رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامس
بعنوان ( يا مراكبي )
دقات خجلى على باب غرفته انتبه لها وهو يختم صلاته لينهض متوجها ليفتح الباب بشكل مفاجئ ينبئ ان ثورة غضبه لم تخب جزوتها ..
انتفضت مع انفراجة الباب بذلك الشكل العنيف لكنها رغم عن ذلك تماسكت هامسة على استحياء:- على فكرة انا جهزت العشا على الطربيزة بره لو انت جعان ..
وقف قبالتها للحظات ساهما و أخيرا أومأ برأسه ان نعم .. فهو كذلك بالفعل و كيف لا فهو بالفعل يتضور جوعا فهو لم يتناول إفطاره و جاء الغذاء فكان طعمه لا يُوصف..
تنحت جانبا لتدعه يمر حيث وضعت الاطباق ليجلس وتلحق به و هي تأتي بأخر الاطباق من المطبخ لتضعه في منتصف المائدة ..
جلس ينظر بتعجب للطعام .. فهو نفسه الذى كان موضوعا على طاولة الغذاء ولم يستطع احد منهما تناوله لسوء طعمه ..
تنهد في حسرة و بدأ في تناول الطعام بلا شهية .. لكن ما ان وضع أولى اللقيمات بفمه حتى اختلف الامر بمجمله .. نظر اليها في تعجب هاتفا:- انتِ عملتي ايه ف الأكل ده عشان يبقى حلو كده ..!؟..
ابتسمت في خجل هامسة:- شوية تعديلات .. خبرة ستات مش اكتر..
بدأ يأكل في شهية واضحة فالجوع قد بلغ منه مبلغا حد المجاعة .. ابتسمت هي عندما طالعت تبدل ملامحه بهذا الشكل السريع .. من ملامح غاضبة ثائرة .. لملامح طفل وديع وجد ضالته في طعام يشتهيه منذ زمن .. او قطعة حلوى ادخر ثمنها ليبتاعها و يتذوقها الان في شوق و خاصة و هو يهمهم الان بإستمتاع مع كل قضمة..
تناولت طعامها محاولة تجنب النظر اليه من جديد و هي تتذكر ذاك الشاب الذى وطأ ارض نجعهم البعيدة ليصبح حديث بنات النجع بأكمله .. لم يكن الامر يتعلق بوسامته الرجولية بل الامر كان يتعدى ذلك .. فلم يكن هو اول ولا اخر المهندسين الذين عينوا عندهم .. لكنه كان الأطهر يدا و الأنقى سريرة .. و الأرفع اخلاقا ..
انهى طعامه ليلقى بظهره على ظهر مقعده و هو يتنهد في راحة شاعرا بالامتلاء .. ابتسمت رغما عنها و هي تراه على تلك الحالة من الاسترخاء و التي حركت رغما عنها مشاعر عجيبة ليضطرب داخلها فجأة حتى انها نهضت فجأة و بلا وعى هربا من تلك الأحاسيس حاملة الاطباق في تعجل فكادت تسقطها ليتلقفهم عنها في سرعة ..
نظر اليها وهو يهم بالنهوض حاملا الاطباق عنها للمطبخ هاتفا بمرح:- انت طبختى و انا عليا الشاي ..
أمسكت عنه الاطباق لتضعهم جانبا هامسة في اضطراب و كأنما تدفع نفسها دفعا للتحدث قبل ان تخونها شجاعتها:- ممكن تجعد.. عايزة أجولك كلمتين ..
جلس في هدوء و ترقب منصتا لها .. تنحنحت هي و هي تدفع الكلام دفعا لحلقها و تفرك كفيها معا باضطراب لاحظه هو على الفور و أشفق عليها:- انا .. انا عايزة اجولك انا آسفة .. انا فكرت ف الكلام اللي جولتهولى .. والصراحة لجيت ان عندك حج فيه.. انا كنت انانية و مش واعية الا لحالى و بس .. احنا ف نفس المركب و يا نغرج سوا .. يا نجدر نعدى الموضوع سوا ذي ما جلت .. و انا اخترت اننا ننچح و نعديه...
رفعت رأسها أخيرا في خجل لتطالعها ابتسامته التي أضاءت وجهه الأسمر الوسيم القسمات فيتحرك شيء ما هناك بجوار معدتها مضطرباً فتشيح بوجهها عنه وهي اكثر اضطراباً ..
وقف هو في اعتدال و مد كفه هاتفا بلهجة مرحة:- اتفقنا ..
نهضت من مكانها في تردد تنظر لكفه الممدودة .. لتمد كفها اليها مصافحة .. تصافحا و ما ان جذب كفه من كفها حتى تذكر انه مازال ملوثا ببقايا الطعام التى سقطت على كفه من تلك الاطباق التي لحقها قبل سقوطها أرضا ..
نظر اليها مبتسما و هو يرفع كفه ليشمها و هتف مازحا:- اتفاق بصلصة البامية محصلش ..
انفجرت ضاحكة رغما عنها لمزاحه ليتطلع اليها في تعجب و قد رأى في تلك اللحظة ناهد أخرى تماما .. ناهد التي كان يسمع عن حسنها و دلالها من حكايا الفلاحين و همساتهم وهو يباشر ري أراضيهم و كأنها احدى الأميرات التي كانت تعيش في ذاك البيت الكبير على تلك التلة البعيدة .. و لم يكن ليجرؤ احدهم على التطلع حتى لنافذة حجرتها .. او حتى يدنو من سُوَر حديقتها .. فهو مفقود .. مفقود كما وصفه نزار في احدى قصائده..
تنبه لتطلعه فيها بهذا الشكل المطول و تنبه اكثر لتوترها و هي تقف هكذا في اضطراب لا تعرف ما عليها فعله .. حتى كان هو الأسبق ليهتف مندفعا للداخل:- تصبحي على خير ..
تعجبت .. فها هو اليوم الثالث يمر دون ان تأتيها المريضات كالعادة .. و يمر النهار دون ان يلوح بالافق ظل إحداهن يقترب من المندرة .. او حتى تطرق واحدة من النساء اللائى يأتين مستترات رغبة في عدم معرفة امر ترددهن عليها باب غرفة الكشف طلبا لاستشارة ما ..
لم تكتم تعجبها بل افضت به في استغراب واضح للخالة وسيلة و كلتاهما تغدو و تروح من و الى المطبخ حاملات أطباق الغذاء الى الطاولة المعدة لتناوله حالما يصل عفيف ..
لتهتف دلال:- هي الستات راحت فين يا خالة وسيلة ..!؟.. دوول مكنوش بيبطلوا روح و جي على أوضة الكشف .. !؟..
هزت الخالة وسيلة رأسها نافية معرفتها بالسبب هاتفة:- و الله علمي علمك يا بتي .. هيكون راحوا فين يعني ..!؟.. يمكن چاهم الشفا على يدك ..
تسألت دلال:- طب و الستات الحوامل اللي بتابعهم .. و اللى مواعيد زيارتهم ليا كانت المفروض تبقى الأيام دي راحوا فين هما كمان..!؟..
ثم استطردت دلال مقترحة:- انا بفكر اروح لهم بيوتهم بنفسي .. ايه رأيك يا خالة ..!؟ .. أروح ..
هنا هتف ذاك الصوت الذى يزلزل كيانها كليا و يخلق جو من الرهبة و الرغبة يتنازعان بلا هوادة بأعماق روحها:- لا هتروحي .. و لا هم هاياچوا ..
استدارت بكليتها لمواجهته محاولة وأد شعورها المتنامي داخلها بالاضطراب لمرأه هاتفة و هي تحاول السيطرة على نبرات صوتها المرتعشة:- معلش يا عفيف بيه ..تقصد ايه بلا انا هروح .. و لا هما هيبجوا ..!؟..
هم بأن يوضح لها مقصده و هو ينثر رزار المطر من على عباءته الصوفية السوداء .. الا انها استبقت الاحداث كعادتها مبتسمة في ثقة و هي تتطلع للجو بالخارج:- اه .. حضرتك اكيد قصدك علشان المطر و الجو صعب شوية .. لا انا هقدر اروح لهم ولا اكيد واحدة قدرت تخرج من بيتها عشان تيجى للكشف في الجو ده .. مش كده..!؟..
