رواية حب افتراضي بقلم دعاء الفيومي الفصل السابع عشر
ما بك أيها القلب العاشق؟!
كلما تعلقت بحبال الأمل؛ تكتشف أنها بالية؛ فتسقط لتتحطم على صخرة اليأس.
لما لا تنقذ حالك وتبتعد عن ذلك الطريق الحالك؟!
أتشعر بالإختناق في البعد؟!
إذن ستموت من الإقتراب
حاولت مراراً أن أوقظك
لكنك تصر أن تقودنا سوياً إلى الهاوية.
فلتفعل ما شئت
مابك أنت أيها العقل القاسي؟!
لما تحثني على الإبتعاد عن طريق حياتي؟!
ألا تعلم أنه ليس بيدي؟!
دقاتي تتراقص بين يدي معذبتي.
وروحي تهفو للإقتراب منها وإن كانت الهلاك .
تمهل لعل الأمل يبدد ظلام اليأس يوماً ما.
شعر بجسده يهتز إثر دوار أصابه فكريم بالفعل على قيد الحياه، وأيضاً كان في سفر.
إذن كيف كانت الشقة خالية إلا من العناكب، والأتربة؟!
نظر لها بعين زائغة، وأنفاس متضربة، وسألها: وانتي عرفتي إنه عايش منين؟
حسناء بهدوء: قابلت أخته، وبعدها هو بالصدفة.
بدر باهتمام: رجع من الصعيد إمتى بالضبط؟
رفعت حاجبيها بتعجب ثم هتفت: صعيد! وهو إيه هيوديه الصعيد؟
نظر لها عاقداً حاجبيه: مكنش في الصعيد طيب كان مسافر فين؟ وليه كمان قولتي إنه مات؟
تعجبت من كثرة أسئلته، وأيضاً ملامح وجهه المتغير من الصدمة إلى الاهتمام، إلى التعجب لكن قررت أن تصارحه بكل ما تعلم؛ فهى تريد الوصول لعليا فقد اشتاقت لها؛ وتريد أيضاً أن يستقر قلبها فأجابت بهدوء: طيب تعالى نقعد على الاستراحات دي، وهقولك كل اللي أعرفه.
بعد أن جلسوا تحدث بدر بلهفة: ها أدينا قعدنا جاوبيني بقى لأن عقلي قرب يتجنن.
حسناء بهدوء: دكتور كريم بعد الحادثة اتنقل للمشفى، هو غير الحادث كمان حصله انخفاض في ضغط الدم ده خلاهم يتخيلوا في ان نبضه هيقف في الإسعاف، ولما راح المشفى اسعفوه بس وقتها أخته كانت بتصرخ لأنها حست إنه ممكن يروح منها، وأنا لما سمعت صريخها مقربتش؛ لأني مقدرتش بس اعتقدت إنه مات علشان كده هى بتصرخ الموضوع كله سوء فهم.
بدر بعصبية: سوء فهم! انتي عارفه سوء الفهم، وخبر موت كريم عمل إيه في عليا؟! لا طبعاً متعرفيش انتي بعدتي وبقيتي من الطبقة اللي حلمتي بيها ومعدتش يهمك حد.
امتلأت عينا حسناء بالدموع وما لبثت أن انسابت على وجهها؛ فتراجع بدر وهدأ من نفسه قليلاً وهتف معتذراً: أنا متأسف مش من حقي اتعصب عليكي كده.
نظرت له بحزن وهتفت: مفيش أسف أنا عارفه إنك واخد مني موقف علشان عمر؛ بس تعرف أنا اتعاقبت عقاب صعب جداً بسبب جرحي لعمر، من عقاب بدني بالضرب، لإهانة بالكلام، وأخر حاجه طلاق، و رميه في الشارع بعد ما عرف إني اتحرمت من إني أكون أم.
كانت تتحدث من بين شهقاتها التي جعلت قلب بدر يلين لها فهى قد عوقبت بشدة، ويظهر عليها علامات الندم؛ تحدث بنبرة هادئة تماماً: إهدي يا حسناء خلاص، كلنا بنغلط، وكويس إنك اعترفي بغلطك، أسف مرة تانية إني اتعصبت، واني قلبت عليكي وجعك مع الندل اللي اتجوزتيه.
مسحت دموعها وقالت بصوت ضعيف مكملة حديث بدأته قبل قليل: لما طلقني في الشارع مع صدمتي كنت ماشية مش شايفة من دموعي، وتعبي فخبطتني عربيه خبطه بسيطة، اللي كانت سايقه دكتورة ليلى هى دكتورة نفسية، لما شافت حالتي صممت نكون أصحاب أنا وهى وفي مرة روحت عندها البيت، وشوفت صورة كريم؛ فعرفت إنه أخوها وإنه عايش، وكمان كان متجوز، وعنده ولد بس مراته متوفيه، وإنه بعد الحادثة مر بظروف نفسية فسافر ألمانيا، ويادوب لسه راجع. بس ده كل اللي أعرفه.
تحدث بدر بشرود وهو ينظر أمامه: يعني كان في ألمانيا مش في الصعيد؟
يعني فعلاً اللي بتشوفه عليا وهم مش حقيقة.
وضع يداه على رأسه التي تكاد أن تصرخ من الألم، وارتكز بمرفقيه على ركبتيه؛ فجأه صوت حسناء مستفسرة: وهم إيه اللي بتشوفه عليا؟ بتتكلم عن إيه؟!
تحدث بوهن، وألم نابع من قلبه: عليا بتتخيل انها بتشوف، وبتكلم كريم، تخيلي هى حبيته لدرجة انها رفضت موته؛ فعاشت معاه في عالم افتراضي.
مدت يدها بخجل، ووضعتها على كتف بدر لا تعلم لما فعلت ذلك لكنها شعرت بكسرته، فحاولت أن تخفف ألمه، أو من الممكن هى من تريد أن تستند قوة من أي أحد فصفعات الحياة لا تعطيها فرصة للتنفس.
تحدثت بصوت هادئ: المشكلة في اللي بتقوله ده يابدر إنها حبت واحد مش فاكر حتى إسمها؛ حبها دع من طرف واحد؛ وهى افترضت حبه ليها.
لم يشعر بدر بيدها على كتفه فهو غارق في تفكيره، وألامه؛ إلا أن كلماتها الأخيرة تسابقت للوصول لمسامعه؛ انتفض معتدلاً في جلسته ونظر لها بتمنعن وسألها: انتي قولتي إنه مش فاكر اسمها؟! يعني إيه معقول كل الحب اللي عندها ده بدون أدنى تلميح منه؟! معقول تكون افترضت إنه بيحبها؟
أزاحت يدها من عليه، وهتفت: مش متأكدة يابدر بس د. كريم لنا زارنا في البيت مع د. ليلى كان بيقنع بابا إني أكمل السنة لأني كنت هأجل وقال إني كنت من المتميزين أنا وصاحبتي اللي كانت معايا دايماً، وسألني عن اسمها أنا وقتها استعجبت جداً؛ لأنه كان طول الوقت بيبصلنا، وكان دايماً بيبتسم ابتسامه تجنن.
قالت هذه الكلمه دون وعي منها وهى تتخيل ابتسامته؛ نظر لها بدر بتعجب ثم وقف وقال بهدوء: ممكن تنتظريني هنا دقايق أجيب قهوة لأني صدعت جامد؛ بس ياريت متمشيش عايز استفسر منك أكتر، تشربي نسكافيه، ولا عصير؟
ابتسمت له بهدوء، وقالت عصير ياريت.
رحل من أمامها لتتفاجأ ب صوت كريم الذي كان يقف بعيداً لم يستمع كلامهم لكن استشاط غضباً عندما رأها تضع يدها عليه، ثم تبتسم، وهو ينظر لها باهتمام ففسر الموقف كأنهم عاشقان،
كريم بغضب مكتوم جاهد أن لا يظهره: إزيك يا حسناء بتعملي إيه هنا، ومين الأخ اللي كان قاعد هنا ده؟
شهقه خفيفه خرجت منها دون وعي، ونظرت له. أجزمت أن ألسنة من اللهب تكاد تخرج من عينيه الغاضبة، فارتبكت تلقائياً من نظراته، وطريقة حديثه وقفت سريعاً، ونطقت بتوتر: إحم أنا كنت جاية ل د. ليلى كان بينا ميعاد نتقابل هنا.
سألها مرة أخرى ومين الأستاذ سألتك، ولا دي خصوصيات؟!
شعرت بنبرة سخرية مصحوبة مع الغضب لم تستطع تفسير ما بداخله، أو لما يتحدث هكذا لكنها أجابت بتلقائية: ده بشمهندس بدر.
قبل أن تكمل كلامها فاجأها بكلمة كالسوط على قلبها قالها بكل قسوة: بدر اه ده بقى اللى عليه الدور بعد عمر، وحازم؟!
شعرت بالإختناق، وتحجرت الدموع في مقلتيها داخل عيناها المتسعة بصدمة، ولم تنطق.
استمعوا لصوت بدر من خلف كريم يتحدث بغضب، قبل أن يعرف هوية المتحدث: وانت مالك انت يا أخ، ازاي تسمح لنفسك تتكلم معاها كده.
التفت له كريم بتحفز، وكاد أن يتحدث بهجوم إلا أن صدمة بدر من رؤيته ألجمت لسانه عن التفوه بعصبية.
عقد حاجبيه وسأل بتعجب: مالك بتبصلي كده ليه، تعرفني؟!
تحدث بدر بضيق: إلا أعرفك مش انت د.كريم المعيد في كلية صيدلة؟
هز رأسه وتحدث بسخرية: أيوه أنا ممكن حضرتك بقى تعرفني بنفسك ولا إيه؟
نظر له بدر نظرة متفحصة ليتأكد من حديث حسناء فيما يخص تذكره لعليا وقال بهدوء: طبعاً ممكن أنا بشمهندس بدر القناوي، وقابلت حسناء هنا صدفة، كانت بتسألني عن عليا.
ضيق عينيه وهتف: عليا! أااه صاحبتها.
نظر لحسناء متسائلاً: وهو يعرف عليا صاحبتك؟
أشاحت بوجهها بعيد عنه ولم تتحدث فأجابه بدر: انا قولت إني اسمي بدر القناوي وعليا تبقى عليا القناوي يعني احنا قرايب هى بنت عمي.
أبعد نظره عنها بحزن من تصرفه المتسرع، ونظر لبدر وقال بهدوء: اه معلش أصلي معرفش اسمها بالكامل أساساً.
مد يده ليصافحه وهو يكمل: آسف على سوء الفهم أنا اتسرعت معلش.
بس حضرتك مقولتليش تعرفني شخصياً منين؟
زفر بدر فقد تأكد تماماً أن كريم لا يكن أي مشاعر لعليا؛ بل تأكد أيضاً من صوته، وحديثه الغاضب أن مشاعره معلقة بحسناء لذلك شعر بالغيرة عندما رأهم سوياً.
إذن عليا الآن تريد مساعدة لتخرج من عالمها الافتراضي الذي وضعت نفسها به.
بدر بهدوء: هقولك أعرفك منين بس لو تسمح ممكن الكلام يكون معاك قدام دكتورة ليلى.
عقد حاجبيه بتعجب وهتف: ليلى أختي ليه؟!
نظر بدر لحسناء وسألها: مش قولتي إنها دكتورة نفسية يا حسناء صح؟
هزت رأسها وسألته: هتقولها على اللي بيحصل؟
هز رأسه بنعم وقال: لازم علشان أعرف التصرف الصح، والوقت الصح كمان.
تحدث كريم بضيق: طيب ممكن تفهموني إيه بيحصل؟
نظر له بدر وهتف: لازم تفهم بس لو مش مشغول نروح كلنا ل د.ليلى لأني مش حابب الموضوع يكبر فكويس إن أختك طبيبة نفسية.
كريم بهدوء: أنا كنت جاي أساساً ليها اتفضلوا نروح ليها.
سمعوا صوت رجل من خلفهم أحضر المشروبات التي طلبها بدر، فشكره، وأخرج بعض النقود وأعطاه له، وقال:معلش هتعبك معايا، هنشربهم في مكتب د. ليلى.
حسناء بصوت مختنق: معلش اعتذر أنا هروح، بس ممكن رقم عليا يا بشمهندس لو سمحت.
كاد كريم أن يعترض على رحيلها فهو يعلم أنه جرحها، لكن قاطعه صوت بدر: لا مش هينفع أديلك الفون إلا لما تيجي معانا وتشوفي الدكتورة هتنصح بإيه؛ تكلميها؛ ولا لأ انتي عارفة ان الامتحان قرب ودي أخر سنة.
ذهبوا جميعاً لمكتب ليلى، وبعد أن تعرفت على بدر من خلال حسناء جلسوا وبدأ بدر يقص كل ما حدث، ويحدث مع عليا منذ خبر وفاة كريم.
تمشي في الغرفة ذهاباً، وإياباً ممسكة بهاتفها؛ تنظر للشاشة أحياناً، تنتظر أن تنير ب اسم افتقدت وجوده، وأحياناً أخرى تنيرها هى وتضغط أرقام حفظتها عن ظهر قلب؛ لكن الجواب يأتي مخذلاً أن الهاتف المطلوب مغلقاً، فتشعر بالاختناق.
دبت الأرض بقدمها مثل طفلة غاضبة، جلست متأففة وأمسكت كتاب تحاول أن تدرس فيه؛ لعله يحد من توترها إلا أن صورته ظهرت أمام عينيها سرقت من ذهنها التركيز فشرد تتذكر أحاديث، ومواقفه معها تارة تبتسم، وتارة تعبس بوجهها عندما تتذكر أنه مستاء منها.
كل ذلك كان يحدث تحت نظرات ملك المتعجبة؛ فهى تجلس معها في الغرفة وكأنها خيال لم تشعر بوجودها، غارقة في بحر توترها، وقلقها منذ الصباح فهتفت مخرجة إياها من هذه الحالة.
ملك بصوت مرتفع نسبياً: عاليااا إنتي فين ياخيتي، مالك عاملة زي فرقع لوز من الصبح رايحة جاية، ودلوك بتضحكي وتكشري في نفس الوقت كيف المجاذيب، لا وكله ولا التلفون اللي مفارقش يدك ده، مالك فيكي إيه اتحدتي وياي، انتي بتكلمي كريم ومبيردش؟!
نظرت لها عاقدة حابيها باستنكار: كريم إيه بس أنا أصلاً معرفش رقمه تخيلي إني حتى مجاش في تفكيري أطلبه، ولا هو كمان طلب رقمي على أساس يبقى يطمن عليا وأنا بره، مفيش أي راجل معاه رقمي غير سالم، وعمي، وبدر.
تنهدت بحزن وأكملت بشرود: بدر اللي مكنش يعدي ساعتين إلا لما يكلمني، ويطمن، دلوقتي مفيش مكالمة من الصبح، وكمان قافل فونه.
لاحظت ملك دموع متجمعه في عيونها تأبى الإنصياع لأمرها في الإنسياب، فشعرت بأن داخل عقلها، وقلبها صراع يكاد يوصل الشخص لدرب الجنون إن لم ينقذ حاله، وينحاز لأحدهم.
هتفت بهدوء: مش يمكن مشغول أو تلفونه عطلان أو حتى مفيش تغطية في المكان اللي موجود فيه.
زمت شفتيها، وزفرت بضيق ثم قالت: يمكن، بس تعرفي دي أول مرة تحصل، دايماً ميتأخرش عني في الرد، ولو أنا اتأخرت في الاتصال يكلمني هو، ودايماً يقولي إنه بيخلي باله من التلفون ميفصلش علشان ده همزة الوصل اللي بتقربنا لما تكون المسافة بعيدة.
ضيقت عينها وهتفت: والله اللي يسمع حديتك لا يمكن يصدق كلامك انكم اخوات، دي تصرفات عاشق يا عليا، واللي حسيته كومان إنك مقدراش على بعده لدرجة إنك من وقت زعل بدر، وسفره مبقتيش تتحدتي عن اللي اسمه كريم المتخفي ده، وكأنه الرجل الغامض بسلامته.
نظرت لها بضيق ثم هتفت بعصبية: حب إيه، وعشق إيه اللي بتتكلمي عنهم، تعرفي انتي مش فاهمة حاجه خلاص اسكتي.
رفعت حاجبيها، وأشارت بسبابتها على صدرها وقالت: ده اللي هو أني اللي مش فاهمة؟! طيب يا ام العريف فهميني انتي.
أخذت شهيق، وحبسته قليلاً ثم أخرجته ببطئ، وقالت وأغمضت عيونها للحظات بدى فيها على ملامحها الإزعاج، فهزت رأسها يومياً، ويساراً رافضه الذكرى التي داهمتها ثم فتحتهم فجأة، وقالت بعصبية: بدر مينفعش ياملك، مش هكرر اللي حصل تاني مستحيل أعيد الزمن مستحيل.
تعجبت ملك من تحولها هذا فقالت بهدوء: خلاص اهدي حقك عليا أني، إيه اللي حوصل عصبك إكده.
نظرت لها بعد أن شعرت أنها تخطت حدود الذوق، فهدأت من حالها، وقالت: أنا أسفة معلش حبيبتي اتعصبت بدون وعي،مفيش حاجه حصلت بس أنا منمتش كويس، معلش بقى أنا عارفه إن سالم رفض تروحي الشركة النهاردة، وكنت نفسي أقعد معاكي بس محتاجة أنام شويه.
هزت رأسها بتفهم لتوترها، وهتفت: أنا أصلاً مروان واحشني مشفتوش النهاردة لسه، وعايزة ألعب معاه، نامي انتي وارتاحي شوي وان شاء الله لما تفوقي يكون بدر طمنك عليه.
ابتسمت لها وقالت: ان شاء الله.
خرجت ملك من الغرفة، واتجهت عليا للفراش، واستلقت عليه، وبيدها هاتفها واحتضنته وسبحت في نوم عميق، يخرجها من صراعها لبعض الوقت.
يجلس على كرسي مقيد اليدين، والقدمين، عقله شارد فيمن سرقت قلبه، وغابت في أحلامها لا تريد الإستيقاظ، القلق ينهش صدره عليها، وعلى والدها.
تذكر عندما خرج من المشفى توجه لنفس المكان الذي اشترى منها الملابس التي يرتديها، وأخذ قطع ملابس أخرى ليقوم بقياسها؛ لم ينوي شرائها؛ بل أراد فقط الدخول لمكان تبديل الملابس ليعود لهيئته.
تفاجأ فور دخوله بأحد الرجال يقتحم المكان الذي يقف فيه وهو يتلفت، لكن قبل أن يستطيع التحدث، فقد الوعي إثر رشة من زجاجة بيد هذا الرجل، وعندما عاد للوعي، وجد نفسه في هذا المكان القذر، ويقف معه عتريس أحد رجال والده.
نظر للمكان بأكمله، وتحدث بغضب: أني فين مالك واقف إكده ياعتريس فكني ياله، هو إيه اللي بيحصول ده.
تحدث بأسف: معلش يا حامد بيه دي أوامر الكبير للرجالة وجابوك إهنه.
حامد بصدمة: أبوي! معقول هو اللي أمر ب إكده؟! يبقى كشفني.
ساعدني يا عتريس أهروب من إهنه.
همس له عتريس بقلة حيلة: المكان متلغم بالرجالة يابيه مهينفعش واصل، لكن لو عايز أيتها خدمة أقدر اعملهالك ومتأذيش رقبتي سدادة ياغالي، أني ما رايدش اللي بيحصول ده بس ما باليد حيلة.
حامد بهدوء: طيب كيف جابوني إهنه من غير ما حد ياخد باله.
عتريس: بعد ما وقعت من طولك في المحل، خرج اللي رشك، وهو سندك وبيقول خواجه وقع يارجالة، ساعدوني أنقله للعربية علشان أوديه المستشفى، والناس ساعدوه، وكمان دعوله، وعلشان لبسك افتكروك خواجة بجد.
ولما واحد حب يساعد، ويركب معاك الراجل بتاعنا بصله، وقاله ان العربية من ورا صغيرة مهتستحملش اتنين، وانه هيتكفل بالمشوار؛ شكره، وسابه يمشي، وجابك إهنه.
تعجب من دهائهم، وتخطيطهم لكل شئ، فلم يجد بديلاً إلا أن يثق ب عتريس فهو الأن وقع بين براثن الأسد؛ طلب منه شيئاً، وتمنى أن لا يرفض.
صحيح هو الأن لا يستطيع حماية وردة، لكنه موقن أن عين الله لا تنام، وأن للظلم نهاية تمنى أن تكون النهاية على يده هو، لكن من الواضح أنها ستخط على يد أحد أخر؛ بعد أن انكشفت ختطه، ليس هذا هو المهم؛ بل المهم، والأهم أن نهاية الطاغي اقتربت لا محال.
أفاق على صوت باب المكان الذي يجلس فيه يُفتح ويدخل منه عتريس، اقترب من وهو يحمل بيده طعاماً، وماءً كما أمرهم علوان فهو ما زال خارج البلدة منذ أن اكتشف حقيقة حامد اقترب منه وجلس أمامه ووضع الطعام أرضاً، وهتف بصوت هامس متأسفاً: حقك عليا يا حامد بيه، والله لو بيدي ما أسيبك إهنه دقيقة واحدة، طول عمرك مش شبه كارنا العفش ده، ولا حتى شبه أبوك بس علوان بيه لو عرف إن ليا يد في هروبك مش هيقتلني؛ لا ده هيقتل ولادي قدامي وبالبطئ، كام مرة حاولت أتوب وابعد بس خوفت عليهم منيه.
حامد بتأسف على قسوة قلب المدعو والده: عارف يا عتريس إن مفيش بيدك حاجه، بس قولي المهم بلغت الرقم اللي ادتهولك، واستأمنتك عليه باللي قولته ليك؟
هز عتريس رأسه بنعم، وهو يتلفت ليرى إن كان أحدهم يستمع أم لا وقال: أيوه يابيه بلغته، بس كسرت الخط أني أسف معلهش خوفت يوصلى، ومنها يحصل اللي خايف منيه.
حامد باهتمام:طويب عم عوض فينه مباينش، ولا ميعرفش اللي حوصل.
عتريس: هو مع علوان بيه بتهايألي راجعين النهارده، معارفش البيه قاله ولا إيه.
قرب الطعام من حامد وهتف: الوكل يابيه حضرتك مكالتش حاجه من وقت ما جابوك الرجالة إهنه.
نظر له برجاء وهتف: إهنه فين يا عتريس، هو شكله مخزن، أو بادروم قديم قوي بس مكانه فين قولي ومتخافش،صدقني عندي اللي هيحميكم.
تحدث عتريس بتوتر، ورعب: معارفش يابيه متودنيش في داهيه.
ثم التقط قطعة لحم، وقربها من فم حامد فرفض أن يأكل، فوقف عتريس وهتف بحزن:
الوكل موجود أهو، وقت ما تجوع أو لو عوزت حاجه نادم عليا بس هاجي طوالي.
يجلس في سيارة استأجرها، وفي الأمام يجلس ذراعه الأيمن عوض بجوار السائق عائدون من القاهرة، يشعر بالحزن فقد اقتنع لوقت ما أن ولده صادق وأنه سيصبح له سند، ووريث في كل شئ حتى في عمله المشبوه كي يحافظ على ما اقتناه من أموال، ويذيد الثروة؛ لكن اكتشف خيانته، والأدهى أنه يريد الزج به خلف قضبان السجن؛ بل وإيصاله للإعدام.
لعن غبائه فكيف خُيل له أن حامد سينسى تار ولده بهذه السهولة، وينهي عشقه بهذه الطريقة السريعة،
الأن تخلى عنه زعيمه، وأمره بالابتعاد عنه نهائياً لحين أن يجد حلاً في هذه الكارثة.
شرد يتذكر كيف اكتشف خيانة ولده.
لم يشك في صدق حامد نهائياً، ولم يحاول حتى اختباره إلا عندما أخبره الخدم بخروجه متلصصاً من المكتب؛ فقرر التأكد من شكوكه لعلها تضحى وهم.
دخل مكتبه، ومنه على الغرفة السرية، وأمر رجاله الذين رأهم حامد بالإختفاء تماماً عن الأنظار، ويذهبون، وعاد للمكتب، قام بتشغيل شاشة المراقبة المتصلة بكاميرات المكتب لكن وجد الكاميرات معطله في وقت دخول حامد؛ إذن هو من قام بتعطيلها؛ لكن كيف له أن يفعل ذلك دون أن يعلمه أحد هذا؟
سؤال دار في ذهنه لم يجد له اجابه.
خرج لحديقة المنزل، وأخرج هاتفه، ووضع فيه خط غير مستعمل، وضغط بعض الأرقام، وطلب من الطرف الأخر إرسال بعض المختصين الذين يعملون معهم في تفتيش المكاتب لكشف إن كان هناك أجهزة تنصت أم لا.
كما أمر بعض الرجال في مراقبة حامد.
حضر المختصين على الفور، وبعد التفتيش دون إصدار أي صوت منهم؛ عثروا على جهاز التنصت الذي وضعه حامد، لكن لم ينزعوه بأمر من علوان. وقاموا بتفتيش باقي المنزل في الوقت الذي خرج فيه حامد للذهاب لوردة، وأيضاً عثروا على أكثر من جهاز في أماكن متفرقة، استشاط غضباً، وعلم أن حامد تحركه يد؛ وهذه اليد ما هى إلا سالم نسيبه، فقد كذب في قصة طلاقه لملك، إذن كان هذا بالإتفاق بينهم.
بعد أن رحل الرجال من المنزل، حضر إليه أحد رجاله، وأبلغه بما رأته، وسمعته الممرضة، التي ترعى وردة في المشفى، فهى مأجورة مثلها كمثل من باعوا ضمائرهم بنقود علوان،لكن تواصلها ليس مع علوان مباشرة؛ بل مع أحد رجاله.
تصاعدت الدماء لرأسه، وكادت أن تجعلها تنفجر من شدة الغيظ، خرج من المنزل، ولم يأخذ سيارته، بل ارتدى ملابس نسائية؛ فبالتأكيد هو مراقب، خرج من باب الخدم، وعندما وصل لمحطة القطار خلع تلك الملابس في الحمامات هناك، وعند خروجه منها صرخت بعض السيدات فاعتذر بحجة أنه أخطأ، وتركهم واتجه للقطار وقابله عوض في القاهرة بأمر منه؛ فقد قرر تأجيل مواجهة حامد كي لا يقتله وهو في قمة غضبه.
(شوفتوا علوان طلع عنده قلب، يموت ولاد الناس، وحتى حفيده اللي مشفش دنيا، و قال ايه خاف في غضبه يقتل حامد يارب يطقلك عرق وانت متعصب يا عوعو)
عاد من شروده على صوت عوض: قربنا يابيه على دخول البلد تحب نروح على المحلات أول، ولا البيت؟
علوان بجمود: لا أقف اهنه.
عقد حاجبيه و هتف: إهنه فين ياكبير، المكان كلاته نخل، ومفيش بيوت إهنه؟
علوان بغضب إهنه يابجم منك ليه، وجه حديثه للسائق بأمر الوقوف.
ترجل عوض من السيارة، وفتح بابها لعلوان فترجل منها هو الآخر، وأمر السائق بالرجوع للقاهرة مرة أخرى، والإختفاء هناك لحين يصدر أمر بعودته.
عوض: أني مش فاهم حاجه يا علوان ياخوي، أني طول عمري دراعك اليمين عمرنا ما وقفنا في المكان ده من غير عربية،كومان ليه رجعت السواق؟!
أشار علوان له بأن يصمت، ويتبعه، فانصاع لأمره، دخلوا وسط النخيل، وبعد عدة أمتار وصلوا للمكان الذي به حامد.
نظر عوض بدهشه لهذا المبنى المتهالك، المكون من طابقين، والذي يبدو عليه أنه مهجور منذ سنوات كثيرة بأطراف البلدة، بعيدة عن الأنظار.
هتف عوض بنبرة بها رعشة رعب: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم احفظنا، إيه اللي جابنا إهنه دلوك يا بيه! ده البيت المسكون؛ وبعدين إيه اللي موقف الرجالة عنديه اكده؟! ده مفيش حد بيستجري يهوب عنديه، ومفيش حواليه ولا بيت فيه ناس من زمان يا زمن من يوم ما اتجتل فيه ولد عمدة البلد وجتها، ولقيوه محروج فيه، وبعديها الناس بقيت تشوف نار والعه فيه وتنطفي لوحدها، وصوت صريخ خارج منيه،وجثة غريب مش من البلد مرميه قدامه. الكل هج من بيته، وملقيوش اللي يشتريها حتى.
نظر له شذراً وقال: خلصت رطك الفاضي، وحديتك الماسخ اللي ميلقيش غير بعيل مايص، مش شايخ زييك في كارنا بقاله سنين،وعارف احنا نقدر نعمل ايه.
هز رأسه بنعم وسأل: أيوه خلصت فهمني بقى إحنا إهنه ليه دلوك، وليه رجالتنا واقفين إكده؟!
مشى أمامه وهو يشير له بيده ويقول: تعالى ورايا وانت تعرف كل حاجه
عندما اقترب من رجاله، أشار لعتريس، وسأله بجمود: كله تمام؟
وقف ويديه الاثنين أمامه، ونظره للأرض وهتف مسرعاً: أيوه يا كبير كله تمام، جابوه و متربط جوه في البدروم، والدور اللي فوق اتوضب لحضرتك من جوه بس، وسبناه من بره زي ما هو كيف ما حضرتك أمرت.
هز رأسه برضا، ودس يده في عبائته من الداخل، وأخرج بعض النقود وناولها إياه تحت نظرات عوض الفضولية، المتعجبه لما يحدث، لكن لم يعره اهتمام وهتف: دول عشانك انت والرجالة .
تمنى بداخله أن يأخذها، ويلقيها بوجهه، ويفرغ سلاحه في صدره ليتخلص منه، لكن لا يستطيع ذلك، سيأكلون لحمه هو وعائلته، فأخذها منه، وهو يقبل يده كعادتهم جميعاً، وهتف: ربنا يخليك ياكبيرنا.
دخل الغرفة، وخلفه عوض الذي كاد الفضول يقتله لمعرفة ماذا يحدث لكن بمجرد أن رأى حامد أمامه مقيد صدم بشدة، ولم يستوعب ما يحدث، هرول باتجاهه ليفك قيده، لكن أوقفه صوت علوان الأجش يأمره بأن يتركه
عوض بغضب: كيف أتركه يعني؟! ده حامد ولدك، وولدي اللي مخلفتوش.
علوان بغضب أكبر: وولادنا طلع خاين وعايز يسلم رقبينا لعشماوي، متفق مع الحكومة ضدنا.
نظرات حقد، وكره واضحة من حامد لعلوان قابلتها نظرات تعجب من عوض، وهتف موجهاً كلامه لحامد: صوح حديت أبوك اللي هيقوله ده ياحامد ياولدي؟!
لم يبعد نظره عن والده، وهتف بتحدي: أيوه صوح، وإن شاء الله قريب هيقع، ان مكانش بيدي هيكون بيد حد من اللي ظلمهم، وهما كتييير قوي.
اقترب منه علوان بغضب، وصفعه صفعة قوية أوقعت الكرسي أرضاً، وسألت دماء أنفه، فأسرع عوض يعدل من وضعه، وهو يهتف: مش إكده يا علوان بيه، مهما حوصل هيبقى ولدك.
حامد برفض: سيبه يعمل ما بداله، أني عمري ما كنت ولده، ولا يشرفني كومان إني أكون إكده.
أخرج علوان سلاحه، وكاد أن يقتله، إلا أن وقوف عوض كحائل أفاقه قبل أن يفعلها.
تراجع، وأنزل السلاحثم اقتر ب من حامد، أحنى جزعه فأصبحت وجههم مقابلة، وقريبة جداً، وهتف وهو يجز أسنانه: كنت فاكرك ذكي، وعرفت مصلحتك؛ بس أتاريك فقري، وغبي زي أمك الله يحرقها، بس أني هخرج من مصر كلاتها من غير ما حد يمسني.
تغيرت نبرة صوته من الغيظ إلى السخرية وقال: ودلوك حابب أقولك خبر انت مستنيه، مهما حوصل انت ولدي وعايز أفرحك، عشيقتك بدأت تفوق، بس مفيش حد يعرف
غير البت الممرضة اللي بتابعها بس.
نظر له حامد في عينيه مباشرة باهتمام، وقلق في آن واحد فأكمل علوان حديثه
إياك تفرح أوي، لأن جزاء خيانتك هموتك بالبطئ، بموتها، لدلوك الممرضه بتنيمها بس كل ما تحاول تفوق؛ لكن بإشارة مني، هتحصل ولدها.
اتسعت عينه، وهتف بغضب: عملتلك إيه هى لكل ده، سيبها في حالها، واقتلني أني، ولا متعرفش تتشطر إلا على حرمه، مرة تبعت بلطجية يضربوها، وتحسسني بالعجز، واني مش قادر أحميها، ولا أحمي ولدي؛ ولدي اللي انت قتلته قبل ما يشوف دنيا؛ عارف انك مهتحسش بناري لأنك عمرك ما كنت أب، ودلوك عايز تقتلها من غير ذنب وهى حتى مدريناش باللي بيحصول.
ابتسم باستفزاز، وهو ما زال قريب من وجهه وقال: عمري ما كنت أب! غريبة دي مع إن يا أخي اللي منعني اقتلك دلوك برصاصة بين عينيك هو اني أبوك.
وعلشان أني أب بردك؛ لازمن أقتلها لأن ليا تار عنديها، خطفت مني ولدي، وخرجته عن طوعي يبقى في قانوني عقابها القتل.
أغمض عينيه، وأخذ شهيق كبير حبسه داخله، وأعلن رفضه لإنسياب دموع الضعف، والحزن، والألم أمام هذا الوحش البشري، أشاح بوجهه بعيداً عنه، وتوجه للدعاء بقلبه دون لسانه أن ينجيها من كل خطر، وأن يقضي نهائياً على هذا المجرم؛ فليس له سبيل الأن إلا الدعاء.