رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الرابع
في مكتب ما،
أومأ الفريق ضياء برأسه بإيماءة خفيفة وهو يستمع إلى ما يُقال عبر هاتفه المحمول، واستطرد حديثه قائلاً بإعجاب:
-تمام، كده كل شيء ماشي زي ما احنا مرتبين
اعتدل في جلسته، وتساءل بإهتمام:
-هو خد باله؟
حرك رأسه مجدداً، وأضاف بهدوء:
-عظيم، أنا عايز العينين تفضل عليهم لحد ما توصل عندي بدون ما حد يحس!
مط فمه للأمام، وأصغى لما يقال من الطرف الأخر، ثم تابع بجدية:
-ماشي، بلغني بالجديد أول بأول!
أنهى الفريق ضياء المكالمة مع ذلك المجهول، وهمس لنفسه بتوجس:
-ربنا يستر يا مسعد وماتعكش الدنيا معاها!
في الساحة التدريبية،
أغلق باسل ضلفة خزانته الخاصة بقوة، وزفر بضيق وهو يطالع شاشة هاتفه المحمول، جلس على المقعد الخشبي المسنود أمامها، ومط فمه للأمام، ثم فرك رأسه بكفه، وبدى حائراً بدرجة ملحوظة، ولما لا؟ فقد اختفى رفيقه مسعد منذ برهة ولم يعرف عنه أي شيء إلى الآن..
تنهد بإنهاك، وتمتم مع نفسه بضجر:
-كان المفروض يكلمني! طب أنا هاطمن عليه ازاي وأعرف اللي حصل، وأنا نازل أجازة يومين!
تصفح هو ورقة تصريح الأجازة التي حصل عليها من قائده، ثم طواها بعناية ووضعها في حافظة نقوده..
ثم حك طرف ذقنه بإصبعيه، وتابع حديث نفسه:
-ممكن يكون طلع على البيت مرة واحدة، خلاص أنا هاعدي عليه قبل ما أروح!
نهض من على المقعد، ورفع ساقه للأعلى ليربط حذائه، ثم اعتدل في وقفته، وسحب حقيبته، وألقاها على كتفه وتحرك نحو الخارج..
في سيارة مسعد غراب،
لم تختفِ الإبتسامة السعيدة من على وجه مسعد بعد أن أطربت أذنيه بصوت سابين وهي تلفظ اسمه..
ظل يختلس النظرات نحوها من المرآة الأمامية، بينما حدقت هي في النافذة الملاصقة لها لتتأمل معالم القاهرة..
استطرد مسعد حديثه متساءلاً بمرح:
-ايه رأيك يا مدام صابرين في البلد، جود ( Good ) ها؟
لوت ثغرها لتنفخ بهدوء، ولم تعقب عليه، ولكنها كانت منزعجة من ضجيجه المتواصل، فحدثت نفسها قائلة بحنق:.
-مش ممكن، ده كارثة متنقلة، مش بيسكت لثانية، لأ وعارف إني مش بأفهم عربي، واللي طالع عليه يقولي صابرين، أنا كرهت نفسي من نص ساعة معاه، يا ريت أوصل بسرعة عشان أخلص منه!
أكمل مسعد قائلاً بإستمتاع:
-إيجيبت طبعاً غير أي بلد، حاجة كده مليانة آآ..
لم تتحمل سابين أكثر من هذا، فقاطعته متوسلة:
-بليز! Can you shut up ( ممكن تصمت )؟
عقد جابينه بإندهاش كبير، وسألها بغموض بادي على تعابير وجهه:
-عاوزة شطا؟ ليه؟!
ردت عليه بإمتعاض وهي تنفخ بضجر:
-أووف، إنت مش يفهمني!
هتف قائلاً بحيرة وهو محدق في إنعكاس صورتها:
-ما هو لو أنا أعرف عاوزة ايه هاعمله يا مدام صابرين
انزعجت سابين من استمراره في إلصاق لقب سيدة بها، فصاحت بضجر:
-بليز Stop saying Ma am ( كف عن قول سيدة )، أنا Miss ( آنسة )، مس، نو مدام، سابين بس!
تشكل على فم مسعد ابتسامة ودودة وهو يرد بسعادة:
-وماله لما نشيل التكليف بينا!
همست لنفسها بإستغراب مرددة بتلعثم:.
-تاك آآ، هاه؟!
بينما هز رأسه متعجباً وهو يضيف بإندهاش:
-حقيقي الأجانب دول ليهم حاجات غريبة، بس معنديش مانع، أنا أقولك صابرين حاف، وأنتي تقوليلي موسأد حاف
قالت سابين بلكنة رقيقة:
-هاف!
أوضح لها قائلاً بثقة:
-اسمها حاف، بال ( ح ) يعني من غير أي اضافات! نو سبايسي
أدركت سابين أنها تتعامل مع شخص لديه مشكلة عويصة في فهم اللغة الانجليزية، فهتفت بإستياء وهي تحاول السيطرة على أعصابها:
- أووه، بليز، هدوء!
-مش عاوزة دوشة، فهمتك، طيب.
في شركة ما بولاية أوهايو،
هب رجل ما ذو طلة مهيبة من على مقعد مكتبه، وضرب بكف يده سطحه بعنف وهو يصيح متساءلاً بإهتياج في الهاتف المحمول:
-ماذا تعني؟ هل تلاشت هكذا دون أن تترك أثراً؟
استدار حول مكتبه، وأكمل بغضب هادر:
-ابحثوا عنها حتى تجدوها، فلن أضع رأسي على المحك لأجل حمقاء مثلها أفسدت كل شيء!
عودة إلى القاهرة، وتحديداً في سيارة مسعد،
علق مسعد في زحام السير، وبدى الطريق طويلاً للغاية بالنسبة لسابين، حاول هو أن يسلك طريقاً مختصراً، ولكن كل الطرق مزدحمة فهي ساعة الذروة..
كما زادت حرارة الجو المصحوبة بالرطوبة، فأصابتها بالحنق الشديد..
استشعر مسعد ضيقها، وفكر في طريقة للتهوين عليها، ولكن قطع تفكيره المتعمق رنين هاتفه..
مد يده ليلتقطه، ثم حدق في شاشته فوجد اسم باسل عليها، فضغط على شفتيه، ولم يجبه..
فهو قد تلقى تعليمات شديدة بشأن عدم إخبار أي شخص بشأن طبيعة مهمته الحالية، والتي تقتضي استقبال الخبيرة، ثم إيصالها إلى مكتب قائده الفريق ضياء ليبلغه بالتالي..
تعطلت حركة السير بسبب حادث تصادم سيارتين، فتوقفت السيارات، وبدأت الأبواق تصدح عالياً، بالإضافة إلأى أصوات تذمرات ممزوجة بالسباب من قائدي السيارات..
هزت سابين رأسها بإنزعاج، ووضعت يدها على مقدمة جبينها الذي أمالته للأمام، وهتفت بضجر بلكنة عربية غريبة:
-هانوصل امتى؟
رد عليها بإبتسامة مهذبة:
-قريب إن شاء الله، اصبري بس
سألتها بنفاذ صبر بعد أن سئمت من الوضع الممل:
-When ( متى )؟
فرك مسعد فروة رأسه بحيرة، وحاول تفسير تلك الكلمة الموجزة التي نطقتها تواً، فيأس من فهمها، فردد بحماس وهو يشير بيده:
-بصي احنا هانروح ونعلي الطموح، يعني جوو ( Go ) لقدام.
هزت رأسها مستنكرة ردوده الغريبة عليها، وهمست بحنق:
-oh, shit ( تباً )!
التفت مسعد برأسه للجانب فلمح حقيبة الطعام التي أعدتها له والدته وأسندها إلى جواره، فتشكل على فمه ابتسامة سعيدة..
ثم قطع الصمت السائد لثوانٍ بينهما قائلاً بحماس:
-تلاقيكي جعانة ودماغك هتنفجر من الصداع، أنا عندي بقى الحل لكل ده
رفعت سابين رأسها لتنظر نحوه، ورمقته بنظرات غريبة، بينما تابع هو بتحمس أكثر:.
-شوفي يا صابرين أنا معايا شوية أكل بيتي هتاكلي صوابعك وراه
انفرجت شفتيها بصدمة مما يقول، وهتفت بنزق:
-هاه، What ( ماذا )؟
أجابها بتفاخر وهو يغمز بعينه:
-أمي عاملة محشي إنما ايه، خرافة، استني دوقي من صوباع وهايعجبك.
لم تفهم ما الذي يقصده، ولكنها رأته يفتح تلك الحقيبة البلاستيكية السمراء، ويخرج منها علباً ما، وبدأ برصها على المقعد، ثم فتح أحدهم، وقربها من أنفه ليستنشق رائحتها، فتجهمت تعابير وجهها من تصرفاتها المريبة، وهمست لنفسها بقلق:
-ده مش طبيعي! مجنون! أنا ممكن أموت مشلولة منه!
استدار بجسده نحوها، ومد يده ليلتقط منشفة ورقية ثم أمسك ب ( إصبع ملفوف الكرنب )، وقربه منها وهو يهتف بإصرار:.
-كلي المحشي ده، هايعجبك، ده، ده اسمها ايه، ايوه، افتكرت حاجة معمولة ( هاند ) بيت!
صححت له قائلة:
-It s Handmade ( مصنوع يدوياً )
لم يعبأ بما قالته، وهتف متحفزاً وهو يحرك يده للأمام:
-أي حاجة بس كليه
بدت علامات الإشمئزاز واضحة عليها بعد أن تأملت الملفوف بتمعن دقيق، ورفضت بإصرار أشد وهي تشير بكفيها:
-No , no, no ( لا، لا )
اعترض على رفضها قائلاً بإستغراب:.
-بتنونوي ليه الوقتي، ده طعمه حلو والله، على فكرة أمي نضيفة في أكلها!
حركت سابين رأسها معترضة بوضوح وهي تقول:
-I don t want ( لا أريد )
تابع مسعد قائلاً بتشجيع:
-دوقي بس يا صابرين، والله ما هتندمي، بصي أنا بأكله كده
ثم تناوله أمامها بإشتهاء وكأنه يتناول قطعة من حلوى الشيكولاته وهو يردد:
-الله الله! يا سلام!
فغرت فمها مشدوهة، ثم سريعاً ما أغلقته، ونظرت نحوه بنفور..
التقط هو إصبعاً أخراً ملفوفاً بطريقة جيدة، وقربه منها وهو يهتف بحماس:
-خدي ده حلو والله، هايعجبك وملفوف لفة فخيمة ولا ورق البفرة
لوت شفتيها في تأفف وعي تجيبه:
-مش آوز ( عاوزة )
رد عليها متعجباً بإصرار:
-وز ايه؟ بأقولك محشي، كلي يالا، هاتكسفي ايدي
أبعدت يده بعيداً عنها وهي تحتج قائلة:
-No , stop it ( لا، توقف عما تفعل )
حرك هو يده بقوة نحوها هاتفاً بإلحاح:
-خديه، هيعجبك.
وفجأة انزلق إصبع الملفوف من يده، وسقط على سروالها الجينز فلطخه، فصرخت بهلع وكأن حية لدغتها
انتفض مسعد في مكانه، واعتذر قائلاً بتبرير:
-أسف، أسف، والله ما اقصد، ده، ده اتزفلط من ايدي غصب عني، هي السمنة اللي زحلقته، أمي مكترة منها فالصوباع بيفط من ايد الواحد!
صرخت فيه سابين بإنفعال مهينة إياه بعدة شتائم لاذعة بالإنجليزية دفعة واحدة بعد أن رأت الكارثة التي أحدثها بها، فلم يستوعب منها ما تقول، ولكنه فهم من تصرفاتها المتشنجة أنها غاضبة للغاية، فعبس بوجهه ورد عليها بحنق قليل:
-يا ستي مكانش صوباع محشي وقع، محسساني إني رميتك بنابلم ( قنبلة )!
أشارت له بإصبعها وهي تصيح بصرامة:
-ششش! Enough ( كفاية )، I am done with you ( اكتفيت مما تفعله بي ).
لم تعجبه طريقتها الحادة في الصراخ فيه، فرمقها بنظرات ساخطة، وجز على أسنانه قائلاً بصوت خفيض يحمل الضيق:
-أنا غلطان إني عبرتك، اتفلقي!
رمقته بنظرات غاضبة، وسألته مستفهمة بإنفعال:
-What re you saying ( ماذا تقول )؟
ثم أعادت تكرار سؤالها بلكنتها العجيبة ولكن بغضب:
-إنت قول ايه؟
تجاهلها عمداً، وحدق في الطريق أمامه، وهمس من بين أسنانه بغيظ:
-بنت مين يعني عشان تتنكي أوي على اللي جابونا!
حاولت أن تتذكر اسمه لتنادي عليه، ولكنها نسيته، فضربت بكفها كتفه وهي تسأله بحدة:
-مو، موس، ، أوه، u اسمك ايه؟
التفت برأسه إلتفاتة صغيرة ناحيتها، ونظر لها من طرف عينه، فأغاظتها نظراته الضائقة نحوها، فتشنجت تعابيرها، ثم أزعجها بشدة أنه أشاح بوجهه بعيداً عنها وكأنها شخص نكرة..
ففغرت شفتيها مصدومة من تصرفه هذا..
تنهد مسعد بإنهاك، ثم أضاف بفتور:.
-احنا قربنا نوصل! أنا هاوديكي عند الباشا، وكل واحد فينا من سكة، صحيح الرياسة تناكة، بس احنا مش ماية في التلاجة!
أرجعت ظهرها للخلف، وحدقت فيه بإندهاش أعجب، بينما تابع هو بضيق واضح في نبرته:
-من الأول أنا عارف إننا مش هانسلك مع بعض يا صابرين، يالا، تتعوض من سكة تانية، وأهي الجيات أكتر من الريحات!
فهمت سابين من كلماته أنه إنزعج من أسلوبها الفظ معه، ولكنها لم تخطيء فهو من تعمد استفزازها بإلحاحه المستمر بتناول ذلك الطعام الغريب، فلطخ ثيابها، وأصابها بالإنفعال..
أرادت أن تعتذر منه، ولكنها فكرت سريعاً إن فعلت هذا فسيكتشف أنها تفهم كل كلمة لفظها، وهي عليها أن تكون حذرة في التعامل مع الأخرين، وخاصة الغرباء..
لذا أثرت الصمت، واكتفت بتنظيف سروالها بمناديل مبللة..
زفرت بضيق فقد ظلت بقعة الملفوف مطبوعة عليه، بالإضافة إلى رائحته المميزة..
بينما لم ينبس مسعد ببنت شفة طوال الطريق..
في منزل مسعد غراب،
صاحت السيدة صفية بنبرة مرتفعة شبه آمرة من داخل غرفة نومها:
-افتحي يا نوسة الباب لبتاع الزبالة، وأديله الكيسة اللي في المطبخ
نهضت إيناس من على الأريكة بتثاقل، وتمتمت بتذمر:
-هو مافيش إلا أنا
ثم ولجت للمطبخ، وأحضرت كيس القمامة،
واتجهت بعدها لتفتح باب المنزل بعد أن سمعت قرع الجرس مرة أخرى وهي تردد بصوت عالٍ وحاد:
-جاية يا بتاع الزبالة!
كانت هيئتها بثيابها المنزلية غير لائقة على الإطلاق، ولكنها كافية للإعتقاد بأنها خادمة هذا المنزل وليست من قاطنيه..
شهقت مصدومة حينما رأت باسل أمامها، وشعرت بالحرج الشديد منه وخاصة أنها كانت تمد يدها بكيس القمامة..
أخفت الكيس خلف ظهرها، ورسمت إبتسامة بلهاء على ثغرها وهي تقول:
-باسل، خير
ضاقت نظراته بغضب واضح وهو يسألها بجمود بعد أن استمع لعبارتها الأخيرة والتي نعتتها فيه بجامع القمامة:
-هو مسعد هنا؟
تلعثمت من نظراته المسلطة عليها وهي تجيبه بتلعثم:
-أيوه آآ، لأ، هو نزل!
سألها مستفهماً بعد أن إرتاب من ردها الغير مقنع:
-يعني جه؟
تنحنحت بخفوت، وأجابته بهدوء حذر:
-اه، بس مشى تاني
سألها بجدية وهو يفرك جبينه بإصبعيه:
-متعرفيش راح فين؟
هزت رأسها نافية وهي تقول بإختصار:
-آآ، لأ
أشار لها باسل بيده وهو يتابع بضيق:
-ماشي، قوليله لما يرجع إني عديت عليه، وخليه يعبر أهلي ويرد على الموبايل!
ردت عليه هامسة بإبتسامة سخيفة:
-من عينيا يا بِسِلّة ( نوع خضار بزلاء )
لم يسمع باسل ما قالته بوضوح، فرفع حاجبه للأعلى، وهتف بصوت أكثر جدية:
-نعم!
حاولت أن تكتم ضحكاتها من هيئة وجهه المتجهم، وردت بهدوء مصطنع:
-حاضر يا باسل
رمقها باسل بنظرات متفحصة لهيئتها الغريبة فبدى متأففاً نوعاً ما، ثم أشاح بوجهه وهو يتحرك مبتعداً متمتماً بتهكم:
-بتاع الزبالة شكله أحسن منها!
خجلت إيناس من نظراته المستهزأة بها، وعاودت النظر إلى هيئتها فأدركت أنه على حق في النفور منها، وعللت قائلة بحزن:
-ماهو ده مش منظر أفتح بيه الباب! دي ليه حق يقرف يقرب مني، يا خسارة البريستيج اللي بقى بلح قصاده!
في مكتب ما بجهة سيادية،
ولجت سابين إلى تلك البناية الشاهقة وحديثة الطراز عبر بوابتها الأمنية، وتأملتها بإنبهار واضح في نظراتها..
لحق بها مسعد كظلها، وحافظ على وجود فارق خطوتين بينهما..
استقبلهما بعض الرجال من ذوي الحلات السوداء، ثم أرشدهما أحدهم إلى غرفة ما، فاتجه الاثنين نحوها، وجلسا في مكتب ما لبعض الوقت منعزلين عن العالم الخارجي..
تحاشى مسعد النظر إليها، ومال بجسده للأمام ليستند بمرفقيه على فخذيه، ونكس رأسه قليلاً للأسفل، وظل يتمتم بكلمات مبهمة يواسي فيها نفسه، بينما وضعت سابين ساقاً فوق الأخرى لتغطي تلك البقعة الظاهرة في سروالها والتي حاولت تجاهلها لتخفي حرجها، ولكن لتأكدها من نظرات المحدقين بها فقد كانت متأكدة أنها في حالة مزرية بسبب غباء هذا المتطفل..
بعد برهة من الصمت الحذر، نفخ مسعد بإستياء، وأرخى ظهره للخلف وهو يقول بعدم اكتراث وبنبرة خفيضة مواسياً نفسه:
-كان لازم يعني أوافق على المهمة دي وأعمل نفسي أدها، وانا عارف من الأول إن مافيش فايدة منها!
تنهد بعمق وهو يكمل بيأس:
-يالا مافيش أجدع من إن الواحد يعمل بالحكمة اللي بتقول خليك في حتت وريح جتتك!
ظلت سابين تهز ساقيها بعصبية وهي تغمغم مع نفسها بسخط بعد أن رمقت مسعد بنظرات شبه إحتقارية وهي مكفهرة الوجه:
-الواحد ممكن يتعامل مع أي حد إلا الغبي! وأنا وقعت مع أغبى الناس، مش ممكن ده يكون مؤهل لحماية حتى نفسه، ده أخره يكون حارس في مول، شركة وتبقى كتير عليه أصلاً، بجد أنا مش مصدقة إني هاخلص أخيراً منه، وأتعامل مع ناس أذكياء، بس لازم أتكلم مع ال FBI..!
في نفس التوقيت ولج الفريق ضياء إلى داخل الغرفة، فهب مسعد منتفضاً من مقعده، وانتصب بشدة في وقفته، وهتف بنبرة متصلبة:
-تمام يا فندم
-استرح يا مسعد
قالها الفريق ضياء بهدوء وهو يشير بيده، فنفذ الأخير أمره، وأرخى جسده قليلاً. ثم اتجه نحو سابين، ومد يده ليصافحها وهو يقول بإبتسامة رسمية باللغة الإنجليزية:
-مرحباً بك في مصر آنسة سابين!
ردت عليه بنفس االلكنة الإنجليزية وهي تبادله ابتسامة رقيقة:
-أشكرك.
سألها الفريق ضياء بإهتمام:
-كيف كانت رحلتك؟
ردت عليه بصوت متعب:
-مرهقة نوعاً ما!
ثم سلطت أنظارها على مسعد، وأكملت بحنق:
-ولكنها لا تقارن بمن قابلت
استدار برأسه حيث تنظر، وقال مبتسماً:
-أرى أنكِ تعرفت على مسعد
انتبه مسعد إلى اسمه الذي قيل وسط ذلك الحوار الغير مفهوم، فأدرك أن الحديث عنه..
تساءلت سابين بهدوء حذر:
-هل يمكن أن نتحدث على انفراد؟
لم ترغب هي في الحديث أمام مسعد عما يخصها، فإمتثل الفريق ضياء لطلبها، وأردف قائلاً بجدية:
-مسعد!
رد عليه بصوت شبه جاد:
-ايوه يا فندم
أشار له بعينيه وهو يضيف بصوت آمر:
-روح جهز نفسك، وانتظر مني التعليمات الجديدة
حرك مسعد نظراته نحو سابين، ورمقها بحدة قبل أن يجيب بجدية:
-حاضر يا سيادة الفريق
ثم تحرك بعدها ناحية الباب وهو يتوقع الأسوأ منها..
أشار الفريق بيده لسابين لتجلس وهو يقول بهدوء:
-تفضلي.
ردت عليه بإبتسامة رقيقة:
-أنا بأتكلم آربيك ( عربي ) كويس جنرال!
التوى ثغره بإبتسامة عريضة وهو يقول:
-كويس، يعني نقدر نتفاهم من غير ما يكون في عقبات
أومأت برأسها ايجاباً وهي ترد بثقة:
-أكيد!
ثم تحولت نبرتها للعدائية وهي تضيف:
-بس أنا مش قايلة للكائن اللي كان هنا
انعقد ما بين حاجبي الفريق ضياء في إندهاش، وسألها متعجباً:
-قصدك مسعد؟
هزت رأسها وهي ترد عليه بضيق:
-ايوه، ده غريب وآآآ...
قاطعها معترضاً:.
-مسعد غراب من أفضل الناس اللي هاتتعاملي معاهم، ومؤهلين لحمايتك
هتفت بتهكم واضح على تعابيرها:
-ده!
رد عليها بجدية:
-أيوه، أنا عارف إن موضوعك سري، وقليل جداً اللي عارفينه، وبالتالي أنا رشحت أجدر حد بالمهمة دي
احتجت سابين قائلة بإهانة:
-جنرال، ده، ده آآ، أنا مش عارفة أقولها ازاي But he s dump ( متخلف )
عبس الفريق ضياء بوجهه، وصاح بإنزعاج:
-آنسة سابين، مقبلش إنك تقولي على واحد من أمهر رجالتي كده.
شعرت هي بخطئها، فتداركته مسرعة:
-أنا مش عارفة أتعامل معاه، فإزاي هنتواصل سوا، ده، ده مش بيفهمني حتى!
فرك الفريق ضياء ذقنه، وأضاف قائلاً بحرج قليل:
-احم، هو، هو عنده مشكلة في اللغة، بس صدقيني عملياً هو من أكفأ الضباط!
توسلت له قائلة بإستعطاف:
-بليز، ممكن نغيره جنرال، بليز، ده طلبي!
هز رأسه نافياً وهو يبرر لها:
-صعب! كل ما يكون عدد اللي عارفين بطبيعة وجودك هنا قليل يكون أفضل!
سألته مستفهمة بجدية:.
-هو عارف أنا هنا ليه؟
أردف قائلاً بنفي:
-لأ، هو معتقد إنك خبيرة دولية وبتعملي أبحاث، ما إنتي قريتي المطلوب منك، اللي بلغني إن ال FBI عرفوكي ب آآ...
قاطعته سابين قائلة بيأس:
-أها، أنا عارفة ده، بس توقعت حد مختلف
أخذ الفريق ضياء نفساً عميقاً، وزفره على مهل، ثم تابع قائلاً بجدية:
-آنسة سابين، احنا بنحاول نوفرلك الحماية المطلوبة من غير ما نثير الشكوك، وأظن إننا مش هنعرضك للخطر
ابتسمت بسخرية:
-أتمنى!
أضاف قائلاً بثقة:
-اطمني، احنا أد كلمتنا، وأقامة سعيدة في مصر، وإن شاء الله تكون تجربة مختلفة!
ردت عليه بإبتسامة مجاملة:
-شكراً
وضعت سابين يدها على كتفها لتفركه قليلاً فقد آلمتها عضلاتها بعد ذلك المجهود المرهق، ثم تساءلت بهدوء:
-هو أنا هاروح الفندق امتى؟
قطب جبينه متعجباً وهو يرد عليها:
-فندق! واضح إن في سوء فهم عندك
ضاق ما بين حاجبيها بإندهاش وهي تسأله:
-ليه؟
ضغط على شفتيه، ورد عليها بهدوء وهو يشير بيده:.
-هاوضحلك أكتر.
على الجانب الأخر، في غرفة جانبية،
بدل مسعد ثيابه المدنية بزيه العسكري، وظل يسب في نفسه بحنق واضح على تعابير وجهه المشدودة، كز على أسنانه قائلاً بغل:
-زمانتها بتجَوِد مع الفريق ضياء وبتقول عني في الخمر يا ليل، وطبعاً أمريكانية، يعني مافيش خط أحمر معاها، هتدوس لحد ما ألوص، وأنا كده ضعت!
نفخ بغيظ وهو يكمل:
-منك لله يا صابرين، بقى دي أخرتها! أنا لو وقفت عسكري تشريفة يبقى فضل ونعمة!
صاح أحد الضباط بصوت مرتفع وهو يلج للغرفة:
-مسعد، الفريق ضياء عاوزك حالاً
رد عليه مسعد بإمتعاض:
-حاضر، اديني جاي!
انتهى الفريق ضياء من إعادة سرد تفاصيل الخطة الموضوعة لتأمين سابين بإيجاز، ففهمت الأخيرة مقصده بإقتناع قليل، ورغم إعتراضها على وجود مسعد معها في خطة الحماية إلا أنه لم يكن لديها خيار أخر سواه..
ردت عليه بإستياء وهي تتنهد وقد بدى على وجهها علامات غير راضية:
-اوكي جنرال، أنا موافقة!
انتبه الاثنين إلى صوت دقات ثابتة على الباب، فصاح الفريق ضياء قائلاً بنبرة رسمية وهو يدير رأسه في إتجاهه:
-ادخل!
ولج مسعد للداخل بهيئته العسكرية فإتسع فم سابين في إندهاش ملحوظ حينما سلطت أنظارها عليه، فقد بدى كشخص أخر له طلة مهيبة غير ذلك الأبله الذي تعاملت معه قبل قليل، رمشت بعينيها عدة مرات لتتأكد أنه نفس الشخص، وهمست بلا وعي:
-م، موسأد!
لم ينظر هو نحوها، فقد كان متوقعاً أنها أنهت مهمته معها قبل أن تبدأ، لذا أدى التحية العسكرية قائلاً بصرامة دون أن يظهر حنقه منها:
-تمام يا فندم!
أردف الفريق ضياء قائلاً بجدية:.
-اتفضل يا مسعد استلم مهمتك مع الخبيرة!
إرتفع حاجبيه للأعلى في صدمة، وتحركت أنظاره تلقائياً نحوها، وهتف بعدم تصديق:
-أنا...!