رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل السابع
(لوجين).
مشاعرنا العميقة اتجاه شخص معين ستبدأ مع مرور الايام تخلق لنا عالم وهمي لن يراه سوانا وستصور لنا المقابل بصورة مثالية خالية من العيوب، ستتأذون. ستبكون. ولكن ببساطة انتم ستستمعون بهذه المعاناة، الامر اشبه بالمخدرات. ستفقد حواسك بالمحيط بك. سيرسم لك عقلك هلوسة قد تكون مخيفة في بعض الاحيان. ستضر نفسك بطريقة او بأخرى من دون وعيك، وبعد ان تصحوا ستجد انك تصرفت اكثر التصرفات التي تندم عليها وانت بوعيك. ولكن برغم كل شيء انت تدمنها. انت تستمتع بكل هذا العذاب. ورسلان هو تلك المخدرات في عالمي!
بكلمة واحدة. بنظرة. بأبتسامة. يمكنه ان يحول يومي من اسوأ ما يكون الى الافضل او العكس...
اقسم اني نسيته. ومن ثم ادفع كفارة يميني الكاذب.
اجد نفسي اتمسك به بقوة. في الوقت الذي اطلب منه الرحيل...
احبه اكثر. في الوقت الذي اصرخ اني اكرهه...
وكأن عقلي يعطيني ايعازٍ ما وقلبي يرد بألايعاز المناقض له. وما بين الاثنان يكمن حبي له واهتمامي. اعجز عن استخراجه من قلبي واعجز عن حذفه من تفكيري. انه ببساطة يستحوذني.
استعدت رشدي-بعد تلك الغيبوبة التي اجتاحتني من تلامس ايدينا ببعضها- حين سمعت صوت اغلاق الباب. صوت هدم كل شيء بداخلي واصابني برجفة مزمنة تجتاحني كلما اندلعت كل تلك المشاعر المكتومة اتجاهه بداخلي، يااللهي اشعر ببرد شديد رغم اننا في الصيف! هل انا محمومة؟ وبكل بلاهة رفعت يدي نحو جبيني لأتأكد، نعم وجهي ساخن. بل انا اشعر بالنار تنبعث من وجنتاي. ولكني لست محمومة، انا ببساطة مصابة به!
مسحت وجنتاي براحة يدي رغم انهما جفتا تلقائياً من الدمع. ولكني احاول تحريك جسدي فحسب! فعلى مايبدو هناك جزء من عقلي المشتت لايزال يسيطر على هذا الجسد ولم اضيع كالعادة في متاهات رسلان. ويد رسلان! يااللهي كلما تذكرت يده الدافئة نبض قلبي بعنف. قد تبدو مجرد لمسة بالنسبة لكم. مجرد يد، ولكنها النعيم بالنسبة لي، نعم هو امسك بمعصمي قبل ايام ليلبسني الاسورة. ولكن الامر مختلف هذه المرة، لقد كانت اصابعنا من تلامست. الامر الذي اعاد إلى ذكرى سنين بعيدة كم اتمنى العودة اليها، سنين حيث كنت انا طفلة رسلان المدللة، ومع هذه الفكرة تبسمت ببلاهة!.
- لك الحمد يااللهي على ابتلائك!
نعم. هذا ما اخرجني من عالمي، كانت نبرة امي المتهكمة وهي تنظر إلى بيأس ساخر من نقص عقلي تدريجياً كلما كبرت بالعمر. نعم كانت ابتسامتي حمقاء وانا اقف وحدي وسط الردهة وقبل دقائق فقط كنت اصرخ بهم وابكي. ولكن يا ليتها فقط ترى اضواء شجرة الميلاد في رأسي الان من فرط السعادة لربما كانت ستبتسم معي بتلقائية من دون سبب ايضاً، ما رايتهِ ليس كما فهمتهِ، بالله عليكم أليس كلمات كافية لتجعلني ارغب في اقامة احتفال صاخب الان؟ انسوا الامر. لن تفهموا على اية حال!.
تركت التفكير برسلان جانباً. فسعادتي بكلماته الان ستجعلني شخص اناني مع حالة رنا هذه، لذلك صعدت بخطوات سريعة نحو الاعلى حيث هي هناك مستلقية على سريري!
دخلت الى الغرفة فوجدت الخالة سعاد تجفف دموعها بطرف ثوبها الغامق بينما تحرك بيدها الاخرى المروحة الصغيرة لتمنح رنا بعض الهواء، رنا التي كانت تبدو بعالم اخر ليس معنا، نظراتها الضائعة تتشابه مع نظراتي صباحاً الى حد كبير، الامر الذي جعل قلبي ينقبض فوراً من حزنها المفاجئ هذا، لاسيما وان كل اعرفه عنها هو الضحك فقط!
فور دخولي نهضت الخالة سعاد وهي تناولني المروحة قائلة:.
- ابقي بجانبها ابنتي بينما ارى امك قد تحتاج مساعدتي!
لا اعلم ان كان بالفعل هذا هو السبب الذي ادّعته الخالة سعاد ام انها كالعادة كانت تتهرب من جعل ابنتها ترى انكسارها. فاكثر ما كانت تكرهه رنا هو شفقة احدهم عليها والخالة سعاد تفقد السيطرة على دموعها كلما اصاب رنا انتكاسة مرض صغيرة كانت ام كببرة. ولكني تناولت المروحة من يدها على اية حال وانا اجيبها:
- بالتأكيد سأفعل خالتي!
تركتنا وخرجت فاقتربت من السرير لأجلس على طرفه بجوار رنا وبدأت بتحريك المروحة بهدوء وانا اراقب عينيها بعدم فهم، هل جربتم في يوم ان تحاولوا فهم نظرات ممتزجة ببعضها؟ اقتضاب مع بعض الحزن. غضب مع هدوء، برود مع تفكير، هذا ما كانت عليه نظراتها، ولكن ما كان يطغى عليها هو الجمود وهي تحدق بالسماء من خلال النافذة المجاورة للسرير، مددت يدي بهدوء ومسحت على خدها برفق وانا اقول:.
- عزيزتي رنا، تحدثي الي. لاتبدين بخير!
وفوراً انكسرت كل تلك النظرات التي كانت تمتلكها لتغمض عينيها بألم وتعض شفتها السفلية بقهر ودموع تنهمر بسرعة على جانب وجنتيها لتستقر خلف اذنيها بين خصلات شعرها الفاحمة ثم وبلحظة سريعة ادارت ظهرها لي وتكورت حول نفسها كوضعية الجنين وبدأ صوت بكائها يرتفع. الامر الذي اثار رعبي وانا اشاهدها بهذه الحالة، لطالما كانت رنا الطرف المرح بيننا. لطالما كانت تأخذ الامور الجدية بضحكة ومزاح. وشخص كهذا لا ينهار بسهولة ألا ان كان الامر بالفعل يستحق!
وقعت المروحة من يدي واحطت كتفيها لاديرها إلى وانا اقول بقلق:
- رنا ما بكِ؟ ماالذي حصل لكِ فجاة؟
ولكنها رفضت الاستدارة وبقيت تضم رأسها فوق ركبتيها التي ترفعهم امام صدرها، وجدت نفسي من دون ارادة اشاركها البكاء وانا انحني عليها واضمها بقوة بينما يقول:
- تحدثي إلى بحق السماء. كفي عن هذا الكتمان الاحمق، تعلمين اني سأسمعك. تعلمين اني سأشعر بكِ!
هزت رأسها بنفي بادئ الامر فأبعدت نفسي لتعدل وضعها جالسة وهي تقول بينما تخفض وجهها وتمسح دموعها:
- لا استطيع!
فهتفت بها بألم من عنادها المستمر:
- لما لاتستطيعين؟ ألا اشاركك انا كل شيء؟ الا اخبرك بكل شيء؟ فلما ترفضين انتِ ان تتحدثي عما يؤلمكِ لي؟.
نظرت إلى من وسط دموعها وهي تقول:
- ليس كل ما يؤلمنا سنتمكن من البوح به يا لوجين!
- ولكن ألا افعل هذا معكِ؟
- ولكن انتِ لن تفهميني!
فهتفت بها:.
- اجل لاافهمكِ، لأنك لاتعطيني فرصة لفعل ذلك، دائماً ما تخفين ما يؤلمكِ عني. دائماً تدعين الضحك امامي وانا ادرك جيداً انكِ كنتِ تبكين قبلها، وكلما سألتك ترفضين ان تقولي ما يؤلمكِ، فكيف سأفهمكِ حينها بحق السماء؟ لما لا تجربي ان تتحدثي لمرة واحدة؟ ألا تثقين بي؟
- الامر ليس له علاقة بالثقة يا لوجين!
ثم قالت بأنكسار كلمات غير مترابطة لم اتمكن من فهمها:.
- انا ادرك جيداً ان كل شيء قد تم تقريره مسبقاً منهم، يوماً ما انتِ ستقتنعين بسذاجة مشاعرك وستختارين ما هو منطقي وما هو الملائم بالفعل لكِ!
ثم نظرت لي لتكمل:
- وانا اعرف جيداً ان اخباري لكِ الان سيؤثر في اختيارك هذا وسترفضين الامر ان تم طرحه. وانا لااريد ان اكون عائقاً امام اختياراتك!
فقلت بعدم فهم:
- بماذا تهذين انتِ؟
هزت رأسها بيأس كعلامة اني لن افهم ابداً وضمت نفسها إلى وهي تقول:.
- أيمكنك ان تبقي قربي فقط؟، هذا كل مااحتاجه، لاداعي ان تفهميني. لا داعي ان اشرح لكِ شيء، وجودكِ معي سيمنحني الاكتفاء. سيمنحني تلك الطمأنينة من ان احدهم بجانبي. وان كل شيء سيكون بخير!.
كلماتها كانت تؤلم قلبي بقوة وكأن هناك سكين حادة تخترقه، فبعد سنين طويلة. هذه هي المرة الاولى التي ارى فيها رنا بهذا الضعف والاحتياج! ولكني ببساطة فعلت ما طلبت، بقيت قربها فحسب!
(الكاتبة)
رفعت ميس ذات ال25 عاماً رأسها فجأة من فوق الدفتر وحدقت بتلك الشابة ذات ال27عاماً التي تشاركها الطاولة وتحتسي قهوتها برصانة بينما تراقب المارة من خلف زجاج المقهى في لندن وسألتها بفضول شديد يعتريها:
- لارا؟
همهمت الاخرى كأجابة فأكملت ميس:
- هل كانت رنا شخصية ضعيفة؟
اوقفت لارا الكوب قبل ان يصل الى شفتيها التي ترتسم ابتسامة صغيرة فوقهما دائماً لسبب او لدونه وقالت بصوتها الناعم بينما تطلق تنهيدة:
- كانت كذلك. مع يزن فقط!
- ومع لوجين والباقين؟
تركت الكوب من يدها وشابكت اصابعها ببعضهم تحت ذقنها وقالت:
- رنا كانت العنصر المرح دائماً التي تجدين الجميع يلتجئ اليها في حزنهم، ولكنها ومع الاسف كانت اكثر من تعاني بصمت دون جعل احد يشعر بذلك.
- لماذا؟
- البعض لم يكونوا يهتموا بما تعانيه. واخرون لم يكونوا يفهموها، لذلك كانت تكتفي بالصمت وتزييف ضحكتها لتبدو بخير!
- وهل كان يزن يحبها؟
- بل كان مجنون بها، ولكنه ببساطة كان من النوع الذي يستمع لعقله ويضع قلبه جانباً!
زفرت ميس بضيق طفولي وهي تقول:
- وهل ستبقى تعاني هكذا بصمت؟
ارتفعت زاوية لارا بأبتسامة اعلى ثم قالت وعيناها تسرحان بها بعيداً نحو الماضي:.
- العقل يثرثر ويضع قوانين كما يحلو له. ولكن في النهاية لن يحصل سوى ما يريده القلب!
وقبل ان تنطق ميس بسؤال فضولي اخر رفعت لارا الكوب وقالت:
- ان استمررتِ بالاسئلة بهذا الشكل سأخذ الدفتر ميس!
فابتلعت الاخرى حروفها فوراً وعادت لتقرأ الدفتر بصمت فكتمت لارا ضحكتها على الطفولية التي تتمتع بها ميس. ربما لهذا السبب اصبحت صديقتها المقربة. انها نوعاً ما كانت انعكاس لرنا!
(لوجين)
مرت نصف ساعة. سكن جسد رنا بين ذراعاي وانتضمت انفاسها. كانت تدير ظهرها إلى ولكن ببساطة يمكنني تمييز انها غطت بنوم عميق...
سحبت نفسي بهدوء من السرير كي لا ازعج لها راحتها كي ارد على ندائات امي اسفل السلم. فتحت الباب واغلقته بهدوء ثم اتجهت بخطوات سريعة كي امد رأسي من اعلى سور السلم لأجيب امي بتذمر:
- ماذا هناك امي؟
فأمي حين تنادي على احدهم تتوقع سماع الاجابة بعد ثانية واحدة من توقف صوتها. لذلك وببساطة عليك ان تجيبها بأسرع ما يمكن بدل ان يطرق الجيران بابكم او يقدمموا شكوى عدم احترام راحة الجار!
- نبراس على الهاتف!
قالتها وعادت نحو المطبخ فأخرجت كم هائل من الهواء لا اعرف كيف احتفظت به رئتاي. ولكن تضايقي الذي يعتريني الان سأطرح اي شيء لأعبر عنه!
نزلت من السلم بخطوات متثاقلة عكس العادة في نزولي ورفعت سماعة الهاتف الموضوع جانباً وقلت بنبرة حاولت بصعوبة جعلها اعتيادية:
- اهلاً نبراس!
فوصلني صوتها المزعج:
- اهلاً بالغائبة عن الساحة!
- اي ساحة؟ هل تتحدثين الى احمد راضي ام ماذا؟
لا اعلم لما فهمت تلك الحمقاء سخريتي منها على انها مزاح وشرعت بضحك لا سبب له. فدعونا نكن واقعيين. لست جيدة كثيراً في القاء المزحات فلطالما رنا كانت افضل مني بكثير، ولكن نبراس تجعلني اشعر اني مضحكة رغم اني اعترف اني لست كذلك، لذلك ما تفكرون به صحيح تماماً. انها تتملق لي اكثر من اللازم!
- هل انتِ في المنزل؟
تباً. تمنيت حقاً ان لاتسألني هذا السؤال. ومع الاسف لست ماهرة بالكذب -حسب ما تذكرون- لذلك اضطررت ان اجيبها بصراحة واخبرها اني كذلك لترد على فوراً بحماس:
- حسناً انا قادمة اليكِ!
- اهلاً بكِ بأي وقت!
واغلقت الهاتف وزفرت الهواء مرة اخرى. ربما لم اتنفس حتى طوال فترة المكالمة الثقيلة هذه!.
حسناً. ليس من عادتي ان اكره احدهم ولكن هناك بعض النماذج اللذين اتضجور منهم. مثلاً سهى النموذج الاول والتي تحتل الصدارة دائماً. والان نبراس. وصدقوني نبراس من النماذج القابلة للكره من اول كلمة تنطق بها!
جلست في الصالة انتظرها على مضض وانا اتابع قناة (الشباب) التي لن تعرض سوى برامج محدودة او خطب للرئيس. فمن يعيش في العراق في تلك الحقبة يدرك جيداً ان التلفاز لم يكن يملك سوى قناتين في بقية المحافظات وثلاث في بغداد وهي بالتأكيد قنوات عراقية فقط. فكل شيء يجب ان يكون تحت رقابة الدولة، تتحكم فيما نشاهده، فيما نأكله، فيما نحب او نكره! وعلى سبيل الاشياء المجبرين على حبها هي حبك لخطب الرئيس. فأن كنت على سبيل المثال صاحب مقهى وظهرت خطبة الرئيس وغيرت القناة فأنت هنا عميل ضد القائد والحزب وعقوبتك كتابة تقرير بك وزجك بالسجن ليستخرجوا منك معلومات خيانتك الغير موجودة من الاساس، خطب الرئيس هي كلام مقدس انت مجبر ان تستمع له وتحبه، وعلى سبيل الاكراه فمن الجيد ان هذه الثرثرة كلها موجودة داخل عقلي ولم يسمعني احد وألا سأكون بورطة حقيقية، وعلى سبيل الرئيس فها هو يظهر على الشاشة. في الحقيقة انا اكره حزبه. ولكن لايعني كرهي الشخصي له. اما انه كان محترماً ولا دخل له بأفعال حزبه الشنيعة واستهتارهم. او انه كان من النوع الذي يحب ابقاء يديه نظيفة. وألا من اين احضر حزبه كل هذه السلطة؟
- بمقدور عدسات الكاميرا ان تظهر حتى الشيطان بصورة الملائكة!
نظرت بتفاجئ وخوف نحو ابي الذي يقف خلف اركيتي يراقب التلفاز بعيون مستاءة، نعم التفتُ بخوف، كيف يجرؤ وينطق شيء كهذا حتى لو امام ابنته؟ بل اي جنون هذا الذي يدفعه لقول شيء كهذا بصوت مسموع؟ ألا يدرك ان الجدران بأمكانها ان تسمع؟ ان الهواء بأمكانه ان يشي به؟
وفي الحال اخترقنا صوت امي بنبرة معاتبة:
- عادل؟ لو سمحت!
جملة مختصرة ولكن خلفها الكثير من الكلام واللوم، فابي يدرك جيداً كما ندرك انه لايجوز له مطلقاً ان يقول كلام مشابه، هذه خيانة ضد بلده. لا يجوز ان يعبر عن رأيه ابداً بخصوص الدولة ان كان رأيه سلبي. فما بالكم بالتعبير عن رأيه ضد الرئيس؟ قائدنا وحامينا؟ انها خيانة عظمى!
سمعت تنهيدة ابي المتضجورة من هذا النقاش الدائم ذو النهاية العقيمة ذاتها التي تتخبط في الارجاء ما بين ولاء امي للحكم ببعض جوانبه ومعارضة ابي له، ولكن على الاقل هما شخصين ناضجين لم يجعلا من هذا الامر محور مشاكلهما فيخسران حبهما لبعضهما!
عدت لمتابعة التلفاز بملل لحين حضور تلك النبراس، وها هو جرس الباب يُضرب. أيعقل انها وصلت بهذه السرعة؟
قمت لفتح الباب وانا متيقنة تماماً انها نبراس. هيا بالله عليكم ألم تتصل؟ ألم تقل سأتي؟ اذاً لست مخطئة بخروجي بفستاني القصير ذاك الذي يعلو بضع انشات عن ركبتاي والذي بالتأكيد يرفضه رسلان، لا اعلم ما مشكلته مع ركبتاي. اقسم انهما بيضاء. لم عساه يكره رؤيتهما ذلك المعتوه؟
فتحت الباب بشبه بأبتسامة لتتحول ملامحي للفزع فوراً وانا اجد رسلان بدلاً منها.
هل اهرب؟ لا. ليس مستحيلاً ان يسحبني من شعري!
هل ابقى؟ ليس مستحيلاً ان يلكمني في وجهي!
فهل تعلمون عدد المرات التي حذرني فيها رسلان من لبس هذا الفستان بالاخص؟ من الافضل ان لاتعرفوا. بل وحتى انه اخبر ابي. لالا. وشى بي لابي واخبره ان هذا عيب واني لم اعد صغيرة لالبس اشياء كهذه. وبالتأكيد ابي كالعادة وجد ان راي رسلان هو الصحيح وتم حرماني من ارتدائه خارج المنزل او حتى ان افتح به الباب!
ازدردت ريقي بصعوبة ونظرات رسلان ترمق فستاني بحدة من اسفل لاعلى وعيناي مثبتة بعيناه اترقب اللحظة التي تلتقيا فيها لارى ردة فعله. ورفعهما بأتجاهي. وانقبض قلبي. ليس بخوف فقط. بل هو ينقبض تلقائياً لوجوده!
- فقط ذكريني بعدد المرات التي تحدثنا بخصوص هذا الفستان؟
فتلعثمت مبررة:
- اقسم لقد ظننت.
ليقاطعني بحزم:
- كم عدد المرات؟.
- لا اذكر!
- بل تذكرين.
- حسناً، ربما خمسة.
فرفع حاجبه الايمن بحدة لاردف فوراً واصابع يداي تتصارع مع بعضها:
- حسناً. ستة!
- ولما لا تلتزمين بأي شي نقوله؟
فاندفعت حروفي بقوة كي اظمن انه لن يقاطعني قبل ان اوصل فكرتي:
- اقسم ظننتك نبراس لقد اتصلت بي وقالت انها ستزورني لذلك فتحت الباب به!
تحرك فكه السفلي بحركة سريعة يميناً ويساراً وهذه حركة يقوم بها حين يكز على اسنانه ويحاول كتم غيظه فرسمت على وجهي فوراً علامات البرائة والعيون الطفولية ليشفق على حالي ويرحمني من بركانه الثائر دائماً. وقد نجحت طريقتي!
ولكنه لم يكتفي بالصمت التام بل رفع اصبعه مهدداً وهو يقول:
- هذه ستكون المرة الاخيرة يا لوجين واقسم بعدها سيكون لي تصرف اخر!
فقلت فوراً متلافية العناد في هذا اليوم وفي هذه اللحظة بالاخص:.
- حسناً حسناً فهمت!
وبدأت انفاسي تخرج براحة بعد ان عرفت انه ختم النقاش. وان لاحظتم فلقد كتمت انفاسي اليوم كثيراً. ليس بعيداً اني لربما سأستخدم منشاق رنا للربو في نهاية المطاف بسببهم!
- اهلاً برسلان. تفضل بني!
اخترقنا صوت ابي لأتراجع بضع خطوات نحو الخلف كي افسح المجال له. ولكن بالتأكيد لم اذهب. لقد بقيت كطالبة مجتهدة استمع اليهما بأنتباه شديد، حسناً دعوني اكون صريحة. لقد كنت استمع لصوت رسلان فقط واتجاهل صوت ابي!
لم افهم الكثير مما دار فقد كنت اركز بالنبرة اكثر من الكلمات ولكن مااستطعت الوصول اليه بتفكيري المحدود ان رسلان هنا ليصلح الزر الكهربائي لمصباح المطبخ الذي تعطل هذا الصباح، هذا الشاب بارع جداً في كافة المجالات لذلك ابي يعتمد عليه دائماً!
دخل رسلان وانا اتطلع اليه بنظرات حالمة كتلك التي ترمقها سعاد حسني لرشدي اباظة في فيلم صغيرة على الحب. فقط احتاج الى معزوفة ضوء القمر وسأبدأ رقص السلو بمفردي مع طيف وهمي وتحيطني بالونات من القلوب الحمراء!
- مرحباً لوجين!
هذا ما فجر لي كل البالونات التي تحيطني وجعل سعاد حسني التي تتلبسني في هذه اللحظة تهرب بعيداً لألتفت بملامح جامدة نحو نبراس التي تقف على عتبة بابنا، بابنا الذي لا ازال اقف عنده افتحه على مصراعيه قد انستني مراقبة رسلان اغلاقه والدخول!
رفعت زوايا فمي بصعوبة شديدة لارسم ابتسامة مرحبة على محياي وانا اقول بخفوت احاول الادعاء من خلاله شوقي المماثل لها:
- يااهلاً وسهلاً بنبراس!
تقدمت مني واحتضنت بقوة - او بصور ادق اعتصرتني بقوة- بين يديها فاكتفيت بتربيتة لطيفة فوق ظهرها ثم دعوتها للدخول بكل احترام لا اكنه فعلياً لها!
جلسنا في الصالة وانا استمع لصوت رسلان وابي البعيد القادم من المطبخ. او لنقل اني كنت استمع لصوت رسلان فقط. وهذا ما دفعني للابتسام فظنت نبراس انها لها.
بعد القاء التحية والسؤال على الحال نهضت نحو المطبخ لاعد لها شيئاً تشربه. حسناً ومن اجل ان اجاور رسلان لبعض الوقت!
حين دخولي كان مشغول بربط الاسلاك ببعضها. وله حركة جميلة احبها منذ صغرنا وهي ان ركز او حاول تصليح شيء كان يعقد حاجبيه بقوة وتتغير ملامحه للجدية دون ان يثير اهتمامه محيطه الى ان ينتهي من العمل، لذلك لم يبدو انه انتبه من الاساس لدخولي. ولهذا استغللت هذه الفرصة لاسترق النظر اليه بين لحظة واخرى وانا اعد العصير!
حملته في الصينية وتحركت قدماي بأتجاه الباب ولكن نظراتي لم تكن على الباب. كانت عليه، وفجأة وبحركة سريعة تثبتت عيناه داخل عيناي لثواني قبل ان يعيد بصره نحو عمله وكأنه ايضاً يختلس النظرات، ارتجفت اطرافي وانتقلت الارتجافة نحو كوب العصير فأنتفض لثواني وكأن وجود رسلان يربكه ايضاً كحالي، من الجيد انه لم يغمى عليه ويسقط ارضاً فمنظري كان سيصبح مثيراً للشفقة!
وضعت العصير على المنضدة امام نبراس فقالت بنوع من الاستهجان:
- لما حضرته بنفسك؟ كان بأمكانك طلب ذلك من خادمتكم!
قطبت حاجباي بأستغراب وانا اعيد جملتها بعدم فهم:
- خادمتنا؟
- اجل. سعاد او ابنتها!
وهنا زفرت بضيق ورفعت حاجبي الايمن بحدة وانا اقول:.
- اولاً. اسمها السيدة سعاد او الخالة سعاد وليس سعاد فحسب فهي تكبرك بالعمر، وثانياً هي مربيتي وليس خادمتنا. اي انها بمكانة امي، واما بخصوص رنا فهي ليست خادمة هنا. هي صديقتي وجزء من العائلة!
سحبت كوب العصير وهي تقول بملل:
- يااللهي اسفة اسفة بماذا تورطت انا! كان عليك دخول القانون وليس الطب!
ارتشفت جرعة واحدة من العصير ثم اعادته نحو الصينية وهي تضعه بفوة نوعاً ما قبل ان تلتفت إلى بتذمر بينما تقول ووجهها بائس:
- هل عرفتِ ما حصل؟
يااللهي. ستبدأ بسرد كل النميمة التي تعرفها. ولكن رغم كرهي لذلك ألا اني سألتها بفضول النساء الذي يقبع بداخل كل واحدة فينا:
- وماالذي حصل؟
- لقد تم قبول سندس في الصيدلة!
- هذا مؤسف. فهي كانت تستحق الطبية!
فضربتني بخفة فوق كتفي وهي تهتف بي:.
- لا تكوني ساذجة انتِ الاخرى! اي طبية هذه التي ستقبلها؟
- معدلها ممتاز ولم تكن تحتاج سوى درجات قليلة. وبسبب انه لااحد من اسرتها ينتمي للحزب البعثي لم تتم اضافة الدرجتين على معدلها ولو تمت الاضافة لكانت دخلت الطب!
- من الجيد انها لم تفعل. هي لاتستحق حتى الهندسة. بالله عليكِ اليس ظلماً ان صاحبة الحجاب الواحد صيدلة وانا اعيد السنة؟
- لا ليس ظلم. فهي درست اما انتِ فلم تفعلي. لذلك كل واحدة اخذت ما تستحق. وكفي عن مناداتها بهذا اللقب. الفقر ليس عار.
فاكملت نميمتها وكأنها لم تسمع استهجاني:
- اتعلمين ان اختي الكبرى التي في مرحلتها الثانية الان قالت لي ان اختها كانت معها في المدرسة وكانت ترتدي الحجاب ذاته احياناً واحياناً اخرى حجاب مرقع ولم يمتلكا غيره؟
زفرت بملل لعدم اهتمامي بحديثها وقلت لها في محاولة مني لتحقيرها:.
- اختها التي دخلت الهندسة اليس كذلك؟ سيكون شرف لي ان انتمي لعائلة تهتم بالدراسة بهذا الشكل حتى وان بقيت طوال دراستي البس ذات الملابس، فالمدرسة خصصت للدراسة وليس لعرض الازياء ان لم تدركي!
اخذت الكأس مرة اخرى وهي تقول لي بسخرية:
- كفي عن فلسفة افلاطون هذه الخاصة بكِ. سأبقى اكرهها!
- لا اظنها طالبتك بحبها!
النظرة الجانبية التي رمقتني بها نبراس لحظتها جعلتني اشك لوهلة انها ستفرغ كوب العصير علي. ولكن من الجيد انها ارتشفته، يااللهي! اشعر اني اتحملها بصعوبة. لاسيما مع احتقارها الدائم لرنا واسماعها الكلام الجارح في كل فرصة سانحة لها. ولولا تحذيرات رنا الحمقاء في ان لااتدخل لعرفت كيف اردها امام الطالبات. لكن رنا كانت تخشى على وعلى نفسها. فوالد نبراس كان عضو بارز في الحزب ووالدتها كذلك لذلك كانت اسرتها مرعبة لكثير من الطالبات ولم يجرؤ احد على مواجهتها من دون سبب مقنع. ولكننا ندرك ان امثالهم لايملكون ضمير ليضعوه نصب اعينهم ان قرروا التخلص من احدهم. ورقة واحدة منهم ستنفيك ما وراء الشمس!
اعادت نبراس الكوب مجدداً نحو الصينية وعادت لتلتفت إلى وهي تقول:
- اذاً قولي لي. هل ستحضرين الحفلة التي نضمتها مدرستنا بمناسبة التخرج؟ حتى نحن الراسبين بأمكاننا حضورها!
فقلت بملل بينما اعبث بأظافري:
- لا. لن افعل!
- ولماذا؟
- خالي احمد يمنعني من ذلك. انتِ تدركين ان ابن الرئيس سيحضرها!
فلكزتني بخفة وهي تقول بشبه همس:.
- اولاً ليس اكيداً ان يفعل فهو يحضر حفلات تخرج الجامعات وليس نحن. وثانياً ان كنا محظوظات وحضر فهذا هو المطلوب يا حمقاء. قد يعجب بإحدانا!
نظرت لها بأزدراء وقلت:
- وهل تعلمين ما يحصل حين يعجب عدي صدام حسين بواحدة يا ساذجة؟
وضعت ساق فوق اخرى ورفعت حاجبها بغرور مع ابتسامة وهي تقول:
- سأنال شرف ان اكون حبيبته. ومن يعلم. قد اصبح زوجته المستقبلية!
فقلت بشيء من العصبية:.
- بل عشيقته، عشيقة لليلة واحدة ايتها الغبية!
فقالت بأبتسامة ونبرة استفزتني بالفعل:
- امثالي لن يجرؤ عدي على المساس بشرفهم فنحن ننتمي للطبقة المخملية وذات صلة بالحكومة، ربما سيستغل امثال رنا الذين لن يجرؤ احد ان يطالب بحقوقهم!
وهنا هببت واقفة وانا اصرخ بها:
- من تظنين نفسك لتتحدثي بهذه الطريقة؟
فقالت بعصيية تمتزج بالاستغراب:
- ما بكِ؟ ماالذي قلته انا خاطئ؟
وهنا طفح الكيل منها فقلت بغيظ:.
- ياعزيزتي الحمقاء ان حضر عدي الحفلة واعجبتهِ فلاتظني ان ذلك الفاسد المجنون المهووس بالمال والنساء سيهتم لمنصب ابيكِ او حتى من يكون ابيكِ، عدي حتى ابيه بشراسته لم يستطع السيطرة عليه او ردعه ان اراد شيء. فهل تظنين منصب ابيكِ سيقف بوجهه؟
وقفت نبراس وتحولت كل ملامح وجهها للهجوم وكأنها على وشك افتراسي وقالت لي:
- كيف تجرؤي وتقولي كلام كهذا على الرئيس القائد وابنه الموقر؟
فقلت بعصبية وازدراء:.
- أتعلمين شيئاً يا نبراس. انا لايشرفني ان اكون صديقتكِ. وبما انكِ تهتمين جداً للفوارق الطبقية فأسرتي افضل من اسرتك بمئة مرة وشهادتي افضل منك لذلك لن يشرفني ان اصادق واحدة مثلك. لذلك يمكنكِ مغادرة المنزل لو سمحتِ لقد انتهت الزيارة واتمنى ان تكون هذه زيارتكِ الاخيرة!
وهنا بدأ اللون الاحمر يتصاعد تدريجياً نحو وجه نبراس وهي تجحظ بعيناها بقوة وانفاسها ترتفع بجنون تحاول ضبطهم وتهدأتهن وتفشل، لم يحادثها احدهم بهذه الطريقة. ولن تتقبل ذلك ابداً!
سكتُ بعد موجة غضبي الاخيرة ولااشعر بأي ندم عما قلته فتقدمت بضع خطوات مني ورفعت اصبعها في وجهي مهددة وهي تقول:
- سأجعلكِ تندمين على هذا يا لوجين، لن اكون نبراس ان لم اجعلكِ تندمين!
ثم استدارت راحلة مغلقة خلفها الباب بعنف لأستعيد رشدي، وادرك حماقتي!
هل جربتم في يوم ان تتفوهوا باشياء غبية وساذجة ولن تدركوها ألا بعد ان يتوقف توافد الحروف من بين شفتاك؟
ستدفع اي شيء فقط لتعيد الزمن ثواني نحو الوراء!
تهاوى جسدي فوق الاريكة وارتفعت يدي بتلقائية لاغلق فمي. وكأني احاول اعادة الكلمات اليه. وكأني سأمحي ما قلته او اجعل نبراس تنسى!
شعرت بأمعائي ترتخي فوراً وقلبي ينبض بأرتجاف، ماذا ان نفذت نبراس تهديدها؟
- لوجين؟ لوجين؟
ادرت ابصاري بعدم استيعاب نحو ابي الذي يناديني وحولته نحو رسلان الذي يقف خلفه ويطالعني بنفس نظراتي ابي المستغربة، ما خطبهما؟
- هل انتِ بخير عزيزتي؟
شعرت بشيء يتحرك على وجهي فرفعت يدي لأتلمس وجنتي الندية المغطاة بدموع لم ادرك اني اسقطها!
مسحت وجهي بتوتر ووقفت وغادرت الصالة بخطوات سريعة دون ان اهتم بنداء ابي او نظرات رسلان التي تتبعني بذهول!
صعدت نحو غرفتي حيث رنا لاتزال نائمة هناك. دخلت واغلقت الباب وانا اشعر بكل جسدي يرتجف، كيف تجرأتُ؟ ماذا اصابني لأقول هذا؟ كنت حقاً عاجزة عن استيعاب ما يحصل حولي ولايمكنني توقع مايحصل سوى بأفكار متشائمة، ان ظلت نبراس بغضبها فأنا في ورطة حقيقية، هل اتصل بها؟ لا. انا اعرفها جيداً. هي كانت تنتظر فرصة كهذه لتدمرني. فانا ادرك انها تكرهني وتغار مني. لذلك من المستحيل ان تستمع!
وبقيت هذه الافكار تهاجم عقلي وتجعله مضطرباً عاجزة عن ربط فكرة بأخرى. لذلك كنت اكتفي بالصمت الظاهري لعلي اخمد الفوضى الداخلية. وكتمت الامر عن الجميع وحتى عن رنا حين سألتني. ورافقني الصمت الى الليل وحتى على مائدة العشاء دون ان ارد على اسئلة اي احد او حتى ان انظر اليهم. وزاد قلقهم اكثر حين سألوا رنا واقسمت لهم انها لاتعرف ايضاً، فكيف عساي ان اصف لهم الرعب الذي يحتلني الان؟ كيف سيتقبلون ما قلته لنبراس دون ان يقلبوا البيت رئساً على عقب بصراخهم على من شدة خوفهم؟ كنت فقط ادعوا سراً ان يمر كل شيء على خير...
ولكن كان للقدر خطة اخرى مع طرقات قوية فوق بابنا جعلت الملعقة تقع من يدي فوراً، امتلكني احساس لم يخب ومع الاسف، لقد كانو ذوي الزي الاخضر...