قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السادس والعشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السادس والعشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السادس والعشرون

ظننتُ بأني بينتُ بيني وبين قلبي حصونًا منيعة، فما بالها أصبَحَت حِبالًا ضعيفة؟ عَلِمتُ حينها بأن الفؤاد هاج ثائرًا، عِند رُؤيته لمحياكِ أصبَحَ تائهًا، يا مَن ملكتِ القلب أُناديكِ راجيًا، رِفقًا بعبدٍ مسكينٍ بات عاشقًا.

لم يرى أمامه من شدة إنفعاله، الغضب أعماه وجسده عمل بعنفوان عِند رؤيته لذلك الحقير يطبع يده بقسوة على وجهها الرقيق، إنهال فور فوق أمجد باللكمات العنيفة، لم يمنعه هؤلاء الذين أتوا مُسرعين لفض الإشتباك بينهم، لكنهم فشلوا بعد محاولات عديدة، وكأنه تحول من إنسان وديع إلى وحشٍ ثائر.

عادت سهيلة للخلف واضعة يدها على فاهها بعدم تصديق ودموعها تنهمر بقوة، أغمضت عيناها تُحاول التحكم بذاتها وبشهقاتها المُرتفعة من الألم، لم يكن فقط ألم جسدي؛ بل أيضًا ألم نفسي بسبب ذاتها التي تجلدها بسوطِ الحقيقة البشعة وأنها السبب في كل ما يحدث الآن بسبب غباؤها وتهورها.

تجمع الكثير من الشباب حول فور وبصعوبة بالغة أبعدوه عن أمجد الذي كان فاقدًا للوعي تقريبًا! حاول فور الإفلات منهم ثم صاح بإهتياج وصوتٍ صارح بلكنة عامية تعلمها من أصدقائه: لو قربتلها تاني يا حقير يا ابن ال مش هخلي في جِتة اللي خلفوك حِتة سليمة.

صعد صدره صعودًا وهبوطًا بغضب، ثم وبقوة دفع الشباب بعيدًا عنه واتجه نحو تلك الباكية وسحب يدها خلفه بخطواتٍ سريعة للغاية كادت أن تُسقِطها أرضًا، لكنها تحاملت على نفسها وسيطرت على توازنها.

خرج فور من الجامعة بتاتًا مُتجهًا نحو سيارته السوداء التي تستقر بجانب المبنى ثم وقف ليلتقط أنفاسه اللاهثة، وهُنا أدركت سهيلة ذلك الوحش الذي يختبيء خلف تلك الشخصية الوديعة المُسالمة، لا تعلم بأنه يقتل بدمٍ بارد من الأساس!

فتح فور فمه ليتحدث، وتلك المرة تحدث باللغة العربية الفصحى كما إعتاد تاركًا العامية التي تحدث بها منذ قليل، وللعجب بأنه تحدث بصوتٍ هاديء للغاية يشوبه الحنان عكس ما حدث منذ قليل قائلًا: فلتصعدي للسيارة عزيزتي سأجلب لكِ شيئًا لتأكليه وبعدها سنرحل.

أومأت له سهيلة بصمت باكٍ ومازالت دموعها تنهمر بصمت على وجنتيها، زفر فور بضيق من بكاؤها؛ فسحب منديلٍ ورقيًا ثم أعطاه له وهو يردف بحنان: حسنًا كفى بُكاءً أنا أعتذر لكِ حقًا.

وكأنه بحديثه الحنون أشعل نار الحزن والألم بوجدانها مُجددًا، لتنفجر باكية أثناء وضعها لكفيها على وجهها لتُخفيه، لن تنسى طيلة حياتها تلك الإهانة التي تعرضت لها أمام جميع أصدقائها في الجامعة، بل ولم يجرؤ أحد على التدخل حتى لا يقحم ذاته بالمشاكل، بينما فور يقف عاجزًا عن فعل شيء لأجلها، يُريدُ احتضانها لكنه لا يُريد خيانة صديقه المُحبب، لذلك وبعد وقتٍ قصير قضاه في التفكير؛ وضع يده على خصلاتها ليُربت عليه بحنان، تبعه قوله الحزين وهو يسألها: حسنًا. ماذا أفعل لكِ حتى تتوقفين عن البُكاء؟ أُقسِم إن أردتي سأعود إليه وأقتله لأجلك فقط.

أبعدت سهيلة يدها عن وجهها ثم انتشلت المنديل من يده لتُجفف به وجهها الذي اُمتُليء بالدموع، وبعدها مسحت أهدابها المُبللة بكفِ يدها وصمتت! وهذا أكثر ما آلمه، جلس القرفصاء أمام باب السيارة ولم يلتفت لأحد، ثم أمسك بكفها مُتحدثًا بحنان: أرجوكِ لا تحزني، لا أتحمل رؤية ذلك الحُزن يقبع داخل عيناكِ، أعتذر منكِ عمّا بَدَر من الجميع وأحزنوكِ به.

أغمضت عيناها بيأس من حنانه المُفرط، كيف عليها الإبتعاد وهو بكل ذلك الحنان المُفرط؟ وأخيرًا ابتسمت ابتسامة شاحبة أثناء قولها بصوتٍ متحشرج: خلاص يا فور أنا هِديت ومش زعلانة.
ضيَّق عيناه وهو يسألها بشك: حقًا؟
أكدت له مُؤكِدة بإبتسامة طفيفة: أيوا متقلقش عليا أنا بقيت كويسة.
هبَّ من مكانه واقفًا ثم أردف بإبتسامة واسعة: حسنًا سأُجلب لكِ الطعام ونأكله سويًا!

كادت الدموع أن تتجمع بمقلتاها مُجددًا لكنها ضحكت بخفة عندما استمعت لجُملته الأخيرة والتي نطقها بعفوية، لذلك أرادت مُمازحته وأردفت: مش أنت لسه واكل من شوية؟
أومأ لها مُبتسمًا لنجاحه في أن يُنسيها حُزنها، ثم تشدق بحالمية: لكني أشعر بالجوع أكثر عندما أراكِ.
قضبت جبينها بتعجب ويدها مازالت تمسح دموعها: اشمعنا؟

هز كتفيه بجهل قائلًا: لا أعلم، ولكني أشعر بهذا فقط، لذلك كُفي عن الحديث واتركيني لأذهب وأجلب الطعام لكلينا.

قال جُملته الأخيرة بعجالة قبل أن يُغلق عليها السيارة من الخارج، وانطلق مُهرولًا لشراء الطعام الساخن والشهي في وجودها، بينما هي طالعت أثره بإبتسامة مُحِبة، لكنها زفرت بضيق عندما تذكرت حديث عائشة عن ماهية العلاقة بينهما، أستندت برأسها على المقعد من الخلف ثم أغمضت عيناها هامسة بتمني: يارب ساعدني وقويني.

أكادُ من فرط الحنان أن أنسى آلامي، لكَ خالص الشُكر والتقدير يا صاحب الأماني، وجودك كان دافئًا يُربت على فؤادي، وابتعادك كطعنةٍ تُضرب في جميع أنحائي، أُحِبُ الشعور والهدوء والمسكنُ، في وجودك أطمئنُ وأنسى مآساتي.

كانت حبيبة قد انتهت من ارتداء ثيابها كاملة، والتي كانت تتمثل في بنطال من الجينز الغامق ويعلوه بلوزة من اللون الأبيض تُغطي بمعطف طويل يصل لركبتيها أسود اللون، أمسكت بفرشاتها لتُرتب خصلاتها التي قررت أن تتركها مُنسابة خلف ظهرها، ثم حملت بين يديها سِلسالًا على شكل قلب قد أهداه لها صهيب ليلة أمس لمُصالحتها.

ابتسمت بحنان عندما تذكرت مُحاولاته الكثيرة لجعلها تنسى قسوته وغضبه عليها في لحظة مُتهورة أعمته، لكنه لم يعلم بأنها قد سامحته منذ أن احتضنها وأبدى أسفه فقط! شعرت بأصابع غليظة تمتد لتُمسك الِسلسال من بين يديها، لتنظر للمرآة تلقائيًا فوجدته يبتسم لها ابتسامة ساحرة أثناء إغلاقه لقفل السِلسال بسهولة، لكن لم يتركها، بل أحاط بخصرها من الخلف ضاممًا إياها لصدره، ثم دفن وجهه بين خصلاتها أثناء إغماضه لعينيه براحة، تبعه قوله الهامس بشجن:.

براحة على قلبي المسكين مش كدا!
أغمضت حبيبة عيناها براحة إطمئنانًا بوجوده وإبتسامة صغيرة تتشكل على ثغرها، ثم رفعت كفيها لتُمسك بيديه التي تستقر عند خصرها هاتفة بهمسٍ خافت: هنتأخر يا صهيب.
هز رأسه نفيًا ثم أردف قائلًا: مش هنتأخر يا عيون صهيب.

ابتسمت بخفة وبعد وقتٍ قليل كانا كليهما يصعدان للسيارة مُتجهون نحو وجهتهم التي حددوها قبل أن يهبطا، وبالفعل بعد نصف ساعة؛ كانت السيارة تصتف على جانب الطريق أمام المنزل، هبط صهيب أولًا، وبعده هبطت حبيبة من الناحية الأخرى والتي تسائلت بتعجب وهي تُشير للمنزل الذي تقف أمامه: بيت مين دا؟

أجابها صهيب بهدوء وثبات وكأنه لن يكذب الآن: دا بيت صاحبي قاسم أنتِ عارفاه، ووالدته تعبانة شوية فإحنا جايين نزوها وبعد كدا هنروح المكان اللي اتفقنا عليه، تمام؟
هزت رأسها بالإيجاب راسمة على ثُغرها إبتسامة طفيفة: اتفقنا.

ذهب إليها ثم أمسك بكفها مُحيطًا إياه بقوة وكأنها طفلته، ثم اتجه بها نحو المنزل الذي ما إن دخلوه حتى صعدوا أدراجه مُتجاهلين أصوات الصياح والصراخ التي تأتي من الطابق الأول، مُكملين صعودهم نحو الطابق الثاني والذي يتميز بالهدوء كثيرًا عن المُزعج الذي بالأسفل.
أشارت حبيبة للمنزل الأول وهي تتسائل بتعجب: إيه صوت الصويت اللي تحت دا؟

أجابها صهيب بتهكم وهو ينظر لها: أصل قاسم مربي تيران هنا في البيت فتلاقي دايمًا صوت الدوشة دا.
لم تفهم حبيبة شيئًا مما قاله، ورغم ذلك هزت كتفها بعدم إهتمام ثم أكملت صعودها معه نحو الأعلى، وصلوا أخيرًا، وطرق صهيب الباب ثم انتظر قليلًا حتى فُتح وظهر من خلفه أخيه الذي ما إن رآه؛ حتى تشكلت إبتسامة واسعة على فاهه، تبعه تقدمه منه وإحتضانه له أثناء قوله المازح: وحشتني يا حيوان.

ترك صهيب يد حبيبة ثم تقدم من أخيه مُبادلًا إياه العناق بقوة، ثم أجابه وهو يضربه على ظهره من الخلف: أنا برضه اللي حيوان يا حيوان وأنت قافل تليفونك من إمبارح؟
ابتعد عنه قاسم مُقهقًا بمرح، ثم غمز له قائلًا بعبث: يا جدع عريس جديد بقى وعايز أرتاح، إلا ما لقيتك داخل عليا بجوز حمام ولا دكر بط أرُم بيهم عضمي يا معفن!

دفعه صهيب جانبًا حتى تسنح له الفرصة للولوج، ثم سحب حبيبة التي تشعر بالحرج من وجودها بينهما، ثم أردف بسخرية: يا جدع محسسني إنك كنت بتحرر سينا ولا بتحارب في تل أبيب، هتلاقيك قاعد زي خيبتها بلا وكسة.
قطب قاسم جبينه بتعجب وهو يسأله: إيه دا عِرفت إزاي؟

نظر له صهيب بإندهاش، وفي ثوانٍ كانت ضحكاته تنطلق في الأرجاء بعدم تصديق، هو في الأساس كان يمزح، والمُغفل شقيقه ظنّ بأنه يتحدث بحدية، جعد قاسم جبينه ناظرًا إليه بسخط، ثم تشدق قائلًا: ما تخرس يلا بقى متقرفناش.
طالع قاسم شقيقه بإشمئزاز، لكن نظراته تحولت للين وهو يُطالع حبيبة بود قائلًا بإبتسامة طفيفة: إزيك يا حبيبة عاملة إيه؟

شددت حبيبة من إمساكها بكف صهيب الذي هز لها رأسه بإطمئنان، ثم أجابته بصوتٍ خافت مُتلعثم: ال. الحمد لله.
ردد قاسم جُملتها بإبتسامة طفيفة، ثم أردف بصوت هاديء قائلًا: عايزك ترتاحي هنا في البيت واعتبريه بيتك، وأنا هروح أنادي أَهِلَّة علشان تيجي تقعد معاكِ شوية.

أرجعت خصلاتها الشاردة خلف أذنها ثم هزت رأسها بتوتر، لم تعتاد أن يتحدث معها أي شخص بكل هذا الود عدا صهيب فقط، حتى والدتها دائمًا ما كانت تُعاملها بقسوة منذ صغرها، لذلك أصبحت كائن مُتوحد لا يُحب الإختلاط حتى لا تُخذل مُجددًا.

غاب قاسم في الداخل، وفي تلك الأثناء استغل صهيب فراغ المكان ثم مال على حبيبة مُقبلًا وجنتها بحب قبل أن يقول: مش عايزك تتوتري يا بسكوتة، أنا هسيبك مع مرات قاسم شوية صغيرين وأنا وهو هنقعد نتكلم لوحدنا شوية، اتفقنا؟

عضت على شفتيها بتوتر وهي تنظر إليه برجاء صامت أن يظل معها، ليُربت على خصلاتها بحنوٍ بالغ قبل أن يردف لها بإطمئنان: لو مرتحتيش ناديلي وصدقيني هتلاقيني قدامك على طول، و أَهِلَّة هادية زيك بالظبط يعني مش هتحسي بالخوف معاها.
هزت رأسها بيأس ثم أردفت بخفوت: ماشي.
بعد لحظات. أتى قاسم وخلفه أهلة التي ما إن رأت حبيبة ؛ حتى اقتربت منها بإبتسامة واسعة قائلة بود: إزيك يا بيبو عاملة إيه وحشتيني.

أجابتها حبيبة مُبتسمة: وأنتِ كمان يا أهلة وحشتيني.
استدار قاسم لكليهما ثم أردف أثناء سحبه لأخيه لخارج الغرفة: طيب هنسيبكم مع بعض سوا بقى واحنا هنقعد جوا في الأوضة.
أومأت كلتاهما له بهدوء، ثم ذهب بعدها كُلًا من قاسم وصهيب إلى غرفة نوم حياة، لتسنح الفرصة ل صهيب في الإطمئنان على والدته العزيزة والتي اشتاق لها حد اللعنة.

بينما اتجهت الفتاتان إلى الأريكة ليجلسا عليها، فجلست حبيبة أولًا بعد أن أشارت لها أهلة بالجلوس، وعلى بُعدٍ مناسب منها جلست أهلة مع الحفاظ على مسافة مُناسبة بينهما، بدأت أهلة الحديث بعد وقتٍ من الصمت قائلة بمزاح: مالِك حساكِ خايفة مني ليه؟
أمسكت حبيبة بكفيها تُشبك أصابعها معًا لتستمد منهم بالقوة، ثم أردفت بتلعثم: ل. لأ أبدًا مفيش حاجة. أنا. أنا بس مش متعودة أتكلم مع حد غريب.

قطبت أهلة جبينها بتعجب وهي تسألها: بس إحنا اتقابلنا قبل كدا مش أول مرة نتقابل.
أكدت لها حبيبة حديثها بقولها: أيوا عارفة. بس برضه معرفكيش كويس. أو يمكن عشان مش عندي صحاب فمش متعودة على الكلام معاكِ.
أثار توترها وتلعثمها في الحديث شفقة أهلة، والتي بدورها قامت بسؤالها صراحة دون تجميل حديثها: هو أنتِ عندك توحد!

شددت حبيبة من الضغط على أصابعها وشعورها بالحرج كاد أن يُصيبها بالبُكاء، وبهدوء وتوتر قامت بهز رأسها بالإيجاب تؤكد حديثها، لتضحك أهلة ساخرة أثناء قولها المُستنكر: اتلم المتعوس على خايب الرجا.
ظنت حبيبة بأن أهلة تسخر منها ومن مرضها، ولحساسيتها الشديدة تسللت الدموع بكثافة في عينيها، مما أدى إلى فزع أهلة التي صححت حديثها بسرعة قائلة: والله مش بتريق عليكِ، أنا بتريق على نفسي.

رفعت حبيبة أنظارها تُطالعها بتعجب، لتتسائل بصوت متحشرج: إزاي يعني؟
لتُجيبها أهلة ساخرة: أنا كمان عندي وسواس قهري، عشان كدا تلاقيني بتقرف أسلم على أي حد وبسلّم من بعيد لبعيد من غير تلامس.
أثار حديثها انتباه حبيية التي تحمست قائلة بفضول: بجد؟ ودا وراثة يعني أنتِ مولودة بيها ولا بسبب حد؟
مطت أهلة شفتيها بضيق وهي تُجيبها: بسبب ناس كدا منهم لله، بس أنا علشان طيبة وغلبانة سلّمت أمري لربنا.

أشفقت عليها حبيبة ظنًا منها بأنها تتحدث بجدية، لذلك تشدقت بحزن وبكلماتٍ داعمة: متزعليش أكيد ربنا هيعوضك ومش هيسيب حقك.
نظرت إليها أهلة بصمت لعدة ثوانٍ، وبعدها انفجرت ضاحكة على بلاهتها وطيبتها الزائدة، طالعتها حبيبة بعدم فِهم ثم سألتها بتعجب قائلة: هو أنا قُولت حاجة غلط؟

هزت أهلة رأسها بالنفي ثم أردفت بعدم أن تمكنت من السيطرة على ضحكاتها: لأ طبعًا. بس أنتِ طيبة زيادة عن اللزوم حبتين تلاتة أربعة عشرة.
بجد؟
نطقت بها حبيبة بضجر، لتؤكد أهلة على حديثها بضحك مرة أخرى أثناء قولها المُمازح: آه يا بنتي بجد، دا أنتِ داخلة العيلة دي غلط أساسًا.

جعدت حبيبة جبينها حانقة وبعدها صمتت لبعض الوقت، لكن فجأة رفعت أنظارها ل أهلة طالبة منها بحسم ظهر مُضحكًا بعض الشيء: طيب أنا مش عايزة أكون طيبة، علميني أكون شريرة.
طالعتها أهلة ببلاهة، قبل أن تتسع ابتسامتها تدريجيًا بخبث، وبعدها هبت من مضجعها قائلة: طيب تعالي ورايا.

وبالداخل. مال صهيب على جبين والدته النائمة يُقبله بحنان وشوقٍ أهلكه، ثم اعتدل ونظر ل قاسم سائلًا إياه بحزن: أخبارها إيه دلوقتي يا قاسم؟ فيه تحسن في صحتها؟
اقترب منه قاسم مُربتًا على كتفه بحنان، ثم أومأ له بالإيجاب مُضيفًا: أيوا الحمد لله، العلاج بدأ يحسِّن من حالة جسمها والأجهزة الحيوية عندها جاهزة تمامًا تستقبل عضو جديد في جسمها، ودا كله اتحسن بعد ما حالتها النفسية اتحسنت الحمد لله.

اقترب منه صهيب ليحتضنه، ثم أردف بصوتٍ متحشرج نادم: أنا كل ما أفتكر إني كنت في يوم من الأيام هأذيك بكره نفسي أوي، لو كان حصلك حاجة لقدر الله كان ماما هيبقى إيه وضعها دلوقتي!
بادله قاسم العناق وهو يقول بصوتٍ حنون: متفكرش في اللي فات، كل حاجة حصلت ربنا كان مرتب ليها ومهيأ الأسباب والأحداث اللي هتحصل كلها علشان نعرف الحقيقة ونتقابل.
الحمد لله.

جُملة صغيرة تمتمها صهيب في سره لكن كان أثرها الماضي والقادم كبير للغاية، شُكر الله على الإبتلاءات والمصائب يرفع العبد درجةً عِند خالقه، إيمانه وثقته بالمولى يجعل هديته عظيمة وشعوره بالإنتصار قريب.
ابتعد كلاهما عن بعضهما بفزع عندما استمعا إلى صوت الطلقات يأتي من الخارج، ليُخرِج صهيب سلاحه من جيب بنطاله والذي تشدق بريبة: إيه صوت الرصاص اللي ظهر فجأة دا؟

هز قاسم كتفه بجهل قبل أن يقول مُسرعًا: مش عارف، تعالى معايا نشوف إيه الحوار.
خرج كلاهما من الغُرفة وأغلق قاسم الباب خلفه حتى لا تتأذى والدته، لكنهما توقفا بصدمة وتيبس عندما وجدا باب الغرفة الخاص ب قاسم مفتوحًا على مصرعيه وبداخله تظهر أهلة و حبيبة التي تُمسِك بالسلاح تُجاورها بسعادة عارمة وكأنها حصلت على إحدى الجوائز الكُبرى للتو!

اقترب منهم صهيب حتى وقف على أعتاب الغُرفة صائحًا بصدمة: يالهوي! بتعملي إيه يا حبيبة؟
استدارت له حبيبة موجهة السلاح لوجهه وهي تُهلل بفرحة شديدة: بُص يا صهيب بقيت شريرة إزاي!
رفع صهيب كِلتا يديه للأعلى ناطقًا الشهادة، وبعدها لطم على وجهه قائلًا بفزع: يالهوي يالهوي، نزلي المسدس دا من إيدك.

اقتربت منه حبيبة ومازالت تمد يدها بالسلاح أمامها، مما جعل صهيب يهرع من أمامها وهي تركض خلفه لتُريه كم أصبحت شريرة ويُعتمد عليها!
صرخ صهيب هلعًا وهو يختبيء خلف الأريكة العريضة: إلحقوني يا ناس هتموتني.
لم تُعطي حبيبة لصرخاته بالًا ولا أي إهتمام، ثم توقفت محلها قائلة وهي تسحب الزناد لتُريه كيف تعلمت عليه: بُص كمان. بسحب دي لورا كدا ولما بسحبها كمان مرة بتضرب مرة كمان.

أنهت حديثها تزامنًا مع خروج طلقة أخرى من المسدس الذي تُمسكه، ومعه خرج صراخ صهيب الذي يطلب النجدة!
اقترب منها قاسم من الخلف، وعلى غفلة قام بسحب السلاح من بين يديها مما جعلها تستدير ووجهها مليء بالغضب، استمعت إلى صوت قاسم المتسائل وصوته بعض من الحدة مما حدث للتو: مين اللي إداكِ الزفت دا؟

خرج صهيب من خلف الأريكة عندما اطمئن أن السلاح بين يديّ شقيقه، وكاد أن يتحدث؛ لكنه وجد الدموع تتسلل بكثافة داخل مقلتيّ حبيبة بسبب حِدة شقيقه معها دون قصد، زفر بضيق ثم ذهب إليها وأمسك بيدها ساحبًا إياها لأحضانه، لتتحرر دموعها بغزارة تبعها صوت الشهقات الحادة الممزوجة بالحزن الشديد.

شدد صهيب من احتضانها، بينما قاسم زفر بضيق بسبب صراخه عليها والذي أوصلها لتلك للمرحلة، اقترب منهما ثم تحدث موجهًا حديثه ل حبيبة بإعتذار: متزعليش مني يا حبيبة إني زعقتلك، بس أنتِ بعملتك دي كان ممكن إيدك تضغط على المسدس غصب عنك وتيجي في صهيب.

هدأ بكاء حبيبة قليلًا لكنها لم تُجبه، مما جعل الشعور بالذنب في قلب قاسم يزداد أكثر، يُقسِم بأنه لم يقصد الصراخ عليها، لكن خوفه على شقيقه أعمى بصيرته ونسى مع مَن يتحدث، ربت صهيب على خصلات حبيبة سائلًا إياها بعتاب: ينفع اللي أنتِ عملتيه دا يا بسكوتة؟

كفَّت حبيبة عن البكاء كُليًا، ثم خرجت من أحضانه وهي تُجفف دموعها، ثم أردفت بصوتٍ باكٍ وكأنها تشكو له: كنت عايزة أبقى شريرة و أهلة هي اللي قالتلي أعمل كدا.
نظر ثلاثتهم ل أهلة التي بدورها ابتسمت لهم ببلاهة، ليذهب إليها قاسم حتى بات على مقربة منها مُتمتمًا بضيق: أنتِ اتجننتي يا أهلة؟ دي حاجة تعلميها ليها؟

وعلى عكس حبيبة تمامًا، رفعت أهلة حاجبيها تُطالعه بتشنج ثم أردفت بنبرة مُحذرة: كلمني عِدل بعد إذنك يا قاسم، وبعدين فيها إيه يعني لما أعلمها تمسك المسدس! مش بدل ما هي ضعيفة كدا وبتعيط من أقل حاجة؟
كاد قاسم أن يُجيبها؛ لكن سبقه صهيب الذي تشدق بإستنكار صارخ: ياختي وأنتِ مالك ياختي! حد اشتكالك! بقولك إيه يا آنسة أنتِ سيبي مراتي في حالها لو سمحتِ أنا مش عايز حَد يخدش خجلها.

رفعت أهلة حاجبيها بإستنكار ثم أردفت بنبرة سوقية وهي تُشيح بيدها أمام وجهها: جتك مِلة إما تشعوطك، اتكلم معايا بطريقة أحسن من كدا عشان متزعلش يا كتكوت، ومراتك هي اللي جاتلي وقالتلي أنا عايزة أبقى شريرة، فمش ذنبي بقى.
صرخ صهيب بعدم تصديق قائلًا: عايزة تبقى شريرة تقومي ممسكاها مسدس!

ابتعدت عنه حبيبة وقامت بالوقوف بجانب أهلة ثم أردفت بضيق: لو سمحت يا صهيب متزعقلهاش كدا، أهلة بقت صحبتي ومينفعش تتكلم بالطريقة دي معاها.
فرغ صهيب فاهه بصدمة وكذلك فعل قاسم، بينما اتسعت ابتسامة أهلة التي اقتربت منها وقامت بلف ذراعها حول كتفها قائلة بفخر: مش خسارة فيكِ التعليم اللي أنا علمتهولك والله.
مال صهيب على قاسم يُحدثه بهمس: مراتك اتحدت مع مراتي وباينها هتبقى أيام عنب.

طالعه قاسم بريبة قائلًا: تفتكر؟
هز صهيب رأسه بحسرة، ليُبادله قاسم بأخرى مثلها وهو يهمس لذاته قائلًا: ربنا يستر.
استمع الجميع إلى صوت طرقات حادة على الباب، فذهبت أهلة أولًا لفتحه، وما إن فتحته؛ حتى وجدت مهرائيل تطل برأسها وهي تهتف بسعادة: إيه صوت ضرب النار دا، قتلتي قاسم؟
تشنج وجه قاسم بسخط، والذي بدوره هتف حانقًا: أنا مش عارف بينكم وبيني إيه مخلينكوا عايزين تخلصوا مني كدا؟

فزعت مهرائيل من وجوده، والتي ما إن رأته حتى هتفت بسخافة: إ. إزيك يا قاسم ياخويا كنت لسه بسأل عن صحتك من شوية!
إلتوى ثُغر قاسم بابتسامة جانبية ساخرة مُردفًا: آه ما أنا سمعتك.
دفع آلبرت تلك المُزعجة مهرائيل جانبًا، ثم تشدق بإستنكار عندما أصبح جوارها تمامًا: جروٌ مزعج.

طالعت مهرائيل ظهره بغيظ لكنها لم تُعقب، يكفي هذا الشجار الذي افتعلته معه بالأسفل منذ قليل، توقف آلبرت أمام كُلًا من قاسم وصهيب ثم تسائل مُستفهمًا: ما سبب تلك الطلقات التي صدحت منذ قليل؟
أجابه صهيب ببلاهة: لا تقلق عزيزي آلبرت، الفتيات فقط كان يمزحن مزاحًا ثقيلًا بعض الشيء.
رفع آلبرت حاجبيه بسخرية مُضيفًا: حقًا؟
أكدَّ قاسم حديث أخيه قائلًا: نعم يا صديقي، أنت تعلم مزاح الفتيات يُصبح غبيًا أحيانًا.

قاطع رائد ذلك الحديث الهاديء الدائر بين الجميع بقوله الساخط وعلامات الحنق والضجر واضحة بقوة على معالمه: طيب بما إنكم كلكم متجمعين كدا حابب أقولكم عقبالكم كدا يا شباب وشبكة ستي يوم الجمعة بعد الصلاة إن شاء الله.

أنهى حديثه وانتظر كلمات الدعم والمواساة من أصدقائه، لكن صوت الضحكات التي صعدت من فاه الجميع قد صمَّت أذانه، لم يتحمل شخصٌ منهم ذلك العبث الذي تفعله لواحظ لتُسيطر عليهم نوبة من الضحك الصعب توقفه.

طالعهم رائد بنظرات جامدة، قبل أن يُشاركهم في الضحك هو الآخر، لم يتخيل في حياته أن يدعو أصدقائه لحضور حفل زفاف جدته المُراهقة العجوز، فبعد أن أقنعوها بصعوبة أن تترك العمل كراقصة، أصرَّت على رأيها بالزواج من عبدالقادر الفكهاني، وبالفعل وافقوا بسرعة حتى لا تُغير رأيها وتتجه نحو طريق الإنحراف والرقص.

كان أول مَن توقف عن الضحك هو قاسم، والذي طالعهم بإبتسامة واسعة قبل أن يهتف: بما إننا كلنا متجمعين فأنا عازمكم كلكم على الغدا.
هلل الجميع بسعادة خاصةً فور الذي جاء للتو واستمع إلى حديث قاسم الأخير، فعقب عليه بسرور: يا رجل أنا أُحِبُك حقًا، لم آكل منذ زمنٍ بعيد وأشعر بأن معدتي تضور جوعًا.
فتحت سهيلة فاهها بعدم تصديق من كذبه، لذلك صاحت به بصراخ: يا كداب أنت لسه واكل أكلي من شوية ياللي منك لله.

طالعها فور بحنق قائلًا: اصمتي يا فتاة وكُفي عن الكذب، لقد أكلتِ كُل طعامي وأنا لم أتحدث رفقةً بكِ.
أشارت سهيلة لذاتها بصدمة قبل أن تقول ساخطةً: أنا اللي كَلت أكلك! يا بني آدم دا أنا خدت نص ساندوتش وعلى ما مديت إيدي آخد النص التاني لقيته في بوقك.
رد عليها فور بسخط: حسنًا يا فتاة فلتصمتي الآن، لم آكل ذراعك حتى تُصيحي بتلك الطريقة.

كادت سهيلة أن ترد عليه هي الأخرى؛ لكن قاطعتهم مهرائيل التي صاحت بصوتٍ عالٍ: خلاص يا جماعة مش كدا صلوا على النبي.
عليه أفضل الصلاة والس...
قطعت سهيلة جُملتها التي أكملتها في سرها، ثم تفوهت بتعجب: مهرائيل صلي على النبي أنتِ، أنتِ مسيحية أصلًا.
أجابتها مهرائيل بإبتسامة واسعة وهي تضحك: وحدة وطنية بقى وكدا هي جَت عليا!

توقف الجميع عن التحدث عند إمساك رائد لشقيقته من ياقة ملابسها متسائلًا بفحيح: وأنتِ و فور كنتوا مع بعض بتعملوا إيه؟

طالعت سهيلة معالم وجه أخيها التي تحولت للغضب والحدة، فنظرت تجاه فور حتى ينقذها من تأزم الموقف، والذي بدوره فسَّر له قائلًا: أنت تعلم رائد أن عملي بالقرب من جامعتها، وفي طريقي وجدتها أمام بوابة الجامعة من الداخل تتشاجر مع بعض الفتيات وبعدها أتى شابان وقاما بمضايقتها، صفعها واحدٌ منهم لكنني كسرت يده وأضلاعه حتى فقد الوعي كُليًا، أعتذر حقًا يا صديقي، لم يكن بمقدوري تركها وحدها دون التدخل.

تدخل قاسم في الحديث مُتسائلًا بحدة: ضربها؟ مين الحيوان دا وإزاي يمد إيده عليها؟
هز فور كتفه بجهل، ليستمع الجميع إلى صوت رائد الغاضب وهو يهتف بعصبية: وقسمًا بالله ما هسيبه، وهندمه على اليوم اللي فكر يمد فيه إيده على أختي.
اعترض فور قائلًا بخبث: انتظر حتى امتثاله للشفاء وبعدها سنُلقنه جميعًا درسًا لن ينساه هذا الوغد.

ارتسم الخبث والمكر على فاه جميع الشباب، خاصةً رائد الذي أقسم على رد اعتبار شقيقته، قرَّبها منه ثم احتضنها قائلًا بحب: حقك عليا وأنا اللي هجيبلك حقك منه.
أغمضت سهيلة عيناها بإرتياح مُشددة من عناقه وهي تقول: خلاص يا رائد ما بلاش مشاكل علشان متتأذيش، فور طحنه بالمعنى الحرفي.
ضربها رائد على مؤخرة رأسها مردفًا بمزاح: بس يا بت أنا مش باخد رأيك، أنا بقولك على اللي هيحصل بس.

سمع الجميع إلى صوت شهقات خافتة تأتي من الجانب، ليستديروا إلى مصدر الصوت ويجدوا ملك التي تجفف دموعها بكُم بلوزتها السوداء، تقدمت منها أهلة والتي تسائلت بقلق: مالك يا ملك بتعيطي ليه؟
أجابتها ملك بتحشرج: طول عمري كان نفسي يكون عندي أخ ولد علشان يدافع عني لما أتخانق.

اتسعت ابتسامة رائد الذي ترك شقيقته بعد أن دفعها، ثم فتح ذراعيه على آخرهما أثناء إقترابه منها قائلًا: تعالي في حضني يا حبيبة أخوكِ وأنا هعوضك.
تسلحت أهلة واستعدت للهجوم عليه إن اقترب خطوة واحدة أخرى من شقيقتها، بينما قاسم أمسكه من قميصه متفوهًا بحنق: يا أخي بقى قرفتني، أنا هفضل ألمك من كل مكان شوية؟
أضاف ليونيد على حديث قاسم قائلًا بسخط: عيبٌ عليك يا رجل، أنت وقح حقًا.

ليتدخل آندريه بدوره هاتفًا: لا أعلم لِمَ لا يتخلى الجميع بالأخلاق مثلنا، عارٌ عليك يا أحمق.
دعم ستيفن أشقائه بقوله: لا يوجد مثلنا يا فتيان، نحن رمزًا للإحترام والحب والتواضع.
أكمل جون المُمسك بيد لوسيندا التي تُتابع حديث الجميع بحماس: لا أعلم كيف ينامون هؤلاء الوقحون حقًا.
أردف فور بمسكنة يرد على شقيقه: هم أشخاص بلا ضمير يا أخي، أدعو أن يأخذهم الله ونستريح من وقاحتهم.

نظر آلبرت لأخواته بتهكم رافعًا لحاجبيه وكأنه تأثر خشيةً من حديثهم الأحمق مثلهم، يتحدثون عن الوقاحة وهم لم يروا للتربية شكلًا من الأساس، وكأن أبيهم قد نسى أن يُربيهم هؤلاء الأوغاد، وإن جئنا للحق؛ فهو معهم أيضًا!
في تلك الأثناء أتت يمنى من الخارج بعد أن ذهبت للمنزل وبدلت ثيابها ثم أتت إلى هنا بعد أن هاتفتها ملك للقدوم، دلفت للداخل ناظرة لتجمهرهم الكبير بتعجب قائلة: السلام عليكم.

رد عليها الجميع بهدوء، وبعدها صفق قاسم بكفيه قائلًا: يلا يا حبيبي أنت وهي اطلعوا برا لحد ما نغير هدومنا وبعدين نخرج نتغدى برا.

امتثل الجميع لطلبه وخرجوا من المنزل هابطين لينتظروا بالأسفل، وبعدها دخل كُلًا من قاسم وأهلة للغرفة لتبديل ثيابهم، وبعد ما يقرب من الخمسة عشرة دقيقة انتهوا من ارتداء ثيابهم ثم هبطا معًا للأسفل، وأثناء هبوطهم مال قاسم على أذن أهلة قائلًا: اللي عملتيه فوق مع حبيبة لسه متحاسبتيش عليه ها؟
طالعته بطرف عينها قائلة بلامبالاة: ولا يهمني.

حدق بها بتوعد ثم أكمل هبوطه معها وعقله يُفكر في طريقة مناسبة لمعاقبتها، عقاب يليق ب أهلة الطفلة وليست أهلة الناضجة العنيدة تلك.

تجمع الجميع بالسيارات الخاصة بهم، فصعدت أهلة في سيارة قاسم، ومعهم كُلًا من صهيب وحبيبة يجلسون بالخلف، وأعطى صهيب سيارته ل رائد وفور والذي صعد معه كُلًا من سهيلة وملك ويمنى، وبعدها صعد چون لسيارته ومعه زوجته لوسيندا ومهرائيل، وأخيرًا صعد آلبرت ومعه أخواته ستيفن وليونيد وآندريه.

بعد نصف ساعة تقريبًا، وصل الجميع إلى الوجهة المطلوبة للمطعم، هبطوا من السيارات في نفس الوقت فبدوا كعائلة مُتماسكة واحدة، العلاقة التي تجمعهم ليست علاقة دم، بل رابط الصداقة المنسوج من الحب هي أقوى علاقة جمعتهم جميعًا، رابط قوي من الصعب فكاكه.

قاموا بحجز طاولة كبيرة تتكون من عشرون مقعد، وكلٌ اختار شريكته في جلسته، أحاط صهيب بكتف حبيبة أثناء جلوسه دون خجل هاتفًا بعتاب: بقى بتتفقي عليا مع مرات قاسم يا بسكوتة؟ إخص مكنش العشم.

رفعت حبيبة أنظارها له لتُطالع وجهه، ورغم نبرة العتاب التي تحدث بها، إلا أنها تحدثت بسعادة بالغة وهي تُمسك بكفه قائلة: أصل بصراحة أول مرة يكون عندي صحاب، ومبسوطة أوي إن أهلة قالتلي اعتبريني صحبتك، علشات كدا مكنتش عايزة أزعلها، بس أكيد أنت مش هتزعل مني صح؟

انتقلت إليه سعادتها من صوتها فقط، نسى كل العتاب الذي جهزه لها ما إن راى فرحتها التي أدخلت السرور على قلب اليتيم إذا خرج! تفوه قائلًا بعشق: عمري ما أزعل منك يا حبيبة قلبي، كفاية فرحتك عندي بالدنيا كلها.
التمعت السعادة بعينيّ حبيبة وكالعادة لم تجد الكلمات المُناسبة لقولها، بل اكتفت بتسديد نظرات الإمتنان التي استقبلها بصدرٍ رحب.

جاء النادل إليهم ليكتب طلباتهم في دفتر ملاحظات صغير للغاية، فبدأ الجميع بإملائه ما يُريد، حتى أتى دور فور الذي أملى طلباته قائلًا: أريد دجاجة مشوية كبيرة، وبعض الأرز، والمشويات الفحمية، والكثير والكثير من المقبلات، وعصيرًا من الموز.
فتح النادل فاهه ببلاهة، قبل أن يُحمحم بجدية: تمام يا فندم، أي أوامر تانية يا بشوات؟
هز الجميع رأسه بالنفي، لكن قاسم تحدث قائلًا: هات معاك كوبايتين فراولة باللبن.

تمام يا فندم تحت أمرك.
رحل النادل من أمامهم، لتتنهد مهرائيل بقوة والتي فتحت ذراعيها براحة قائلة: ياه. الإنسان بقاله زمان مخرجش خروجة حلوة زي دي.
طالعتها لوسيندا بإبتسامة قبل أن تؤيدها في الرأي قائلة: معاكِ حق، الجامعة كانت واخدة كل وقتنا وملحقناش ننبسط.
رفع چون يد لوسيندا ليُقبلها قائلًا بحنان: اعتبري أن القادم سيكون جميلًا فقط عزيزتي، سأعوضك عن كل شيء سيء رأيتيه سابقًا في حياتك.

طالعته لوسيندا بحب ضاغطة على كفه بيدها المُمسكة بخاصته، قبل أن تقول بهمس عاشق: ربنا يخليك ليا يا چون.
وأنتِ يا قلب چون.
طيب نقوم نمشي إحنا طيب ولا نعمل إيه؟ راعوا إن إحنا سناجل يا جدعان مينفعش كدا.
هتفت ملك بتلك الكلمات ضاجرة من حالة الحب والهيام المُسيطرة على جميع الموجودين، لتستمع إلى صوت رائد الذي أردف بعبث: طب ما تيجي نرتبط وأهو تلاقي حد يعبرك و.

لم يكد يُكمل جُملته؛ حتى وجد عُلبة المناديل الخشبية ترتطم بوجهه بقوة، تبعه صوت يمنى الغاضب قائلة: ملكش دعوة بأختي وخليك في حالك، وبعدين مين دا اللي ترتبط بيه يا ذكر النعام أنت! مش شايف نفسك ولا إيه؟

وضع رائد كفه على وجهه بألم أثناء نظره بغضب ل يمنى، هبَّ من مكانه بحدة هاتفًا بردح وهي يُشيح بيده أمام وجهه: أنتِ اتجننتي ولا إيه يا بت أنتِ؟ لتكوني فاكرة نفسك نرمين مورلو يا أنثى البط، مش عاجبك شكلي ياختي! ما هقول إيه على الأعمى لما يحاول يعمل نفسه ذكي وهو أعور.
وبثبات شديد ردت عليه يمنى بسخرية لاذعة: فرقت إيه أنت عن نسوان شارعنا بقى؟ مفيش غير الدقن تقريبًا.

مدت أهلة يدها لتضغط به على ذراع يمنى مانعة إياها من إستكمال حديثها، بينما رائد طالعها بحقد بعد أن عاد لمقعده مرة أخرى وهو يُتمتم بسخط: بت باردة يخربيت التناحة.
عمَّ الصمت الجلسة مرة أخرى إلا من بعض الهمهمات التي تأتي من الحين للآخر، حتى قطعته مهرائيل بقولها المُفاجيء: على فكرة أنا هرجع البيت النهاردة.

طالعها الجميع بتعجب، لتعتدل لوسيندا في جلستها مُردفة بقلق: نعم؟ لأ طبعًا انسي مفيش رجوع، إحنا مش ضامنين بابا ممكن يعمل إيه معاكِ بعد ما ترجعي.
هزت مهرائيل رأسها بالنفي وهي تبتسم لها بهدوء حتى تُقلل من خوفها: لأ يا ستي متقلقيش، وبعدين في الأول وفي الآخر دا أبونا يعني مش هيعمل حاجة تأذيني.

رفضت لوسيندا حديثها رفضًا قاطعًا وهي تقول بقلق شديد: لأ. لأ يا مهرائيل بلاش ترجعي، بابا قسوته عامية عينيه ومش بيشوف قدامه وقت غضبه.
ابتلعت مهرائيل ريقها بصعوبة قبل أن تقول بإختناق: بس أنا مش عايزة أفضل في بيت جوزك، حاسة إني تقيلة عليكم وأنتِ عارفة إني بكره الإحساس دا.

نظرت لوسيندا ل چون برجاء كي يُساعدها في إقناعها، ليتدخل چون على الفور قائلًا بمزاح يشوبه الود: يا فتاة إن ذهبتي فمَن الذي سيستمر في مضايقتي إذًا؟ نحن لسنا منزعجين من وجودك ص...
أنا مُنزعج.
هتف بها آلبرت ببرود، لتتجه الأعين تجاه تلقائيًا وكأنها تُعاتبه بقسوة! هز كتفيه بلامبالاة قائلًا: لِمَ تنظرون إليّ هكذا؟ أنا فقط أقول الحقيقة.

أتى له صوت مهرائيل الحانق وهي تُخبره ساخطة على وقاحته: هسيبهالك مخدرة ياخويا يكش تتهد وتسكت بقى، قال يعني أنا اللي هموت وأفضل معاك، إلا ما شوفت يوم عِدل من ساعة ما شوفت خِلقتك دي.
ارتشف آلبرت من كأس المياه الذي أمامه، ثم ابتسم بسماجة قائلًا: شكرًا لكِ.

تدخل قاسم في الحوار هاتفًا برزانة: اعملي اللي يريحك يا مهرائيل واتأكدي وقت ما تحتاجي حد هتلاقينا كلنا رجالة في ضهرك، إحنا كلنا هنا إخواتك ومتتكسفيش تطلبي حاجة من حد فينا.
عَدى أنا.
وللمرة الأخرى يهتف بها آلبرت ببرود.

دفع قاسم قدمه من أسفل الطاولة ثم نظر إليه بتحذير قائلًا أثناء نظره ل مهرائيل التي تُطالع آلبرت بغيظ: سيبك منه يا مهرائيل وخليكِ معايا أنا، زي ما قولتلك إحنا كلنا هنا أخواتك، حتى البنات كلهم وقت ما تعوزيهم ابقي كلميهم يجوا ليكِ.
أومأت له مهرائيل بإمتنان قبل أن تُمصمص على شفتيها قائلة بسخطٍ وهي تُطالع آلبرت بطرف عينها: والله أنت راجل زوق مش زي ناس كدا أعرفهم مشافوش ريحة الدم.

عملت إيه يا يحيى في اللي قولتلك عليه؟
هتف بها مختار الذي يجلس على مقعده الوثير بغرفة مكتبه الكبيرة للغاية، ليُجيبه يحيى على الفور متشدقًا بثقة: كل اللي حضرتك طلبته مني يا مختار بيه اتنفذ، صادق دلوقتي بقى في إيديهم وتقدر تقول عليه يا رحمان يا رحيم.
ضرب مختار بأصابعه على المكتب هاتفًا بتفكير: متعرفش مين العيال دي يا يحيى؟

هز يحيى رأسه بجهل قائلًا: دول عيال أجانب بس لسه معرفتش حوارهم ولا نظامهم إيه، هحاول أخليهم يثقوا فيا أكتر وهاجي أقول لحضرتك على طول.
وقف مختار من مكانه ثم استدار له حتى وقف أمامه مُباشرةً، وبعدها ربت على كتفه بقوة وهو يهتف بفخر: جدع يا يحيى عرفت تلعبها وتحبكها صح زي ما أنا عايز.
وضع يحيى يده على صدره متشدقًا بخبث وابتسامة هادئة: تلميذك يا مختار بيه ومتعلم تحت إيدك.

هز مختار رأسه بثقة أثناء إخراجه لحِفنة كبيرة من النقود من جاكيت بذلته، ثم أردف بثقة: ودا العشم برضه، خُد الفلوس دي يا يحيى تقديرًا ليك على تعبك وأمانتك معايا في الشغل.
أخذ يحيى الأموال منه بأعين لامعة، ثم أردف بسعادة بالغة وهو يرى كم النقود الهائلة التي تظهر أمامه: تسلم إيدك يا باشا، وأنا من إيدك دي لإيدك دي في أي وقت أنت عايزه، عن إذن سيادتك.

أشار له مختار سامحًا له بالذهاب، وبالفعل سار يحيى عدة خطوات قبل أن يقف ويهتف بتذكر: آه يا باشا صحيح نسيت أقولك على حاجة مهمة.
انتبهت حواس مختار الذي تسائل بتعجب: حاجة إيه دي؟
اقترب منه يحيى مُجددًا ثم هتف قائلًا: إمبارح عِرفت إن فيه جاسوس ما بينا وبيوصل كل المعلومات الخاصة بينا للجماعة الأجانب، علشان كدا أنا اتحفظت عليه وخلال ساعة بالكتير هخلص من حواره.
قطب مختار جبينه بتحفز قائلًا: ومين دا يا يحيى.

واد اتعين حراسة جديد يا باشا بس طلع مزقوق علينا وأنا قفشته.
احتدت عينيّ مختار بقسوة قبل أن يأمره بشر: الواد دا يتخلص عليه يا يحيى النهاردة قبل بكرا.
أومأ له يحيى خاضعًا: تحت أمرك يا باشا، عن إذنك.

رحل يحيى من أمام مختار بخطوات ثابتة سريعة، ثم ارتدى نظارته الشمسية التي تُخفي مكرًا وخبثًا لم يظهر مُسبقًا! لم يتوقع أحد أن يكون يحيى هو جاسوسًا تابعًا ل مختار للتصنت على الأخبار بأقذر وأبشع الطُرق، وتلك المسكينة يمنى التي وقعت بفخه! ابتسم ساخرًا عندما تذكر إتقانه لدور الأبله أمام الجميع، يظنونه أحمقًا وهو في الحقيقة أفعى سامة استطاعت السيطرة على عقول الجميع دون لفت الأنظار إليه، نظر جانبه لمساعده الشخصي فسأله بجمود قائلًا:.

فين الواد؟
تحدث مُساعده والذي يُدعى حاتم قائلًا بسرعة: في العربية متكتف ومتثبت يا يحيى بيه.
وقف يحيى أمام باب سيارته ثم استدار له آمرًا إياه بقوة: طيب ورايا.
قالها ثم صعد لسيارته وانطلق بها في سرعة هائلة، ومن خلفه انطلقت سيارة الحرس والتي تحتوي على ثلاثة منهم، وذلك المسكين الذي يقبع في صندوق السيارة مُكتفًا الأيدي والأرجل.

بعد نصف ساعة تقريبًا؛ وصلت السيارتان إلى منطقة صحراوية فارغة تمامًا، لا يُسمع بها سوى صوت فحيح الرمال المُتحركة بسبب الهواء، أشار يحيى لرجالة بجلب الرجل، وبالفعل أتوا به بأقذر طريقة من الممكن أن يُعامَل بها أي كائن بشري، أجلسوه على ركبتيه أمام ذلك الذي يقف بشموخ واضعًا كفيه داخل جيب بنطاله بتكبر، والذي أردف ساخرًا: يارب تكون الضيافة عجبتك يا راضي؟

صعد صدر المدعو راضي صعودًا وهبوطًا بخوفٍ شديد وهو يهز رأسه بالنفي، ناهيك عن وجهه وجسده المملوء بالدماء جِراء العنف الذي تعرض له قبل جلبه إلى هُنا، وبالطبع لن يستطيع التحدث بسبب قطعة القماش العفنة التي توضع داخل فاهه لتمنعه من التحدث، تصنع يحيى النسيان وهو يقول بتأسف زائف:
يوه نسيت إنك مش هتعرف تتكلم، بس مش مشكلة بقى تتعوض في، الآخرة.

قال كلمته الأخيرة ببرودٍ شديد وابتسامة مُستفزة تُزين ثغره، قبل أن يُخرج سلاحه من جيب بنطاله الخلفي ويُوجهه تجاه رأسه، وفي ثوانٍ كانت الصحراء الصامتة تُشغَل بأصوات الطلقات العالية، تزامنًا مع سقوط جسد راضي جثةً على وجهه بعد أن سدد له يحيى عدة طلقات سريعة استقرت داخل رأسه مُباشرةً.
نفخ يحيى في فوهة مسدسه بإنتصار عقب قوله الهامس بتلذذ: كلب وراح.

كان الجميع يجلس بسعادة يتبادلون الحديث بينهم بكل مرحٍ وحب، انتهى الجميع من تناول الطعام عدا فور بالطبع الذي ظل يأكل طيلة الجلسة، ضربه ستيفن على ظهره بغيظ قائلًا: كُف عن الطعام أوشكت على الموت إختناقًا به.
طالعه فور بفمٍ مُملتيء والحنق يتشكل على معالمه، فقام بإبتلاع كل ما بفمه ثم رد عليه ناهرًا إياه: يا وقح ألا تعلم شيئًا عن أداب الطعام؟ اللعنةُ عليك وعلى أخلاقك المُنحدرة تلك.

سخر صهيب هاتفًا: ههو برضه اللي أخلاقه مُنحدرة؟ يا جدع أسكت ما بلاش نتكلم على الفرخة اللي أنت سرقتها أول إمبارح من عند الج...
سعل فور بقوة حتى يمنعه من استرسال حديثه، لكن الأوان قد فات عندما هتف قاسم بغضب شديد: سرق فرخة؟
هز فور رأسه مُسرعًا بنفي قائلًا: لا يا صاح أخيك يمزح ليس إلا، أليس كذلك عزيزي صهيب؟
قهقه صهيب عاليًا ثم أومأ له بأنفاس مُنقطعة، لينظر فور تجاه قاسم هاتفًا بإثبات: أرأيت؟ هو يمزح فقط.

رفع قاسم سبابته أمام وجهه ثم أردف بتحذير: قسمًا بالله يا فور لو اللي سمعته دا حصل فعلًا لهطفحلك الأكل دا كله.

هز فور رأسه بضجر، وكاد أن يُكمل طعامه؛ لكن قاطعه صوت الرسالة التي أتت على هاتفه، أمسكه بعدم إهتمام ثم فتحها بملل، لكن تصنم محله عندما قرأ مغذى الرسالة المبعوثة له، ترك الطعام وترك كل شيء حوله ثم هبَّ من مكانه هاتفًا بصوتٍ جامد قبل أن يرحل من أمامهم ويتركهم ينظرون لأثره بتعجب شديد: لقد أتى لي عمل هام، عليّ الذهاب الآن.

كانت فقط تلك الجُملة التي قالها ثم هرول من أمامهم سريعًا، صعد فور للسيارة ثم انطلق بها بسرعة هائلة كادت أن تُصيبه بالكثير والكثير من الحوادث والكوارث الهائلة، وبعد ما يقرُب العشرون دقيقة؛ وصلت السيارة إلى مكان منأي عن السُكان لا يُسمع فيه أي أصواتٍ، اقترب قليلًا من تلك السيارة السوداء وتحديدًا من تلك الفاتنة التي تستند بظهرها على صفيح السيارة القوي.

اقتربت منه لتراه عن قُرب، لتتشكل إبتسامة واسعة على وجهها قبل أن تهتف بخبثٍ ماكر: أوه عزيزي فور. لقد اشتاقت لكَ والدتك كثيرًا.
وعلى بغتةٍ وبحركة غير متوقعة سحب فور سلاحه من جيب بنطاله الخلفي ثم وجَّهه إلى رأسها، وبعدها أردف بحقدٍ نابع من أعماقه المُحترقة بقصاصات الماضي المؤلمة: أكرهُكِ أُمي.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة