رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والعشرون
في منزل مسعد غراب،
ولجت سابين إلى غرفة مسعد وهي تسحب حقيبة سفرها خلفها..
أسندتها إلى جوار الفراش ريثما تضيء الغرفة..
ثم أغلقت الباب خلفها، وتأملت المكان بدقة..
هي غرفة ذكورية بحتة رغم ترتيبها..
استطاعت أن تشعر بروحه فيها..
لمحت ملابسه المعلقة، وأدواته الخاصة على التسريحة، وكذلك تلك الصورة الفوتغرافية الكبيرة المعلقة على الجدار وهو يرتدي زيه العسكري..
ابتسمت بخجل وهي تتأمله..
جابت بنظراتها فراشه، وبحرج شديد جلست على طرفه..
مدت يدها لتمسك بالمزهرية الصغيرة الموضوعة على الكومود، والتي كانت غريبة في شكلها، فمطت فمها لتقول لنفسها:
-ذوقه غريب!
أعادت وضعها في مكانها، ثم أراحت ظهرها على الفراش..
تنهدت بتعب، وفركت مقدمة رأسها بيدها لتخفف من حدة ذلك الصداع الذي أصابها..
أرادت أن تبدل ثيابها بأخرى مريحة حتى تأخذ قسطاً من الراحة بعد ذلك المجهود المرهق مع طفلي إسراء..
تمتمت مع نفسها بضجر وهي تتذكر ما فعلاه بأشيائها:
-شياطين، مش أطفال خالص!
وبالفعل بدلت ملابسها، وإرتدت منامة قصيرة من اللون الوردي، ثم استلقت على الفراش..
أمسكت هي بهاتفها المحمول، وتفقدت الصور المخزنة على ذاكرته لتستعيد مع نفسها جزءاً من حياتها التي تفتقدها..
تنهدت بإحباط، وابتسمت لنفسها ابتسامة باهتة..
قررت في لحظة جنون منها أن تهاتف رفيقتها مارلي لتتفقد أحوالها وتطمئن منها على حال عائلتها..
هي تعلم أنها مخاطرة، ولكنها تشتاق إليهم كثيراً..
عضت على شفتها السفلى، واعتدلت في جلستها، ثم أجرت المكالمة بعد أن وضعت الشريحة الهاتفية الدولية، وانتظرت بترقب إجابة الطرف الأخر..
استمعت هي إلى صوت رفيقتها وهي تهتف بحماس:
-أوه، سابين، أهذه أنتِ؟
أجابتها برقة وهي تطلق تنهيدة خافتة:
-نعم مارلي، إنها أنا!
قاومت سابين رغبتها في البكاء، وحاولت الحفاظ على ثبات نبرتها قدر المستطاع..
صاحت مارلي بتلهف:.
-اشتقتُ لكِ، طمئنيني على أحوالك!
ردت عليها سابين بصوت رقيق:
-أنا بخير، كيف حالك أنتِ؟
أجابتها مارلي بنبرة سريعة:
-في أحسن حال، متى ستعودين، وأين أنتِ، هيا أخبريني!
ردت عليها سابين بحذر:
-لا أستطيع الآن، ولكني سأعود قريباً!
سألتها بتلهف:
-حقاً؟
همست سابين بجدية:
-نعم، سأنهي المكالمة الآن!
توسلتها مارلي قليلاً للبقاء فقد كانت تفتقدها هي الأخرى:
-انتظري قليلاً!
ضغطت على شفتيها قليلاً وهي تقول:.
-لا أستطيع، أراكِ على خير
ثم أنهت المكالمة معها وهي تمسح تلك العبرات التي علقت بأهدابها..
فإحساس الحنين إلى ما نشتاق لا يمكن وصفه بدقة، ولكنه يتملك من قلب المشتاق بشدة..
في الوحدة التدريبية العسكرية،
كتف فادي ساعديه أمام صدره وهو ينظر إلى مسعد وباسل بنظرات مطولة، ثم استأنف حديثه قائلاً ببرود:
-والله هتوحشنا يا باشوات! يا رب نجمع تاني
رد عليه مسعد بإمتعاض:
-تصدق الحسنة الوحيدة اللي طلعنا بيها من المصيبة دي إننا مش هانشوف وشك الرزل ده تاني
نظر له فادي بحدة وهو يعاتبه بإستنكار:
-ليه بس، ده أنا حتى بأعزكم أوي يا مسعد باشا!
رد عليه مسعد بجمود وهو ينظر له بسخط:
-أنا لأ.
أردف باسل قائلاً بجدية:
-مش يالا بينا عشان منتأخرش، لسه السكة طويلة
أرخى فادي ساعديه، وأكمل بهدوء:
-سلام يا رجالة، وهنتقابل أكيد تاني!
رد عليه باسل بإقتضاب:
-لو في نصيب
بينما أضاف مسعد على مضض:
-إن شاء الله مايحصلش!
انصرف فادي من أمامهما، فسأله باسل بإستغراب:
-انت بتكلمه كده ليه؟
رد عليه مسعد بنبرة متأففة وهو عابس الوجه:
-بص أنا أصلاً مخنوق من خلقة أمه، وكل ما أشوفه ببقى هاين عليا اجيبه من كرشه!
ضاق حاجبي باسل قليلاً، وسأله بتعجب:
-ليه كل ده!
من أسباب كره مسعد له هو تعرضه مسبقاً لسابين، وبالتالي أجج هذا لديه نزعة الانتقام منه..
لذا بنبرة مغلولة أجابه:
-يعني، ذكريات زبالة معاها، آآ، قصدي معايا
هز باسل رأسه في عدم اكتراث وهو يقول:
-طيب!
أضاف مسعد بنبرة متحمسة وقد إرتسم على ثغره ابتسامة عريضة:
-قبل ما انسى، هايحتفلوا بكرة بعيد ميلادي!
تساءل باسل بإستغراب:
-مين دول؟
أجابه بتنهيدة حارة:
-العيلة عندي.
حك باسل مقدمة رأسه وهو يفكر في تاريخ ميلاد مسعد، ثم ردد بغرابة:
-مش لسه بدري عليه؟!
زادت حماسة مسعد وهو يجيبه:
-لأ، اسراء كتر خيرها هتعمله بكرة!
استشف باسل السبب الحقيقي والخفي من الحماسة الزائدة لتصرفه، فهو عادة لا يتقبل وجود أخته الكبرى في المنزل بسبب الفوضى التي تحدث أثناء زيارتها، وتلك المرة – وعلى غير العادة - هو متحفز للعودة بالرغم من الظروف الأخرى المرتبطة بأحوال التشكيل القتالي..
غمز له باسل وهو يقول بعبث:
-لا والله، أتاريك فرحان!
فرك مسعد كفيه معاً، وهتف بتسلية:
-انت عارف المناسبات اللي زي دي مش بتكرر كتير!
تمتم باسل قائلاً:
-أها، عندك حق!
تابع مسعد قائلاً بحماس:
-اعمل حسابك انت معزوم بكرة، وماتجبش هدية يا عم، بس هستناك!
لاح طيف إيناس فجأة في مخيلته، فظهر شبح ابتسامة خفيفة على ثغره، وسريعاً أخفاها حتى لا يلاحظها رفيقه، ثم أردف قائلاً بمزاح:.
-ماشي، وأهي فرصة برضوه أطمن على آآ، سابين!
تبدلت تعابير وجه مسعد، وأصبحت أكثر حدة وهو يقول بنبرة شبه صارمة:
-عندك! سابين منطقة محظورة، لو جاي تشوفها أحسنلك ماتجيش!
قهقه باسل عالياً بعد أن نجح في إغاظة رفيقه، وهتف بنزق دون أن يعي!
-لا يا سيدي، هاطمن على سيادة اللواء وبنت سيادة اللوا!
شحب لون وجهه قليلاً بعد أن لفظ عبارته الأخيرة، وتوجس خيفة أن يكون مسعد قد فهم مقصده، فابتلع ريقه بتخوف، وطالعه بنظرات مترقبة لردة فعله..
لم ينتبه رفيقه له، فتفكيره حالياً كان منصباً على العودة للمنزل ورؤية سابين، لذلك رد عليه بإبتسامة عادية:
-إن كان كده ماشي!
تنفس باسل الصعداء أن الأمر لم يتخطَ معه حدود المألوف، ومر مرور الكرام، فتنهد بإرتياح وهو يردد:
-طيب، بينا
-ماشي!
في منزل مسعد غراب،
ركضت إسراء خلف طفلها فارس الذي رفض إكمال إرتداء ملابسه، وظل باقياً بثيابه الداخلية، وحاولت إجباره على إرتداء سرواله المنزلي، لكنه قفز فوق الأرائك بالصالة، ورقص بجسده وهو يزيد من عبثه واستفزازه لها..
صرخت فيه بعصبية:
-يا واد تعالى هنا وألبس هدومك، هاتفضل كده بالبوكسر؟!
تراقص أمامها بخصره وهو يجيبها:
-لأ مش جاي
صاحت فيه بغضب مهددة إياه:
-والله لو مسكت لهأقطم رقبتك!
تحداها قائلاً ببرود:
-مش هاتعرفي، تاراتا!
صاحت إسراء بنبرة عالية وبتذمر جلي:
-أه يا غلبي! يجي أبوكم يشوف الهم اللي أنا فيه
في نفس التوقيت كانت إيناس على وشك النوم على فراشها حينما وجدت سيف قد تبول لا إرادياً عليه، فصرخت بإشمئزاز:
-يا إسراء، يا ماما، تعالوا شوفوا سريري اللي اتبهدل من سيف!
ولجت صفية إلى داخل الغرفة، ونظرت إلى الفراش، ثم ربتت على ظهر ابنتها قائلة ببرود:
-يا عيني، معلش.
انفجرت إيناس قائلة بصياح غاضب وهي تلوح بذراعيها في الهواء:
-معلش، بقى يعمل ( بي بي ) على سريري وتقوليلي معلش، ماما إنتي بتغظيني!
ردت عليها والدتها بنبرة غير مكترثة:
-بكرة أحطلك المرتبة في الشمس وهتنشف!
أغاظتها ردود والدتها الغير مبالية، فصاحت محتجة بحنق:
-وأنا ليه أنام على مرتبة بايظة ومبلولة
أضافت صفية قائلة ببرود استفزها أكثر:
-بكرة ياختي لما تجيبي عيال هتفوتي حاجات كتير
ردت عليها إيناس بتذمر:.
-لو عيال بالشكل ده مش عاوزة!
ولجت إسراء إلى داخل الغرفة على إثر الصياح المرتفع، وتساءلت بعدم فهم:
-في ايه يا نوسة، بتزعقي ليه؟
استدارت إيناس برأسها نحوها، وأجابتها بحنق وهي تشير بيدها:
-شوفي ابنك عمل ايه على سريري!
دققت النظر في الفراش الذي أشارت إليه، ورأت تلك البقعة المبتلة فيه، فعضت على شفتيها بضيق، ثم لامتها بهدوء حذر:
-كنتي قوليله يخش الحمام قبل ما ينام!
هدرت فيها إيناس بضيق:.
-وماقولتيش ده ليه من الأول بدل ما يعمل المصيبة دي عندي
بررت إسراء فعلة ابنها ببرود مستفز:
-أنا فكري إنه لسه صاحي
كزت إيناس على أسنانها بحنق، وضربت الأرض بقدمها بعصبية، وتمتمت من بين شفتيها بعصبية:
-لأ بجد كده كتير
ثم وضعت يدها على منتصف خصرها، وتساءلت بحدة:
-طب هنام أنا فين دلوقتي؟
ردت عليها والدتها صفية بإبتسامة سخيفة:
-على السرير يا حبيبتي، أنا هاغيرلك الملاية وهاحط مشمع وخلاص عديها، مجاتش من ليلة.
اعترضت إيناس هاتفة بتأفف وهي تشير بإصبعها:
-يععع، انا أنام هنا، أبداً، ده أنا عندي أنام على الأرض ولا أنام عليها!
ردت عليها والدتها بنبرة غير مبالية:
-اللي يريحك!
جذبت إيناس الوسادة، وغطاءاً نظيفاً، ثم غمغمت بتبرم خافت وهي تنفخ من الغيظ:
-أووف، يا رب تمشوا بقى، أنا تعبت!
تساءلت إسراء وهي تتلفت حولها بحيرة:
-أومال الواد فارس راح فين؟
وضعت إصبعيها على طرف ذقنها وتابعت بتوجس:.
-لأحسن يكون عند سوسو، أما أروح ألحقه بدل ما يعمل مصيبة معاها.
اقتحم فارس غرفة خاله مسعد، فانتفضت سابين فزعة حينما رأته أمامها، ولكنها سريعاً ما استعادت هدوئها، وعاتبته برقة بعد أن دقق النظر في هيئته وفيما يرتديه:
-إنت ليه ادخل كده، ومش إلبس هدومك؟
رد عليها بسماجة:
-الجو حر!
لامته سابين على هيئته شبه الفاضحة قائلة:
-إيب ( عيب ) فارس مش ينفع افضل كده!
رد عليها بعدم اكتراث وهو يلقي بجسده الصغير على الفراش ليقفز عليه:
-طب أنا عاوز أنام هنا في التكييف يا شبين.
اعترضت سابين قائلة بنبرة شبه منزعجة:
-أنا سابين، و نو ( لأ )، إنت نام هناك مع مامي!
زفر بعبوس واضح وهو يقطب جبينه:
-يووه، لأ يا شبين!
استمعت إسراء إلى صوت ابنها، فصاحت بحدة وهي تدفع الباب بيدها:
-تعالى يا زفت هنا
تعصب فارس قليلاً وهو يقول:
-ياباي!
قبضت هي على ذراعه بقوة، وابتسمت ببلاهة وهي تقول:
-هيهيهيهيه، سوري يا سوسو، هو أصله بيحبك أوي وكان عاوز يوريكي البوكسر الجديد اللي لابسه!
بادلتها سابين ابتسامة مجاملة وهي تقول بإمتعاض:
-اوكي!
دفعت إسراء طفلها أمامها بعنف قليل، وكزت على أسنانها وهي تقول:
-انجر يا واد قدامي!
خرج الاثنين من الغرفة، فأغلقت سابين الباب خلفهما، ونفخت بضجر وهي تردد بإنهاك:
-أوه، دول جحيم!
لاحقاً أوصل مسعد باسل أولاً إلى منزله، ثم تحرك عائداً إلى بيته هو الأخر..
كان قلبه يقفز بين ضلوعه من فرط السعادة..
ظل يدندن مع نفسه بأغانٍ متعددة حتى وصل أسفل بنايته..
صف السيارة، وترجل منها، ثم سحب حقيبته من المقعد الخلفي، وأغلقها بالقفل الالكتروني، واتجه مسرعاً إلى مدخل البناية..
فتح مسعد باب منزله بحذر شديد، وولج إلى الداخل..
كان كل شيء هادئاً للغاية، والمكان شبه معتم..
أوصد الباب بحذر، ثم أسند حقيبته بجواره، وسار بخطوات بطيئة نحو الصالة..
لمح أخته الصغرى إيناس وهي تتمدد على الأريكة العريضة، وتغط في سبات عميق..
حك مؤخرة فروة رأسه بإستغراب، وتساءل مع نفسه بفضول:
-ودي ايه اللي منيمها هنا؟
هز رأسه بإيماءة خفيفة فقد اعتقد أنها تركت الغرفة لسابين لتكون على راحتها بها، فالتوى ثغره بإبتسامة عابثة وهو يهمس لنفسه:
-بنت حلال يا نوسة!
تنهد بحرارة، ثم تحرك ببطء نحو غرفتها، فقد أراد أن يطمئن على سابين بنفسه..
تسلل على أطراف أصابعه بعد أن نزع حذائه العسكري عن قدميه، ثم دنا من الباب الغرفة..
وضع يده على المقبض، وأداره بحرص شديد كي لا يصدر صريراً وهو يفتح..
حاول إختلاس النظرات للداخل لكنه لم يرَ أي شيء، فقد كانت الغرفة مظلمة تماماً..
لمح ذراع أحد الصغار يتدلى من الفراش، فحدث نفسه بضجر:
-تلاقي العيال كاتمين على نفسها، يالا، بكرة أبقى أشوفها!
أغلق الباب بهدوء، وارتسم على ثغره ابتسامة عريضة..
اقترب من غرفته، وفتحها وهو يتثاءب، ثم أغلقها خلفه..
تسمر في مكانه حينما اشتم رائحة ذلك العطر المميز الذي كانت دوماً تضعه..
اتسعت حدقتيه في صدمة وهو يلتفت برأسه نحو فراشه..
وقعت عيناه على تلك النائمة عليه، وانفرجت شفتيه في ذهول كبير..
استغرقه الأمر عدة ثوانٍ ليدرك أن سابين نائمة بغرفته..
اتسعت ابتسامته السعيدة بصورة كبيرة، وزادت الحماسة بداخله..
توتر للحظة من وجوده بمفرده معها في نفس الغرفة، فماذا سيظن أهله إن اكتشفوا وجوده في هذا التوقيت؟
ابتلع ريقه بتوجس، وهمس بنبرة شبه متخوفة:
-مش بعيد نتعدم في ميدان عام!
شعرت سابين بوجود حركة في غرفتها، ولكنها لم تستطع فتح عيناها بسبب الإرهاق وسيطرة سلطان النوم..
ظنت أن الموجود هو فارس الذي كان يزعجها طوال اليوم ويقتحم الغرفة لينام معها، فهمست بصوت ناعس:
-مش ينفع فارس تنام هنا! موسأد يزعل
ابتسم ببلاهة لذكرها اسمه، وفرك رأسه بإرتباك، ثم أخرج تنهيدة حارة من صدره..
تحرك عفوياً نحوها، ثم جثى على ركبته أمام الفراش، وظل يطالعها بنظرات متأملة وهي تحتضن الوسادة بذراعيها الناعمتين..
مرر عينيه ببطء على تفاصيل وجهها، وتنهد بإشتياق..
أحست سابين بتلك الأنفاس الحارة التي تلفح وجنتها، فانتبهت لها، ثم فتحت عينيها فجأة لتجده أمامها محدقا بها بنظرات متيمة، وهو يبتسم لها..
اتسعت حدقتيها بصدمة كبيرة، وانفرجت شفتيها لتصرخ و...!