قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع والأربعون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع والأربعون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع والأربعون

مازال يتراجع للخلف بصدمة ورعب جعل آدهم يسرع إليه في محاولةٍ لمساعدته، انحنى إليه يمسك بكفيه وما أن كاد بمعاونته ليعود لمقعده حتى شُلت أطرافه حينما سمعه يردد بفزعٍ: شبح زُبيدة حضر عشان يخلص عليا!
وبجدية تامة قال: بتنتقم مني قبل ما أقولك على السر المخفي!
=والله؟

قالها وهو يمنع أي معالم ساخرة أو ضحكة كادت بالانفلات منه لتبرز على ملامحه الجامدة، فأمسك مصطفى كف يده ومازالت عينيه مسلطة على الشبح الجالس باستكانة على الفراش، فابتلع ريقه وهو يصرخ بمراوغةٍ كاذبة: متقتلنيش قبل ما أقول للواد على الحقيقة. آآ. أفتكريلي أي حاجة يا زُبيدة. ده آآ أنا كنت بحبك يا زوزو والله الله يرحمك بقى!

اهتز جسد آدهم من فرط كبته للضحك وخاصة حينما تابع أبيه: آآ. أنا معملتش حاجة نهائي من بعد وفاتك وأنا عايش اعزب محترم في حالي، اسالي إبنك.
ولكز آدهم ببطنه بغيظ: اتكلم يالا، قولها آنك بوست رجليا عشان ارتبط وأنا قولتلك اني عايش على ذكراها وحبها وآ.
همس آدهم له باستتكارٍ مضحك: أمته ده! درش إنت بتكدب وإنت بالعمر ده؟
ضربه بكوع ذراعه ببطنه وهو يسبه بغضب: انطق وقولها قبل ما تقتل أبوك يا ابن الكل.

سقط أرضًا من فرط الضحك وشمس تكاد تموت أسفل الغطاء من فرط حرارة الغرفة، فرددت بصوتٍ محتقن: آدهم افتح التكيف هموت!
جذب مصطفى يد آدهم ودفعه قائلًا: قوووم بسرعه شغلها التكيف وشوف طلباتها!
وأشار على المقعد الموضوع بمنتصف الغرفة: هاتلي بس الكرسي بتاعي ومشيني من هنا، هي بتحبك وعمرها ما تأذيك، لين دماغها وقولها متزعلش مني.

جذب آدهم إليه المقعد وعاونه بصعوبة من ضحكه الذي لا يتركه، جلس مصطفى على مقعده وتمسك بيد آدهم يخبره وهو يتأملها بهلعٍ: بقولك أيه. إنت مش كان نفسك إننا نسيب البيت ده لانه كبير علينا ونروح شقة التجمع. أنا موافق وديني هناك ونسيب البيت لزوزو مينفعش نضايق روحها ده مهما كان في يوم بينا عيش وملح!
اانطلقت ضحكات آدهم بقوة. فردد بخبث: ميصحش نسيب ماما لوحدها يا درش.

=خلاص يبقى تتعامل معاها إنت وأمشى أنا، انا عضلة القلب ضعيفة عندي ومش حمل بهدالة يابني.
كبت ضحكاته يجيبه بحزن ماكر: ولا ينفع أتخلى عنك ده أنت أبويا يا جدع بتقول أيه بس!
صرخ وهو يتأمل شمس التس نهضت عن الفراش حينما ألمتها قدميها: مش ابني، معرفكش أصلًا، أنا لقيتك قدام باب الجامع، أنا أصلًا مبخلفش يلا!

اهتزت وقفته من نوبة ضحكه فسقط على الفراش يضحك دون توقف بينما هرب مصطفى بمقعده المتحرك للخارج وهو يصيح يجملة متكررة: سامحيني يا زُبيدة. سيبيني أعيش يا زوبة!
راقبه آدهم وهو يغادر بنظراتٍ مصعوقة، سحبها لتلك التي تصر على ارتداء تلك الملحفة المخيفة، فهتف بنزقٍ ساخرًا: خليتي أبويا اتبرى مني!
قالت ومازالت تتشبث بالغطاء الأسود كأنه أخر بصيص لها بالحياة: أنا ماليش ذنب هو اللي مصدق يرمي طوبتك!

انتصب بوقفته وعينيه الساحرة تضيق عليها بنظرةٍ محتقنة، فمرر إصابعه يفرك شاربه بغيظٍ اتبع سياسية مخادعة: حالًا ترمي القرف ده وتيجي قدامي، حالًا يا شمس!
ارتعش جسدها من صارمة نبرته، فهرولت تجاه اشارته لتبدو أمامه كالقطة الوضيعة التي تنتظر باقي تعليمات سيدها، فهز رأسه بقلة حيلة: وبعدين معاكِ يا شمس. صبري بدأ ينفذ!
رددت من أسفل الغطاء بتوترٍ: والله ما هدفي أضايقك ولا في النية يا كابتن.
كابتن!

لفظها مذهولًا ومع ذلك قال بضجرٍ: طيب وأيه هي أهدافك من المسرحية دي يا شمس هانم؟
أتاه عرضها المضحك يخبره: لو صارحتك بجريمتي هتعاقبني ولا هيكون ليا استثناء يا باشا؟
بدأت شكوكه تتراقص أمامه، فلعق شفتيه وتنهد باستعداد لسماع ما ستلقيه عليه: جريمة أيه يا مغلباني؟
رددت بخفوتٍ محرج: سرقة.
رمش بعدم استيعاب: سرقة!
وتابع بصدمةٍ: سرقتي مين يا أخرة صبري!

رفعت طرف الملاءة لتخرج ما أخفته، فالتقطته آدهم وتفحصه بين يديه مرددًا بدهشةٍ: سلاحي ده؟
هزت رأسها بالملاءة المخيفة تؤكد له، فرفع عينيه لها يسرع بسؤاله المرتبك: بيعمل معاكي أيه؟
تحلت بصمتها، فرفع عنها الغطاء بعصبية: انطقي يا شمس، سلاحي بيعمل أيه معاكي؟
انزاح الغطاء عن رأسها ومع ذلك أحاطته حول جسدها بتوترٍ، فجذب طرفه إليه وأمرها برفقٍ: سيبي من ايدك.

هزت رأسها بجنون، وما كاد بسحبه عنها حتى صرخت بوجهه بخزي: مينفعش تشوفني بلبسي ده. من فضلك تطلع لما أكمل لبس!
لطالما كان ضابطًا ماهرًا يجمع أدلته بحرفيةٍ وتمكنًا، وها هو الإن يقف أمامها كالأبله يحاول استيعاب ما تحاول فعله، فاستحضر صوته الهادر يخبرها بحيرةٍ: ممكن أفهم أيه اللي بيحصل؟

هزت رأسها بجنون وشرعت بحديثها: كنت بأخد شاور والمية انقطعت من حمامي فروحت أوضتك وكملت الشاور بتاعي ولما جيت أخرج لقيتك طالع على السلم، وأنا مكنتش عاملة حسابي إنك راجع دلوقتي وبصراحة خوفت على نفسي منك وخصوصًا لو شوفتني بلبسي ده عشان كده خدت سلاحك معايا احتياطي عشان لو فكرت تخرج عن طوع أدبك واحترامك هريحك بطلقة رحيمة!
اتسعت مُقلتيه بشكلٍ مرعب، فخرج صوته المحتجز يردد ساخرًا: طلقة رحيمة!

أكدت له ببلاهةٍ: أممم، بالظبط كده!
هز رأسه ويديه تضم منتصف خصره، وفجأة أبعد الغطاء عنها لتظهر أمامه بقميصها الستان الأسود، رفعت شمس ذراعيها تخفي بهما جسدها أمام عينيه وهي تصرخ بانفعالٍ: إنت بتعمل أيه؟!
حاوط وجهها بذراعيه مبعدًا خصلاتها المبتلة للخلف، وأمرها بغضبٍ يحاول دفنه باسلوبه الرقيق: بُصيلي!

استجابت لأمره فتطلعت إليه فوجدت عينيه لا تنجرفان عن خاصتها، وكأنها مازالت تخفي جسدها بالغطاء، فأدمعت بفرحةٍ وتأثرًا، وخاصة حينما مرر إبهامه أسفل شفتيها مرددًا ببحة نبرة رجوليته المميزة: شمس أنا عمري ما أذيكِ. حبيبتي فكري فيها ما أنا كنت أقدر أعمل أي شيء قبل ما يكون بينا أي رابط تفتكري هقلل من نفسي ومنك دلوقتي لما بقيتي مراتي على سنة الله ورسوله؟

تفنن الندم على معالمها، فحركت رأسها بصعوبةٍ لتنفي له، فصمها إليه بحبًا: أنا مش عايزك تفكري فيا بالشكل ده تاني. أنا طماع ومش هكتفي بحبك وقلبك وبس. عايز الأكتر منهم.
ورفع وجهها بسبابته يستطرد: ثقتك يا شمس!
تهربت من عينيه بخجلٍ مفرط وقالت: أنا آسفة يا آدهم.

طبع قبلة عميقة على جبينها وضمها إليه: متعتذريش يا قلب آدهم، أنا هسيبك تغيري هدومك وهروح أشوف الحاج اللي لو كان فضل هنا كمان عشر دقايق كان قال كل اللي في معدته من غير جهاز كشف الكدب.
ومازحها ليخفف وطأة الأجواء: شكلك هتبقي مفيدة جدًا ليا يا مدام عمر الرشيدي!
اتسعت ابتسامتها فضمها إليه مرة أخرى وردد وهو يخطو بخطواته الثقيلة للخارج: هستناكي تحت. متتأخريش يا حبيبتي.

ولج لجناحه الخاص بخطواتٍ متهدجة، حرر جاكيته واتجه سريعًا لفراشه، يعوض شوقه الجارف إليها طوال هذا اليوم الذي لم تكن بصحبته.
مال عُمران إليها يربت على خصلاتها المفرودة على الوسادة من خلفها بحنانٍ، متعاهدًا الا يزعج منامتها، فإذ بها تتحرك بنفورٍ تام، وفجأة نهضت تقابله بنظرةٍ عابسة جعلته يتساءل بقلقٍ: مالك يا حبيبتي؟

ابتعدت عن يده التي تحاول ملامسة خدها، وكلما دنى إليها متلهفًا لرؤيتها تراجعت حتى نهضت عن الفراش تركض للمرحاض وهو من خلفها.
وجدها تنحني وتفرغ ما بجوفها بتعبٍ شديد، فمال إليها يزيح خصلاتها المنسدلة ويتحكم بجسدها بتمكنٍ، فأردعته مرددة بخفوتٍ: إبعد يا عُمران.

علم بأنها تشعر بالحرج لوجوده بموقفٍ هكذا، ولكنه رفض الابتعاد وأصر على مساندتها، يده تزيح رابطة عنقه تحيط بها خصلاتها المتمردة من حولها، يحكمها من حوله كما اعتاد أن يفعل، ويده الاخرى تمسد بحنان على خصرها.
مالت برأسها تستند على كتفه بارهاقٍ تام، وحينما ضمها لصدره أبعدته وعادت تستفرغ ما بجوفها مجددًا، فتحكم بها وهو يردد بخوفٍ: حبيب قلبي مالك بس! أطلبلك يوسف؟

هزت رأسها بالرفض وعلى استحياءٍ قالت: إبعد إنت بس. أنا مش طايقة ريحتك!
برق لوهلةٍ مندهشة، وردد ساخرًا: نعم! ريحتي أنا!
وعقد حاجبيه باستنكارٍ: مش دي الريحة اللي كنت مدمنة عليها لدرجة إنك كنتِ بتحضنيني كل ساعتين تقريبًا يا بيبي!
اكتسى وجهها حمرة الخجل، فرددت بصعوبة: عُمران اطلع.
زفر بقلة حيلة، وتابع بهدوءٍ: هساعدك عشان متدوخيش وبعدها هبعد.
هزت رأسها نافية: ريحتك بتخنقني يا عُمران؟

استرخت معالمه تدريجيًا حينما تفهم مقصدها بالتحديد، فنزع عنه قميصه وألقاه بعيدًا قائلًا: ها كده مرتاحة؟
مالت إليه برأسها تستكشف تعلق الرائحة به، وجدتها ولكن لم تكن بحدتها، فاكتفت بهز رأسها إليه.
انحنى يحملها متعمدًا أن يميل برأسها إليه، ليطبع قبلاته على جبينها وهو يهمس لها: حبيب قلب جوزه لحق يبكسل كده في أول مرحلة أمال في التاسع هتعملي أيه؟!
لفت يدها حول رقبته باحكامٍ تجيبه: هطلع معاش مبكر.

أطلق ضحكته الجذابة واتجه بها للفراش، وضعها وجلس يربت عليها برفقٍ حتى تخلل إليها النوم، فتركها تغفو وتسلل على أطراف أصابعه وخرج للتراس، قضي ساعات يحجب تفكيره الساخط بعد مقابلته مع نعمان الغرباوي، صفن بحياته برمتها وعاد ببصره لزوجته، تمعن بها بحبٍ وابتسامة عاشقة، تلاشت فجأة فور تذكره ما حدث، فمال لصدره العاري يشم ذاته جيدًا بضيقٍ ومن ثم حجب أفكاره حينما حرر رقم بهاتفه وترقب سماع المتصل به.

دقيقة واحده استغرقها ليجيب يوسف، متسائلًا بنزقٍ: خير يا وقح! بترن نص الليل ليه؟
وتابع بهجومٍ كاسح: هو أنا مش هخلص منك إنت ولا التور التاني، وكأن مفيش ستات حملت على الكون غير مرتاتكم! انجز ولخص ورايا عمليات الصبح!
أتاه رده الوقح يجيبه: يلعن أبو دي معرفة يا أخي! أيه بكبورت واتفتح عليا! ما تتزفت تهدى وتسمع اللي هقولهولك إنت عارف أنا هكلمك عن أيه أصلًا؟

ومش عايز أعرف يا سيدي. أبوس ايدك حل عني بقولك عندي تلات حالات ولادة بكره وليلى فوقهم كمالة عدد، سايبالي غسيل الهدوم والمواعين بعد ما رجعت من العيادة تخيل!
اخرس بقا وإسمعني، مش دكتورك النفسي أنا ولا يكونش حد قالك إني مصلح اجتماعي!

تنهيدة عميقة اتبعها سؤالًا يحاول التحلي بالصبر: طيب يا بشمهندس عُمران أنا بعتذرلك على وقاحتي الحقيرة وبتساءل بكل احترام ووقار عن سبب المكالمة اللي على وش الصبح دي ممكن سيادتك تتكرم وتقولي!
عجبني الرد فخم كده ويليق بيا كبشمهندس أد الدنيا ومالي مركزي بس وحياة أمك يا يوسف لو مفوقتليش وسمعتني هتلاقيني تحت بيتك ومش هيهمني مخلوق.
يوووه ما تخلص وتتزفت تسأل خليني أتخمد!

تنحنح بحرجٍ وهو يحاول الحديث، فالتفت يتأكد من غفوة زوجته وعاد يهمس له وكأنه شخصًا أخرًا: مايا قرفانه مني!

انتظر سماع صوته ولكن لم يصله سوى صوت تنفسه المنفعل وكأنه على وشك الانفجار، فاستطرد عُمران بضيقٍ: يوسف أنا بأخد شاور أكتر من أربع مرات في اليوم، مهتم بنفسي وشيك جدًا، البرفيوم بتاعي بجيبه من فرنسا مخصوص وإنت عارف ده، من فضلك فهمني اللي سمعته ده عقلي واقف وحاسس إني إتخدت قلم علم على قفايا، قفا صاحبك اتختم يا يوسف!

ربنا يأخد يوسف على اللي شار عليه يدخل قسم نسا وتوليد والطب أساسًا، إنت متصل تستظرق يا عُمران! انت في أيه إنت والزفت التاني مُخكم اتلحس على حمل المدامات!
أنا راجع من شغلي على أخري أساسًا فخدلك مني ساتر بدل ما أفحمك إنت وأخوك المستفز.
وأيه دخل دكتور سيف باللي بيحصل دلوقتي؟!
دكتور! اسمه سيف حقنة يالا.
وبعصبيةٍ مفرطة صاح: قوم اتعدل كده وفوقلي من النفخة الكدابة بتاعتك إنت وأخوك دي!

وبجدية تامة قال: يوسف أنا عقلي واقف بجد، إنت متخيل إن عُمران سالم الغرباوي بجاذبيته اللي هالكة قلوب العذارى يتقاله ابعد مش طايقة ريحتك!
إلهي ربنا يقهر قلبك على جاذبيتك المغرورة دي، عُمران ده وقت تنفش فيه ريشك يا طاووس! سيبني أنام وبكره إن شاء الله هجي بنفسي أعقمك بديتول ومنظف حلو أوي بلمع بيه عربيتي مش خسارة فيك والله!
تلمع مين بروح أمك، إنت الظاهر لسه مهلوس ومش مختار ألفاظك!

طيب بص عشان نخلص من أم الليلة اللي ضاعت في الغسيل والمسح وبتكمل إنت جمايل اليوم. اللي بيحصل ده طبيعي جدًا جدًا يا حبيبي. بعض الستات الحوامل بيقرفوا من الروائح زي ريحة الصابون، البرفيوم، البخور، وغيرهم.
بجدية مضحكة قال: يعني أنا كده في السليم؟
همس بصوتٍ منخفض: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم أقفل في وشه ده ولا أظرُفه بلوك!

وبابتسامة ساذجة التمسها عُمران دون أن يراها قال: عادي طبعًا يا حبيبي. يعني المدام بتاعتك مش قرفانه منك (absolutely قطعًا)، هي كل مشكلتها مع البرفيوم الفرنسي الباهظ اللي انت مغرورلي فيه فزي الشاطر كده هتمنع تحطه وتعيش حياة المواطن العادي اللي بيمشي بعرقه ليل نهار وبالنهاية بيطس نفسه بجردل مية فيها شوية معطر وديتول، راكبة معاك يا بشمهندس؟
إنت مجنون عايزيني أمشي من غير ال(perfume البرفيوم) بتاعي!

خلاص يا حبيبي حط ونزه نفسك خليها تنفر منك بقى لحد ما تخلعك وأبقى إرفع قضية رؤية عشان تشوف ابنك ولا بنتك اللي قرفة أمي من قبل ما تكمل الشهر دي!
وتابع بعنفوان: اقفل بقى ربنا يكرمك. مش اتطمنت على نفسك وانك بخير وتمام؟ ولا تحب أنزل بنفسي ادورلك على مزة تختبر تأثيرك عليها في ليلتك اللي مش هتعدي دي!
نام يا يوسف يلعن أبو معرفتك!
أغلق عُمران الهاتف بوجهه وهو يهتف بعصبية: بني آدم مستفز!

احتدت معالمه غضبًا، فصرخ برجاله بصوتٍ كالرعد: يعني أيه الكلام ده! معقول زينب تأكد كلام الحقير اللي استغل وجودي بالمستشفى واتهمني باللي حصله!
أكد له أحد رجاله حديثه مجددًا، فقبض يمان قبضة من جحيم وقال: وديني لأحققله اللي طلبه بس المرادي مفيش منها قومة، ماشي يا زينب هشوف هتهربي مني ازاي!
صف سيارته بچراج منزله واستدار إليها يتساءل بحبٍ: عجبتك القاعدة على النيل؟

أجابته بفرحةٍ: جدًا يا آدهم متتصورش أنا كان نفسي أزور مصر أد أيه.
وتمسكت بيده المستندة على مقعد السائق: ومعاك إنت بالذات.
تناول كفها يقربه إليه، وبرقة شديدة قبل باطنه مرددًا بنبرة مغرية: أنا هنا عشان أحققلك كل أحلامك شمس هانم.
ضحكت وهزت رأسها بدلالٍ: ميرسي كابتن آدهم!
فتح ذراعيه بحركة فاجئتها وهمس لها: محتاجك في حضني يا شمس.

لعقت شفتيها بارتباكٍ، فألقت حديث عُمران بعرض الحائط واندثت بأحضانه تشعر بدفئه وحنان ضمته، ربت عليها وتابع همسه الهادئ: الحب هو الثقة الكاملة للطرف التاني فأوعي تبطلي تثقي فيا لإن وقتها هفهم أن الحب اللي جوه قلبك انتهى يا شمس!
رفعت يدها تستند على قلبه المتزايد دقاته بشكلٍ أسعدها، وقالت بنعومةٍ: لو هتحبسني هنا بالكلبشات للأبد مش هبطل أثق فيك يا آدهم.

قبل جبينها بعشقٍ وردد: وأنا مش عايز أكتر من كده يا روح قلب آدهم!
وابتعد عنها يحيط وجنتها بحنانٍ: يالا يا روحي اطلعي غيري وارتاحي. دكتور على زمانه قلقان عليكِ الوقت سرقنا واتاخرنا.
هزت رأسها بطاعةٍ واتجهت للأعلى، فاختار ركنة مناسبة لسيارته وجذب متعلقاته ليصعد للأعلى، فاذا بهاتفه يعلن له عن مكالمة كانت الأهم له بتلك الفترة المنصرمة فرد بلهفة: باشا أخبار حضرتك أيه؟

تبدلت معالمه بشكلٍ مقبض، فقبض على مفاتيحه بقوة خدشت أصابعه وردد ببعض الانفعال: طيب وليه حضرتك متدخلتش!
هز رأسه وهو يتلاقى الجزء الأهم بالخطة: فهمتك يا باشا، خلاص بكره الصبح هخرج يونس علشان الحقير ده يخرجه بره اللعبة اللي هتدور عليه.

وبامتنانٍ قال: مش عارف أشكر حضرتك ازاي يا مراد باشا. حقيقي أن ممتن لمساعدتك في سرعة التحقيقات اللي اتعاملت وبرأت يونس وكمان فكرة زرع جهاز تجسس جوه زنزانته هتخدمنا كتير في كشف الوش الحقيقي للحقير ده. بس أنا مكنتش أتمنى نلجئ للطريقة دي.

أتاه رد الجوكر الحازم: مكنش في طريقة تانية غير كده يا عمر. يونس اتعذب طول السنين دي وباللي حصله النهاردة هيساهم في رجوع حقه بالدليل اللي بقى في ايدينا بس الذكاء في خطتنا اننا مش هنظهره غير لما نمسك أكتر من دليل يدينه، بصريح العبارة عايزين الضربة تكون قاضية. فهمتني؟
طبعًا يا باشا، بتمنى بس ميكنش شكوك حضرتك صح لانها ساعتها هتكون كارثة!

أغلق الهاتف وارخى رأسه للمقعد من خلفه، بينما يده تعبث باسماء هاتفه حتى توقف على اسم آيوب بن الشيخ مهران، ابتسم على طريقته بتسجيل اسمه وحرر زر اتصاله فما أن أجابه حتى تساءل: هتصلي الجمعه فين بكره يابن الشيخ مهران؟
استمع لاسم وعنوان المسجد القابع لحارته وابتسم يخبره بثقة: هصلي معاك بكره ومعايا هديتك فاكرها؟

ولم يترك له فرصة التخمين فقام بغلق هاتفه وهبط من سيارته يلهو بمفاتيحه ويصفر باستمتاعٍ لنجاح أول جزء من خطة الجوكر المزعوم، فما كاد بالتوجه لغرفته حتى تذكر أمر أبيه.
إتجه لغرفة أبيه يبحث عنه، لم يعثر عليه وكأن بالفعل شبح والدته قد التهمه، حرر ضحكة كُبتت بارادته حينما وجده يختبئ خلف خزانة كتبه القديمة، فصاح ساخرًا: صاصا لو حيًا ترزق هز كتاب عفريت في منزلي متلبس ابني الوحيد، ابنك اللي اتبريت منه!

واستطرد بضحكةٍ تعلو الاخرى: يا راجل ده إنت لو معانا في الجهاز هتسوح أسرار الدولة من غير ما تأخد القلم!

دفع باب الخزانة ومال برأسه يتطلع له نظرة الطفل الوديع، جلس آدهم على سطح الكومود يهز رأسه بيأسٍ: تتبرى مني أنا يا مصطفى! طيب ليه يا حبيبي ده أنا قايم شارب نايم بدورلك على بنت الحلال اللي تسكن قلبك بدل شبح زوبة اللي مخليك معيشني في كابوس وفقدان للخلف! أنا معتمد على الله ثم عليك في عمار البيت ده ومازلت بنقي وأختار الأرض الصالحة اللي هتجيبلي اخوات صغيرين شبهك كده يا صاصا!

التفت يتفحص الغرفة برعبٍ، وصرخ به: اخرس قطع لسانك والله ما يدخل بعدها ست ولا قبلها.
وجذب أحد الكتب يلقيها عليه هاتفًا بحنقٍ: عايزها تقتلني قدامك يابن الكل.
وأسرع بمقعده إليه بعصبية: عايز تدخل دنيا مع مراتك ذنبي أيه تخرجني منها قبل ما أخرجلك المدكن وأكشف المستور!
نهض عن الكومود يفرقع أصابعه بخبث: أيوه أيه هو المدكن والمستور يا شقي؟

ابتلع ريقه بارتباكٍ ووزع نظراته إليه ثم ردد بصوتٍ خبيث يستميل عاطفته: هو أنت بتحقق معايا ولا أيه يا حضرة الظابط.
مال على مقعده بحركةٍ درامية: بالظبط كده يا صاصا ولو مقرتش واعترفت حالًا هجبلك شبح زوبة يقررك بمعرفته وصدقني لو نجحت معاك هأخدها معايا في الجهاز تساعدني في التحقيقات بدل سلخ المساجين واسلوب التعذيب اللي بقى فيك أوي ده.

تعمق بعينيه بنظرةٍ حزينة، فاستغل قربه الشديد منه وانحناء قامته الطويلة، فأحاط وجنتيه بيديه وبنبرة شبه باكية قال: خايف أخسرك بعدها يا عمر!، بس غصب عني يابني قلبي مش مطاوعني أقابل ربنا وأنا شايل على كتافي ذنب كبير زي ده. عايزه يسامحني وقبله إنت كمان تسامحني.
أحاط يديه بحبٍ وقال: تقصد مين يا بابا. اتكلم من فضلك!
تهاوى الدمع عن عينيه وجاهد لخروج صوته الذي كُبت لسنواتٍ: ابني يا عمر، أخوك!

رمش بعدم استيعاب، وغادرت عنه كل ذرة مرح، فتساءل بصدمةٍ: ابنك ازاي؟ بابا إنت بتقول أيه؟!
أخفض رأسه أرضًا يخشى مواجهة ابنه، تاركًا دموعه تغسل ذنبه الذي لا يغتفر، رفع وجه آبيه إليه وجمع كل ثبات امتلكه ليهاتفه بهدوءٍ: بابا تقصد أيه بكلامك ده من فضلك رد!

رفع عينيه إليه وببكاءٍ شديد قال: غصب عني يا عمر. كان غصب عني يا ابني أنا زي أي راجل ليه نزوات واحتياجات ووالدتك مكنش ينفع تمارس حياتها معايا بشكل طبيعي، استحملت سنة واتنين وتلاته بس بعد كده ضعفت.
جحظت أعينه صدمة، فتراجع للخلف وسقط على الفراش وبصعوبة حرر ثقل لسانه: يعني أيه ضعفت؟ انت عملت أيه؟!

حرك مقعده تجاهه وقال بحشرجة ذبحت فؤاده قبل أن تغير نبرته: إنت عارف إن والدتك كانت مريضة ومرضها زاد بعد ولادتك على طول، عشان كده الدكتور منع يكون في بينا علاقة زوجية، وقتها قالتلي لو عايز تتجوز اتجوز بس أنا كنت قوي وقادر أخد قرار عشانها وعشانك. كان لسه عندك سنتين اتعلقت بيك وبقيت بحاول أقنع نفسي إني مش عايز حاجة من الدنيا غيرك. كتمت جوايا أي رغبة ممكن تتحرك لواحدة ست، حافظت على أمك وعليك لحد ما بقى عندك خمس سنين، وقتها غصب عني مشاعري اتحركت لبنت بتشتغل معايا في نفس الشركة.

سحب نظراته من ظلمة عين ابنه وردد بانهيارٍ: خوفت على نفسي يا ابني. خوفت أمشي ورا شيطاني وأزني، عشان كده طلبتها للجواز وشرط عليها إن جوازنا يكون في السر وإنها تأخد أدوية منع الحمل. وفعلا عشت معاها تلات سنين بس اللي معملتش حسابه هو اليوم اللي هتيجي فيه تقولي أنا حامل!

شعر بأن هناك دوار حاد يعصف به، لا يصدق أن من يقص عليه هو نفسه أبيه، يشعر وكأن أحدٌ ألقاه بنبع بئر من جحيمٍ يتلقف جسده بكل محبة ليذوب لحمه بين نيران جهنم، يود لو صرخ به ليوقفه عن الحديث ولكنه عاجز حتى عن النطق وخاصة حينما استطرد: مريت باختبار أصعب، ما بين بيتي اللي اتبتى بحبي أنا وأمك وما بين غلطة جت بسبب نزواتي، شيطاني وسوسلي أخليها تنزله بس خوفت من ربنا، فخلتها تكمل الحمل.

أغلق عينيه بقوة يحرر دموعه المحتبسة ليتابع أصعب جزء: طول المدة دي كنت عايش في عذاب، كنت خايف اتكشف قدام أمك وإنت أكتر واحد عارف أنها بتكره الكدب والخيانة وإن لو موضوعي اتعرف وقتها هخسرها وهخسرك. كنت بدعي إنها متعرفش لإني بكده هكون السبب في موتها وده اللي عمري ما أقبله حتى لو كنت ظالم للبنت اللي اتجوزتها وللي في بطنها...

واستكمل بانكسار: بس اللي متوقعتوش إني ارجع تاني لاختبار أصعب وألعن. يوم ولادتها ماتت وسبتلي ولد رضيع شايله بين ايديا ومش عارف هروح بيه فين، كنت ما يين اختيارين أصعب من بعض، أخده بيتي وأعرف امك الحقيقة وساعتها هخسرها وهخسرك وهدمر البيت اللي ضحيت عشان أحافظ عليه بكل طاقتي وما بين اني أضحي بيه فاخترت الحل الاخير عشانك!

وإتجه إليه يتمسك بيده الملقاة على الفراش باهمال ليسترسل ببكاء حارق: أنا عايز ابني يا عمر، عايز أشوفه ولو للمرة الاخيرة، هاتلي أخوك!
اشمئزت ملامح آدهم وانتفخت عروقه بشكلٍ خطير، فانتصب بوقفته وحرر لجامه بتثاقلٍ: إنت بأي حق لقبوك أب! جاي بعد السنين دي كلها تكشف وشك الحقيقي! ليييه فهمني ليه؟ ماما كانت متفهمة حالتها وعرضت عليك تتجوز أكتر من مرة...

شدد على خصلات شعره للخلف بجنونٍ كاسح وصرخ مجددًا: وهو ذنبه أيه؟ ذنبه أيه يجي على الدنيا لوحده وبطوله! إنت، أنت ازاي قاعد قدامي وقادر تتكلم عن ذنبك ده! أنت فرطت في ابنك! فرطت في حتة منك فاهم! مستوعب اللي عملته؟!
وطرق صدره بعنفٍ شرس: وأنا مصعبتش عليك وأنا بحارب الدنيا دي بطولي، مشوفتش كسرتي وأنا وحيد وماليش أخ ولا سند!

واستطرد بضحكة ملأت بوجعٍ قاتل: أنا مش قادر استوعب إن أبويا الراجل المحترم اللي مبيسبش ولا فرد. اللي رباني بكل محبة قدر يعمل كده! ياريتني كنت موت وراها ولا إني أشوفك بالصورة البشعه دي!
واستدار ليغادر الغرفة فهرول خلفه بمقعده يناديه: متمشيش يا عمر، متمشيش لازم تسمعني أرجوك ساعدني أضم ابني في حضني ولو لمرة واحدة، أنا مش عايز أموت وأنا شايل الذنب ده معايا يابني.

أغلق عينيه بقوةٍ وسحب نفسًا عميقًا يرمم به احتجاز أوردته، استدار إليه وردد بسخريةٍ لازعة: ويا ترى بقى إنت عارف إنت رميت ابنك في أي ملجأ ولا رميته قدام باب جامع ولا فين؟
هز رأسه نافيًا وردد: لأ يابني معملتش كده، اقعد وهحكيلك.
تهاوت دمعات آدهم وبتوسلٍ باكي قال: مش قادر اسمع أكتر من كده، من فضلك سبني الوقتي ولما أتخطى اللي حكيته ده هجيلك بنفسي وأسمع باقي الحكاية.

واستدار ليغادر فلحق به مصطفى ليوقفه آدهم بحزم قاطع: عايز أكون لوحدي لو سمحت!
كُسر قلبه واحتجز بين أضلعه، نيران التهمت الأب وابنه وكلاهما تحيطهما دموعًا مزجت بين صدمتها وبين ندمًا ورجاء.

أخفت الشمس ظلام الليل وتآلقت بأجمل صورة، اليوم يعلو المساجد أصوات الخطبة ويتآلق الرجال بالجلباب الأبيض، ومن بينهم آيوب الذي ازدادت وسامته بجلبابه الأبيض الذي برز كتفيه وتناسق جسده الرياضي، ولجواره أبيه الذي احتل المقدمة ليأذن في الناس بخطبة يوم الجمعة.
فرد آيوب سجادته وجلس يستمع لأبيه بفخرٍ وسعادة، إلى أن شعر بأحدهما يجلس لجواره، فاستدار جانبه مرددًا بفرحةٍ: آدهم!

نزع آدهم نظارته السوداء التي تخفي عينيه المحمرة من أثر تعاسة ليلته الحالكة دون أن يرف له جفنًا بعد معرفة سر أبيه الخفي، وللعجب هو لم يستمع الا لنصفه مازال لا يحتمل سماع الجزء الأخر فبدى له بأنه الاصعب على الاطلاق، وربما بعدها سيفقد احترامه لأبيه كاملًا.
رسم ابتسامة باهتة وقال: وحشتني يا آيوب. أخبارك أيه؟
أجابه بلهفة: أنا بخير الحمد لله، ها فين المفاجأة اللي مش مبطل تتكلم عنها؟

قال بابتسامة صافية: بعد الصلاة هتعرف.
ونهض كلاهما يستقيمان بالصفوف لتأدية الصلاة، وفور الانتهاء منها أسرع آيوب لآبيه يشير له: بابا ده سيادة الرائد عمر الرشيدي اللي كلمت حضرتك عنه.
ابتهجت معالم الشيخ وقال: ده آدهم اللي كلمتني عنه؟
أكد باشارة رأسه: ايوه هو اسمه الحقيقي عمر بس الكل بيناديه بآدهم وبصراحه لايق عليه أكتر.
صافح آدهم الشيخ مهران بحرارة: أتشرفت بحضرتك يا شيخ مهران.

وأشار لآيوب هامسًا: عربيتي جنب بيتك ممكن تجيب والدك وتيجي ورايا بهدوء.
ليه يا آدهم في أيه؟
تساءل بقلقٍ فربت على كتفه يخبره: مفيش حاجة. بس نفذ اللي قولتلك عليه.
أومأ برأسه وبالفعل اتجه بأبيه للمنزل وبالاخص لسيارة آدهم الفخمة، فرفع آيوب صوته بحيرة: قولي بقى في أيه؟
فتح آدهم الباب الخلفي لهما، فتسللت أبصارهما للداخل بصدمة، جعلت آيوب يصرخ بعدم استيعاب: يونس!

أكثر لحظة يخشاها يتعرض لها الآن، هبط يونس من السيارة بصعوبة، ما تعرض له بالأمس كان أبشع ما مر عليه، ولكنه يثق بأن آدهم فعل ذلك لمغزى يود استكشافه لاحقًا.
أفاق من شروده على اندفاع جسدًا ضخمًا لأحضانه، ولم يكن سوى ابن عمه وأخيه الأصغر الذي فارقه منذ خمسة سنوات، والذي بات يملك جسدًا يفوق بُنيته الماضية، تخشب بمحله وتحرر صوته بوجعٍ تام: متلمسش ضهري يا آيوب!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة