قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل التاسع

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل التاسع

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل التاسع

بلهاء
(لوجين)
تتلاشى احلامي وتتبعثر في الوقت الذي ظننت فيه ان امسكها جيداً واحكم قبضتي عليها!.
استيقظ ذات صباح لاجد اني اوفر الفتيات حظاً. ثم استقظ في اليوم التالي لأكتشف ان كل شيء انقلب رئساً على عقب، وما كنت املكه منذ سنين قد خسرته في لحظات، لحظات غضب او حزن. لحظات ثقة او استهتار، ما يهم انها كانت مجرد لحظة افقدتني كل شيء وحكمت على بالنفي من راحة البال بشكل نهائي!

مضى اسبوع كامل اعزل فيه نفسي في غرفتي ولا اخرج منها ألا نادراً. لم اكن املك القدرة على ترك سريري وقضيت اغلب اوقاتي في النوم او البكاء. وكأنهما سيغيران من واقعي شيء!
فُتح باب الغرفة واطل وجه رنا على فدفعني هذا لترك الجدار الذي كنت احدق به بعدم مبالاة ونظرت اليها باهتمام ولكن من غير ان اقول شيء. تقدمت مني وهي بالكاد ترسم ابتسامة على وجهها تحاول تلطيف الجو العكر المحيط بنا. جلست على طرف السرير وقالت:.

- لقد عاد العم عادل الى المنزل!
اشحت وجهي بعدم اهتمام لتكمل:
- يبدو وجهه اقل انقباضاً من كل يوم. لابد ان لهذا سبب!

وايضاً اكتفيت بالصمت. رنا من خلال حديثها هذا تحاول بث بعض الحماس في داخلي من ان ابي لربما سيعفو عني ويزيح كل العقوبات التي وضعها بحقي، دون ان تدرك ان هذه العقوبات جاءت من صالحي. لا سيما عدم مغادرة الغرفة ألا للضرورة. هذا الامر منحني الخلوة مع ذاتي ولوم نفسي بنفسي بدل ان اسمع هذه الملامة من كل واحد منهم يمر بجانبي بالصدفة، نعم انا ادرك اني مخطئة، ولكن الامر سيكون اكثر تعذيباً ان ذكرّك احدهم بذنبك كل خمس دقائق. حتى وان لم يتحدثوا. يكفيني ان ارى الالم في عينيهم. ان ارى تلك الدموع تقف بصلابة عند ابواب جفونهم كلما نظروا لي. هذا سيقتلني ببطئ!

- لوجين؟ ألن تتحدثي؟
اخذت نفسٍ بهدوء وطرحته ببطئ قبل ان اقول:
- ليس لدي مااتحدث بشأنه!
- وها انا ذا افتح مواضيع معكِ. فلما لاتردي على الاقل!
- لست مهتمة في الحقيقة!
تنهدت رنا قبل ان ترد:
- انطوائك هذا حول نفسك لن يحل الامر ولن يغير شيء. وابتعادكِ عن اسرتك ليس الصواب!
- ابي هو من رفض اختلاطي بهم هذه الفترة!
- هذا لأنه غاضب وحزين من تصرفكِ ويريد ان يعاقبكِ كي لا تكرري الامر مجدداً ويفقدكِ!

- وانا احترمت قراره ونفذته!
- اجل احترمي قراراه. ولكن كان من المفترض ان تعتذري منهم وتحاولي ان تتحدثي معهم.
قلت بشيء من العصبية:
- اظنك تذكرين اني حين حاولت التحدث جعلني ابي اندم على هذا بضربه لي!
- وكنتِ تستحقين ذلك!
قوست حاجباي باندهاش من ردها لتكمل: - اجل تستحقين، ولو لم تغلب عاطفتي عقلي لفعلت ما هو اسوأ معكِ من خوفي عليكِ. اظنكِ تدركين المشكلة التي نحن - وبالاخص انتِ- بصددها!

اخفضت رأسي بامتعاض اعبث بخيط مقطوع من طرف غطائي دون ان ابالي بالرد، فحين لا اجد ما ارد به لا اتعذر باي كلام مصطنع لا اقتنع به كي اجيب به فحسب وابعد اللوم عني. فما تقوله رنا صحيح ولن اجرؤ على انكاره!
طرقات ثلاث دون زيادة او نقصان فوق باب غرفتي عرفت من خلالها من الطارق فوراً. استعدلت بجلستي وقلت بهدوء:
- تفضل!

دخل ابي الغرفة فنهضنا انا ورنا من باب الاحترام وبما ان رنا قد القت عليه التحية مسبقاً فكنت انا وحدي من قلت بينما اخفض ابصاري:
- مرحباً ابي!
ليرد ابي بشيء من الهدوء:
- اهلاً بكِ يا ابنتي!

ومن نبرته ادركت بالفعل انه قد هدأ نسبياً، سحب كرسي وجلس امامنا فعدنا انا ورنا للجلوس مجدداً على طرف السرير، لا اعلم لما منظرنا الان وجلسونا امام ابي ذكرني بطفولتنا حين نخطأ بشيء ما ويجلس ابي ليؤنبنا ونحن نكتفي بالصمت. ما يختلف اليوم اني المذنبة الوحيدة، انه الذنب الاول الذي لاتشاركني رنا به!
رغم الاجهاد الذي كان واضحاً على وجه ابي ألا ان ملامحه كانت تبدو مرتاحةٍ بعض الشيء!

نظر الينا وقال مباشرةٍ: - لقد تمت كل المعاملات الرسمية الخاصة بمباشرتكما في الجامعة. لم يتبقى الكثير وتبدأن عامكما الدراسي ان شاء الله!
فرحة غزت قلبي اغتالتها فوراً ذكرى كامل وهي تتهافت الى عقلي. لاحظ ابي امتعاض وجهي رغم تبسم عيناي لاجزاء الثانية فادرك ما الصراع الداخلي الذي مررت به فنظر إلى وقال: - واما بخصوص موضوعك فاني كنت مع خالك هذا اليوم.

انقبض قلبي بهذا الشكل لاول مرة في حياتي متلهفة بخفوف لاستمع لبقية جملة ابي التي استغرق بضع ثواني قبل ان يكملها: - للوقت الحالي سنماطل لحين تنتهي من جامعتك، ست سنوات ليست قليلة وستتغير الكثير من الامور!
وهنا اندفعت كلماتي لاقول: - وهل سيوافق كامل ان يصبر كل هذه المدة دون ان يهددنا لنفعل ما يريده؟
ليجيب ابي بثقة:.

- كامل يطمع الزواج منكِ لذلك بالتأكيد سيحاول استمالتنا وتحبيب نفسه بدل جعل نفسه مكروهاً لاسيما منكِ. لقد جرى نقاش بينه وبين خالكِ صباح هذا اليوم ولكن بتلميحات وليس بشكل مباشر وحين اقترح خالكِ ان يؤجل موضوع الزواج في الوقت الحالي لثلاث سنين على الاقل رحب كامل بالفكرة بحجة تجهيز نفسه جيداً وضبط امكانياته!
فسألته بخوف:
- وهل سيظل كامل بعيداً عني طوال هذه السنوات؟

دعوت بكل جوارحي ان يجيب ابي ب نعم. هي كلمة واحدة فقط كانت ستغير الكثير وتقمع الكثير من مخاوفي حتى لو لم تكن كلمة صادقة. ولكن ومع الاسف تنهد ابي بضيق قبل ان يرد:
- وهذا ما لانعرفه. وما لا نتوقعه ان يحصل!
وعاد قلبي للانقباض مجدداً واكتسح الامتعاض ملامحي التي بالكاد قد بدأت تسترخي. فقالت رنا فوراً مشجعة:
- المهم ان اكثر شيئان نخاف منهما لن يحصلا الان. لا سجنك ولا زواجكِ منه!

فاكمل ابي بذات النبرة التشجيعية:
- وايضاً خالكِ قال انه سيجد اي طريقة ممكنة خلال هذه الفترة لمحاولة سرقة الورقة من كامل ولعلنا نتخلص من هذا كله!
فسألته اخر ما يعتمر قلبي من قلق:
- وماذا عن نبراس وابيها؟ ماالذي سيضمن انه لن يرفع بي تقرير اخر وقد لا يقع بيد كامل هذه المرة؟
- كامل تولى هذا الامر وهدده. وبما انه اعلى رتبة من والد نبراس فما كان منه سوى الانصياع له!

لاتزال المخاوف تعصف بداخلي ولكني لا انكر ان بعض الاطمئنان قد انساب لي. كما انقلبت احوالي للاسوأ في ليلة وضحاها فقد تنقلب للافضل ايضاً بين ليلة وضحاها، من يعلم!
نهض ابي من مكانه وضرب بيده مرتين بخفة فوق كتفي يحثني على النهوض بينما يقول:
- هيا اتركي هذا الموضوع للوقت الحالي وانتبهي لدراستك فقط. والان قومي لتشاركينا الغداء!

وتقدمنا بينما سحبتني رنا بفرحة لننهض معاً. نظرت اليه برؤية مشوشة بفعل الدموع. نحو ذلك الشعر الرمادي الذي يميل الى الابيض مع مرور الايام. نحو ذلك الظهر الذي بدأ بالتقوس رويداً. وددت حقاً الارتماء عليه وحضنه بقوة. ولكني -ومع الاسف- من النوع الذي يكتم عواطفه في مواقف كهذه!

جلسنا جميعنا حول مائدة الطعام -وامي لاتزال تعاملني بشيء من الرسمية- فاكتنفنا الصمت اغلب الوقت ولا شيء غير صوت ملاعقنا تتلاحم مع الصحون الزجاجية!

انتهى الغداء على خير فنهضت انا ورنا نحو المطبخ لنغسل الصحون ونرتبه بينما ابي وامي والخالة سعاد في الصالة يشربون الشاي. حاولت رنا اثناء تواجدنا معاً ان تخلق ملايين المواضيع المضحكة واللطيفة لتبعد الشرود والبؤس عن وجهي. وقد نجحت بالفعل بذلك! لاسيما وهي تأتي على ذكر نقطة ضعفي. اخفضت صوتها بينما تقول:
- أتعلمين ان رسلان سألني بالامس عنكِ؟

نظرت لها بلهفة وشبه ابتسامة ترتسم على شفتاي بينما قلبي يتراقص وانا اسألها بشوق:
- أحقاً فعلاً؟
- اجل اقسم لكِ، لقد حاول ان يبدو انه غير مهتم بسؤاله وكأنه سؤال عابر ولكني لاحظت مدى القلق في نبرته وصيغة سؤاله!
التفت اليها بكامل جسدي وانا اقول بلهفة:
- اخبريني كل شيء وبالتفصيل الممل!
مدت يدها إلى فوراً -كعادتها- حتى كادت ان تقحمها بفمي وهي تقول بدراما:.

- لالا استغفرالله. ارجوكٍ لوجين لا تقبّلي يدي سأخبركِ دون ان ان تفعلي هذا!
ضربت يدها لابعدها من امام وجهي وانا اجاريها بمسرحيتها:
- حسناً كنت انوي تقبيلها ولكن بما انكِ مصرّة فلن افعل!
عادت لتمدها الي:
- حسناً لست متمسكة برأي كثيراً بالمناسبة!
عدت لضربها مجدداً وانا اهتف بنفاذ صبر:
- رنا؟
رفعت يديها باستسلام وهي تقول:
- حسناً حسناً انسة عصبية سأخبركِ!
واكملت فوراً قبل ان اطلب منها التحدث:.

- كنت اجلس في الصالة على الكرسي القريب من النافذة اتابع التلفاز وكما تعلمين لا شيء يثير اهتمامي بسرعة ولكني رغم هذا كنت اتابعه فاتت الخالة سهير من المطبخ وكانت ترتدي فستانها الابيض المطعم بالاسود وتمسك بيدها ال.
فقاطعتها بعصبية:
- عن ماذا تتحدثين؟
- ألم تطلبي مني اخبارك كل شيء بالتفصيل الممل؟.
كززت على اسناني بغيظ وانا ازجرها:
- رنا؟ هل ستتحدثين ام ماذا؟
لتنفجر ضاحكة كالبلهاء وهي ترد:.

- حسناً سأتحدث بجدية هذه المرة!
ثم اردفت:
- ذهبت اليه كعادتي لاشتري الفاكهة وما ان القيت التحية عليها حتى سألني عنكِ ومن انه لا يراكِ هذه الايام تخرجين وهل انتِ مريضة ام ماذا؟ فأخبرته انها وعكة صحية بسيطة ستمر قريباً فقال بأسى فشل ببراعة في اخفائه سلامتها ان شاء الله!

شيء ما يحترق. حرارة مرتفعة، لا ليس خجلي. بل لأن كلتانا كنا شبه مغيبات عن الوعي ونسينا اناء الشاي فوق الطباخ -الذي من المفترض ان نشربه- ولكن على ما يبدو انه لم يعد صالحاً. بل وحتى لا املك شهية له. تلك الفراشات. بل العصافير. لالا. الصقور المتطايرة داخل بطني تجعلني اود التحليق عالياً وعالياً من فرط سعادتي. فحين نحب سنهتم لأبسط التفاصيل واكثرها سذاجة...

رغم مساوئه ولكن الحب يضعفنا ليجعلنا اقوى دائماً. لا اعرف كيف ولكن بطريقة ما يجعلك تشعر انك تملك العالم بأسره. ولكنك تتنازل عن كل هذه السلطة عند محراب من تحب. قد تكون مع الجميع ذلك المتنمر المتسلط. ولكن مع من تحب ستكون ذلك اللطيف ذو النظارات الطبية الذي يتنمر عليه الجميع. ستفقد كل ما تملك من تماسك. ستتنازل عن كل ما تؤمن به من مبادئ. فقط من اجله!

انشغلنا كثيراً وكثيراً بالكلام لدرجة مضت الساعات دون ان ننتبه عليها وبالطبع لم يكن يدور سوى على رسلان. بالفعل بدأت اشك ان الفتيات ثرثارات. حسناً لأكون صادقة. انا بدأت اتيقن من ذلك!

انتهت احاديثنا الشيقة ونهضنا من المطبخ على صوت احداهن تتحدث مع امي. فخرجنا بفضولنا المعتاد لارى السيدة ندى تتحدث مع امي بابتسامة عريضة. وصل نحو مسامعي كلمات عابرة لم استطع ربطها فلم امنحها اهمية. سأتوقع قدومكم ان شاء الله. الرابعة والنصف، ان شاء الله نفرح بلوجين ورنا قريباً. كلمات كانت تبدو منفصلة وصلت إلى بينما اتقدم اليها وهي تقف عند باب منزلنا المفتوح مع امي وذلك الخافق في يساري لايزال هادئاً. القينا التحية بطلف لتلتفت الينا بوجهها البشوش وضحكتها المرتسمة دائماً على محياها وقالت بنبرتها الناعمة:.

- يا اهلاً بفتيات الحي الجميلات!
تبسمنا بخجل واكتفينا بذلك من دون تعليق لتكمل هي:
- لا تنسوا ان تحضروا اليوم لحفل الخطوبة، تعالوا الى منزلنا في البداية مع بقية المدعوين وبعدها سنذهب جميعنا نحو منزل العروس لعقد القران!
لتجيب امي بابتسامة مضاعفة وفرحة جادة:
- احسن ما اخترتم! سهى بالفعل فتاة لا تعوض وفرصة لا تفوت. انها جمال واخلاق وفوق هذا شهادة محترمة. انها الموصفات المثالية التي يتمناها كل شاب.

تصلبت قدماي فوراً. تفككت اجزاءي. انفتحت عيناي من دون ارادتي لينقبض قلبي ويعتصر بقوة ليعصر روحي معه ويتركني شبه حية تصارع لتبقى واعية!

خطوبة؟ سهى؟ منزلهم؟ الامر لايحتاج الى ضابط استخبارات ليدرك ما يحصل. بعض الامور لا تحتاج الى استنتاج. لا تحتاج الى تفكير، لا تحتاج سوى للبقاء مصدوماً لاطول فترة كي تستوعبها، ربما عليك مراجعة حساباتك. عليك ان تدرك الحقيقة التي كنت تصارع لترفضها وتوهم نفسك بحقائق مزيفة فقط كي لا تشعر بالالم. ولكن في يوم ما انت ستكتشف ببساطة انك لم تكن لهم منذ البداية. وان لعزيزك عزيز قد منعك حبك وتملكك من ملاحظته. قد فرض عليك كبريائك تكذيب الواقع!

رأيت شفاه السيدة ندى تتحرك. وامي ترد. ورنا تقبض على يدي. ولكني لم اكن معهم. ولم اكن مع نفسي. وجسدي اعلن عصيانه لأرادتي، انفاسي لاهثة رغم استشعاري بتوقف رئتاي وتعذرها عن استقبال المزيد من الهواء...
هل جربت في يوم ان تتحطم كل احلام طفولتك امامك؟، هل جربت ان تتمسك بشيء بكل ما اوتيت من قوة وفجأة شعرت به ينساب من بين يديك على غفلة؟ لتدرك لاحقاً انه لم يكن بين يديك منذ من البداية!

ان فعلت فلربما ستعذر ما امر به. ستعذر تجاهلي لكل الموجودين والصعود الى غرفتي دون الاصغاء لحديث امي او الرد على هتافات رنا المنسابة بسرية إلى كي انتبه على نفسي واتخلص من صدمتي الساذجة وارد على اسئلة السيدة ندى لي! في لحظتها انا تحولت فجأة لشخص اخر لا اعرفه. شخص لا يبالي في هذه اللحظة لاي احد في هذه الدنيا وسيجد انه وحيد وسط كل هذه الضوضاء!

وقفت وسط غرفتي وكأني ابحث عن شيء ما. ادخلت اصابعي بقوة بين خصلات شعري من الامام وابقيتهم هناك اقبض على غطاء رأسي بقوة وكأنه على وشك التناثر، ارتفع صدري وانخفض بقوة احاول سحب ولو كمية قليلة من الهواء ولكني افشل في كل مرة ويزداد اختتاقي فحسب! دخلت فجأة رنا بملامح مشفقة واغلقت الباب بسرعة وما كادت ان تتحدث حتى انزلت يداي لاخبئ شفتاي خلفهما احاول كتم صوتي ولكن رغم ذلك خرجت حروفي بكل جرأة ومن دون وعي مني تتقافز من فمي كما تقافزت الدموع على غفلة وانا اقول بصوت شبه متقطع كطفل اتعبه البكاء الكثير فتخللت تلك الشهقات صوت بكائه:.

- رنا. رنا سيتزوج. انه يحبها. يحبها يا رنا!
ومن دون ارادة مني ضربت مصباحي المنضدي وانا اصرخ بجنون:
- انه لا يحبني يا رنا، كل شيء مجرد وهم ساذج!
اسرعت رنا إلى واغلقت فمي بقوة بيدها وقالت لي بصوت منخفض نسبياً مقارنةٍ بعصبيتها:
- لا تفقدي عقلكِ يا لوجين واغلقي فمكِ بدل ان يسمعك العم عادل او الخالة سهير!
ابعدت يدها بغضب عن فمي وقلت بينما دموعي لا تزال مستمرة واختناقي ذاته:.

- لقد احببته منذ سنين. منذ طفولتي يا رنا. كنت مخلصة له بصمت دون ان اطالبه بالمقابل. كنت اطيعه بصمت من دون ان اعترض...
لتزجرني رنا:
- واحببته بصمت ايضاً يا لوجين. فكيف عساه سيعرف مشاعركِ لتلوميه الان؟
فجأة سكن جسدي ونظرت اليها بجمود لثواني لتتحول نظراتي المنكسرة الى حازمة وانا اقول:
- اذاً سيعرف!

واتجهت نحو شماعة الملابس كي اسحب وشاحي الحريري من هناك والف به كتفاي شبه العارية مع ذاك الفستان ذو الاكمام القصيرة واستدرت باتجاه باب الغرفة اريد الخروج فامسكتني رنا من مرفقي لتديرني لها وهي تهتف بي:
- اين تظنين نفسكِ ذاهبة؟
سحبت يدي منها بعنف وهتفت بها:
- لن احبه طوال تلك السنين واتعذب لاتنازل الان عنه ببساطة!

- لا تكوني يا حمقاء وانانية يا لوجين. هكذا ستدمرين سعادة الفتاة بتصرفكِ هذا وربما سعادته ايضاً!
لأصرخ بوجهها:
- فليذهب كلاهما الى الجحيم بدل ان يجعلاني اعيش به وانا الوم نفسي بقية حياتي على صمتي!.

وقبل ان اسمع -او اهتم بسماع- كلمة اخرى من رنا تركتها ونزلت بسرعة من السلم غير مبالية بلاحقها بي ومحاولتها الفاشلة بايقافي ولم تتوقف عن توسلاتها الا بعد ان خرجت من المنزل واغلقت الباب خلفي بعنف وخطواتي في تسارع نحو منزل رسلان...

اعرف جيداً اني في لحظتها اصبحت انسانة حقيرة وانانية. ادركت لربما ما افعله سيحطم سعادة انسانة لا ذنب لها انها احبت شخص لا تدرك حبي المكتوم له، ادركت هذا جيداً. ولكن هذا لم يوقفني. رسلان رفيق طفولتي، حبي البريء. عشقي الاول والاخير. هل سأظلم سهى؟ ماذا عني؟ ألن اظلم نفسي؟ حرمت قلبي عن اي حب سواه. فما ذنب قلبي ان يتعذب؟ لما لا يتعذب قلبها هي؟.

وبدأت كل هذه الافكار تخيفني فعلاً لأنها تجعلني شخصاً لا اريد ان اكون عليه في يوم. ولكن قلبي يمنع عقلي من التدخل وبدأ يتصرف بحماقة وحقارة فقط كي يكسب المعركة!

توقفت خطواتي فوراً وكأن احدهم ضغط على الفرامل ووقفت بانتظاره. لقد شاهدني من بعيد. ترك ما بيده من حاجات فوراً وناولها لشاب اخر كي يدخلها نحو المنزل واتجه هو إلى كي لا اقترب انا منه وهو وسط مجموعة من الشباب يقومون بتجهيز مستلزمات حفلة الخطوبة. او حفلة العزاء بالنسبة لي!
رأيت نظرة الامتعاض تلك التي رمقها لفستاني من اسفل لاعلى ولكنه لم يؤنبني عليه الان بل سألني بأستغراب اولاً:.

- لوجين؟ ماالذي تفعلينه هنا؟
ثم اردف فوراً بقلق وهو يحملق بتلك الدموع المتراكمة على وجنتاي:
- لما تبكين؟ هل انتِ بخير؟
ومن دون اي مقدمات قلت له بينما اضم الوشاح بقوة على كتفاي وكأنه اضمه لروحي كي يحميني من المي بينما اقول ببكاء:
- لا تفعل هذا بي يا رسلان. لا تتزوجها!
رفع حاجبيه بتفاجئ وقبل ان اسمح له بالرد اكملت ببكاء اشد:.

- انا احبك يا رسلان. لا، بل انا مهووسة بك. انا اعشقك بجنون واغار عليك بجنون اكبر. كانت مجرد رؤيتي لك تقف معها دائماً وتتحدثا تحرقني وتقتلني يا رسلان. انا اموت كل يوم وانا اراك تهتم بها دوناً عن غيرها او عني فهل تتخيل ماالذي سيحصل لي ان تزوجتها؟ ارجوك لا تفعل بي هذا!

تلكأت الكلمات فوق شفتاه واجده تارة يبتسم وتارة يغتال ابتسامته وعيناه تتجول داخل عيناي بعدم فهم وعدم تصديق ومن ثم قال لي بعد ان استيقظ من صدمته:
- عن ماذا تتحدثين انتِ؟
لأهتف به بتوسل:
- انا اتوسلك ان لا تخطبها!
- اخطب من؟
وهنا حدقت به بعدم فهم لما يقوله ليكمل هو وعيناه تحمل بعض السعادة المخفية:
- لوجين. اليوم ليست خطوبتي. انها خطوبة ابن عمي عصام!
- ولكن. سهى. اليست اليوم.

وصمتُ احدق بوجهه ببلاهة احاول ربط الاحداث جيداً وافشل فسألني يحثني على المواصلة:
- اليوم ماذا؟
- أليست اليوم خطوبتها ايضاً؟
فقال بعدم استيعاب لما اريد الوصول اليه:
- اجل. وما المشكلة في هذا؟ ام كنتِ تريدين ان نعقد خطوبة الشاب في يوم والفتاة في يوم اخر؟

لاشيء. لاردة فعل. لا كلمات. لاشيء سوى التحديق بغباء بوجهه وسؤال واحد يخطر على بالي. كيف استطعت الحصول على معدل الطبية؟ بل وكيف اساتذتي كانوا يثنون دائماً على ذكائي واجتهادي؟ اين الذكاء بالضبط مع هذا الكم الهائل من الغباء لاسيما مع هذا المستفز رسلان!
ولما طال تحديقي الابله به زادت ابتسامته اكثر وفسر لي مشفقاً على حالي:.

- سهى مثل اختي يا لوجين ولن تكون غير ذلك. واما وقوفنا مع بعض دائماً - والذي كان يحرقكِ- فلم يكن حديثنا يدور سوى على ابن عمي عصام وان لم تكوني تعلمي فهما يحبان بعضهما منذ سنين وانتظر ان يتخرج ليتقدم لخطوبتها ولكن كانا يخجلا من البوح بذلك بشكل علني او الوقوف معاً ولهذا انا من كنت اوصل اخبار بعضهما للاخر.
ثم قال لي بنبرة ذات معنى:.

- كالمرة الاخيرة على سبيل المثال حين ادّعت انها تسأل عن احوالي وانتِ واقفة بينما هي كانت تقصده وقد اخبرتها انه مصاب بالانفلونزا. وانتِ الحمقاء كنتِ تظنيها تعنيني رغم اني كنت بصحة جيدة تماماً ولكنكِ لم تستوعبي!
وبعدها اكمل بينما يطلق تنهيدة:.

- واما امر الخطوبة فكما تعلمين بعد وفاة عمي يرحمه الله قبل بضع سنين ابي من تكفل بالعناية بعصام وادخرنا مصاريف خطوبته واقمناها في منزلنا، هل فهمتِ الان يا انسة لوجين؟
قال جملته الاخيرة بتهكم وابتسامة اوسع بينما وجهي انا اصبح مصنعٍ للالوان المشعة! تمنيت حقاً في لحظتها ان يشق الله الارض لتبتلعني. تمنيت لو انه خلقني بكماء. ولكن على من اكذب؟

ألا اعرف عنادي؟ حتى لو كنت كذلك كنت سأستخدم لغة الاشارة لابوح له بكل الغباء الذي قلته قبل قليل، بعد سنين من الكتمان اعترف له بكل شيء بهذه الطريقة الساذجة والغبية! يا ليتني حقاً مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا.
وفجأة اختفت الابتسامة من وجه رسلان وقال بينما يشير بسبباته نحو ملابسي:
- والان اخبريني كم مرة منعتكِ من الخروج بفستان قصير؟

جفلت من نبرته الجافة التي قلبت الاجواء رأساً على عقب وتدافعت كلماتي ادافع عن نفسي فوراً:
- انه ليس قصير جداً!
- بل قصير! هل انا اعمى ام سأتبلى عليكِ مثلاً؟
لأجيبه بعصبية مماثلة:
- وهل تراني بوضع يسمح لي بقياس طول الفستان قبل ان اخرج؟

كسرت سذاجتي وتسرعي عصبيته لتلمع عيناه بابتسامة مشرقة وهو يحدق بي بعمق لاصمت فوراً بخجل واطرق برأسي بينما اضم الوشاح لي اكثر قبل ان اسمع نبرته الاقل عصبية عن سابقتها تأمرني:
- عودي الان نحو المنزل قبل ان يراكِ احد به!
اومأت بصمت واستدرت اريد الرحيل فعاد ليناديني مما دفعني لالتفت اليه فقال محذراً بينما يرفع اصبعه مهدداً:
- ولكن ان خرجتِ بفستان مماثل فلا تلو.
لاقاطعه فوراً بطاعة معتادة:
- لن افعل!
- جيد!

فتبسمت لابتسامته وسارت خطواتي بسرعة اقرب للركض لاسمع زجرته مجدداً:
- سيري مثل الخلق!
لأتباطئ فوراً من دون ان التفت اليه حتى. كي لا يرى تلك الابتسامة العريضة التي تسيطر على وجهي، انا بالفعل بدأت اتلذذ بهذه الغيرة التي يخفيها بعصبيته!

وصلت الى المنزل فوجدت رنا تقف وسط الصالة تقطعها ذهاباً واياباً بينما تقحم اظافرها بين اسنانها - وهي عادتها حين تتوتر- واول ما شاهدتني توقفت وهي تنظر لي بتجوس بينما اجلس على الاريكة امامها. اقتربت مني وسألتني بقلق:
- ماالذي حصل؟
رفعت الوسادة عن الاريكة وغطيت بها وجهي وانا اقول بأمتعاض:
- انا غبية وحمقاء ومتسرعة وساذجة!
- هذه معلومات قديمة. اخبريني ماالجديد؟

نظرت لها بعين واحدة بينما بقية وجهي خلف الوسادة وقلت:
- اليوم ليست خطوبته. انها خطوبة عصام ابن عمه. عصام هو من يحب سهى!

فتحت رنا فمها كالبلهاء -اي مثلي بالضبط- وشيئاً فشيئاً بدأ حاجبيها يتقوسان وشفتاها تلتصقان بصعوبة بينما بشرتها تتحول للاحمر من تلك الضحكة التي تكتمها بصعوبة وما هي ألا ثواني حتى انفجرت من داخلها لدرجة دمعت عيناها فضربتها بتلك الوسادة التي بيدي وهتفت بها وانا الاخرى اكتم ضحكتي بصعوبة:
- اغلقي فمكِ الامر ليس مضحكاً!
فقالت من وسط ضحكاتها:
- لا تقول لي انك عرفتِ هذا بعد ان اعترفتي له بكل شيء؟

فأومت بيأس ب نعم لتزيد ضحكاتها اكثر، من قال ان الصديق سيقف معك مهما كانت الظروف فصدقوني صاحب المقولة لم يكن يملك صديق كي يعرف انه مخطئ. فهذه النموذج التي امامي تكون اول الضاحكين على ان وقعت بموقف ساذج. كما الان بالضبط!.
- اعترفتِ لمن بالضبط؟

جفلت كلانا من نبرة امي الهادئة و الرسمية وهي تقف خلفنا من غير ان ننتبه! نظرت لها بعيون مفزوعة اكثر من كونها مصدومة وشيء واحد تخاطر على بالي في لحظتها. منذ متى وهي هنا؟ بل. وماالذي سمعته بالضبط؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة