم يعتاد يومًا طرده من بابه، ولكن ما فعله يرغمه على ذلك، فتنحنح ليخرج صوته جامدًا رغم أنه يتخبط من الداخل:
شوف طلبات البشمهندس من عندك، أنا مشغول.
ظنه سيقتنع بما سيخبره به، ولكنه تفاجئ به يقتحم مكتبه، ومن خلفه حسام الذي يهتف بخوف منه:
مينفعش كده يا بشمهندس، قولت لحضرتك الباشا مش فاضي.
رفع عينيه له بصعوبة، وأشار له ليغادر، تقابلت أعينهما لفترة قصيرة، سحبها عنه عُمران وجذب قلمه يدعي انشغاله بتوقيع الاوراق من امامه، وهو يقول بجمودٍ:
لو في حاجة خاصة بشراكتنا تقدر تخلصها مع حسام برة.
تماسك قبالته وقال بصوتٍ منكسر:
شراكة أيه! أنا ميهمنيش غيرك.
وردد بما جعل عُمران مندهشًا:
مكنتش عايز تشوفني يا عُمران؟
قال ومازالت عينيه تتابع الملف بثباتٍ عجيب:
لأ، مش عايز أشوفك يا جمال، ويا ريت تتفضل لو سمحت لإني مش فاضي.
اقترب إليه وكأنه لم يخبره بالخروج، واستند على مقدمة المقعد الأسود، يقول بنبرة وضع بها حزنه كله:
صبا هربت بالولد من المستشفى ومش عارف أوصلها.
رمش بعدم استيعاب لما يستمع له، وقال متناسيًا حزنه:
هربت ازاي! وهتروح فين وهي ملهاش حد!
رفع كتفيه بقلة حيلة:
مش عارف!
ضيق رماديته وهو يحيطه بنظرةٍ ساخرة:
وكنت مستني أيه منها بعد اللي عملته؟
رفع عينيه له، يتمعن بلقائه، متعمدًا التباطئ بحديثه:
آسف.
متنفعش!
نطق بها بعصبية منفعله وأضاف بنفس الحدة:
قولتلك خلصت مش مصدق ليه؟
تحرر غضبه المكبوت وبصراخ هيستري قال:
متقولش خلصت دي! يعني أيه خلصت؟ أنت أخويا مش صاحبي عشان أزعلك تتقمص مني وتقطع علاقتك بيا، طبعًا متقدرش تقول الكلام ده لدكتور علي لإنه أخوك من لحمك ودمك لكن أنا بالنهاية جمال صاحبك مهما تظاهرت قربنا من بعض!
واقترب منه يتمعن بعينيه، يقابله بكل ألمٍ حمله داخله:
هتنهي صداقة السنين دي كلها عشان غلطت! كنت فاكرك هتعاقبني على اللي قولته، هتثور في وشي وتخرج اللي جواك بس أخر حاجة توقعتها إنك تكون جبان وتهرب من مواجهتي بسفرك!
شقت بسمته المتألمة طريقها لثغره، فمال إليه يحدجه بنظرة أشعلها الغضب:
إنت باللي عملته لا حصلت تكون أخويا ولا حتى صديق!، مش فارق معايا إذا كنت وقتها مغيب عن الوعي ولا لأ، اللي فارق معايا وجعي اللي عمره ما هيخف! جمال إنت كشفت عيوبي اللي ربنا سبحانه وتعالى سترها، عايرتني بكل الوحش اللي مريت بيه! وفوق كل ده اتهمتني بالخيانة ومع مين مع مراتك!
وتابع وهو يشير على باب مكتبه:
امشي يا جمال، مراتك أولى بلحظات ندمك مني، روح دور عليها واعتذرلها، متسبهاش غير لما تتقبل وجودك في حياتها، وسبني ألم الجرح اللي كنت السبب فيه.
أدمعت أعينه حزنًا، أنكس رأسه وإتجه ليغادر بعدما خُذل على يديه، فتح الباب وقبل أن يغادر استدار يراقبه، فتهرب عُمران من لقاءٍ مؤلمًا، يفيق داخله آنينًا لا يحتمله.
انهمرت دمعة من عين جمال، وبنبرته المبحوحة قال:
هتتخلى عني يا صاحبي؟
شدد جفونه عنفًا، ساحبًا أطول نفسًا قد يمنحه بعض السكينة، ابتلع عُمران ريقه الجاف وقال وهو يجابه نظراته المنهزمة:
عُمران الغرباوي عمره ما أتخلى عن اللي منه يا جمال!
واستطرد بوجعٍ بدى عليه لمرته الاولى:
إنت اللي اتخليت وبعت كل حاجة.
لف مقعده ليوليه ظهره:
امشي يا جمال، امشي وسبني لحد ما اتعافى من اللي عملته.
واستكمل ورأسه ينحني قليلًا:
من فضلك سبني لوحدي.
جر أذيال خيبته وخرج مهزومًا، فقد كل شيءٍ بلمح البصر، ضغط عمران على زر الهاتف وردد بصوتٍ متحشرج:
حسام احجزلي على أول طيارة نازلة مصر حالًا!