خلع عباءته ووضعها جانبا و اتجه لطاولة الغذاء يتسيدها كالعادة و يهم بتناول الطعام في لامبالاة هاتفا:- لااه .. مش كِده يا داكتورة ..
جلست على مقعدها المعتاد على الطاولة دون ان تمس الطعام ناظرة اليه مستفهمة ليتجاهلها تماما مستمتعا بطعامه و كأنها لا تجلس قبالته تتحرق لمعرفة السبب الذي يدعي العلم به بكل لهفة .. اللعنة عليه .. هتفت بنفسها ساخطة وودت لو تقلب المائدة بِما عليها فوق رأسه المعممة لعلها تشفي بعض من غليلها وتطفئ نار الغضب المستعرة الان بداخلها كالجحيم ..
باغتها متسائلا ليقلب هو طاولة افكارها رأسا على عقب:- مجلتليش يا داكتورة .. هي ايه حكاية الخيار والطماطم اللي دايرين يجولوها ف النچع دي ..!؟.
امتقع لونها و اضطربت بشكل واضح و حارت أين توجه أنظارها بعيدا عن نظراته المسيطرة التي تكبل نظراتها بقيود حديدية لا تستطيع منها فكاكاً ..
همست عندما استطاعت إيجاد صوتها:- ابدا .. دي حكاية كنت بحاول اقرب بيها فكرة ان الراجل هو المسؤول عن تحديد نوع الجنين ..طبعا بعد إرادة ربنا سبحانه و تعالى..
هتف أمراً:- عايز اسمعها الحكاية دي ..
هتفت مراوغة:- ما انت اكيد سمعتها من اهل النجع .. مش بتقول دايرين يحكوها !؟..
اكد فى اصرار:- عايز اسمعها منيكِ يا داكتورة !؟..
تلعثمت حروفها و هي تشرح له ببساطة ما أخبرت به النساء .. ليصمت للحظات ثم ينفجر ضاحكا بشكل مفاجئ أفزعها و جعلها تجفل منتفضة موضعها ..
و أخيرا هدأت نوبة ضحكه ليهتف:- فكرة حلوة يا داكتورة .. لكن ملامح وجهه انقلبت بشكل مفاجئ هاتفا في لهجة ساخرة:-بس تفتكري كان دِه وجتها يا داكتورة جبل ما تكسبى الحريم لصفك !؟.. اكيد الجضية خسرانة ..
هتفت مستفسرة:- مش فاهمة حضرتك تقصد ايه ..!؟.. انا كنت بوعيهم بحقايق علمية مش كلام من تأليفي ..
هتف بلهجة قاسية:- الحجايج اللى بتتكلمى عنيها دِى خلت الرچالة تمنع حريمها انها تاجيكي .. كل واحد جال لمرته لما سمعها بتكرر حجايجك العلمية .. متروحيش للداكتورة الخرفانة دِي تاني ..
هتفت في اعتراض مصعوقة:- خرفانة ..!؟
أكد ساخرا:- دي الرچالة اللي بتجول ..
ساد الصمت للحظات شعر انه اثقل عليها بنقده فتنهد وتحولت نبرته للهدوء هاتفا:- انا عارف يا داكتورة انك بتحاولي تساعدي .. كتر خيرك .. بس هنا .. ف جلب الصعيد و ف نچع بعيد بحضن الچبل .. مش من الساهل ان الناس تصدج اى كلام يتجال لهم و لو كانوا شايفين انه حجيجى ذي الشمس ما هي فوجهم حارجة روسهم و بالخصوص لو بيخالف عادة اتربوا عليها وورثوها من چدود الچدود .. و كمان بتمس كرامتهم كرچالة .. اهى دي بجى بالذات .. حطي تحتيها مليون خط…
نظرت له و كأنها تراه للمرة الأولى وكأنها تستوعب ان هذا الرجل الواقف هناك يمتلك عقلية تختلف تماما عن تلك العقلية المتحجرة التي ظنت طويلا انه يمتلكها .. من يتكلم الان رجل واع على قدر عال من المعرفة و قادر تماما على فهم طبيعة أهله و عشيرته التي يتزعمها ..
أخرجت نفسها من بين براثن افكارها التي كانت تتمحور حوله و كادت تلتهم جل انتباهها لتهتف معترضة:- يعني معنى كده ايه..!؟.. نسيبهم بقى فالجهل ده تسيطر عليهم الموروثات القديمة!؟... و لا نقدم لهم الصح و اللي بيقوله العلم حتى و لو كان صادم ف البداية ..!؟..
أكد بهدوء واثق:- طبعا منسبش الچهل يسيطر .. لكن نختار الطريجة الصح اللي تناسب عجولهم عشان توصل لهم المعلومة وتترسخ عنديهم بالتدريچ لحد ما تبجى من ثوابتهم ..
همت بالتساؤل من جديد .. ليقاطعها دخول مناع المفاجئ و ثيابه تقطر ماء من جراء المطر بالخارج هاتفا في لهفة و اعتذار:- اني أسف يا عفيف بيه انى دخلت هاچم كِده .. بس مرتى باينها بتولد و محتاچين الداكتورة ضروري ..
هتف عفيف متعاطفا:- و لا يهمك يا مناع .. ارچع انت لمرتك و انا هجيب الداكتورة و احصلك ..
هتف مناع متعجبا:- حضرتك بذات نفسك هاتاچى .. !..
هتف عفيف:- وااه .. اومال اسيب الداكتورة تاجى لحالها و ف الچو الواعر دِه .. !؟.. روح ياللاه لمرتك و احنا وراك على بال ما تچهز الداكتورة حالها و نحصلوك...
هتف مناع ممتناً و هو يندفع للخارج من جديد:- ربنا يبارك لك يا عفيف بيه ..
لم تكن دلال تحتاج لأى توجيه من اى نوع فما ان سمعت ان سعدية على وشك الوضع حتى نهضت متأهبة و ما ان انتهى مناع من حديثه مع عفيف حتى اندفعت هي للمطبخ الكبير عابرة خلاله للمندرة و منها اعتلت الدرج لتجهز امرها فها هي الان في اختبار حقيقى امام الجميع لتثبت لهم ان العلم سينتصر فى النهاية ..
لازال المطر يهطل بغزارة و هي تندفع لخارج المندرة ليطالعها عفيف هاتفا:- چاهزة يا داكتورة .!؟ خدتي كل اللى ممكن تحتاچيه ..!؟..
اكدت بايماءة من رأسها و هي تجذب سترتها الثقيلة على جسدها عندما ضربها الهواء البارد و هي تغادر للخارج من الباب الخلفي لتسير بجانبه .. توقعت ان بيت مناع لا يبعد كثرا عن تلك التلة المرتفعة المقام عليها البيت الكبير موازيا للجبل الغربي لكنها كانت مخطئة عندما أشار لها عفيف لتركب تلك الكارتة التي تجرها الأحصنة و التي كانت مظلتها مشرعة كقبة يحتميان تحتها و تقيهما المطر ..
كيف يمكنها التصرف الان .. هي لم تأتي الى هنا الا بأحذيتها المعتادة والتي تتميز بكعوبها العالية نوعا ما بجانب ان مسند القدم لتلك العربة عال عن المعتاد ..
همست ساخرة فى نفسها:-لازم يكون عالى .. عشان يناسب طول صاحب العربية .. لكن الاقزام اللي زيي اخرهم يتعلقوا ورا الكارتة ..
شعر هو بحيرتها و ما كان الوقت متاح للمزيد من التساؤل و الحديث لذا صعد هو من الجانب الاخر و ووقف في منتصف العربة و انحني فجأة مادا كفه لها هامسا:- هاتي يدك يا داكتورة ..
هتفت في ذعر وهى تضم كفها لصدرها:- ليه ..!؟..
كاد ينفجر ضاحكا لولا بعض من ثبات جعله يؤد ضحكاته هاتفا:- عشان تطلعي الكارتة .. تفتكرى ليه يعني ..!؟.. لو تعرفي تطلعي لحالك ماااشي .. بس هِمى عشان اتأخرنا على مناع ..
