قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الثامن

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الثامن

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الثامن

فوضى وتناقضات
(لوجين)
الهواء ينفذ. عضلاتي تتشنج تارة وترتخي اخرى. اقلب عيوني داخل عيون اسرتي الواحد تلو الاخر. لا احد فيهم يعتريه القلق مثلي. راقبت خطوات ابي الاعتيادية وهو ينهض من كرسيه بأتجاه الباب. جزء بداخلي يريد منه الاسراع اكثر ليغتال قلقي هذا ويفتح الباب وان لايكونوا من اتوقعهم. وجزء اخر يتمنى لو ان الطرقات تتوقف. لو ان الباب يختفي. لو ان الزمن ينتهي عند هذه اللحظة.

وما بين تزاحم الافكار هذه وصل ابي للباب وفتحه، وسكون. ولاشيء اخر!
- كامل؟
قالها ابي بعد ثواني لأنهض من مكاني فوراً بفزع وكامل يدلف الى المنزل ويلقي التحية على ابي بأبتسامة صفراء كأصفرار وجهي، نهضت باقي الاسرة من مجالسهم وهم ينظرون بأستغراب نحو حضور كامل محمود غير المتوقع وغير المناسب في هذا الوقت من الليل!
قلب كامل بصره ما بيننا وحين استقر على ابتسم ابتسامة اقرب الى الانتصار لم افهم سببها!

- أهناك خطب ما يا كامل؟
اجبره سؤال ابي على النظر اليه فتبسم بتبختر بينما يدلف اكثر الى المنزل من دون دعوة واقترب من مائدة طعامنا وهو يقول بينما يثبت ابصاره داخل عيناي الخائفة:
- أليس من المفترض ان ترحبوا بي وتدعوني للجلوس سيد عادل بدل ان تسألني عن الخطب عند باب الدخول؟
تنهد ابي بضيق وادرك انه لا مفر فأغلق الباب وهو يقول بمجاملة:
- اهلاً بك في اي وقت. نحن فقط استغربنا وقت الزيارة غير المناسب!

وقف كامل امامي مباشرةٍ وعيناه لاتزال تحمل ابتسامة امام عيوني الخائفة وكأنه يدرك مما انا خائفة بالضبط. مد يده نحو المائدة وحمل زيتونة من صحني ومضغها بين اسنانه بينما يقول لي:
- مبروك على الطبية انسة لوجين!
خانني صوتي من الخروج فأكتفيت بايماءة بسيطة من رأسي فقال بتهكم:
- ماذا؟ هل اكل القط لسانكِ يا لوجين؟
تقدم ابي الينا وهو يقول بشيء من الامتعاض:
- هل اتيت فقط من اجل التهنئة يا كامل؟

فقال كامل وعيناه لاتزال ثابتة داخل عيناي:
- لا، لوجين تدرك لما انا قادم!
فنظر كل افراد اسرتي بأستغراب إلى وانا لا ازال كالخرساء يمنعني خوفي من النطق بأي كلمة وشعرت بحرقة طفيفة داخل عيناي ستدفعني للبكاء قريباً ولكني ارفض تصديق الظنون المسيطرة على عقلي في هذه اللحظة، لا اريد حتى التفكير بالامر. انا في الهاوية لا محالة!
- لوجين؟

نبرة امي التي تحثني على التفسير دفعتني لترك عيون كامل لالتجئ لعيونها فتتحول نظراتي الى الاستغاثة. في تلك اللحظة بالضبط تمنيت لو كان بأمكانها اعادتني نحو رحمها بعيداً عن هذا العالم. في تلك اللحظة بالضبط تمنيت لو اني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا...
ومن دون ارادة مني تهاوى جسدي فوق الكرسي فنظر ابي بقلق نحو كامل وهو يقول:
- ماالذي يحصل بالضبط يا كامل؟

فأخرج كامل ورقة من جيب سترته الخضراء التي بدأت امقت لونها. في العراق انه اللون المشؤوم بالنسبة لي!
قدم الورقة نحو ابي وسحب الكرسي الاخر المجاور لي ووضع ساق فوق اخرى بأسترخاء وهو يمضغ زيتونة اخرى ويقول: - عبدالله خليل.
ثم نظر نحو ابي واكمل: - انت تعرفه جيداً سيد عادل. فسمعته تسبقه.
وعاد ينظر إلى وانا انكس رأسي بصدمة واكمل: - وايضاً يكون والد نبراس صديقة الانسة لوجين الجميلة!

بدأت عيون ابي تتحرك فوق الورقة ويداه ترتعش والباقين لايفهمون اي شيء، ثواني وتهاوى جسد ابي وكاد ان يسقط لولا ان استند بيده على الطاولة فأسرعت اليه امي ورنا واسندوه بينما احضرت له الخالة سعاد الكرسي ليجلس. وانا من دون حركة. وكامل من دون اهتمام وصرخت امي بنا: - ماالذي يحصل بحق السماء؟

وهنا بدأت ابتسامة كامل تتلاشى وهو ينظر له بجمود بينما يفسر: - الانسة لوجين مقدم فيها تقرير. فلقد تجرأت وذكرت اشراف دولتها بما لايليق بهم والتهجم بالكلام على القائد وابنه المحترم يحفظهما الله لنا.
فأنطلقت شهقة ثلاثية من النساء المحيطات بي فوقفت فوراً مدافعة عن نفسي وجسدي كله يرتجف وانا ارى نهايتي تقترب: - انا لم اذكر صدام حسين بأي سوء كنت اتحدث عن...

وقبل ان اكمل عبارتي نهض كامل بغضب من مجلسه وهو يقترب مني ولم تعد تفصل بيننا سوى خطوة وهتف بي بحدة: - تعنين السيد القائد صدام حسين حفظه الله!
اخفضت ابصاري ارضاً فوراً وابتلعت بقية حروفي. انا ذاتاً بورطة لذلك كان خطأ فادح ان اذكر اسم الرئيس المجرد من دون ان اسبقه ب السيد القائد واتبعه ب يحفظه الله.

