قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الرابع

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الرابع

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الرابع

اسورتي الفضية
(لوجين).

حل المساء وامتلأ المنزل بروائح الطعام الشهية فصعدنا انا ورنا نحو غرفتي من اجل التحضر، سأكذب ان قلت اني نسيت امر رسلان كلياً. ولكني كنت قد تجاوزت الامر قليلاً وشغلتني بعض الامور عن التفكير بغضبه مني لبعض الوقت. ومن اهم هذه الامور هي اسورتي الفضية التي كانت تعني لي اكثر مما تتخيلون. فهي هدية رسلان لي في عيد ميلادي الثالث عشر قام بنقش اسمي بنفسه عليها من احد الجوانب. بالنسبة لي -رغم بساطتها- كانت اجمل هدية وصلتني على الاطلاق. ومنذ اليوم الذي حصلت عليها فأني لم انزعها من يدي ابداً، واليوم انا لم اجدها، اظنكم تتخيلون حالتي!

نسيت امر ثيابي واناقتي وجثوت من فوري على ركبتاي ابحث عنها في ارضية الغرفة علّها قد وقعت مني هنا!
- لوجين تحبو؟ سيزورنا ضيوف!
قالتها رنا بضحكة بينما تدلف الى الغرفة ولم تدرك قلقي بعد فأجبتها بتوتر:
- رنا! اسورتي الفضية مفقودة!
فألتفتت نحوي تاركة المزاح جانباً فهي تدرك جيداً ما تعنيه هذه الاسورة لي وقالت:
- اين عساها تكون؟ ابحثي جيداً.
- انا لا اجدها!
- متى اخر مرة رأيتها في يدكِ؟

- اخر مرة لاحظتها عندما استلمت ورقة قبولي، انا متأكدة اني رأيتها في يدي!
وقبل ان انتظر رد رنا نزلت راكضة من فوري نحو الطابق السفلي ابحث عنها هنا وهناك واسأل الجميع عنها ولكن للأسف لم يراها احد، عدت نحو غرفتي وقلبت عاليها سافلها ولكني لم اجدها ايضاً!
قالت رنا في محاولة فاشلة لتهدأتي: - تذكري جيداً عزيزتي لربما نزعتها في مكان ما!

نظرت لها وانا اكاد ابكي: - انتِ تعلمين جيداً اني لا انزعها عن يدي ابداً يا رنا. وبالاخص في هذا اليوم انا متأكدة اني لم انزعها!
ثم فجأة صمت وحدق في وجهها بشرود وانا لا ازال جاثية على ركبتاي فقالت رنا: - أذاً؟ تذكري اين عساها تكون؟
فنهضت واقفة بسرعة وانا اقول: - هل، هل يمكن انها سقطت مني في الشارع بعد ان اصطدمت برسلان؟
- اذاً اذهبي بسرعة لتبحثي هناك!
فقلت بأحباط:.

- أأنتِ جادة يا رنا؟ لقد حل الليل فبأي ظلام سأجده؟ وحتى ان لم يكن ظلام فهل تظنين انه لا يزال هناك؟
- اذهبي لتبحثي. لن تخسري شيئاً. وايضاً هناك بعض المتاجر لاتزال مفتوحة الى الان واضوائها ستساعدك في العثور عليها ولن يعيقك الظلام عن البحث!
لم انتظر تحفيزاً اضافياً ورغم ان الامر كان شبه مستحيل ولكني انطلقت من فوري لأبحث في المكان الذي اصطدمت فيه برسلان اهتدي بمصابيح المتاجر الخافتة لأبحث عما ضاع مني!

بالتأكيد كان مستحيلاً ان اجده حيث اضعته فالسوق مزدحم جداً، تسير فوقه اقدام الناس الكثيرة وعجلات السيارات القوية التي لن ترحمه ان وقع تحت مطاطها السميك القاسي! وان كنت محظوظة فأني سأجده مكسور، لا بل مهشم، ولكن رغم ذلك لم افقد الامل!
وصلت نحو متجر ذلك المستفز، ذلك الذي يزيدني توتراً يوماً بعد اخر ماان يلوح ذكر اسمه امامي او ارى وجهه!

كان مشغول بترتيب الصناديق الفارغة في اماكنها ولااعلم حقاً ان كان قد لاحظ وجودي ام لا، اخذت نفساً طويلاً كي يوصل الاوكسجين الى اطرافي المرتجفة وتقدمت اليه لأقول بنبرة شبه متماسكة:
- مرحباً!
نظر إلى بطرف عينه وعلى ما يبدو انه لايزال غاضباً مني وقال بأقتضاب:
- تفضلي؟
حسناً هو بالتأكيد لايزال غاضباً مني! قلت له واصابعي افركهم ببعضهم بتوتر:
- انا، كنت اتسائل. هل رأيت اسورتي الفضية؟ انا لا اجدها!

نظر الى عيناي المتلهفة لأجابته بعمق وجمود لم يمكنني من فك شيفراته، هل يا ترى قد استشعر مدى اعتزازي بتلك الاسورة من الخوف البادي على ملامحي لفقدانها؟ ولكنه لطالما كان يدرك اعتزازي بها ولم يهتم يوماً بذلك. كنت اراه يحدق فيها بعمق بين تارة واخرى دون ان افهم سبب هذا التحديق الغريب. كتحديقه الان في عيناي بصمت من دون اي اجابة. وكأنه يغوص في عالم اخر بعيد عني. او ربما عالم لايحتوي سواي، واخيراً نطق ببرود بينما يرتب بقية الصناديق:.

- اجل فعلت!
وهنا فجأة شعرت بجسدي يحلق عالياً من فرط السعادة وانا اسأله بفرحة:
- حقاً؟ واين هو؟
توقف للحظة عن التحرك ثم نظر إلى بجمود دون ان ينطق شيء وبعدها قال ببساطة بينما يراقب عيناي وكأنه ينتظر ردة فعلي:
- لقد تخلصت منه!
وهنا بدأت ابتسامتي تتلاشى عن ثغري واغتلت ذلك الاشراق الذي طغى على وجهي قبل ثواني. بدأت عيناي تتوسعان بدهشة وانا اسأله بتوجس فأنا اعلم رسلان لن يمزح معي:
- فعلت ماذا؟
- تخلصت منه!

فهتفت به بأستنكار اشد: - فعلت ماذا؟
فأجابني ببروده القاتل وهو يشيح وجهه عني يرتب بقية الصناديق: - هل لديك مشكلة في السمع اليوم ام ماذا؟
فهتفت به بأستياء:
- لما فعلت شيء كهذا وانت تعرف جيداً ان هذه اسورتي؟ كيف.
وقبل ان اكمل ابتلعت فوراً باقي حروفي مع نظرته الحادة تلك التي منحها لي لأني رفعت صوتي فسكت فوراً وانا افهم تحذيره واكملت بصوت اكتم بداخل نبرته كامل عصبيتي وجعلته هادئاً قدر الامكان:.

- كيف عساك ان ترميه وانت تدرك جيداً انه يعود لي؟.
- لقد كان مكسوراً. ما فائدتك بأسورة مكسورة؟
وهنا عاد صوتي للأرتفاع مجدداً ولكن بغصة بكاء تمنع من خروجه بأريحية:
- لا تتحاذق معي يا رسلان، تدرك جيداً مدى اعتزازي به، فمن انت لتقرر رميه او لا؟
- اظن اني انا من اهديتك اياه!
-اجل اهديته، لذلك لم يعد ملكك انت!
لا اعلم ما سبب تلك الابتسامة الغريبة التي رمقني وهو يقول لي وانا كالبلهاء لم افهم شيء:.

- سيبقى ملكي انا وحدي، هل فهمتِ؟
وهنا هتفت به بحدة:
- انا اغلي وانت تتحاذق؟
- ليس عليكِ ان تغلي، ليس بذات القيمة!
وهنا قطبت حاجباي وانا اسأله بأستهجان:
- لحظة، لا تقل لي انك تخلصت منه بعد ان قلت لك ذلك الكلام عن يزن؟
وهنا عاد ليكتفي بالتحديق بوجهي وكأنه يعذبني على نار هادئة لا تقتلني ولا ترحمني من حريقها!.
قلت له بأبتسامة مراراة:.

- يااللهي رسلان! هل انت طفل؟ فقط لأني اغضبتك تخلصت منه وانت تعلم ما يعنيه لي؟
قال بعدم مبالاة:
- فسريها كما شأتي!.
نظرت له بحدة وانا اكاد افترسه من شدة غضبي، ولكني حاولت لملمت اجزاء كرامتي المغتالة دائماً منه!
رفعت حاجبي الايسر بتكبر واستقمت بظهري وانا ادعي البرود بينما اقول:
- حسناً لايهم، ليس يعنيني خسارته كثيراً ولكن فقط لأني معتادة على لبسه. ولكن سأجد غيره!

قوس حاجبيه بسخرية مع ابتسامة مماثلة وكأنه يسألني أحقاً؟! . فهذا المستفز هو الوحيد الذي يفهم كل شيء من نظراتي، عدا عشقي له لم يدركه بعد الاحمق!.
اكملت بأستفزاز دون ان ابالي بسخريته ورسمت ابتسامة مماثلة له:
- ومن يعلم، قد ارتدي الاسورة التي اهداها لي يزن، انها حتى تبدو اجمل!

وهنا بدأ وجهه يتجهم شيئاً فشيئاً وهو يحدق بعيناي بحدة وعاد ليكتفي بالصمت من دون تعليق، عاد ليحرقني ببروده ويجعلني اود الانقضاض عليه وقتله! اتمنى لمرة واحدة ان يتشاجر معي على غيرة فعلية وليس اعذار لا اعرف مصداقيتها من عدمها، اعذار تجعلني لاادرك حقيقة مشاعره المكتومة!.
استدرت من فوري ما ان طال صمته ورحلت بعيداً احاول ابقاء دموعي الحمقاء حيث هي!

وصلت الى المنزل وفتحت الباب بعنف وصعدتي من فوري نحو غرفتي تتبعني رنا بعد ان لاحظت رجوعي، دخلت الى غرفتي وانفاسي ترتفع وتنخفض بجنون ووجهي تحول للأحمر القاتم من غضبي المشتعل...
- اذاً؟ هل وجدته؟
نظرت بحدة نحو رنا وعيناي تقدح شرراً وهنا قالت رنا فوراً:
- دعيني اخمن، قابلتِ رسلان؟
تجاهلت الاجابة بادئ الامر واتجهت نحو منضدة تزييني وجلست امامها وانا اضع بعض مساحيق التجميل على وجهي وقلت بأقتضاب:.

- لا اريد التحدث بشأنه بعد الان!
- خففي مساحيق التجميل يا انسة واثقة قبل ان يراكِ ويقتلك!
- لست ابالي بغضبه بعد الان، وهو ذاتاً لن يحضر، وهذا افضل فلا اريد رؤيته!
- ماالذي حدث؟
أتذكرون تلك الدموع الحمقاء؟ انا اعجز عن كتمها امام رنا، لاسيما امامها! اقتربت مني من الخلف وضمتني اليها وهي تقول برفق:.

- ششش، كل شيء سيكون على ما يرام! لايهم ما حصل. تجاهليه الان واستمتعي بليلتك دون ان يفسد رسلان مزاجك كالعادة!.
قلت لها بصوت ضعيف:
- اكره حبي له يا رنا. اكره تمسكِ به وهو يستمر بتجاهلي والتخلي عني، لما عساي ان اكون ضعيفة بهذا الشكل المخزي امامه؟ حبي له ليس حب اعمى، بل حبٍ مريض!.

تنفست رنا بعمق تعبر عن عجزها عن ابداء اي كلمات قد تقتل وجعي، لذلك كلما فعلت هو ضمي اليها اكثر، فأحياناً لانحتاج الى كلام. كلما نحتاجه هو قلب يتفهمنا واحضان تحتوي بكائنا وتخفيه عن الاخرين الى ان نصبح اقوى بقليل لنتمكن من التماسك!

وقفنا في المطبخ انا ورنا نحضر اكواب العصير من اجل الضيوف الذي يتوافدون. رنا تسكبه في الاكواب وانا اذهب لتقديمه. كان هناك مرآة تقبع على الجدار عند باب المطبخ لذلك كلما دخلت وخرجت كنت القي نظرة سريعة على نفسي. ويبدو ان المعلق الرياضي رنا قد لاحظ ذلك!
- ظننتك قلتِ ان رسلان لن يحضر؟
استلمت منها الاكواب وانا اقول بأستغراب:
- وهل قلت انا الان شيء مختلف؟
قالت بأبتسامة مكتومة:.

- لا ابداً، ولكن اقول فحسب انتبهي لطريقك واتركي المرآة بدل ان تتعثري!
زفرت بحنق وسحبت الاكواب وخرجت تتبعني ضحكاتها، حمقاء!

قدمت الاكواب للضيوف الجدد وهما العم ايمن وزوجته الخالة ندى، من دون رسلان. من دون حبيبي المجافي والبارد! للحظة كان لايزال هناك امل ضئيل بداخلي يخبرني لربما انه سيأتي. ولكن مع حضور والديه تلاشى ذلك الامل تماماً لتتلاشى كل سعادتي معه، تلاشي لم يستمر لوقت طويل قبل ان تتجدد تلك السعادة المفقودة!.
توقفت في منتصف طريقي الى المطبخ وانا المح طوله الفارع وملامحه الوسيمة المقتضبة وهو يدخل من الباب!

تجمدت في مكاني وكادت ابتسامة سعادة بلهاء ان تولد فوق وجهي ولكنه اغتلاها لي فوراً وهو يقف امامي ويقول لي بأستياء:
- ماهذا الهراء الذي تضيعنه على وجهك؟
يا اللهي رسلان على الاقل قل مرحباً قبل ان تحاسبني على مساحيق التجميل!
كدت ان اتأسف فوراً واخبره اني سأزيلهم كالعادة ولكن فتيل كبريائي قد اشتعل، أتعلمون ما اشعله؟ ذكرى اسورتي التي رماها!
رفعت ذقني بتعالي وانا اجيبه:
- ماذا؟ انا اضع كما تضع باقي الفتيات!

وهنا كز على اسنانه بغيظ وتقدم خطوة غاضبة نحوي وهو يرفع اصبعه امام وجهي بتهديد ويقول:
- اذهبي لتمسحيهم فوراً عن وجهك قبل ان اقلب ليلتك هذه لعزاء يا لوجين!.
ضربت قدمي كالاطفال بحنق فوق الارض وقلت بتذمر:
- انا داخل المنزل يا رسلان فما العيب ان وضعتهم؟

هل تظنون ان رسلان انسان لطيف ومتفهم وسيناقشني بلطف في مواضيع كهذه؟ اعيدو التفكير ملياً لو سمحتم. ليس رسلان من تنطبق عليه هذه الصفات، هو لا يناقشني ابداً. هو يفرض وينفذ فحسب!
وضع يده بقوة على كتفي ودفعني برفق ولكن بأستياء بأتجاه المطبخ وهو يقول:
- دعي ليلتك تمر على خير يا لوجين ولا تفقديني اعصابي!
وسرت مثل الخلق بأتجاه المطبخ تتبعني زفرات تململي وتذمرات سخطي!

ماذا؟ أتظنون اني لم استمع لأوامره؟ اتمنى ان اعرف متى ستكفون عن طريقة التفكير هذه! اول مادخلت اتجهت نحو علبة المناديل وسحبت البعض منها ووقفت امام المرآة امسحه عن وجهي بعصبية!
- اراهن ان رسلان حضر!
هل هناك داعي ان اخبركم انها المعلق الرياضي ذاته؟ تركت ما بيدها فوراً واتجهت نحوي وهي تسألني بحماس بينما تديرني نحوها:
- هل تشاجر معك على مساحيق التجميل؟
- اتمنى حقاً ان اعرف سر سعادتك هذه لأنه تشاجر معي؟

قوست حاجبيها وهي تجيبني:
- لأن هذا يعني انه يغار عليكِ يا حمقاء!
اتجهت نحو العصير لأحضره من اجله وانا اقول:
- الغيرة لا تقترن بالحبيبة والزوجة فقط يا رنا، الاخ يغار على اخته ايضاً!
- هل انتِ حمقاء ام تتحامقي؟
حملت العصير والتفت اليها وانا اقول بجدية:.

- بل احاول ان لا ابدو كساذجة. ولا اريد ان اتألم، فحب رسلان لي مستحيل واظنك تعرفين هذا جيداً، لذلك دعيني لا اخدع نفسي بأفكار وهمية لن تجلب لي سوى المتاعب والارق!
ثم تركت المطبخ وخرجت قبل ان اسمع فكرة اخرى من رنا تجعلني اعيش في عالم لا وجود له!

اتجهت نحو الصالة حيث رسلان يقف مع بعض الشباب ممن كانو رفقاء طفولتنا وبالتأكيد وكعادته منذ صغرنا اول ما لاحظ قدومي بأتجاهه ترك اصدقائه واتجه هو نحوي كي لايجعلني اقف قربهم!

قدمت له العصير بصمت من دون ان ارفع بصري اليه. ولكن وقوفه بجمود امامي من دون ان يمد يده ليأخذ الكوب دفعني لأنظر اليه. وما ان فعلت ذلك مكنته اكثر من التمعن بوجهي. ثواني وارتفعت زاوية فمه بأبتسامة بسيطة بعد ان تأكد اني مسحت مساحيق التجميل بأكملها عن وجهي وقال بينما يأخذ العصير:
- فتاة مطيعة!
قلت له بهمس ساخط قبل ان استدير راحلة:
- بل تعني حمقاء!

اعلم جيداً ان هذه الكلمة تؤذيه ان اطلقتها على نفسي. فهذا يعني اني لا ارضخ لأوامره برضا. ولكن فقط لأني اضعف من ان ارفضها، لذلك كنت دائماً اقولها كي ابين له مدى كرهي لضعفي امامه، رجل اخر كان سيفرح. ولكن لااعلم لما كان رسلان يحزن، ربما اراد الرضا قبل الرضوخ، او ربما هو سبب من اسبابه الغامضة!

تجهزت موائد العشاء بعد دقائق والتف الجميع حولها. الاباء جلسو حول مائدة الصالة الكبيرة ونحن الابناء جلسنا على طاولة اخرى تقبع على مسافة منهم كي لا نزعجهم بثرثرتنا!
- اذاً يا لوجين. هل حقاً ستدرسين الطبية؟
رفعت وجهي ذو الملامح الجامدة نحو يزن دون ان ارسم اي ابتسامة مجاملة قد تستفز رسلان، لاسيما انه قد ترك طعامه والتفت الينا فوراً، قلت له ببرود:
- اجل. الامر لايحتاج الى سؤال!

- انا لا اعلم حقاً سبب ارهاق نفسك بالدراسة وانتِ لن تحتاجي اليها!
قوست حاجباي بعدم فهم فأكمل هو:
- اعني بالله عليكِ فكري بالامر بعقلانية. انتِ ابنة تاجر ثري. هل ستحتاجين الى الوظيفة؟
فقلت له بأستنكار:
- من الجيد ان ليس الجميع يمتلك وجهة نظرك السخيفة هذه يا يزن!
- بل انتِ غريبة الاطوار. تعلمين ان الشهادة لن تنفع بشيء وان الوظيفة لن تجني لنا المال وعلى احدنا ان يكتسب خبرة وظيفة ابيه!

وترك التحديق بعيناي ليلتفت نحو رسلان وهو يكمل حديثه فوراً:
- أليس كذلك رسلان؟
وهنا دق جرس الانذار في عقلي. هذا ما كان يزن الحقير يسعى منذ البداية اليه!
التفت اليه رسلان بأقتضاب دون ان يرد بشيء فأكمل يزن:
- ألا توافقني الرأي؟
اجاب رسلان بذات بروده:
- لم اكن اصغي لثرثرتك في الواقع. لذلك لا اعلم بأي شيء على ان اوافقك الرأي!
بدأت ملامح يزن تتحول من السخرية الى بعض الجدية وهو يقول بأبتسامة مستفزة:.

- كنت اقول انه على احدنا تعلم مهنة ابيه كي يجني المال اكثر من الشهادة. ألم تفعل انت هذا حين تركت الجامعة؟
ثم اكمل في الحال يدعي تذكره الامر للتو:
- اوه لقد نسيت! انت تركت الجامعة لأن اوضاعكم المادية لم تكن تسمح لك بأكمالها!.
انا اغلي، ورسلان لايزال ينظر اليه ببرود وعدم اهتمام، وعندما تغلي لوجين فلاشيء سيسكتها! لذلك وبكل سذاجة قلت ليزن بنبرة عصبية:.

- أتعني الجامعة التي فعل ابيك المستحيل كي يجعلك تدخلها وفشل بينما رسلان دخلها بمجهوده الخاص؟
نظر إلى يزن بأبتسامة وهو يقول:
- لم تكن ستفيدني بشيء على اية حال!
- اجل. فعقلك لم يتم صنعه للدراسة وتطوير نفسك. بل لكسب المال فقط!
فقال يزن ممازحاً حينما شاهد وجهي يتحول للأحمر من شدة غضبي:
- اهدأي قليلاً يا انسة لوجين اللطيفة. الغضب لايليق بوجهك البريء فأنتِ تبدين كطفلة في الخامسة!

- اذاً من الافضل ان لاتستفزني بحديثك هذا.
- حاضر يا مولاتي!
- انت حقاً.
- لما لايمكنكِ اغلاق فمكِ بحق السماء؟

لا. هذا لم يكن يزن، هذا كان رسلان! التفت اليه بدهشة لأرى ذلك البرود الذي كان يحتله قبل ثواني قد تحول الى غضب عارم واقتضب وجهه بحدة. قال لي جملته بغضب مكتوم حاول فيها جعل نبرة صوته منخفضة قدر الامكان كي لاينساب صوتنا للاباء، ولكن كانت العصبية واضحة تماماً لي ولكل المتواجدين معنا على الطاولة والذين كانو يراقبون نقاشنا في صمت...
اكمل رسلان ولا تزال عيناه الجاحظة تتعلق بحدة بعيناي المتفاجئة:.

- لا اعلم حقاً سبب حشر نفسك في مواضيع لا تخصك دائماً!.
يااللهي رسلان، انا لم اكن انتظر كلمات شكر منك لدفاعي عنك في الوقت الذي صمت فيه. ولكني لا اريد ايضاً كلمات غضبك المعتادة التي تسقطها على لسبب او لدونه!
بقيت احدق فيه بخيبة امل واشعر اني اكثر فتاة حمقاء تجلس على الطاولة يسلط الجميع عيونهم عليها في شفقة من دون تدخل، تركت الملعقة من يدي ودفعت الكرسي بهدوء وانا اقول بنبرة منخفضة اخفي بها غصة بكائي:.

- طعاماً هنيئاً!
واستدرت من فوري راحلة نحو المطبخ كي اختبئ فيه بعيداً عن العيون اجهش ببكائي المرير! جلست على الكرسي واحنيت رأسي ابكي بألم واشعر بروحي تحترق، شعرت بخطواتها السريعة تتجه إلى ثم جلوسها امامي فوراً وضمي اليها. ومن غيرها ملاذي. رنا!
رفعت يداي لأعانقها بقوة وكأني اشكي لها مدى المي بعناقي، مسحت على شعري برفق وهي تقول لي بمواساة:
- اهدأي عزيزتي. كل شيء سيكون بخير!
فقلت لها من وسط دموعي:.

- كلانا يعلم ان كل شيء لن يكون كذلك رنا، كلانا يعلم اني سأبقى اموت هكذا في كل مرة اراه فيها!
- كلنا نموت يا لوجين كلنا. ولكننا مجبرون ان نموت بصمت!
ذلك الحزن الذي يكتنف نبرة رنا انا قد سمعته مرات عديدة وهي تتحدث عن حبيبها المجهول الذي ترفض بوح اسمه لي، ابعدت نفسي عنها قليلاً ونظرت لها بأسى وقلت:
- اسفة لكوني انا من ابكي دائماً وانتِ من تتحملين!
تبسمت بلطف وهي تقول:.

- لا اجد فائدة من بكائي. اما انتِ فتحتاجين البكاء مع تصرفات رسلان المستفزة هذه بدل ان تصابي بنوبة قلبية من كتمانك!.
- هل سأبقى هكذا يا رنا؟ هل سأشتعل واخمد بمفردي دون ان يعيرني اي اهتمام؟ هل سأبقى الساذجة دوماً امامه؟
- كلنا في الحب ساذجون!.
طرقات خفيفة فوق باب المطبخ جعلتنا نرفع رأسنا فوراً. ونفزع فوراً، لقد كان رسلان!
- أيمكنك تركنا للحظة يا رنا لو سمحتِ؟

نظرت إلى رنا وهي بالكاد تكتم ابتسامتها وقالت:
- اجل بالتأكيد!
وتركتنا من فورها وخرجت وكأنها تخشى من احدنا تغيير رأيه!
اشحت وجهي جانباً امسح دموعي بتوتر. وكأنه لم يراها بعد، حمقاء بالفعل!
تقدم بخطوات ثابتة نحوي وسحب كرسي اخر وجلس امامي مباشرةٍ. احنى جذعه العلوي ليرتكز بمرفقيه على فخذيه وتشابكت يديه ببعضهما حملت بينهما شيء لم اتمكن من رؤيته، فكل ما كان يشغلني هو عيناه القريبة!

تنهد بأسى ونظر إلى وقال بملامة ولكن بهدوء:
- كم مرة حذرتكِ من خوض حديث مع يزن؟
فأندفعت حروفي ودموعي معاً وانا اقول:
- انا لم اخض معه حديث ودي انت كنت هناك ورأيت نقاشنا الحاد.
فنظر إلى بنظرة تحمل بعض الاستياء وهو يقول بنبرة ذات معنى:
- اجل. رأيت ذلك يا مولاتي اللطيفة ذات الوجه البريء.

لحظة. هذا ما قاله لي يزن حسب ما اذكر، وهنا رفرف قلبي وارتجف، الامر غير قابل للنقاش نهائياً. سبب غضب رسلان هو غيرته المجنونة هذه المرة!
تأفأف بضيق ومسح وجهه براحة يده ثم نظر إلى وقال:
- لوجين، كان بأمكاني الرد على يزن. ولكني لم افعل. وعندما صمت كان عليك ان تصمتي ايضاً، انا لم اشأ ان اناقشه بهذا لأن تفكيره ساذج وغبي. ونقاشي معه سيجعلني غبي مثله!

يااللهي! قبل قليل فقط كنت ارى نفسي المظلومة، اما الان فأنا المذنبة من دون شك!
اخفضت بصري بندم ودمعات ثقيلة تتساقط فوق حجري فمد رسلان يده وامسكني بأطراف اصابعه من ذقني ورفع رأسي برفق لتلتقي هذه المرة ابصاري الجاحظة بعيونه الهادئة، احتاج الى صفعة قوية حقاً تثبت لي اني لست داخل حلم!
- كم مرة اخبرتك اني اكره رؤيتك تبكين كالاطفال؟
وهنا بالفعل اصبحت كالاطفال واجهشت ببكاء اقوى لاسبب منطقي له وانا اقول:.

- انت تفعل كل تصرفاتك القاسية هذه معي ومن ثم تريدني ان ابقى هادئة دون ان ابكي او ان اغضب؟
كتم ابتسامته بصعوبة وهو يقول:
- اجل. ستفعلين ذلك!
كتفت يداي امام صدري وانا اقول بتذمر:
- هذه المرة لن افعل. ولتكف انت عن تصرفاتك هذه وانا لن ابكي!
بقي يحدق بي بأبتسامة من دون تعليق ومن ثم فجأة قال بأسى:
- اتمنى!
- وهل معاملتي بلطف كما تعامل بقية الفتيات امر صعب؟
- بل اصعب مما تتخيلي!

وتقوست شفتاي مرة اخرى لأجهش ببكاء صامت وانا اسأله بألم:
- ولماذا؟
تنهد بحسرة وهو يقول:
- نحن لم نعد اولئك الاطفال يا لوجين. لم تعودي تلك الصغيرة التي تحتاج الي. ولم اعد انا ذلك الطفل الذي يكسر رأس من يبكيكِ، لقد كبرنا واصبحت انا من يبكيك دائماً. لقد كبرنا يا لوجين وكبرت عقولنا معنا!
- قد تكون تخليت عني. عن تلك الطفلة التي تلتجأ اليك بكل شيء. ولكني لم اتخلى عنك.
ثم اكملت بألم:.

- انت حتى ترفض معاملتي كصديقة طفولتك او حتى كفتاة عادية تقطن معك ذات المنطقة، انت من تخليت عني يا رسلان!

اطلق تنهيدة قوية محملة بنيران صدره المؤلمة وهو يشيح بصره جانباً لأكتم انا بقية حروفي بأستسلام. فنقاشنا عقيم. لذلك فعلت كما فعل واشحت وجهي الجهة الاخرى، ولكن فجأة انتفض جسدي وارتجف. التفت اليه بتفاجئ وهو يمسك يدي بين يديه، ويلبسني شيء ما في معصمي. شيء لم اتمكن من رؤيته فلقد كنت احدق بعيناه التي يخفضها نحو معصمي!

- لقد كانت مقطوعة عندما وجدتها. وانا اعلم انك تحبينها كثيراً. لذلك لم اشأ اعادتها اليك قبل ان اصلحها. وعندما اتيتي بحثاً عنها لم اكن قد انهيتها بعد...
ثم نظر نحو عيناي واكمل:
- لهذا السبب اخبرتك اني رميتها. ولهذا السبب اخبرتك اني قد لا احضر العشاء. فلقد قررت البقاء واصلاحها كي اتمكن من اعادتها لكِ!
انزلت ابصاري نحو معصمي لأشاهد اسورتي الفضية تحيطه، هل تذكرون كم كنت احبها؟ الان اصبحت اعشقها!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة