رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن عشر
أحاطه ألمًا مقبض أحتل فقرات ظهره ورقبته من نومته الغير مريحة على هذا المقعد القاسٍ، وبالرغم من ذلك لم يعنيه الأمر في سبيل رؤية تلك الراحة التي تنعم بها ملامحه، والآن حظي بغطاء وضمة كف يدها لخصلات شعره الطويل لخلف رقبته، الأمر كان مرضي لمشاعره المرهفة، فابتسم على وإدعى نومه وهو يراقبها تخرج من الحمام وتتجه لارتداء اسدال صلاتها تؤدي صلاة الصبح بخشوعٍ تام، وحينما انهتها تسللت للأسفل بحذر عدم ايقاظه لتعاون مايسان بطهي الطعام مبكرًا كما اتفقنا مسبقًا.
ولجت المطبخ فوجدتها قد استيقظت بالفعل وبدأت بتحضير الطعام، لتجد الاخرى تلحق بها، فهتفت بعدم تصديق: معقول قومتي بدري كده عشان تساعديني! أنا فكرتك بوق ومستحيل تقومي من 5الصبح.
منحتها فطيمة بسمة رقيقة، وأشمرت عن معصمها تقترب تعاونها وهي تخبرها: أنا وعدتك إني هساعدك ومستحيل أخلف بوعدي.
اتسعت بسمتها وقالت بفرحة تغمرها: والله أنا ربنا بيحبني انه رزقني بسلفة قمر زيك يا فاطيما، أنا كنت هنا بحس بالملل، والأغرب إني كنت لما بحس بالوحدة بضطر أروح مع فريدة هانم الجمعيات بتاعتها، يا أما أروح مع شمس كام مشوار مع صديقاتها الاجانب الا لا يطاقوا بالمرة.
ضحكت وهي تستمع لها باهتمام، وشرعت بجذب الوعاء للنيران قائلة بمزح: مش هتنجبري تروحي تاني مع حد أنا جاتلك أهو وقاعدة متفرغة ال24ساعة.
جذبت المنشفة تزيح المياه عن يديها، وقالت بتسلية: بس أنا عندي تعقيب صغير.
استرعت اهتمامها، وتساءلت: تعقيب أيه؟
أضافت بعملية باحتة: المفروض إني مرات عمران، وهو أصغر من علي، وانتي مرات الاخ الكبير وواجب عليا احترامك صح؟
انتظرت قليلًا تحسب كلماتها جيدًا قبل أن تهز رأسها بخفة بالرغم من عدم فهم حساباتها الغريبة، فقالت الاخيرة بنزقٍ: ازاي بقى وأنا أكبر منك!
أدلت الأخيرة شفتيها بحيرة، فلم تعد تحسن اختيار الرد الصريح الذي ترجوه الاخرى منها، لذا قالت: عامليني زي ما تحبي، أنا في كده جاية معاكي وفي كده جاية بردو!
تشاركان الضحك معًا وضمتها مايا إليها بحب سرى لفاطمة التي تعلقت بها بقوة كالتائه ببلدٍ لا يعلم بها أحدًا وفجأة طلت له روحًا طيبة تطمن قلبه وتخبره بأنها لن تفارقه أبدًا!
خرج على من الغرفة يسند رأسه على كتفه بتعبٍ شديد، فتفاجئ بأحمد يعاون أخيه بدخول المصعد، ولج خلفهما يردد وهو يخشى الالتفات للخلف حيث مكانهما: صباح الخير.
تفرس أحمد بملامحه الغريبة، هاتفًا: صباح النور يا دكتور.
وباستغراب استطرد: أيه اللي شنكلك بالشكل ده؟
ارتبك على وراح يبحث عن أي حجة تحفظ ماء وجهه: لا أنا بس آآ...
تحمل عنه عمران الحرج حينما قال: هتلاقيه خد صف أول على كرسي غير مريح أو كنبة نص عمر، اسالني أنا يا عمي أنا مطقطق وفاهمها وهي طايرة.
كظم غضبه بثبات لا يعلم من أين تحلى به، فتولى أحمد مهام الرد ليهدم جبهته، حيث قال: ما بلاش إنت يا عم الوقح، ده إنت من يوم ما اتجوزت وإنت بطولك في أوضتك والله صعبان عليا وأنا شايفك وحيد وبائس كده! أغيب بالشهور وأرجع على أمل إن نحسك اتفك ألقيك لسه ثابت على توب التعفف.
ضحك على مستهزءً، بينما ردد عمران بسخرية: أنا زاهد والله بس هي فتنة تحل من على حبل المشنقة، أقف على رجلي بس!
ترك أحمد كتفه فكاد بالسقوط أرضًا لولا استناده على كتف على الذي صرخ بوجعٍ وهو يحيط برقبته صارخًا: مش عايز ألمحك النهاردة، إبعد عني أنت سامع!
عاد يبحث عن أحمد مرددًا بخبث: أيه يا عمي هتتخلى عن مساعدتي وأنا كنت ناوي أجوزك مع الواد على بعد بكره.
تلألأت عينيه بقوة، وكأنه صبي لا يتعدى عمره السادسة عشر، فتمسك بجسد عمران الصلب متسائلًا: هتعملها ازاي دي؟
ابتسم وهو يتصنع غروره: لا إزاي دي بتاعتي، سبها عليا وأنا أروشلك الهانم تروشية تدعيلي عليها العمر كله.
واستطرد ساخرًا: مهو مش معقول هقف أتفرج عليك وإنت مبرد نفسك لاخر الشهر، هو العمر فيه كام شهر يا راجل! الحاجات دي عايزة الراجل الحامي، شوف برودك إنت والدكتور النص كم اللي واقف جنبك ده وصلك لفين؟
برق أحمد بعينيه بصدمة لجراءة حوار عمران الوقح، ومع ذلك استطرد بعقلانية يتبارك بها لذاتها: لما مشيت ورا عقلك والواد على هتتجوز وإنت على عتبة الخمسينات يا راجل ولولا تدخلي كنت هتكتب كتابك بس على الحور العين أهو ربنا كان هيعوضك دنيا وأخرة على نزاهتك المبالغ فيها دي!
وأشار لذاته بعنجهية: وشوف بقى لما هتمشي ورا كلامي ونصايحي هوصلك فين.
وأشار ببده بعدما خرجوا من المصعد، فاتبع إصبعه باب الجناح الخاص بغرفة فريدة هانم، ردد على بسخط: نفسي أرميك بنظرة قاتلة بس للأسف مش قادر ألفلك!
وتطلع لأحمد القريب منه يستأذنه: اديله بصة حمرا من بتاعت الشيطان دي يا عمي لما عضم الترياقة بتاعتي يفك!
لم يبخس شيئًا به، فمنحهما معًا نظرة مستحقرة، قبل أن يتجه للخارج بصمتٍ مخيف، جعل عمران يهمس بحيرةٍ وهو يتطلع لعلي المتعصب: اتقمص!
خرجت فطيمة تاركة مايا تصنع المشروبات، فوضعت الدورق الضخم بالبراد وما كادت بالاستقامة بوقفتها بعدما انتهت من وضعه بالرف السفلي حتى شهقت فزعًا ورددت بصعوبة بالحديث: خضتني يا عمران!
طوفها بنظرة جريئة شملتها من الأعلى للأسفل، قبل أن يهمس بصوتٍ رخيم دافئ: سلمت حبيب عيوني وقلبي من الخضة، أيه يا وحش تأثيري عليك قلبك مش قده ولا أيه، إجمد كده!
رفرفت باهدابها بذهولٍ من طريقته تلك، ومع ذلك لم تهتم كثيرًا فهي تعلم بأن زوجها يحتل المرتبة الأولة بالوقاحة العالمية، لذا تحركت تعيد جذب الدورق الأخر لتعيده للبراد والاخر يستند على الحائط المجاور للبراد يراقبها بنظرة لم تكن عادية لها، ومع ذلك تجاهلته الا حينما طل من فوق باب البراد يسألها بصوت مغري: محتاجة مساعدة؟
إشرأبت بعنقها للأعلى لتجده يكاد يسقط باب البراد من فوق رأسها، فاستقامت بوقفتها تجيبه ببرودٌ: لا شكرًا خلصت كل حاجة، اطلع انت ريح برة لحد ما صحابك يوصلوا.
مال تجاهها بجسده يتساءل ببراءة وود: أنا خوفت أتعبك قولت أساعدك بأي حاجة، وعندي خوف تالت تكوني هنا وحيدة من غيري، طب بذمتك ينفع تكوني لوحدك وأنا موجود يا بيبي!
ارتبكت مايسان من طريقته الغامضة بالحديث، وكأنه يتعمد أن يجردها من برودتها التي تخفي من خلفها مشاعرها المتلهفة إليه، فتراجعت حتى قيدت الرخامة السوداء حركتها، فرددت بهمس مرتعش: في أيه يا عمران؟
نقل ذراعه الذي بات يستجيب لحركته نوعًا ما، ليقيد منفذ هروبها الوحيد، وابتسامته المسلية لا تترك شفتيه بينما رماديته تحاربها بكل قوة، وحروفه تخرج بطيئة مغرية لمسمعها: بأمانة كده أنا مش راضي عن وضعنا ده، يرضيكِ أبقى لبانة في بوق عمي وعلي. ها. يرضيكِ يا بيبي؟
ارتبكت عينيها وتهربت من عينيه القريبة منها، فتابع بخبث: الحل إنك تيجي تنوري جناحي اليتيم، ده حتى مساعدة المريض صدقة وأنا مريض جدًا ومحتاج اهتمام منك.
وتابع مشيرًا ليده التي تقترب منها لتحاصرها: حتى شوفي ايدي!
اعتلت معالمها بغضب جعلتها تقذف وابل عصبيتها إليه: قول كده بقى، طيب بص يا حبيبي حكاية عمك وعلى والحوار ده سبق وفتحناه واتقفل، يعني الحوار ده مالوش سكة معايا!
تلاشى غضبها وحل محله الدهشة من ابتسامته الجذابة التي مازالت لم تتركه، بل ملامحه لم تتأثر بتاتًا بما قالت، بل انحنى يهمس لها: الجانب الايجابي إن لسانك نطق إني حبيبك، طب بذمتك في حبيب بيقسى على حبيبه كده يا بيبي؟!
أبعدته عنها وكادت بالفرار، فجذبها لمحلها مجددًا وهو يلتقط نفسًا مطولًا يجعله بملامح تتهييء لشيئًا جاديًا، فانصبت فيروزتها إليه تنتبه لما سيقول، فأتاها صوته الرخيم: بصراحة كده لما جيتيلي أوضتي امبارح واتكلمنا وبتاع اكتشفت حاجة مهمة جدًا يا مايسان.
انتبهت إليه وقد جرى الحديث بجدية جعلتها تترك مزحه الثقيل جانبًا وتسأله: حاجة أيه؟
طرق بيده على الرخامة من خلفها بشكلٍ أفزعها: إني كنت مصلي لسه قيام الليل وربنا منزل على قلبي التقوى.
وانحنى لها مجددًا يغمز لها بوقاحته: أنا بقول عدي عليا النهاردة تاني يمكن شيطاني يكون حاضر ونرتكب معاصي!
استنزف داخلها كل محاولات صبرها، فدفعته بشراسة جعلت الادوات من خلفها تسقط أرضًا، وكادت بالتنحي جانبًا فتعركلت قدميها بزجاجة الزيت من أسفل قدميها، فاندفع ذراعه يضمها إليه هامسًا بسخرية: إسم الله والحارس الله يا بيبي.
اعتدلت بوقفتها ترمقه بازدراء، وصاحت: إنت مالك النهاردة من الصبح بيبي بيبي، حد قالك إني عيلة صغيرة!
ضحك وهذا استفزها، وخاصة حينما قال وهو يجيبها ببرود: إنتِ بنتي أنا ومتزعليش يا ستي بنت قلبي الكبيرة عشان متزعليش
وأخفض نبرة صوته يحطم كبرياء أنثاها المتمردة، ساخرًا من حالهما: ولو كنتِ متعاونه كان ممكن أكون متفائل إن هيكون عندنا بيبي صغير بجد. فلحد ما ده يحصل هفلق دماغك بكلمة بيبي اللي بتعصبك دي يا بيبي.
تهدل كتفيها بحزنٍ ويأسها يتراقص على ملامح وجهها من أمامه، ورددت بهدوء غريب بعد استسلامها لوقاحته ومزحه القاتل الذي لو استمر به لن تنجح بردعه: مش كنا اتفقنا يا عمران وكنت بقيت لطيف بكلامك معايا أيه حصلك فجأة النهاردة؟
ابتسم وهو يراقبها تشكوه لنفسه، وانحنى يهمس لها باغراء: عياري فلت بعد ما شوفتك بالقميص المحترم بتاع امبارح!
وصاح متجهمًا: أنا واحد قاعد في حالي أشوف أكل عيشي، أتفاجئ بحورية داخلة تروضني عن آ،!
كممت فمه بيدها وعينيها تبرقان بصدمة، فاستدارت تبحث عن أحدٍ حولها قبل أن تصيح بانفعال: بسسس إنت أيه! بالع حبيتين جراءة على الصبح!
وبنظرة شاملة تساءلت: عمران إنت رجعت تشرب تاني؟!
هز رأسه ببراءة ومازالت تكمم فمه، فانتفضت فجأة حينما لثم باطن يدها، لتراقبه بذعرٍ بينما يستكمل هو طريق برائته متسائلًا بلهفة: مالك يا حبيبتي؟!
بقيت بتخشبية جسدها تبرق له بصدمة لايجاده تمثيل دوره التقديري لجائزة الأوسكار بالتمثيل، بينما تابع وهو يتفحصه بنظرة قلق: إنتِ تعبانه؟
هزت رأسها نافية ومازالت تتراجع حيث بامكانها الفرار من ذاك المنحرف الخطير، وبينما هي تتراجع قال ببسمة ماكرة: أجبلك كوباية مية تبلعي كلامي السم يا بيبي؟
هزت رأسها نافية، فابتسم بوادعة لطيبتها الغريبة وهدوء وقفتها، فتكرر وابل اسئلته: زعلانه مني؟
هزت رأسها توافقه حزنها منه، فعاد يتساءل بمكرٍ: بتحبيني؟
هزت رأسها موافقة حبها له، فتهللت أساريره وانحنى يطبع قبلة على خدها هامسًا بخبث: وأنا كمان بحبك يا بيبي.
كادت بأن تفر عدساتها من عينيها لفرط فتحهما، وبينما هي تراقبه بصدمة افاقت على حقيقة تبلد جسدها أمامه، فكانت تختبر مصارعة ما يعتري عقلها بتلك اللحظة، عينيها تجوب بالمطبخ وكأنها تبحث عن السكين لطعنه، فعادت تحوم من حولها الا أن اهتدت لشيءٍ أهم تمتلكه، وكان يدها الذي هوت لتمنحه صفعة رقيقة تناهز رقة أصابعها وصراخها العاصف يحيط بأذن ذاك الواقف على عتبة المطبخ يردد بتوسل: مايا اعمليلي قهوة، دماغي من الصداع مش قا...
انقطع حديثه حينما رأها تهوى بصفعة على وجه أخيه وهي تصيح بوجهه بغضب: إنت وقح يا عمران!
وتركت المطبخ بأكمله وغادرت من امامهما، فاقترب منه على بصدمة ليجده يضم خده ببسمة خبيثة وهو يردد بالانجليزية: كان هذا قاسيًا يا رجل!
بينما تمرد لسان الاخير هاتفًا وعينيه تراقب زوجة أخيه التي تفر للخارج بعصبية الشياطين أكملها: إنت عملت أيه يلا!
تحلى بثباتٍ مخادع والتفت لعلي يردد بخشونة اعتلت نبرته: ولا حاجة.
ردد ساخرًا: ولا حاجة! دي إديتك كف خماسي الأبعاد.
اعتلى الضيق ملامحه وهتف بتأثر: آه خدت بالك من القلم، شرسة أوي بنت خالتك دي بس على مين انا حبالي طويلة واتعودت أمشي بالطريق الطري لأخره، فإن شاء الله أجيب أخرها وأتمنى متجبش هي أخري ساعتها مش هيكون في مجال للوقاحة تاني يا دكتور علي!
واستند على الرخام يجبر قدميه الثقيلة على الحركة وهو يتابع: يلا أسيبك تعملنا القهوة بقى، وابقى اعملي سندوتش كده عشان اعمر الطاسة الخربانه دي لاجل ما أفوق لفريدة هانم أرميها بجوازة عمك دي أهو أتسلى عليها قبل ما تتسلى على مراتك الغلبانة.
وتركه منصدم وكاد أن يتخطاه ولكنه عاد يخبره من جديد: آه افتكرت. اوعى تيجي قدام جمال أو يوسف وتشتكي من رقبتك، العيال دي لماحة وعقلها بيرمح ورا الخيل هيفهموا الليلة ووكستك السودة هتتفضح قدامهم.
ورفع يده يشدد على كتفه وكأنه يواسيه: مهما كان انت أخويا وشكلك يهمني.
وتركه وغادر لباب المطبخ الهزاز وصاح قبل أن يختفي من أمامه: ابقى حط مخدة ورا رأسك، خليك ذكي ولماح!
وهز رأسه بسخط ومر يتحدث مع ذاته وصوته يصل لذاك المصعوق من أمر أخيه: محدش في البيت ده بيفكر بعقله، مصممين تفضحوا نفسكم سواء أخويا أو عمي الاتنين معاتيه!
واستطرد بحماس: اصبروا عليا بس، أنا قعدتلكم أهو لا شغلة ولا مشغلة!
اتجهت نظرات على المصدوم تجاه مايسان التي خرجت من الحمام المجاور للمطبخ فور تأكدها من مغادرته فاتجهت لتراقب على الذي مازال يحتضن رقبته باحراج لسماعها حديث عمران الاخير، فتصنعت انشغالها بصنع القهوة بينما ردد هو: ماله ده؟!
استدارت إليه بلهفة، وكأنه لقط الحديث على لسانها: معرفش والله من الصبح مش طبيعي.
وهدأت قليلًا تفكر بحديثه مع على ثم قالت: أنا سمعته بيقول إنه جايب عريس لفريدة هانم؟
هز رأسه يؤكد لها، فتابعت بتفكير: لو قالها دلوقتي هتقوم الحريقة وزمان أصحابه على وصول، إلحقه يا على واقنعه ميقولهاش حاجة الا بعد ما يمشوا.
حاول هز رقبته مجددًا فصرخ ألمًا وصاح: آآآه. منك لله يا عمران.
وإتجه للخارج مضيفًا: اعملي قهوة يا مايا واعمليله يطفح بيقولك محتاج يتغذى قبل ما يشن الحرب!
بغرفة شمس.
لم تتمكن من النوم طيلة الليل تفكر بحديث آدهم المخيف، مازالت جملته عالقة بذهنها، وتحليلها يكمن بتعابيرٍ مقبضة تجعلها تخشى القادم، فإن لم يتمكن من الحصول على ذاك الملف قبل موعد تسليم الشحنة السامة لمصر وقتها ستضيع جهوده هباءًا وما يزيدها قلقًا تعرضه للخطر حينها لإن الشكوك برمتها ستصبح مسلطة عليه بعد ان تم كشف عملتين متتاليتين لراكان ومن خلفه بنفس الفترة التي تولى بها آدهم العمل معهم.
استحضرت حديثه أيضًا عن صعوبة اقتحامه لقصره وغرفته الخاصة بوقته الحالي لإنه لا يريد إثارة أي شكوك تجاهه هو وفؤاد وباقي فريقه بخضم لحظة اعدادهم للشحنة القادمة، فانتفضت عن فراشها تتجه لنافذتها وهي تعقد شالها الرقيق حول بيجامتها الستان الزرقاء لتهمس بخفوت: بس أنا أقدر أدخل قصر راكان بمتتهى السهولة ووقتها آدهم مش هيتأذى!
انتهت فطيمة من تبديل ملابسها المتسخة بفستانٍ رمادي اللون يعلوه حجابًا أسود، فكانت رقيقة بملامح وجهها الهادئ، اتجهت للأسفل فما ان انتهت من الدرج وصولًا للطابق الأول حتى صعقت باتجاه فريدة للهبوط هي الاخرى، كادت بالتراجع للأعلى أوالاتجاه للمصعد، ولكنها توقفت رغمًا عنها حينما عقدت فريدة ذراعيها أمام صدرها وتساءلت بحدة: جوابك موصلنيش يعني؟
ابتلعت ريقها بصعوبة وحاولت أن تتسم بهدوئها، تخشى أن يهاجمها الاغماء أو التشنجات الغريبة، فقطعت فريدة صمتها حينما دنت لتصبح قبالتها تردد وعينيها الزرقاء لا تترك غنيمتها: لو المبلغ قليل ممكن نزوده المهم إننا نوصل لكلام نهائي بالموضوع ده.
أجلت فاطمة صوتها أخيرًا وبالرغم من اختفاء الكلمات من حلقها الا أنها قالت: أنا مش عارفة ليه حضرتك مصممة إني وافقت أتجوز دكتور على علشان فلوسه، أنا مكنتش أعرف حاجة عن عيلته ولا أملاكه.
ورفعت عينيها لها تترجاها بحزن: من فضلك سبيني في حالي، أنا معنديش أستعداد أخوض حرب جديدة زيادة على حروبي، صدقيني أنا بتمنى أن يكون بينا حب واحترام وبحاول من دلوقتي تكون العلاقة بينا كويسة بس حضرتك اللي مش مدياني فرصة.
ضحكت بصوتٍ أثار قلق فاطمة، فراقبتها بتوتر وخاصة حينما رددت بتريثٍ: قولتلك قبل كده إن الأفلام الهندية دي مبتدخلش عليا.
وتابعت بنظرة صارمة مخيفة: خليكي فاكرة إني كلمتك بالحسنى وعرضت عليكي تبعدي عن على وإنتِ كسبانه مبلغ محترم، لإن اللي جايلك فيه خسارة وهتخرجي منه بطولك لا معاكي على ولا فلوسه.
وتركتها مصدومة وهبطت للأسفل، متجهة لأحمد وعمران الذي يقبض كلماته بعد تنبيهات على بذلك، فرددت بازدراء وهي تتابع ابتسامة أحمد المؤكدة على حديث الأمس: مساء الخير.
رفع عمران عينه عن هاتفه يجيبها بابتسامة واسعة: مساء الجمال والورد يا فريدة هانم، أول مرة يعني تنزلي من فوق الساعة واحدة الظهر، خير؟
ارتبكت نظراتها الموجهة لأحمد المبتسم بانتصار لرؤية النوم يفارق عينيها لتأثر حديثهما، فقالت بتوتر: آآ، أنا، آآ.
اهتدى عقلها كونها الهانم هنا وهو الابن لذا قلبت الآية حينما صرخت باندفاع: هو انت بتسألني بأي حق! ثم إنك يهمك في أيه أقوم بدري ولا متأخر ما أنت مظبط عزومتك ومرتب كل حاجة بدون ما ترجعلي أو حتى تأخد رأيي!
إلتهم عمران الشطائر التي أعدتها له زوجته بنهمٍ، وقال وهو يلوكها بتلذذ: محبتش أزعجك معانا بالأكل الدسم اللي هيتعمل ده أنا حتى خصصت الشيف يعملك Healthy food (أكل صحي) عشان وزنك الرشيق ده اللي عيشتي تحافظي عليه لابن الحلال اللي يستاهلك والحمد لله لقيته واتقدملك وأنا وفقت.
طرق على بيديه فوق رأسه بصدمة مما يتفوه به أخيه، بينما حدجته فريدة بغضب ثائر: إنت بتقول أيه!
هز رأسه موكدًا على ما يقول: بقول جايلك عريس لقطة ميترفضش.
احتدت نظراتها وكادت بقتله، فأسرع على بالتدخل قائلًا وهو يغتصب ابتسامة زائفة: متخديش على كلامه يا فريدة هانم، هو شكله كده السم اللي شربه عامل معاه مفعول.
هز رأسه رافضًا لحديث أخيه وتابع مشيرًا على أحمد الذي يتابع ما يحدث بابتسامة هادئة: مش صحيح أنا بعقلي، حتى إسالي أنكل أحمد سالم الغرباوي لقيتله حتة عروسة طلقة روسية هنروح بعد الغدا نطلبهاله مع إنه مصمم إنه هيتجوز واحدة تانية أخر الشهر بس أنا عايز أكافئه الراجل زاهد في جنس الستات وصبره يستحق المكافآة، يدلع نفسه بالاتنين دول ولو عايز يتجوز أربعة معنديش مانع، إنت عندك مانع يا أحمد يا ابني؟
هز أحمد رأسه نافيًا متبعًا نفس طريق عمران بالاعتراض والموافقة، فاتخذت فريدة عينيها مدفعًا يتقمصه فأشار بكتفيه ببراءة وهو يدلي بشفتيه وكأنه مغصوب على تلك الزيجة وحديث ذاك العمران الأبله!
لأول مرة يعجز لسان فريدة هانم عن الحديث، وزعت نظراتها بينهما بحيرة وجدها أحمد كسطوح الشمس، وقد كان مندهشًا لاستجابتها لطريقة عمران الغبية ولكن عليه الاعتراف هذا الوقح يجيد التعامل مع صنف النساء وكأنه كان الزير المجنح للعائلة على مر العهود!
تحررت عن صمتها ذاك حينما صاحت بعصبية: عريس أيه وعروسة أيه، عمران بطل إسلوبك المستفز ده وإتكلم عدل والا مش هيحصلك طيب.
كاد بأن يتحدث فقاطعه الخادم الذي أتى يخبرهم: لقد وصل السيد يوسف والسيد جمال سيدي.
أشار له بعصبية وهو يعتدل بجلسته: أيها الأبله هل تأتي لتخبرني وتتركهم بالخارج.
عاد الخادم يرحب بضيوف عمران بالداخل، فقابلتهم فريدة ببسمة صافية بالنهاية يوسف وجمال من الشخصيات التي تجبر من أمامها الانحناء وقارًا لهم.
أشار أحمد لهم بترحاب: يا أهلًا وسهلًا بالغاليين، اتفضلوا.
ولج يوسف برفقة زوجته وجمال يلتقط يد صبا التي تخطو للداخل بارهاق يوجهها منذ الصباح حتى أنها كانت ترفض الحضور ولكن جمال أصر عليها، انسحبت فريدة للخارج تاركة له مساحة الجلوس برفقتهم واتبعها أحمد دون ان يلاحظهما أحدٌ.
هبطت مايسان للأسفل ترتدي فستان من اللون السماوي وحجابًا أبيض جعل وجهها ينير كالبدر، فولجت للداخل تردد على استحياء: السلام عليكم.
اجابوها جميعًا بصدر رحب، وقد افتقدوا لتلك التحية الاسلامية التي باتت مهجورة بتلك البلاد، فاقتربت من ليلى وصبا قائلة بحبور: كان نفسي اتعرف عليكم من زمان وأخيرًا جت الفرصة.
ضمتها ليلى بحبٍ، قائلة: سبق وقابلتك بس كان وقتها كنتِ مشغولة مع البشمهندس، ربنا يكمل شفاه على خير.
آمنت على حديثها واقتربت من صبا تتبادل الاحضان معها، قائلة بلباقة: أيه الجمال ده كله، ما شاء الله إسم على مسمى يا صبا.
ضرم وجهها حمرة الخجل، وبادلتها ببسمة رقيقة: انتِ اللي زي القمر اللهم بارك.
أتاهم صوت مشاكس يؤكد لهم: القمر لما بيشوفها بيقوم ويشاورلها تقعد مكانه.
ضحك جمال يشاكسه: ما تفكك من جو سي كاظم ده وقوم استعجلنا الأكل لحسن أنا جاي واقع.
لكزه عمران بغضب: إنت جاي من بيتك طفس يا جدع، ما تهدأ علينا شوية.
ضحك يوسف عليهما واستشهد بعلي: عجبك كده يا دكتور علي، اخوك بيتوقح علينا من أولها يرضيك.
حاول جاهدًا أن يلتف إليه، فعاد يتطلع أمامه وهو يعتصر شفتيه ألمًا قائلًا: فكك منه يا دكتور يوسف وتعالى نلعب طاولة زي زمان.
ضيق عينيه بدهشة، وسأله بدهشة: مال رقبتك يا علي؟
كاد بأن يبحث عن حجة قوية تحجبه عن ذكاء طيبيًا قد يكشف جميع حججه، فتنهد عمران قائلًا بحزن جعل الجميع يتأثر به: أخويا مفيش أطيب من قلبه، شافني نايم طول الليل تعبان رايح جاي على السرير بنازع جاب كرسي ونام جنبي من كتر خوفه عليا لأقع من السرير وينكسر ضلعي اللمين هو كمان.
هزت الفتيات رؤؤسهم بحزن، بينما كبت جمال ويوسف ضحكاتهما مما جعل على يكز على أسنانه هادرًا: اصبر عليا، وربي لأعيد تربيتك من أول وجديد.
أشار بصدمة وهو يهمس له بصوتٍ مسموع للرجال: عملت أيه بنقذ رجولتك المهدورة يا غبي!
صعد يوسف من بينهما فقد كان يجلس بمنتصف الاريكة بينهما: البنات قاعدين بلاش فضايح!
انتبه على إلى ليلى التي سألته بابتسامة هادئة: أمال فين مراتك يا دكتور علي؟
حين تذكرها بحث بالردهة بحثًا عنها، فتابعت ليلى بمزح: هتخبيها عننا ليوم الحفلة ولا أيه؟
رد عليها بابتسامة صغيرة: لا أبدًا، كانت هنا من شوية.
ورفع صوته عاليًا: فاطيما.
سمعت لصوته المنادي، ففركت يدها بتوتر، كانت تظن بأن الامر لا يخصها فستكتفي بجلوسها بالمطبخ تعاون مايا بتسخين الطعام ففاجئها على بنادئه.
خرجت تتجه للصالون وهي تجاهد لتهدئة انفعالاتها ورسم ابتسامة صغيرة، فما أن رآها على تقترب حتى نهض ليتبع خطواتها البطيئة ليعرفها بمن أمامها قائلًا: ده البشمهندس جمال وده دكتور يوسف أصحابي أنا وعمران يا فاطيما.
ارتبكت للغاية بالبقاء بمكان يحوي ثلاث من الشباب لا تعرف الا عمران من بينهم، فتبلدت بوقفتها ورغمًا عنها تشبثت بجاكيت على بشكل جعل يوسف يتابعها بنظرة دقيقة قادرة على تحليل حالتها باجتيازٍ وادهشه الأمر حقًا، أيعقل أن يرتبط على بفتاة على ما بدى له تحمل مرضًا نفسيًا ظاهرًا على ارتباكها وضم أصابعها بطريقة يعلمها جيدًا كطبيب.
مد جمال يده لها بابتسامة هادئة: أهلًا مدام فاطيما، وألف مبروك مقدمًا.
راقبت يده الممدودة برجفة سرت بجسدها، وعينيها معلقة على كفه الممدود بحرجٍ، فأسرع على برد الحرج عنها وعن جمال حينما صافحه وهو يضيف مازحًا: فاطيما متدينة شوية، لكن انا منحرف وبسلم عادي.
تعالت الضحكات فيما بينهم على عكس تعابير يوسف الجامدة، فخطى بها على تجاه الفتيات ليشير لمايا بتحمل هي أمر تعارفها بهم، وقال بلباقة لمعرفته بأنها لن ترتاح بالجلوس هنا: مايا خدي فاطيما ودكتورة ليلى ومدام صبا الحديقة الخارجية المنظر من هناك هيعجبهم جدًا.
تفهمت اشارته ونهضت على الفور: أيوه المنظر من هناك تحفة وهنكون على راحتنا أكتر. اتفضلوا.
وبالفعل انسحبوا معًا للطاولة الخارجية، فبدأت فاطمة بالتعرف على ليلى وصبا وكذلك فعلت مايا ولكنها لازمت صبا لتستدرجها لأمر العمل بالشركة.
ضحكت ليلى وهي تتابع صبا التي قالت بمزح: يا ريتني مشيت ورا جمال من زمان وعرفت إن ليه أصحاب علشان نتجمع التجمع اللطيف ده وأتعرف عليكم، أنا من وقت ما جيت هنا وأنا لوحدي.
ردت عليها مايسان بتهكمٍ: ما أنا أهو بشتغل بالشركة مع عمران وحاسة إني لوحدي بردو كل اللي حوليا هناك أجانب ومفيش غير كام موظف مصريين بس رجالة مفيش بنات، عشان كده أنا مش هتنازل عنك يا صبا، هخلي عمران يكلم البشمهندس جمال وتنزلي تشتغلي معايا أنا محتاجة لواحدة بمؤهلك ده جدًا.
ابتهجت معالم وجهها الأبيض، ورددت بعدم تصديق: بجد يا مايسان، يا ريت والله نفسي أخرج من البيت وأخد على البلد هنا.
وتلاشت ابتسامتها وهي تقول عابثة: بس أعتقد إنه مش هيوافق لإني حامل.
ردت عليها ليلى ببسمة رقيقة: وفيها أيه يا صبا هو إنتِ راحة تهدي حجارة، أنتِ هيكونلك مكتب وشغلك كله حسابات يعني راحة جدًا ومش خطر عليكي.
تحمست مجددًا وقالت لمايسان: خلاص يا مايا قوليله يكلمه ويا رب يوافق.
هزت رأسها بتأكيد، فقطعت ليلى الصمت حينما وجهت حديثها لتلك الصامتة منذ لحظة جلوسهم: وإنتِ يا فاطمة مؤهلك أيه وبتشتغلي ولا لأ؟
رفعت عينيها إليهم بحرجٍ لمسته مايسان فكادت بالتدخل نيابة عنها ولكنها وجدتها تبلغها: أنا مقدرتش أكمل تعليمي، يعني كنت مخطوبة قبل كده وكنت بحب خطيبي فمدخلتش الجامعة وأكتفيت باللي وصلتله عشان أكون معاه.
وبامتعاض استرسلت: بس محصلش نصيب، نصيبي كان هنا مع دكتور علي.
ابتسمت صبا وهتفت بتأثر: سبحان الله، ربنا يفرحك يا حبيبتي ويجعله العوض ليكي عن كل اللي شوفتيه.
ابتسمت بسعادة وقالت: يا ررب، تسلمي.
كان يتبعها للخارج حينما تسلل لهاتفه رسالة عمران النصية
«اتقل متدلقش وراها كده، خليك زي بذر الخوخ لما بيقف في الزور»
زم شفتيه ساخرًا وغير اتجاهه لمكتب المنزل، هاتفًا لذاته: والله عال أحمد الغرباوي بقى ماشي ورا كلام العيال!
وإتجه للمقعد الرئيسي يجذب حاسوبه ليتابع العمل هامسًا ببسمة تسلية: وماله خلينا وراه لما نشوف أخرتها آ...
ما كاد باستكمال كلماته حينما وجدها هي من تلحق به، فولجت للداخل تصيح به: عروسة إيه اللي هتخلي ابني أنا يروح يطلبهالك يا أحمد باشا، روح اتجوز اللي تتجوزها بعيد عني أنا وأولادي سامعني!
اتسعت ابتسامته وإلتحف بالبرود يخبرها: حاضر، هروح لوحدي.
وعاد يستكمل عمله، وحينما وجدها مازالت تقف أمامه رفع عينيه يتساءل بنفس ذات البراءة الخاصة بعمران الذي بات معلمه الذكي: في حاجة تانية يا مرات أخويا؟
سحبت شيطانيها وغادرت المكتب صافقة الباب من خلفها بقوة كادت باطاحة زجاجه الباهظ، فاعتلى ثغره ابتسامة جذابة وهو يهز مقعده باستمتاعٍ.
بالخارج.
دمغ يوسف يديه بزيت الزيتون الساخن الذي أحضره له الخادم بناء على طلبه يدلك رقبة على الذي هتف باسترخاء: الله عليك يا جو، اضغط بقوتك على الجنب ده ربنا يراضيك.
انصاع له يوسف مرددًا بسخرية: وماله يا حبيبي، دكتور يوسف لعلاج قفشات العظام تحت أمرك.
كتم جمال ضحكته بصعوبة وقال بخبث: يوسف بعد الليلة دي عايزك تفتح العيادة تكشف على صبا مش عارف مالها من الصبح كده دايخة وتعبانه.
استدار إليه يمنحه نظرة محتقنة قبل أن يسحبها لعمران المسترخي أمام الشاشة يتناول مكسرات بتسلية: مش عايزني أكشفلك على حاجة إنت كمان؟
قال وهو يشير لقدميه بتعب: رجلي بتنقح عليا يا جو والله خلص أبو على وتعالى دلكلي رجلي بالزيت يمكن ربنا يجعل في وشك القبول وأقف عليها بقدرة قادر.
التفت يوسف حوله ثم تحرر صوته المحتقن: لو مكنتش عامل احترام لوالدتك وعمك كنت قولتلك لفظ من إياهم عارفهم؟
ضحك عمران بصوته كله حتى كاد بأن يقتل من سعاله لتوقف التسالي بحلقه، بينما تساءل على بدهشة: لفظ أيه ده؟
ضحك جمال وهو يشير له: بلاش يا دكتور على إنت محترم وابن ناس.
صدح رنين هاتف يوسف الموضوع على الأريكة، فجذب المنشفة يجفف يده ثم رفع الهاتف يجيب: أيوه يا سيف.
تجهمت معالمه بصورة ملحوظة لجمال وعمران الذي تساءل فور اغلاق هاتفه: في أيه يا يوسف؟
جذب مفاتيح سيارته وهو يشير لجمال قائلًا: مفيش حاجة نص ساعة وراجعين، سيف بس في مشكلة صغيرة هنحلها ونرجع.
اشارة يوسف لجمال فهمها عمران جيدًا، فرفع ذراعيه لهم قائلًا باصرارٍ: معاكم. رجلي على رجليكم في الطالعة دي، أنا مش متنازل سامعين!
انتصب على بوقفته يتساءل بقلق: طالعة أيه؟ هو في أيه يا يوسف؟
رد عليه سريعًا: مفيش يا دكتور علي، أخوك دمه يلطش بس مش مصدق.
وضغط على شفتيه لعمران يشير له بالصمت، بينما انحنى جمال يساعده لتأكدهما بأنه لن يتركهما بالساهل، فعاونه يوسف من الجهة الاخرى، فالتف لعلي قائلًا بمرح: قولهم يجهزوا الأكل عما نرجع.
راقبهم باستغراب، وعاد يتسطح محله بهدوء وكأنهم نسمة عبرت بطريقها للخلاص.
بسيارة جمال.
صاح يوسف بعصبية لمن يغفو بالمقعد الخلفي: مش عارف لزمتك أيه، كنا هنخلص أنا وجمال الحوار ونرجع!
اجابه وهو يجتهد بوضع ساقًا فوق الأخر: لا إنت ولا هو هتقدروا تخلصوا الليلة، أنا معايا كورس في التربية ياض.
وتساءل باهتمام: المهم هو الواد اللي بيروق أخوك ده هو نفسه الواد المصري الملزق اللي ساكن في الدور اللي فوقه وكان بيشتكي منه قبل كده.
هز يوسف رأسه بتأكيدٍ، ففرك عمران يديه وهو يهمس ببسمة شيطانية: فرجت، عضلات إيدي نقحة عليا من يوم ما نمت بالسرير.
رد عليه جمال ساخرًا: يا حبيبي إنت مش شايف نفسك، احنا مساندينك للعربية يا عمران هتتعارك مع الواد ازاي بس!
اشرأب بعنقه يعنفه بغضب: إنت مال أمك إنت يا جمال، وديني للواد ده وسيبني أتعامل.
جحظت عين جمال من لفظه الوقح، فمرر يوسف يده على وجهه وهو يهمس لجمال: حقك عليا أنا، متعصبش عمران لما بيتعصب بيبقى وقح سوق واستهدا بالله خلينا نلحق الواد قبل ما نوصل نلاقيه جثة.
التقط شهيق قويًا ولفظه زفيرًا أقوى، فقاد بأقصى سرعته حتى وصل للعمارة، فلمحوا سيف يتأوه أرضًا وذاك الشاب الذي يتبختر بعضلات جسده يكيل له الركلات، فاندفع جمال ويوسف خارج السيارة بسرعة جعلت عمران يخرج رأسه من النافذة هادرًا بانفعال حازم وهو يصوب سلاحه تجاههما: أقسم بالله لو خطيتوا خطوة واحدة كمان لأطلق رصاصي عليكم، قولتلكم الواد الممحون ده قتيلي النهاردة، ارجعوا كده لعقلكم وساندوني أوصله!
تبادل جمال مع يوسف النظرات والاخر يتطلع لاخيه بقلق، فأسرعوا للسيارة يفتحوا بابها، ليسانده جمال من جهة ويوسف من جهة أخرى، وما أن اقتربوا منهما حتى اندفع يوسف لاخيه يعاونه على الوقوف بينما يساند جمال عمران، فحاوطوا ذاك النذل الذي ضحك مستهزءً: ده أخوك اللي كلمته تتحامى فيه يالا.
نهض يوسف قبالته يصيح بانفعال: إنت فاكر إنها سايبة ومفيش قانون أقدر أحبسك بيه وآ.
دفعه عمران للخلف بغضب: ريح إنت يا دكتور يا محترم سبلي أنا الردح.
ووقف قبالته مستندًا على جمال بكتفه الأيسر، فضحك الشاب قائلًا: انتوا جايبنلي واحد مشلول يأخد بحقه!
ابتسم عمران بثقة جعلت الاخير يتابعه بسخرية، فسأله عمران: سمعت عن عمران سالم الغرباوي يالا؟
هز رأسه مستهزءًا، فاتسعت بسمة عمران وتابع: حظك يا روح أمك إنك هتشوفه وش لوش.
وضربه برأسه ضربة جعلت الاخير يترنح للخلف من شدة الضربة التي تلاقها من رأس عمران، فكاد بالسقوط أرضًا متعثرًا، فأشار ليوسف: أمسك الحلوة دي وقربهالي يا دكتور.
كبت يوسف ضحكاته بصعوبة، وبالفعل جذبه ليدفعه تجاه عمران الذي يشير لجمال الضاحك: امسكني حلو لحسن الشلل ده رعاش ممكن أجيب شمال.
بينما عاد يقابل ذاك الذي يرى عمران أربعة اشخاص تتراقص من أمامه، فقال ببسمة هادئة: قولي يا حيلة أمك، أبوك بيشتغل أيه؟
بدى متحيرًا وكأنه فقد الذاكرة، فردد جمال بدهشة؛
مالك بأبوه يا عمران؟
تطلع جواره بجيبه: عايزينه يلم بنته اللي فارضة عضلاتها تغري الاجانب هنا، ما هنا سبحان الله بيقدروا الستات والرجالة ال.
برق يوسف بعينيه وهو يتابع أخيه يتأمل عمران بصدمة، وكأنه يرى شخصًا يراه لأول مرة، فقد سبق ليوسف وجمال مشاهدة جزء من خروج ذاك المعتوه عن رزانته، بينما استرسل عمران قائلًا: انتي مكسوفة تقولي شغلانة أبوكي يا عسلية، أنا هنوب شرف المهمة دي، عارف يا سيفو شارع الهرم، أبوه بيلم النقطة من ورا العالمة كل يوم راجل مكافح وشهم بيكافح عشان يربي البقف اللي جاي يفرد علينا عضلاته.
جحظت عين الشاب صدمة، فتابع عمران ضاحكًا: ياض ميغركش البدلة الشيك اللي أنا لبسها دي، أنا أصلًا من العتبة يا حيلتها.
وسدد له لكمة قوية أطاحته أرضًا بقوة، فأشار ليوسف: قوم نوسة يا دكتور. وسندهالي.
جذبه يوسف إليه مجددًا، واقترب يهمس له: خلاص كده يا عمران الواد اتربى وأخد الكورس كامل، بلاش نلم علينا السكان.
لكزه ليعود تجاه سيف مجددًا: ريح إنت.
وأشار لمن جواره: تكة لمين شوية يا جيمس، مش طايله يا جدع!
هز رأسه بضحكات صاخبة، فاتجه عمران ليجذب الاخير من تلباب ملابسه ليصبح أمام رماديته الحارقة وتلك المرة كان جادًا غامضًا: اسمعني بروح أمك احنا هنا من لما كنت لسه بتعملها على روحك، فمش هتيجي على أخر الزمن تعمل علينا بلطجي في مكانا، دكتور سيف من هنا ورايح لما تشوفه تضربله تعظيم سلام ولو طولت تحوض من الحيط عشان متتقابلش معاه هتعملها ده لو مش عايز تشوف واحد وقح وقادر يكسرك إسمه عمران سالم الغرباوي، وصلت يا نوسة ولا نسف الشريط تاني بس خد بالك المرة الجاية هتلاقيني واقف على رجلي من غير ما حد يسندني وتخيل بقى هيحصل فيك أيه وقتها!
هز رأسه بارتعاب فإن كان لا يمتلك نصف الاخر وفعل ذلك ماذا سيتمكن من فعله، دفعه عمران للخلف بشراسة جعلته يهرول لداخل المبنى وكأنه كان يقابل شبحًا لعينًا منذ قليل.
استدار يشير ليوسف: يالا يا جو هات دكتور سيف وبينا الأكل هيبرد
ابتلع سيف ريقه بصعوبة بالغة، ومال يهمس ليوسف: مين ده؟!
تنحنح الاخير وهو يكبت ضحكاته: بشمهندس عمران صاحبنا بس بعد عنك وقت ما بيلاقي خناقة بيقلب على بلطجي من نزلة السمان!
هز رأسه متفهمًا وعاد يهمس: أنا خوفت.
عدل يوسف من نظارة أخيه التي كادت بالسقوط هامسًا بضحكة: لازم تخاف، وبعدين الراجل وجب معاك وهو متدشمل!
وتابع ضاحكًا: والحيوان ده ابن حلال ويستاهل ما المرة اللي فاتت لما ضربك كلمناه أنا وجمال بالعقل ولا عمل أي اعتبار لينا وضربك تاني، بعد اللي عمران عمله وقاله معتش هتلمح طيفه اسمع مني.
تعصبت ملامح سيف، وهتفت بانفعال: متقولش ضربك دي، أنا كنت هعلم عليه بس احتارت وملقتش زواية.
منحه نظرة ساخرة وهدر: عندك حق الواد كله زوايا وانحناءات!
طرق الباب وحينما استمع لاذن الدخول ولج للداخل يبحث عنها، فإتجه للطاولة التي تحتل مقعدها، فقال بنظرة عميقة: ممكن تسمعيني؟
اعتدلت فريدة بجلستها وأصغت لمن يجلس قبالتها باهتمام، فقال بعد أن أطال بنظره لها: مجاش الوقت اللي تفكري في نفسك يا أمي؟ خلاص احنا كبرنا ومبقناش العيال الصغيرة اللي تخافي تسبيهم وراكِ، بقينا رجالة وفاهمين وواعين وعمرنا ما هنقف في طريقك وخصوصًا بعد الظلم اللي حصل زمان بينك وبين آآ، آآ، عمي، جيه الوقت اللي تختاري الحبيب اللي هجر قلبك طول السنين اللي فاتت دي!