سمعت بكاء امي المكتوم وانفاسي ابي المضطربة، شعرت بأصطكاك اسنان رنا وولولة الخالة سعاد. وكأنهم يتحضرون منذ الان للسير خلف نعشي. هذا ان وجدوا لي جثة من الاساس كي يضعوها في النعش!
استمرت نظراته الحادة ثواني نحوي ثم نظر الى ابي وسحب الورقة من بين يديه وقال بنبرة يعرف الاغلب هنا ماذا تعني: - ومن حسن الحظ ان التقرير قد وقع بيدي ولم ارفعه نحو السلطات العليا في الدولة كما تعلم.

ثم نظر نحوي بأبتسامة وانا اقابله بالدموع واكمل بنبرة ذات معنى اقرب الى مقصده:
- وهذه الورقة سنبقى في الحفظ والصون عندي. وسأحفظها جيداً!
ثم عاد ليلتفت نحو اسرتي التي لم تعلق بأي شيء تاركين دور البطولة في الحديث له فقط نخشى جميعنا ان نتفوه بما يغضبه لتكون هذه الورقة سبباً في قطع رقبتي:
- لقد احببت ان اعلمكم فقط بالامر كي تأخذوا احتياطاتكم وتضبطوا لسان ابنتكم السليط!

ثم عاد لينظر إلى واصابعه الكريهة تقبض على خصلة من شعري ليتملسها بلطف وهو يقول:
- بالتأكيد سنلتقي كثيراً لاحقاً يا لوجين. لذلك الى اللقاء مؤقتاً.
ثم تركنا وخرج مغلقاً الباب خلفه بقسوة ليدوي الصدى في منزلنا الساكن سوى من بكائي وضربات امي فوق خدها!

التفت بخوف نحو ابي وما كدت ان اكمل ندائي حتى نهض من مكانه وصفعني بقوة على خدي ليدير وجهي الناحية الاخرى. وكانت هذه المرة الاولى التي يرفع فيها ابي يده على لأجهش ببكاء اقوى ورنا تسرع لتتلقاني بين يديها والخالة سعاد تسرع اليه لتمسكه مانعة اياه عني بينما امي اكتفت بالبكاء وضرب وجهها وهي تدعو على نفسها بالويل لهذه المصيبة.

ارتفع صوت ابي على صوت بكائي وهو يحاول ابعاد الخالة سعاد عنه ليتلقفني بين يديه ويوسعني ضرباً من شدة خوفه علي:
- كيف تجرؤين؟ هل فقدت عقلك ايتها الغبية الساذجة؟
ثم دفع الخالة سعاد عنه وامسكني من عضدي بقوة وهزني بعنف بينما يصرخ بوجهي:
- من تظنين نفسكِ لتقولي كلام كهذا؟ ألا تعرفين عاقبة الامر عليكِ وعلينا؟ هل فقدت عقلكِ؟

ثم ضربني مرة اخرى غير آبهاً لتوسلاتي ولا لأيدي من حوله في جعله يكف عن ذلك، فابي يعرف جيداً ما عاقبة هذا الامر. يدرك جيداً المستقبل المشؤوم الذي ينتظرني لا محالة!
شدد قبضته على يدي اكثر وقال -بل صرخ بي:
- انه بسببي انا. انا من دللتك اكثر من اللازم. انا سبب هذا الاستهتار!
هزني مرة حتى كاد ان يقتلع كتفي من قسوته النابعة من خوفه علي:.

- ولتعلمي جيداً انه بسبب تصرفك هذا فأنتِ ممنوعة من الخروج من المنزل لمدة شهر كامل وممنوع ان تلتقي بأحد وسيتم حرمانك من المصروف ولن تخرجي من باب غرفتك ألا لسبب. هل تفهمين ما اقوله لكِ؟
- ابي اقسم اني.
وقبل ان تكمل اخرستني صفعة اخرى منه مانعاً اياي من الحديث ثم رمى جسدي بعنف نحو رنا وصرخ بها:
- خذيها من امامي!

فأسرعت رنا لأبعادي عنه قبل ان يغير رأيه واصعدتني نحو غرفتي. اول ما دخلنا دفعتني نحو الداخل واغلقت الباب خلفنا فأجهشت ببكاء قوي وانا اتكور حول نفسي على الارض لعلي بهذا التكور اسيطر على جسدي من هذا الاهتزاز الذي بعثر له ترابطه. جلست رنا فوراً وسحبتني بقوة بين يديها لتضمني اليها. وكأنها تلتاذ بي وليس تُليذني بها. وقتي بالنسبة للجميع بدء عدّه التنازلي. انا من ضمن الاموات لا محال!

- اهدأي. كل شيء سيكون بخير!
همستها رنا بصوت خائف شعرت بها تخاطب نفسها لتطمئن وليس تخاطبني.
تمسكت بثوبها بقوة وسحبتها إلى اكثر وكأني احاول الاختباء. ولكن لا مكان لأختبئ فيه منهم ان قررو البحث عني. حتى الجماد سيشي بي لهم من خوفه!
- سيأخذوني يا رنا. سيعود ليأخذني!
قلت لها وجسدي كله يرتجف مثل صوتي وحروفي متقطعة من البكاء فرفعت وجهي بين يديها وقالت بحزم من وسط دموعها:.

- لن يأخذكِ احد. هل فهمتِ؟ اخرجي هذه الافكار اللعينة من رأسكِ. لا ابيكِ ولا خالكِ سيسمحون بذلك!
هززت رأسي بيأس بينما اقول بهستيريا:
- من قد يكون خالي ليقف بوجهم؟ تعلمين ان هؤلاء لن يقف بوجهم احد وخالي اقل منه رتبة!
فصرخت بي بألم:
- كان عليكِ التفكير بذلك قبل ان تتفوهي بكلام مشابه!

- لا اعلم ما جرى لي يا رنا. اقسم اني لا اعلم. فجأة وجدت هذه الكلمات تخرج من فمي من دون وعي. اقسم اني لم اقصد ذلك. وكأن هناك شخص اخر كان يتحدث بدل مني ولم استعد وعي ألا بعد رحيلها.
بقيت رنا تحدق بي بتشتت فأكملت بنبرة يأس للوم الجميع لي:
- اقسم ان هذا ما حصل. نعم انا مذنبة. ولكن لا اعلم لما فعلت ذلك. انا بالفعل حمقاء!
فضمتني اليها وهي تمسح على رأسي بمحاولة فاشلة منها لجعلي اهدأ بينما تقول لي:.

- اهدأي عزيزتي. فقط اهدأي وكل شيء سيكون على ما يرام صدقيني!
استسلمت لبكائي بين يديها وانا ادرك ان كل ما تقوله هو مجرد حقنة امل مزيفة. فكلانا يدرك ان كل شيء لن يكون بخير. وان نهاية هذا الامر لن ينتهي على خير ابداً!

(رنا)
حين نشعر اننا على وشك ان نموت. سنخاف! ولكن حين نشعر ان عزيز علينا سيموت. سنشعر بالموت قبله حينها. لن يكون للخوف مجال في نفوسنا. بل الرعب! سنبدأ بتصور ايامنا من دونه كيف ستكون؟ سنتخيل عزائه. صراخنا عليه. بكائنا. سنتخيل لحظة دفنه، سنتخيل كل شيء بلحظة!

ولكن كل هذه الاشياء لم اتخيلها بحالة لوجين هذه. فلوجين ان اخذوها لن يكون لها قبر. لن يكون لها جثمان. لانعلم طريقة التعذيب التي سيستخدموها معها. نحن ندرك جيداً ما يحصل في السجون. بعض القصص يسردها المفرج عنهم. واخرى السجّانين وكأنهم يتفاخرون بما فعلوه كي يجعلوا الناس يخافوهم اكثر!

ربما سيضربوها بالعصي المتينة. او ربما بتلك السياط التي تترك اثر ابدي. ولكن كيف سيقتلوها؟ ربما سيستخدمون تلك الالة التي تفرم الجسد الى اشلاء فيختلط لحمها مع عظمها. او ربما كما قال البعض سيستخدمون طريقة قتل اكثر بطئاً. كأن يربطوا قدميها في تلك السيارة الضخمة لتسحبها معها ولن تتوقف الى ان يتمزق غطاء رأسها!

كلها تخيلات وتصورات انعكست داخل عقلي جعلتني اضم لوجين اكثر واكثر إلى اخشى ان يعود كامل من اجلها. فمن استخدموا هذه الطرق معهم كانوا مجرد مشتبه بهم لم تثبت ادانتهم. فكيف بلوجين التي ثبتت ادانتها؟ كيف بمن تطاولت على اشراف بلدها؟ كيف بمن تجرأت وذمت زير النساء الشريف عدي؟ انه اسم يخشاه حتى المقربين. لالا. بل حتى افراد اسرته!
ليس بعيد ان يتولى هو بنفسه تعذيبها!

ومع كل فكرة جديدة تتخاطر الى عقلي اضم لوجين إلى اكثر. اريد ان ادفنها داخل صدري قبل ان تدفنها سجونهم. قبل ان يدثروا لها شبابها الى الابد. مع كل تخيل اصبح اكثر تفهماً لضرب العم عادل للوجين، فلابد ان التخيلات التي تخاطرت على عقله هو اكثر رعباً جعلته يتصرف هكذا معها!
- رنا؟
انتبهت من شرودي على همسة لوجين فقلت فوراً:
- اجل عزيزتي؟
- لما اتى كامل؟

طرفت برموشي بعدم فهم فرفعت جسدها من بين ذراعي ونظرت إلى بعينها الخائفة وهي تقول لي:
- اعني. لو اراد تسليم التقرير لما جاء ليرينا اياه؟
فقلت بأمل زائف ادرك ان لا صحة له:
- ربما لن يفعل. ربما لن يسلمهم التقرير. ربما اراد ان يؤدي فضل للعم عادل يجعله يتذكره طوال حياته. نحن ندرك كم كامل شخص متفاخر!
- اذاً لما لم يمزق الورقة؟ هكذا كان سيكبر بعين ابي اكثر لو فعلاً هذه هي نيته. فلما لايزال يحتفظ بها؟

بدأت تتسع عيناي شيئاً فشيئاً وانا ادرك مقصد لوجين فأحاطت رأسها فوراً واجهشت ببكاء اقوى وهي تقول:
- لا. مستحيل. هذا مستحيل. افضل السجن والموت على حصول هذا!
ضممتها إلى مجدداً وانا اقول:
- اهدأي. دعي كل شيء للايام ولا تستنتجي اي شيء حالياً. يكفي ما نحن به ولا نحتاج افكار اسوأ!
شعرت بالاختناق من هذه الفكرة الجديدة. ولكن لو كانت هذه الطريقة ستقي لوجين من سجونهم فارتباطها بكامل اهون بكثير من القبض عليها!

مضت ساعتين تقريباً اتعب فيها البكاء لوجين فسكنت عنه وعن الحركة. ولكن النوم لم يقارب جفنيها. كانت تستلقي على سريرها وتدير وجهها جهة الجدار المجاور لها تحدق بنقطة معينة لا اهمية لها. فعقلها تلقائياً لم يكن مع الجدار. وليس في الغرفة ولا في المنزل اجمع. كان عقلها يسافر نحو مستقبل اسود مشؤوم لن يحمل اي خير لها. لا بالسجن ولا بارتباطها بكامل. ونحن ندرك جيداً انه لاخيار اخر بعد الذي حصل سوى هذين. كامل لن يمنحها ثالث!

تركت لوجين لترتاح ونزلت من السلم بهدوء لأسمع همس قادم من الصالة يحمل كل الغضب الممكن ولكن مكتوم بخوف. كان العم عادل والسيد احمد(خال لوجين) والخالة سهير يتناقشون معاً!
دخلت ليقطعوا حروفهم فوراً وكأنهم وجِدوا متلبسن بتهمة شنيعة!
قلت بهدوء:
- السلام عليكم!
ليردوا تحيتي بأنفاس يطرحوها براحة وكأنهم ادركوا انها انا وليس حزب البعث من دخل عليهم!

اتخذت الكرسي في الزاوية مجلساً لي قرب امي التي لم تجف دموعها بعد واستمعت لهم بصمت!
كان السيد احمد ذو48 عاماً اول من عاد ليفتح الموضوع من جديد وهو يقول وملامح وجهه مقتضبة بحدة:
- علينا ايجاد اي حل سريع قبل ان يبدأ كامل خطوته الاولى. انا اعرف كامل جيداً. انه لايتصرف اي شيء عبثاً ودام انه احتفظ بالورقة هذا يعني انه يقرر فعل شيء بها!
فأجاب العم عادل والتعب قد بدى على مظهره خلال هذه الساعات القليلة فقط:.

- ألا يمكننا نكران كل شيء؟ ألن ينفع وجودك لتصديق شهادتنا وندعي انه مجرد شجار فتيات سخيف وقررت صديقتها الانتقام فقط؟
- الامر ليس بهذه البساطة يا عادل. تلك السجون مثل الكابوس. حتى الذي لاذنب له سيخضع لها. انهم كالكلاب المسعورة ووجود سجين جديد مثل الزبون الجديد. سيفعلون اي شيء فقط كي يحتفظوا به لاطول فترة ممكنة لذلك لن ينصتوا لشهادات ولا حتى لأدلة!

غطى العم عادل وجهه فوراً ليزفر انفاسه المتهالكة بين يديه وضربت الخالة سهير فخذها مجدداً بينما تعض شفتها السفلية لتكتم صوت صراخها تخشى عليه من الخروج فيسمعها الواشيون فيخطفوا ابنتها من بين يديها!
فقال السيد احمد بعد صمت دام لثواني:
- علينا تهريبها. ان قدّم كامل تلك الورقة فلوجين ميتة لا محالة!
نظر العم عادل اليه وهو يسأله بأهتمام:
- تهريبها الى اين؟ وكيف؟.

- لا يوجد لدينا دولة غير ايران. هي الوحيدة التي من السهل اختراق حدودها بسرية من غير معرفة الجيش العراقي عن طريق الجبال!
وهنا انتفضت الخالة سهير واقفة وهي تقول بأستنكار:.

- تهريبها؟ هل تدرك مامعنى ذلك يا احمد؟ اي بمعنى ذهابنا جميعاً معها عن طريق تلك الحدود وكلما زاد العدد كلما زادت المخاطر. هل تدرك ماالذي سيحصل ان قبض علينا الجيش العراقي نحاول الالتجاء لايران - وايران بالاخص- والهرب من العراق؟ نحن سنموت لا محالة. على الاقل بقائنا هنا سيضمن لي حياتها للوقت الحالي بدل ان اقدمها للموت بيداي وتوريط كل معارفنا بالامر فبالتأكيد كامل لن يسكت على الامر بعد رحيلنا وسيستدعيهم للتحقيق. وانت تدرك جيداً كيفية تحقيقهم يا احمد!

فصرخ بها العم عادل بعصبية:
- اذاً ماذا نفعل يا سهير؟ اخبريني ماذا عسانا ان نفعل؟ ندرك جيداً ان كامل سيسعى اما لسجنها او طلب الزواج منها كالمرة السابقة!
لتنظر له الخالة سهير بينما تجيب بحدة وشرايين عنقها الشفاف تبرز بقوة:
- ان ازوجها لذلك الشيطان لهو اهون على من زفها لسجونهم...
ثم ضربت على صدرها بيدها كاشارة لنفسها وهي تكمل:.

- ابنتنا يا عادل ابنتنا! سيأخذوها من بين يدينا نحو سجونهم القذرة والرب وحده يعلم ما الذي سيعرضوها له.
ثم صرخت وهي تفقد اعصابها تماماً وتلك الافكار تتوافد الى رأسها:
- هل يمكنك ان تتخيل ماالذي سيفعلوه لها هناك يا عادل؟ انت تعرف جيداً ماالذي يحصل هناك فكيف بلوجين ان قبضوا عليها؟
فنهض العم عادل وضمها اليه ما بين يواسيها وما بين كتم صراخها كي لا يسمعه احد فيشي بهم!

كانت ليلة من اسوأ الليالي. لم نعرف فيها سوى الدموع والافكار السوداء ولم يقرب النوم احد فينا ابداً!
قضت امي ليلتها ما بين مصلاتها وقرآنها ودعائها المتضرع النابع من قلبها. والخالة سهير قضتها بجوار لوجين تضمها اليها وتشاركها بكائها. اما العم عادل فرأيته يعود للتدخين بعد ثلاث سنوات من الانقطاع. وكأنها عشيقته السرية التي يلتجأ اليه كلما ضاقت به حياته!

واما انا. فكنت بحالة جمود وانعزال. بقيت اجلس في الصالة ابكي بصمت تارة واحدق بشيء ما - دون ان اركز به فعلاً - تارة اخرى!
استمر هذا الوضع لثلاثة ايام. لوجين لاتخرج من الغرفة الا للضرورة وطعامها يصعد اليها فأشاركها اياه حتى لاتشعر بالوحدة. واما بقية افراد العائلة فلا شيء يصدر منهم غير الصمت وكل واحد فيهم يتعامل مع الموضوع بطريقته الخاصة. اما بالبكاء او احراق السجائر!

وبكل تأكيد وبسبب معاقبة لوجين فان كل المهمات خارج المنزل اصبحت من نصيبي فقط من دون مشاركة او مرافقة.

في وقت العصر حيث الكهرباء تنطفئ عادةٍ في هذا الوقت ولوجين تفضل البقاء وحدها، جلست في الصالة اتصفح جريدة الجمهورية حيث لاتجذبني احداثها ولا كلماتها المصنوعة بإتقان من قبل الدولة حيث ستقرأ فيها فقط ما تود الدولة لك ان تعرفه او تقنعك اجباراً به لذلك لم اكن متحمسة فعلاً لقرأتها ولكن لم اكن املك شيئاً اضيع به شرودي وان لا احدق بشيء بعيد كالمصدومة وحدي لذلك كنت ادّعي تصفحها الى ان قطع على وحدتي صوت الخالة سهير المتعب وهي تقول لي بهدوء وكأن كثرة البكاء قد اجهدتها:.

- عزيزتي رنا. اذهبي نحو متجر السيد ماجد لتحضري لي كيلو من العدس!

في الحقيقة رحبت بهذا المشوار اكثر من غيره فقد كنت اختنق بالفعل واحتجت للخروج، لذلك قمت من فوري واخذت المال بصمت وخرجت، وفي هذا اليوم بالذات عرفت شعور لوجين حين كانت تصف لي احياناً انها تعيش اللحظة دون ان تعايشها فعلاً. يمر الوقت. يسير جسدها. تنفذ المهام كما يُطلب منها ولكن من دون وعي. تشعر انها بعالم اخر وعقلها هو من يتحكم بجسدها من دون ارادتها، هكذا كنت انا في لحظتها. سرتُ بين الناس هائمة. اضرب بكتف هذا دون ان اعتذر. استمع لتحية احدهم تُلقى على دون ان امتلك القدرة على ردها. عيناي ثابتة بأتجاه معين دون ان ازيحه. وفجأة توقفت. التفت من حولي لأجد نفسي امام متجر السيد ماجد. مددت يدي بتلقائية وتحركت شفتاي بأمر من عقلي لاقول بخفوت:.

- كيلو عدس لو سمحت!
وانتظرت. بما افكر؟ لااعلم. عقلي مزدحم فحسب دون ان يجد فكرة ثابتة يداولها ويناقشها!
اشتريت العدس وعدت بنفس الحالة. ولكن ليس اي صوت يمكن لعقلي ان يتجاهله. ليس صوته هو!
- رنا؟
نبض ذلك النائم، رفس صدري. ارتجفت اطرافي. انها الاعراض ذاتها في كل مرة!
توقفت والتفت اليه ما بين لهفة قلبي وملامة عقلي لتنطق شفتاي مرة اخرى بتلقائية ونبرة تحمل شوقي المكتوم:
- يزن؟

كانت كلمة واحدة. ولكنها عبّرت عن اسرار كثيرة.
تقدم لي وانا اشاهد الجدية تغزو ملامحه لتطغى على شوقه وقال لي برسمية وكأنه يحاول اختصار المجاملات ليصل لذروة الموضوع:
- كيف حالكِ؟
تلكأت بينما اجيب:
- انا. بخير!
- متى ستبدأين دوامكِ في الجامعة؟
- الاسبوع القادم؟
- واين لوجين؟
شعرت بأحباط معتاد من انه يحاول الوصول من خلالي لاخبار لوجين فأجبت بأعتيادية بينما اخفي مااشعر به فعلياً:
- انها في المنزل!
- لما لاتخرج؟

- انها مريضة فحسب!
ليجيبني بأنفعال:
- وهل هذا سبب لخروجكِ كل نصف ساعة طوال الايام الماضية؟
- انا لا.
وتوقفت عن الكلام. انه يريد الوصول لهذه النقطة. وليس للوجين!
نبض ساكن يساري بعنف اكبر بينما اسأله وانا اشعر بلهفة اكتمها ايضاً:
- وماادراك بخروجي؟

ليبسط ملامح وجهه المجعدة وكأنه انتبه في لحظتها على عصبيته الساذجة ليصمت فوراً. لأدرك اهتمامه. لأشعر بغيرته. ليثور بداخلي جحيم كنت اكتمه بصعوبة فيحرق لي مقلتاي لتفرز لي دموع ابقيتها بصعوبة حيث هي وقلت بصوت مرتجف:
- يزن! كف عن مراقبتي بسرية. كف عن غيرتك الساذجة. كف عن هذا التعلق المجنون فانا وانت لا ينفع ان نكون معاً!

امسكني من عضدي وسحبني لجانب الطريق بعيداً نسبياً عن المارة وقال بينما يزيد من ضغطه على يدي كما يضغط على اسنانه بغيض وهو يقول:
- هل يمكنني؟
ثم هزني بعنف ليكمل:
- انتِ اجيبي. هل يمكنني؟
فدفعته بعنف عني وانا اقول بذات عصبيته لتفلت تلك الدموع المكتومة:
- لقد عذبتني يا يزن اتوسل اليك ان تتوقف. انت تؤذيني!
ثم ضربت صدري جهة قلبي لاقول بهستيريا:.

- انا اموت يا يزن بسببك وبسبب انانيتك. انت لا تحبني. انت يعجبك اهتمامي بك. حبي لك. جنوني وغيرتي، يعجبك ان تتملك عشيقة كهذه ترضي لك غرورك الرجولي بين فترة واخرى وهي تُسمعك مدى تعلقها الساذج بك!
ولاول مرة ارى الانكسار يبدو على وجه يزن وهو يقول لي بعصبية ممزوجة بالم:
- ان كنتِ تموتين فأنا ميت مسبقاً. وان كنتِ تتأذين فأنا اتعذب. ولكن لااعرف ماذا افعل يا رنا!
لاصرخ به:.

- اتركني! اتركني يا يزن لتتخلص من حيرتك واتخلص انا من عذابي لقد اتعبتني، انت لا تبقى معي ولاتسمح لي بتركك او حتى برؤية غيرك!
ليظهر يزن الغاضب ذاك الذي لااراه ألا نادراً وعصر يدي بقوة اشد وهو يقول:
- اخبرتك ان لا تأتي على ذكر هذا الكلام مجدداً، لا تجرؤي لتاتي على ذكر غيري!
اقتربت منه لاهمس بغيض بينما اركز عيناي داخل عيناه:.

- انت تعشقني. ولكنك اضعف من ان تعترف بهذا لاحد. انت مجرد جبان. ومن مثلي لا تفضل الجبناء يا يزن!
رغم يده التي تزداد انقباضاً فوق عضدي مع كل كلمة اقولها ألا ان هذا لم يخرسني ولم يجعلني ابتلع كلماتي كالعادة. كان بي غيض اكبر من ان اتحمله!
- رنا؟ أهناك مشكلة؟

اخترقنا صوت رسلان فجأة قاطعاً علينا شجارنا فالتفت اليه لأكتم ثورتي فوراً احترامٍ لوجوده وخجلاً من البوح له بما يغضبني. لذلك اكتفيت بالصمت فوراً بينما هتف به يزن وهو يفلت يدي ليستدير اليه قائلاً بعصبية:
- وما شأنك انت بها؟
ظننت ان رسلان ايضاً سيفقد اعصابه كالعادة مع يزن. ولكني استغربت انه التفت اليه بكل هدوء ليقول باعتيادية اقرب الى اللطف:
- لايجوز وقوفكما معاً هنا امام المارة.

ثم اشار برأسه إلى بينما يكمل:
- وهذا المنظر لايليق بشابة. الناس لن ترحم من سوء الظن!
فاخرس كلامه يزن فوراً. ربما بسبب النبرة التي قيلت فيها او بسبب المنطق الصحيح. فما قاله لايقبل النقاش. فوقوفنا هنا بعيداً عن مسامع الناس نتشاجر سيثير الربية. وللناس الف لسان ليخلقوا فضيحة!

لذلك وبصمت مطبق كفكفت دموعي واومأت برأسي كعلامة على الوداع لرسلان فقط والذي ابتسم بدوره كمجاملة فتركتهم ورحلت، وبدل ان تخمد ناري بعد هذا قد ازدادت سعيراً فقط!.

(يزن)
راقبت خطواتها السريعة تبتعد عني بينما خصلات شعرها الفاحمة تتراقص خلفها وكأنها تتبعها لاهثة لعلها تجاري سرعتها!
وما بين حبي وانكاري اعيش جحيم صامت لايسمعه ويشعر به سواي!
- اذاً. هل تريد ان تتحدث بالامر؟
التفت بعصبية نحو رسلان اخفي بها رغبتي الفعلية وانا اجيبه باستياء:
- لا. لا اريد!
منحني ابتسامة بسيطة وهو يجيبني بثقة:
- انت كاذب. لو لم ترد لتركتني وركبت سيارتك فور رحيلها!

حسناً. نوعاً ما هو محق. بل محق تماماً. جزء مني يكرهه بشدة، وجزء اخر لايزال يحن لتلك الايام الخوالي حيث كنا اصدقاء مقربين. حيث كنا مجرد كتلة من البراءة رغم بلوغنا. لتلك الايام حيث كنت أئتمنه على كل اسراري. لحين اتى ذلك اليوم واخبرته بسري الذي فرّق بيننا. اعجابي بلوجين!
حين طال صمتي وضع يده على كتفي مشجعاً بينما يقول:
- هيا تعال. دعنا نحتسي فنجان شاي في مقهى العم سمير!

رضخت للفكرة على رضا وتقدمني في المسير بينما اتبعه. تماماً كما الماضي!
دخل الى المقهى ورفع يده لالقاء التحية على الحضور حيث وقف صغار السن - من باب الاحترام - رداً على تحيته واما كبار السن اكتفوا باجابته بصوت مرتفع وابتسامة عريضة قبل ان يعود كل واحد فيهم الى مكانه والى ما يفعله!

جلسنا على طاولة خشبية في اقصى المقهى فرفع اصبعيه السبابة والوسطى نحو صبي المقهى فادرك اننا نريد كوبين من الشاي ثم صمت ببساطة دون ان يقول شيء في الوقت الذي كان صدري يغلي اريد ان ابوح بكل مكنوناته لارتاح. ولكني ببساطة صمت ايضاً انتظر منه ان يفتح الحديث. فان صمت رسلان فلابد ان يكون لسبب!

ثواني واحضر الصبي حمزة الشاي لنا فشكره رسلان ومازحه بكلمات لطيفة قبل ان يغادرنا حمزة لنحظى بتلك الخصوصية التي كان ينتظرها!
- اذاً. ففي النهاية انت تحب رنا؟
نظرت له بامتعاض قبل ان اجيب:
- اخشى ان اجيب بشيء لأحصل على لكمة مشابهة للمرة السابقة ان كنت تذكر!

شرب جرعة من فنجانه ليمنحني نظرة خاطفة من دون ان يعلق بشيء. لااعلم هل يجده موضوع يستحق التجاهل ام انه اثار استيائه فقط. ولكني بكلتا الحالتين لم ابالي وزفرت بتضايق دون ان امد يدي نحو الشاي الخاص بي. فمع حرارة الجو وحرارة روحي كانت حرارة الشاي ستزيد الامر سوءاً!
- رنا ليست كاي فتاة يا يزن. انها صديقة طفولتنا، ابنة منطقتنا، ويتيمة لا احد لها سوى امها. كلها اسباب يجب ان تدفعك ان لا تتلاعب بمشاعرها!

فالتفت اليه بغضب لاهتف به:
- تعلم اني لا اتلاعب بها يا رسلان!
لو كانت تهمة اخرى لربما تجاهلت الدفاع عن نفسي في هذا الوضع. ولكنها التهمة الوحيدة التي ارفض الصاقها بي من اياً كان. انها الشيء الحقيقي الوحيد بين ملايين الاشياء المزيفة في حياتي!

سكت لثواني اضبط انفعالاتي حين ادار رسلان بصره باحراج ينقله ما بين عيون الذين التفتوا إلى باستغراب من صوتي المرتفع. فليذهبوا للجحيم! لست ابالي بنظراتهم في هذه اللحظة!
انتظر رسلان الى ان اعاد كل واحد فيهم عينيه الى ما كان يشغله حتى التفت إلى وقال بجدية وحزم:.

- يزن! انا وانت ندرك جيداً ان حبكما انت ورنا لا نهاية سعيدة له. انت من عالم ونحن من عالم ثاني. نحن في الظلام وانتم في النور. نحن في القعر وانتم في القمة. في مجتمعكم الراقي نحن سنبدو كالنفايات فقط بينكم لاقيمة لنا! لذلك اقول لك توقف عند هذا الحد بدل ان تؤذيها معك فقط لانك تحبها. الحب ليس كل شيء!
فأجبته بسخرية:
- بالفعل كلام حكيم ومؤثر، هل طبقته مع لوجين ايضاً وتخليت عنها؟

ثم ضربت صدري بسببابتي مشيراً الى نفسي بينما اقول:
- حين اتزوج انا رنا سأنقلها من الحضيض الى القمة. سأجعل حياتها افضل. ولكن حين ترتبط انت بلوجين فستفعل العكس وستحطم لها كل حياتها!
فقال بعصبية تظهر عليه فجأة منذ بداية لقائنا:.

- اولاً انا لا انوي الزواج من لوجين كي تظن اني سأحطم لها حياتها. وثانياً انا افعل المستحيل لأجعلها تكرهني ولا اوليها اي اهتمام ولكنها هي من لاتزال تتمسك بأحلام ساذجة لا وجود لها وان وجِدت فلن تتحقق!
تفككت ملامح وجهي الملتحمة بينما اتمتم بعدم وعي:
- اذاً فما قالته لوجين صحيح. انت تحب واحدة اخرى!

بقي رسلان ينظر إلى بملامج ممزوجة بالاستغراب والصدمة. ولكنه رغم هذا لم يعلق بشيء على هذا الامر بل رد على بكل رصانة واقتضاب:
- موضوعنا الان لايتمحور على بل عليك. لذلك لاتتهرب من الامر!
- انا لااتهرب من شيء. ان الفكرة ذاتها!
- الفكرة ذاتها ولكن تصرف كلينا ليس ذاته. انت تجعل رنا تتعلق بطيفك فقط!
وقبل ان اعلق بشيء سألني:
- هل تحبها؟

وهنا اختفت كل تلك النيران التي تلسعني وبدأت لكزات خفيفة تضرب قلبي بخفة بينما اجيبه والحزن يطغى على نبرتي:
- اكثر مما احببت اي شيء اخر في حياتي!
- اذاً لما لاتتمسك بها؟ لما لاتطلب من ابيك ان تتقدموا لخطوبتها؟
مسحت وجهي بتعب بينما استند بكلتا مرفقاي على الطاولة التي بيننا وطرحت كل زفيري الملتهب بين راحة يداي وانا اجيبه:
- فعلت...
- و؟

قالها رسلان يحثني على المواصلة فنظرت له وانا اشعر بالالم يعتصرني بينما اجيبه:
- قلب ابي الدنيا رئساً على عقب. وحتى انه هددني انه لن يعطيني قرش واحد ان ارتبطت بها او استمررت بحبها!
فقال لي رسلان بتهكم مبطن باحتقار:
- وانت وافقت؟
نبرته ونظرته كانت تتشابه مع نظرة رنا لي حين اخبرتها بالامر. نظرة كانت تحطم لي كل رجولتي وتشعرني بمدى عجزي!

اخرجت سيجارة من جيبي واشعلتها كما تشتعل روحي واخذت نفساً عميقاً منها ونفثت الدخان بقوة بينما احمل فنجان الشاي - الذي برد نسياً - لأخذ منه رشفة فقاطع على رسلان صمتي وهو يقول لي:
- اجبني. ألهذا السبب قررت التنازل عنها؟
نظرت له من خلال سحابة الدخان التي تشكلت بيننا واندفعت مبرراً لنفسي وليس له جريمتي الشنيعة:.

- ان كنت ترى الامر هين من ناحيتك فهذا لانك اعتدت حياة كهذه يا رسلان اما انا فلا! ليس لدي شهادة ولا اجيد اي حرفة معينة وانت تعرف اوضاع العراق جيداً والحصار الذي بها. فبماذا سنعيش انا وهي بهذا الوضع؟

- ان كنت تحبها فعلاً فلن يشكل هذا لك عائق وستجد لنفسك الف مبرر كي تقنعها وتقنع نفسك بأمكانية تواجدكما معاً، ستعيش كمئات العوائل العراقية الفقيرة التي لا تجد ما تأكله او ما تعمله الا بالصدفة ورغم ذلك ايامها تمضي. ان كنت تحبها فعلاً فستعيش حياتها وليس شرط ان تعيش هي حياتك لتتواجدا معاً!
ثم اردف بنرة اكثر ارتياحاً:
- وشيء اخر يا يزن. كم ابن لدى ابيك؟

نظرت له بعدم فهم. فهو يسأل ما يعرف اجابته مسبقاً. وبالفعل قد كان كذلك فقد اكمل قبل اجابتي حتى:
- انت واخيك عمار فقط الذي ينشغل بدراسته غير مبالياً بعمل ابيك. هل تعتقد ان والدك سيترك كل اعماله وامواله لغريب؟ نعم هو سيهددك بحرمانك من كل شيء ان تزوجت من رنا ولكن صدقني تهديده هذا لن يستمر اكثر من سنة واحدة او اقل قبل ان يتقبل وجودها ويوافق على زواجكما!

- وكيف ستكون حياتنا وسط امي وابي وهما يرفضان وجودها؟ هل تتخيل حجم المشاكل التي ستحصل ربما بشكل يومي الى ان يجعلوها تكره تواجدها معنا ويجعلوني اندم لاني خالفتها!
- في مرحلة ما هم سيضطران لتقبلها. وايضاً لست مضطر للعيش معهما في المنزل ذاته ويمكنكما العيش بمنزل مستقل تؤسسه من عملك مع ابيك!

نظرت له بتفكير عميق. كلامه كان يبدو منطقياً. بل منطقي جداً، ولكن ذلك الوسواس لايزال يقلق لي مخاوفي الساكنة فسألته بتشكيك:
- هل تفعل هذا كنصيحة صديق قديم؟ ام كي تشجعني على التمسك برنا دون التقدم لخطبة لوجين خاصتك؟
رفع زاوية فمه بابتسامة اقرب الى السخرية وهو يخرج بضع ورقات نقدية من جيبه ويعّد حساب الشاي بينما يجيبني:
- اولاً. هي ليست خاصتي فليس هناك ما يربطنا. وثانياً لست شخص يثير قلقي اتجاه لوجين.

ثم نظر لي بتلك الابتسامة الاستفزازية التي نستعملها ضد بعضنا الاخر منذ صغرنا ونهض بينما يضع الاموال فوق الطاولة ويقول:
- فانا ادرك انها لن توافق بشخص مثلك. وانت بالاخص متأكد انها لن توافق عليك!
لابادله ابتسامة مشابهة وانا ارد:
- ومن يعلم! قد تحصل معجزة وتوافق!
احنى جسده قليلاً باتجاهي ليقول لي بهمس وتتحول ابتسامته من الاستفزاز الى الثقة وهو يرد:.

- حبها لي وتعلقها بي سيمنع حتى المعجزات من التأثير عليها بخصوصي!
واكتست نظرته بالالم فور انتهاء كلماته امام نظراتي المدهوشة وبدا لي انه سرح بعالم اخر بعيد عني. عالم لايحوي سواها!
ثم استقام بظهره فجأة وهو يقول ممازحاً في محاولة تغيير الموضوع:
- هذه المرة الشاي على حسابي. ولكن في المرة القادمة انت من ستدفع ولا تظن اني سأنسى!

اكتفيت بمنحه ابتسامة. ربما ابتسامة عبرت له عن شوقي بالفعل لايامنا الخوالي التي انبثقت بمخيلتي هذه اللحظة اكثر من كونها ابتسامة لمزاحه الثقيل هذا مثله والذي بالكاد يسمى مزح. فهو جاد تماماً بجعلي ادفع مهما حصل ولن يدفع هو. هذا طبعه منذ الصغر ولم يغيره ابداً معي رغم انه لايستخدمه مع غيري. كان يشعرني بتميز صداقتنا انا وهو عن البقية حتى بهذه الامور البسيطة. لا اعرف كيف آلت الامور بيننا الى هذا المنحدر!

(الكاتبة)
ودع رسلان يزن ورحل عن المقهى يفكر بكل شيء قاله ليزن بخصوص لوجين. هل بالفعل لم تعد خاصته؟ هل بالفعل انه يسعى لابعادها؟ نعم هو يفعل. ولكن كلما شعر انه نجح كلما توقف واضعف نفسه بنفسه ليجعلها تعود له بارادتها. كحمامة ساذجة يتم اقناعها ان ذلك الرز المبعثر اسفل المصيدة هو من اجلها بالمجان!

دخل الى منزله ذو الباب الحديدي الصدأ والجدار المصدع والارضية الاسمنت الخشنة! احس بحركة امه في المطبخ فأتجه اليه من فوره.
التفتت اليه بأبتسامة وهي تقول:
- مرحباً بعودتك عزيزي!
تقدم اليها وقبل رأسها بينما يقول بتعب:
- مرحباً غاليتي!
- هل اعد لك شيءٍ تأكله؟
- ماذا لدينا؟
- اقلي لك بعض الطماطم؟ ام تريد بطاطا مقلية؟
تبسم وهو يقول:
- البارحة كان غدائي البطاطا. لذلك اليوم ساختار الطماطم تصنعها يديكِ الجملية!

تبسمت السيدة ندى واشارت بيديها نحو عينها اليمين ثم اليسار وقالت:
- من عيوني!
تبسم واستدار يريد الخروج من المطبخ فسمع والدته تسأله:
- هل انهيت كل شيء؟
التفت لها واومئ ب نعم بصمت وقليل من الهم على وجهه قبل ان يردف:
- رغم قلة المبلغ ولكن سهى فتاة اصيلة هي وامها ولن يبالو بهذا!
- هذا كل ما نملك يا عزيزي ولو كان عندنا شيء اخر فلن نعزه عليها بالتأكيد، ان شاء الله ان رزقنا الله سنعوضها!

اومئ مرة اخرى بصمت من دون تعليق لتكمل والدته:
- سأذهب مساءٍ نحو منزلهم لتحديد موعد الخطوبة!
تبسم بتعب وهو يقول بينما يستدير ليخرج من المطبخ:
- على بركة الله!
ثم خرج من دون اضافة كلمة اخرى لتعود ملامحه المجهدة الى اقتاضبها وملايين الافكار تزدحم بعقله لا تدور سوى حول نواة واحدة مرتسمة بهيئة لوجين مسببة له فوضى مشاعر يفشل بالسيطرة عليها او تجاهلها!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة