رواية خيوط الغرام للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الأول
انتفض ظافر من مقعده الذي التصق به منذ عودته من العمل ليتجه نحوهم بهلع، امسك بذراع طفله الصغير يضغط عليه بحده...
-انا مش قلت تشوف وانت بتجري ؛ كده خبطها!
ارتعبت من صوته الرعدي فما بال الطفل المسكين الذي لم يتعدى الخمسة اعوام!
تدخلت شروق وهي لا تزال تضع يدها علي احشائها خوفا علي من بداخلها من اثر صدمة يوسف الصغير بها و الذي كاد يصيبها بشكل مباشر لولا انتباهها في اللحظة الأخيرة!
جذبت يوسف من بين راحتي والده الي جنه ذراعيها هاتفه...
-انت بتزعقله ليه؟! طفل طبيعي ما يخدش باله وهو بيجري وبيلعب!
خبأ يوسف الصغير رأسه في جسدها يكاد يبلل سرواله من الذعر فهو لم يعتد سوي صوت والده الحاد و لم يجرب قسوة يداه يوما، ليعيد عقله الصغيرة الي تلك من كان يطلق عليها ماما دون اي اهتمام منها بمرادفات وعمق تلك الكلمة فصار يخشاها حتي في احلامه، فتختفي تلك الام بشكل مفاجئ لم يهتم له كطفل صغير كثيرا منصبا اهتمامه بأخته الاصغر...
انشغل ظافر للحظات بتلك الشعلة المنبثقة من عيناها الزيتية الزائغة كشجرة زيتون في القدس تتمايل بتمرد في ليله عاصفة متشبثه بجذورها منتظرة السلام!
(السلام أخوتي في الله نسعي له و لا ننتظر مجيئه تحت اقدامنا )
ليردف بهدوء غائم...
-مفيش حاجه اسمها ميقصدش، انا نبهت عليه بدل المرة الف ويوسف مش صغير ؛ انا ربيت ابني علي تحمل المسئولية واللي عمله ده تهور، كان ممكن يحصل مضاعفات ؛ هما اقل من تلت أسابيع عدوهم علي خير!
زفرت لا تريد المشاكل معه في اخر الليل لتردف وهي تمرر يدها بحنان علي شعر الصغير فتلين عينا ظافر بتروي وتلقائيه، خاصة عند وصول شهقات ابنه المكتومة الي مسامعه...
اطرق رأسه لحظه يستعيد بها ذاته مقررا محادثه صغيره و لكنها بكل فظاظة سبقته...
-يويو وبعدين! مش احنا قلنا الرجالة مش بتعيط؟!
قطب جبينه بغيظ ليردف ظافر مستهجنا...
-هيبقي راجل ازاي وهو يويو اسمه يوسف ؛ انتي كده بتشتتي تكوينه!
نظرت له وكأن له 7 رؤوس، ماذا يعرف عن التكوين بجفاء شخصيته الحمقاء؟!
اغمضت زيتونيتها لحظه متجاهله اياه لتستكمل للصغير وهي تمسح بكفيها وجنتيه الحمراء...
-خلاص هات بوسة يلا واوعي تعيط تانى، بابا مكنش يقصد يزعقلك ؛ مش كده يا بابا!
قالت اخر جملتها بحده و تحذير مستتر، لتنعكس نظرتها منذ لحظات علي ملامح وجهه العابس وهو ينظر لها غير مصدقا وقاحتها وهي تأمره بكل عنجهية متناسيه انه هو والده ؛ وليست هي الصغيرة الحمقاء مفسدة الاطفال!
كاد يفتح شفتيه باستنكار يغلي داخله لكنها وللمرة الثانية علي التوالي تتولي زمام الامور...
-شفت اهو قال ميقصدش ؛ قول لبابا انك مسامحه!.
فغر فاهه مشدوها فهو لم ينبث حرفا واحدا!
نقل بصره الي الصغير الذي ابتعد عنها بضع انشات رامقا اياه بنظره تحليليه ؛ قبل ان يمسح انفه قائلا...
-مسامحك!
لا يدري ايهما يوبخ الخرقاء صاحبه البطن الممتلئة و التي توازي ابنه طفوله ام صغيره السمج الذي استدار بكل وقاحه يرمقه بتعالي مذبذب..
فتح ظافر شفتيه دون جدوي ؛ توقف عقله عن تجميع حروف الكلمات!
تابع ابتسامه يملئها النصر ترتسم على وجهها قبل ان تقبل راس صغيره و توجهه الي غرفته بخفه...
-يلا نام و اوعي تطفي النور فيري بتخاف!
هز يوسف رأسه و كاد ظافر يشتعل وهو يراها مهمله اياه تماما ولكن الصغير توقف علي بعد خطوة واحده من غرفته ملتفتا الي اباه قائلا...
-انا اسف يا بابا ؛ اخر مره ؛ تصبح علي خير!..
راقبت شروق تلك الخطوط التي تفرض ظهورها علي اطراف عيون ظافر والتي باتت تدغدغ عيناها منذ فتره وتستهويها ؛ ليرسم تلك الابتسامة الحصرية لأطفاله ملوحا بيده ليوسف بخفه...
-انا عارف يا يوسف، وانت من اهل الخير!
لتختفي ابتسامته بشكل فوري ما ان اغلق الباب...
استدار كلاهما في نفس اللحظة، هي تستدير و تعطيه ظهرها تحاول الهروب الي غرفتها وهو مستدير نحوها قبل النجاح في ذلك، فقد سئم هروبها الدائم من افعالها ام انه سئم ذلك الهروب منه هو شخصيا!
-لحظه يا شروق!
اغلقت جفنها الايسر مع انكماش نصف وجهها مستشعره جمود لهجته...
وضعت يدها علي ظهرها قبل ان تئن بخفه ليهرع نحوها بتساؤل سامحا لنفسه بلا وعي بملامستها!
-مالك يا شروق؟ اتصل بالدكتور؟! ده مش معاد الولاده؟!
استطاعت تميز ذعر تعلو نسبته مع كل كلمه يتفوه بها لتندم للحظة، فقط لحظه واحده علي هذه التمثيلية للهرب من احدي خطاباته عن وجوب نضوجها وعدم افساد ابناءه ولكنها اختفت سريعا!
نعم و كأنها تحتاج دروسا عن النضوح ففي نهاية كل ليله تقف امام المرآه لتنظر الي تلك الفتاة التي نضجت و عانت في تسعة أشهر اكثر من ما تحملت في الثلاث و العشرين عام التي عاشتهم...
ارتسم ظل ابتسامه علي ثغرها ترفض الغوص في مآسيها امام عينيه الثاقبة كعيون الشاهين، متناسيه اصطناعها للألم وهي تشعر به يلتفها بذراعيه، فيقفز ذلك الشعور الطاغي الذي أولده داخلها، و يلازمه الشعور بالذنب والذي اصبح يتأكلها كثيرا هذه الايام،
ابعدت يده بلوعه من علي كتفها والأخرى من علي جنينها وكأنه كان يحادث الطفل بالداخل حتي لا يخرج قبل موعده!
-انا كويسه ؛ تصبح علي خير!
تابع هروب عينيها و راسها المطرقة وهي تتحرق شوقا للهرب منه، لم يغفل عليه انها لم تتحمل لمسته لها بضع ثواني!
تجمدت ملامحه و هو يردف ببرود اصطنعه...
-انا خايف علي اللي في بطنك و شايف اننا نروح لدكتور!
نظرت له بحنق لتردف بحزم...
-مفيش داعي قولتلك متقلقش عليا...
ليجيبها بعناد فاقها...
-مش قلقان عليكي انا قلقان علي اللي جواكي!
بالطبع! يا لغبائها ؛ لما سيقلق عليها ؛ هو يريد ما تملكه ويمني نفسه به وليس هي!
لا تدري لما شعرت باختناق كاسح او كأن عظامها تتكسر، فتنزل دمعه نافره قبل ان تمسحها بقسوة وترفع عيناها نحوه قائله بابتسامه خاليه من المرح...
-اكيد مش هتقلق علي ابني اكتر مني!
هز رأسه ولم يفته كسره الحزن بعينيها، تلك العيون التي كانت تشع سعادة وطاقه استثنائية ارهبته يوم التقاها، و كذلك الدمعة التي فرت قبل قليل...
تري هل يشاهده الان بخذل و يبغضه؟
هل ينمق عليه لأحزانها ام لانصهاره التام بأقل حركة تفعلها وهي تتوهج امام عينيه يوما بعد يوم و يزيدها الحمل جمالا و انفها الصغير الذي كبر قليلا بشكل لا يلاحظه سوي عيونه المراقبة، و لكنه يبقي اقل اهتماماته بين ما يلاحظه يزداد كبرا بهيئتها القاتلة...
-تصبح علي خير!
لم تنتظر اجابته متجهه بخطوات متعثره نحو غرفتها الكئيبة...
اغلقت الباب متنهدة بحسره قبل ان تلتقي عيناها بالاطار المعلق علي الحائط بكل فخر و اعتزاز...
رقت عيناها وحنت منها دمعه دافئة وهي تلامس بنظراتها من كان باب الحياة و السعادة التي لم يعرفوها طويلا، ليتم انتشاله من بين يديها دون حق!
خرجت منها آآآه تحمل بين طياتها الكثير و الكثير...
توجهت الي فراشها مقرره التخلي عن بؤسها واراحه ظهرها الذي يقتلها واصابع قدمها المستغيثة المطالبه بالراحة...
ما ان استلقت حتي اتسعت عيناها وهي تشعر حاجتها للمرحاض للمرة الالف اليوم!
احكمت حجابها مره اخري وهي تمسك بأسفل بطنها وتدعوا ان يكون قد صعد الي اعلي فقد تأخر الوقت وهي لا تريد ان تواجهه مره اخري!
فتحت الباب سريعا عندما شعرت بحرج موقفها و رغبتها في الدخول الي الحمام تزداد، لتلعنه هو بالأساس و تتجه بسرعه الي المرحاض...
و تلعن غبائها عندما قررت بكل سذاجة اختيار الغرفة البعيدة عن غرفته التي لا تحتوي علي مرحاض خاص كباقي الغرف خوفا من الاقتراب منه، ليفاجئها هو بأنه لن يبيت معها ومع اطفاله من الاساس!
فتحت الباب الي المرحاض لتخرج منها شهقة وهي تؤدي رقصه غريبه تفرض طقوسها فها هو يقف و يحلق ذقنه عاري الصدر امام صنبور الماء...
نظر لها باعين متسعه لتخرج مغلقه الباب لحظه لتعاود فتحه في اللحظة التالية قائله بحده وذعر...
-اطلع برا برا برا مش قادررره!
ارتفع حاجبيه بذهول وهو يراها تقف امامه عاقده ساقيها وتقفز من قدم الي اخر والهلع مرتسم علي وجهها...
-براااااااا!
انتفض متحركا سريعا الي الخارج لتغلق الباب في وجهه، نظر الي الباب وهو يرمش قليلا محاولا استيعاب ما حدث للتو!
ولما يقف خارج الحمام نص عاري و نصف وجهه محلوق و الاخر لا كالمعتوه!
انتهت شروق بتأفف، فكالعادة كل تلك الغوغاء من أجل بضع قطرات مثيره للشفقة تفرغها مثانتها!
غسلت يداها متجاهله احمرار وجنتها و ما حدث قبل ثواني يفرض نفسه في عقلها، لا شك انه يظنها مجنونه ؛ يا للأحراج!
ولكنه خطأه ؛ لماذا لم يستخدم حمامه الخاص او افضل لما لم يصعد الي الشقة العلوية بعد!
فتحت الباب لتجده يطالعها بشيء من المرح قائلا...
-احسن؟!
اطرقت رأسها لتتوالي الالوان علي وجهها غير مجيبه فتهرع بخجل سريعا الي غرفتها وصوت ضحكاته تتابعها!
اغلقت الباب و منه الي فراشها بحنق و خجل وهي تغطي وجهها بالوسادة، وقلبها يدق تلك الدقات المتتالية...
ها هو الشعور بالجنون الصاخب يطغو من جديد!
اغمضت عيونها منتظره ثبات النوم بعد دقائق طويله ليصل الي اذانها صوت نقرات تعرفت عليها بسهوله...
حاربت سطوة النوم وهي تسب غباءها لما تغلق الباب وهي تعلم انها ستأتي!
وقفت ببطء تحاول ازاله غشاوة النوم عنها واتجهت لفتحت الباب بابتسامه جميله ناعسه...
وقفت فريده صاحبة الثلاث أعوام تعانق لعبتها المحشوة المفضلة وتنظر لها كأنها جرو تم ركله من منزله للتو فتقول...
-ممكن انام هنا؟!
اشارت الي الفراش الظاهر من فتحه الباب، لتمد شروق يدها نحو الطفلة وتجذبها بحنو الي الداخل...
-بيتك و مطرحك يا فيري، انا اصلا معرفتش انام من غيرك انهارده!
اتسعت ابتسامه الطفلة الناعسة غير ملاحظه جفون شروق التي تحارب للسقوط...
-متخافيس انا هكون دوبي بتاعك، انا احضن دوبي وانتي تحضنيني ومس هخليكي تخافي من الضلمه!
خرجت ضحكه خفيفة منها وهي تساعدها علي الفراش وتستلقي جوارها...
-ايوة مش عارفه من غيرك كنت هعمل ايه!
قبلتها الصغيرة قبل ان يستقر رأسها في احضان شروق بسعادة الدنيا و ما فيها...
تنهدت شروق بحسره، متسائلة بداخلها كيف تنام والده تلك الملاك بعيدا عن احضان طفليها!
كيف يكون قلبها بهذه القسوة!
وهي التي لم تري طفلها بعد، ضحت بكل ما هو امامها من مستقبل وفرص لأجله!
جال تفكيرها الي الحزن القابع بعيون كأناء العسل ؛ اذا كانت جافيه بهذا الشكل مع اولادها فماذا بشأنه هو؟!
لتتمتم بحنق...
-خليكي في حالك انتي فيكي اللي مكفيكي!
تسارعت للنوم حتي لا تتذكر ذلك الشاب الرائع ذو العيون البريئة الطاهرة والتي تشبه الي حد كبير عيون العسل، ذلك من لم تسنح لها الحياة معه كثيرا او تسنح له الحياة اطلاقا!..
مصير قاسي علي يد من ترفض ان تطلق عليهم لقب بشر او انسان بل هم وحوش بلا قلب او رحمه يلطخون الدين و الشرف بأيديهم وافعالهم القذرة!
فرت دمعه ترفض السكون لتشعر بذراع هش يزيد من ضغطه عليها وصوت ملائكي برئ يردف...
-انتي لسه خايفه من الضلمه!
-لا يا حبيبتي طول ما انتي معايا مفيش ضلمه خلاص!
مسحت فريده بكفها الصغير وجهه شروق قائله...
-بحبك اوي يا سيري!
-وانا كمان يا حبيبتي!
قبلتها شروق مره اخيره قبل ان يغوص الاثنان معا في نوم عميق!
اما هو فقد وقف يراقب دخول طفلته اليها كعادتها بقلب ينزف علي براءتها المناجية لأم لها متناسيه...
فلم يجد في قلبه ان يوبخها ويمنعها عن اللجوء لشروق...
دلف بقلب متعب الي غرفته التي بات يكره كل تفصيل بها يذكره بعلاقته بفاقدة الامومة، اخذ سلسله مفاتيحه واحكم النوافذ قبل ان يغلق باب الشقة بأحكام للصعود الي اعلي للنوم...
وهو يفكر الي اين سينتهي بهم الحال؟!
في الشقه المقابلة لهم...
جذب يزيد نفس عميق يتمني لو يملئ به ذاته و يفرغه بكل همومه و مخاوفه الي الخارج متمني مضي تلك المحنه المقيتة او ان يعالجها الله بتعقيل زوجته الخرقاء التي تحارب لإبعاده بسبب عدم انجابها وكأن في ذلك نهاية الحياة،
ارتفعت شفتاه في ابتسامه يحرص الا تفارقه في وجودها ليدلف إلي شقة الزوجية التي تجمعه بمن تملك كل ذره بقلبه (سلمي)...
وجدها جالسه تشاهد التلفاز بنظرات يجزم انها تخترق الجهاز الالكتروني سارق عقول البشر وانها لا تري حركه واحده مما يحدث من مشاهدة أحدي الافلام الاجنبية و عقلها منشغل بطرق جديده تتفننها لإبعاده!
-مساء الخير ياحب عمري!
نظرت له بخضه واضعه يدها علي صدرها و عيناها تلتمع بشوق تكتمه داخلها سريعا باحترافيه قاسيه فتدرسها عيونه المتربصة الملاحقة لكل رمشه تطرف منها لتردف بجمود عاهده منذ سته شهور و لم يتوقع غيره...
-ايه قله الذوق دي ؛ خضتني يا بني ادم!
تجاهل نبرتها الجليدية وهو يقترب محافظا علي ابتسامته فيميل عليها يخطف قبله من وجنتها الحمراء محبطا محاولتها بالفرار منها ليقول بحنان...
-حقك عليا يا زلومتي، هاخد بالي المره الجايه!
كزت اسنانها بحنق بالغ علي الاسم الذي اكتسبته منذ مده وهو يشتكي قله ابتسامتها و كثرة اظهارها لوجهها العابس امامه لتتحول من سلومتي الي زلومتي ومن سيء الي اسوء!..
-قولت مش بحب الاسم المزعج ده، انت قاصد تضايقني!
تغيرت ملامحه فجأة ليميل بشقاوة عيناه، سر ذوبانها به عشقا وهياما...
تشنج جسدها بتوجس و قد توترت كل عضله بها من اقترابه منها لتردف وهي ترغم انفاسها علي الانتظام!
-ايه؟!
ارتفعت شفتاه بابتسامه مشاكسه يملأها الاغراء و هو يعض شفتيه السفلي قائلا بعفويه...
-ايه ريحه البرفيوم ده!
قالها وهو يمرر انفه علي رقبتها لتزداد قشعرة بدنها ودقات قلبها فترفع يدها تدفع صدره بتوتر ….
ولكنه لم يمهلها الوقت وهو يهبط بفمه ويحضن شفتيها بشفتيه و يعتصر وجهها الاحمر بين راحتيه و كالعادة تخمد مقاومتها سريعا بعد عده لحظات...
فتتركه يروي ظمأ عاشقان احدهم يحارب القدر و الاخر يحارب للانصهار...
فينتهي الامر بدوامه من العشق تبدأ وتنتهي في احضانه...