ترددت في مد كفها و لكن أخيرا حزمت امرها و دفعت بكفها لأحضان كفه الممدودة امام وجهها وكأنه يطلب منها قراءة طالعها ..
لحظة .. كما هو الحال بينهما دوما.. لحظة ووجدت نفسها مدفوعة بقوة الى داخل العربة تجاوره كتفا بكتف في محيط العربة الضيق .. هتف هو لسائق الكارتة بالتحرك .. كان هذا كثيرا على أعصابها و قوة احتمالها مما دفعها لتهتف متسائلة بعد عدة دقائق:- لسه فاضل كتير عشان نوصل لبيت مناع ..!؟..
هز رأسه نافيا و هو يقول:- لاااه خلاص .. ادينا وصلنا للمعدية ..
هتفت في صدمة:- معدية ..!؟.. معدية ايه ..!؟..
لم يجبها و لكنه أوقف العربة ليأمر سائقها الا يغادر موقعه مهما طال غيابهما .. و استدار ليساعدها في النزول لكنها كانت الأسرع لتعتمد على نفسها و تنزل بمفردها هذه المرة و حذاءها يعاندها بكعبه العالي ..
كان قد وصل عندها يمد كفه لمساعدتها عندما وجدها بالفعل تخرج من العربة بلا حاجة لمساعدته ابتسم لعنادها و بالفعل انزلت قدمها الأولى لتلامس الأرض و كادت تتبعها بالثانية في نجاح الا ان ذاك الكعب الاحمق علق بمسند القدم لتتعرقل و تندفع للأمام و هي تمني نفسها بسقوط مدو في وسط كل ذاك الوحل الذى ملأ الأرض بفعل الأمطار ..
لكن كان هو الأسبق ليلحق بها .. و تسقط أيضا لكن هذه المرة بين احضانه .. يحيطها بذراعيه ..
لماذا لا تسير أمورها بشكل جيد و سليم ..!؟.. لماذا في وجوده تحدث كل كوارثها التي تبدو و كأنها تقيم معه معاهدة ظهور في حضرته !؟.. اللعنة .. همست وهى تعتدل بعد ان خلصت قدمها المتعلقة .. و كان دوره ليهمس بذاك الصوت الذى أصبحت تميزه ظاهرا جليا في بعض الأحيان يحمل نبرات متحشرجة مرتبكة على غير عادته مع اهتزاز واضح بتفاحة ادم العالقة كمصيرها بمنتصف حلقه:- اتفضلي يا داكتورة ..
أشار للمعدية التي ما كانت سوى قارب خشبي صغير سيحملهما للضفة الأخرى من ذاك المجرى المائى الصغير الاتساع ..
كان التحرك بحذاءها كارثي فقد كان كعبه يغوص في الوحل متى تحركت و أخيرا تنفست الصعداء عندما وصلت القارب .. مر عفيف لداخل القارب و مد كفه التي لم تستطع ان ترفضها في حالة كهذه.. كانت المرة الثانية في الدقائق الماضية التي تتلاقى فيها أكفهما .. وكادت تقسم ان لو للاكف حديث فإنها قد سمعته بين كفيهما الان ..كفه يهمس لكفها بعد لقاءه الأول .. مرحبا مرة أخرى .. وداعا لعلنا نلتقى قريبا من جديد ..
صعدا للمركب .. ليبدأ صاحبها المركبي في دفعها لتخوض الماء قليلا و أخيرا يدفع بنفسه داخلها .. ليقف و معه عصاه التي تزيد طولا عن عمق المجرى المائى فيدفع بها لأعماقه حتى تدفع المركب للأمام.. كان يفعل ذلك بسلاسة و يسر أذهلها وهي تراقبه في تعجب و لا تدرك ان هناك عيون تتفحصها و هي تبتسم في هدوء لتلك النظرات المغلفة بالدهشة التي تطل من عينيها السمراء .. و بدأ ذاك المركبي في الغناء بصوت شجى اخذها لبعد اخر تطلعت حولها في عدم تصديق شاعرة انها تدخل عالم مواز ما كانت لتدركه ولا بعين خيالها .. مركب و معدية و نهر وجبل شامخ و امطار .. و عفيف ..
وقعت عيناها عليه في تلك اللحظة لترتعش رغما عنها و تجذب الي جسدها سترتها الصوفية .. فلقد وجدته لا يحيد بنظراته عنها و كأنه شارد فيها و لم يدرك انها انتبهت لذلك .. او ادرك ولم يبال كعادته..
حادت بناظريها عنه تجاه المركبي وبدأت في الاستماع لغنائه الذى حاولت ان تستوضح معنى كلماته:-
فَرَطت جلعِي ما چانيش ريح
وعاودت ع البَر ناوي
ياما ناس زيِّنا مچاريح
لكين صابرة ع البلاوي
إوعى تجول للنـدل يا عـم
وان كان ع السرچ راكب
ولا حد خالي من الهم
حتى جلوع المـراكب..
وصولوا أخيرا للبر الاخر ليتبادل اكفهما الحديث اللحظي مرة أخرى و هو يساعدها على النزول من المركب و منه الى بيت مناع الذي لم يبعد عن شاطئ النهر كثيرا لكن السير بحذاءها ذاك كان أشبه بالخوض في بقعة زيت كبيرة و انت ترتدى حذاءً زلقاً..
ألتقطت أنفاسها أخيرا و تنفست الصعداء عندما وصلت لدار مناع المكونة من طابقين ..
ما ان رأهما مناع قادمين حتى هلل في لهفة مندفعا إليهما يحمل عن عفيف حقيبة دلال و التي اصر على حملها عنها و كم شكرت له ذلك وسط تلك الأجواء الموحلة التي كانت تسير فيها و كأنها تضع خطواتها على قشور من البيض مخافة كسرها ..
اندفع مناع لداخل الدار مصطحبا معه دلال يرشدها لغرفة زوجه التي كانت صرخاتها المتوجعة كفيلة بمعرفة مكانها دون الحاجة لإرشاد وعاد سريعا لعفيف الذى وقف ينتظر عودته المضطربة هاتفا:- متأخذنيش يا عفيف بيه .. اتفضل .. و الله دِه اني حصل لي البركة بمچية چنابك ..
دخل عفيف احدى الغرف الجانبية والتي كانت معدة مسبقا لاستقبال الضيوف ..
جلس في هدوء هاتفا في مناع:- روح شوف الأحوال و اعتبر اني مش موچود و ربنا يجومهالك بالسلامة ..
هتف مناع معترضا:- كيف يعنى!؟.. يبجى عفيف بيه النعمانى بداري و انب اعمل حالي كنه مش موچود .. و الله الليلة كنها ليلة عيد بتشريفك يا بيه ..
ابتسم عفيف لمحبة مناع الصادقة و التي تقطر من كلماته ليهتف به امرا:- طب روح شوفهم يكونوا عاوزين حاچة متجعدليش كِده .. و انى لو عوزت حاچة هنادم عليك ..
نفذ مناع الامر كما اعتاد دوما و اندفع خارج الحجرة متوجها لغرفة زوجه و التي علت صرخاتها حتى شقت عنان السماء ليقف متضرعا و هو يسأل دلال التي خرجت من الحجرة في تلك اللحظة باحثة عن احدى معداتها داخل الحقيبة التي تركها مناع بالخارج ليهتف بها الاخير:- مش خير برضك يا داكتورة و لا ايه ..!؟.. طمنينى ربنا يريح جلبك .. دي شكلها تعبان جووى..
اكدت دلال في لهجة حاولت ان تداري بها قلقها من صعوبة حالة سعدية:- اهدى يا مناع .. كله بأمر ربك .. قادر يقومها بالسلامة باذنه..
هتف مناع في جزع:- يبجى حالتها واعرة كيف ما انى واعيلها ..
لم ينتظر منها جوابا بل ترك المكان كله وولى مندفعا للأسفل حيث غرفة عفيف الذى زم ما بين حاجبيه ما ان طالعه وجه مناع الغائم فهتف مستفسرًا:- خير يا واد .. ايه في ..!؟..
تحشرج صوت مناع:- الحالة صعبة يا عفيف بيه .. وعيت لكلام الداكتورة .. ميطمنش .. يا رب ألطف بيا و بيها يا رب ..
نهض عفيف مشرفا عليه بقامته و مناع جالسا ارضا يضع رأسه بين كفيه في استسلام و ربت على كتفه في مؤازرة هاتفا:- واااه ..ما تچمد امال .. هتجوم بالسلامة .. بس جول يا رب ..
هتف مناع من أعماقه متضرعا:- ياارب .. يااارب يا عفيف بيه .. دى لو چرالها حاچة اروح وراها ..
تطلع اليه عفيف .. كانت كلمات مناع تحمل معان ما كان عفيف يدركها و لم يكن يعتقد انها موجودة من الأساس .. دوما قلبه ملكه هو لا سبيل ليهبه لاى من كانت .. و كان يتعجب من أقوال البعض عن العشق و الهوى .. و كم قرأ من روايات تصف تلك الحالة المبهمة التي ما وعاها قلبه يوما .. لكن لما يستشعر الان و في تلك اللحظة ان كلمات مناع ما عادت غريبة على إدراكه و ان قلبه بدأ يتفهمها .. و انه بدأ يفك شفراتها الغامضة ..
أصوات زغاريد منطلقة أخرجته من شروده و جعلت مناع ينتفض مندفعا باتجاهها غير مصدق ما تنبئ به .. وصل لباب الغرفة التي تحوي زوجته يتطلع بأعين زائغة منتظرا البشارة لتعاجله امه هاتفة في سعادة تكاد تقفز فرحا:- ألف مبروك يا ولدي .. واد ذي البدر الله اكبر ..
واعادت إطلاق زغاريدها المدوية من جديد و قد وضعت الوليد بين ذراعىّ والده الذى اغرورقت عيناه بالدموع و هو يضمه لأحضانه .. و في غمرة سعادته هتف في جزع:- و سعدية ياما .. زينة .. !؟..
هتفت امه تطمئنه:- زينة يا ولدي وذي الفل .. الداكتورة ماشاء الله عليها .. لولاها ما كنّا عارفين ايه اللى كان هيُحصل ..
كانت دلال لازالت بالداخل ترعى سعدية و لم تنته بعد .. مما دفع مناع لينزل الى عفيف حاملا ولده في فرحة غامرة ليضعه بين ذراعيه .. تناوله عفيف في حذّر ناظرا اليه في سعادة .. لكم تمنى ان يحمل أطفال ناهد و من بعدهم اطفاله .. لكم يعشق الصغار وهم بتلك البراءة والنقاء ..
انحنى في وجل يقبل جبين الطفل في حنو و همس لمناع حتى لا يوقظه:- نويت تسميه ايه باذن الله!؟..
اندفع مناع هاتفا في حماسة:- هسميه عفيف ... بعد إذن جنابك طبعا ..
قهقه عفيف في سعادة و هو يعاود النظر للطفل بين ذراعيه هاتفا في فخر وهو يخرج مبلغا ماليا كبيرا من جيب جلبابه ليضعه بداخل غطاء الطفل وهو يعيد الوليد بين يدىّ والده من جديد:- مبروك ما چالك يا مناع .. يچعله الولد الصالح يا بوعفيف ..
انتشى مناع من اللقب الجديد و رغم ذلك هتف معترضا:- ده كَتير جووى يا عفيف بيه دِه كفاية مچيتك.. ربنا يخليك لينا و يبارك لنا ف عمرك ..
هتف عفيف في هدوء و هو يربت على كتف مناع:- لا كَتير ولا حاچة .. و بعدين هو عشانك .. دِه عشان عفيف الصغير ..
كانت تقف على عتبة الباب منذ لحظات .. أنهت مهمتها بالأعلى و اطمأنت ان حالة سعدية مستقرة و هبطت الدرج لتستعد للرحيل .. ليطالعها ذاك المشهد الذى غزا قلبها بشكل عجيب .. مظهره الغير معتاد و هو يحمل طفل مناع جعل ضربات قلبها تتضاعف بسرعة صاروخية و ملامح وجهه تلك التي كانت تحمل كم غير طبيعى من الحنو والرأفة جعلت روحها تئن مترنحة تكاد تسقط صريعة لتلك الأحاسيس التي اثارتها تلك الملامح..
كم وجه يملك ذاك الرجل ..!؟.. يكاد يدفعها للجنون بحق و هي ترى أوجه عديدة كلها اغرب و اكثر تناقضا من ان تجتمع في شخص واحد .. رجل واحد .. اسمه عفيف النعمانى ..
لم تعد قادرة على البقاء اكثر مكانها وترك الحبل على غاربه لأفكارها و مشاعرها الفوضوية اللامسماه تجاه ذاك الرجل لذا اندفعت داخل الغرفة ترسم ابتسامة بلهاء على شفتيها هاتفة بصوت ليس لها:- مبروك يا مناع .. و حمدالله على سلامة سعدية .. يتربي في عزك ..
هتف مناع في امتنان:- البركة فيكِ يا داكتورة .. و الله ما عارف اجول ايه ..!؟.. و لا اوفيكِ حجك كيف!؟..
اتسعت ابتسامتها و هي تكاد لا تقف على قدميها من شدة الإرهاق:- متقلش حاجة يا مناع .. انا معملتش حاجة بجد.. ده فضل ربك ..
واتجهت برأسها لتنظر للطفل النائم بوداعة بين ذراعىّ ابيه لتمد كفيها تحمله في شوق .. و تساءلت في جوف أعماقها هل سيمن عليها الله يوما لتحمل اطفالها كما تحمل أطفال الغير بتلك المحبة ..
استأذن مناع في عجالة و خرج من الغرفة مندفعا ليتركها تتفقد الطفل في حنو بالغ و قد نسيت تماما انه يقف يتابع بنظراته المتفحصة كيف تقف مأخوذة كليا بالعفيف الصغير و تأوّهاته المحببة .. و التي دفعت الابتسامة لشفتيها و دموع الفرحة لمآقيها ..
همسه ايقظها من سبات أحلامها الوردية و هو يقترب منها قائلا:- شكلك تعبتي يا داكتورة .. مش نرچعوا بجى ..!؟.. و لا لسه في حاچة جدامك هنا ..!؟..
ما ان همت باجابته حتى انتفضت في ذعر تلتصق به و هي تضم عفيف الصغير بينهما ..
صوت الطلقات النارية الحية التي كان يطلقها مناع بالخارج فرحة بميلاد طفله جعلتها تنتفض ولم يكن بمقدورها ان تأت بأي رد فعل ممكن و خاصة و الطفل بين ذراعيها ..فانكمشت على نفسها و هي تغلق عيونها بقوة ..
كان من العجيب ان تشعر فجأة ان صدى الطلقات قد خفت و بدأت في الاسترخاء رويدا .. رويدا .. و فتحت عيونها تدريجيا لتصطدم بعينيه المتطلعة اليها و كفيه اللتان أحاطتا بجانبي وجهها ضاغطة قليلا على اذنيها فوق حجابها بشكل لم تستشعره لضغطها على أسنانها جزعا.. فاصلة إياها عن عالم الأصوات الخارجية ..
تطلعت الى عمق عيناه التي لا تستطيع ان تحيد بنظراتها بعيدا عنهما .. فضولها يقتلها لتفسر مغزى تلك النظرات التي ما عادت قادرة على تحمل ألغازهما اكثر من هذا .. لكن فجأة انقطع الوصل كما بدأ عندما دخل مناع هاتفا في سعادة فاقت الحد و هو يتناول ولده من بين ذراعيها ناظرا إليهما في امتنان:- عجبال ما نشيل عيالكم وتفرحوا بيهم ..
لم تعد تستطيع ان تنتظر لحظة واحدة امام سيل النظرات التي غمرها من تلك العيون الفحمية و خاصة بعد كلمات مناع الأخيرة ..
اندفعت في عجالة خارج الدار ليندفع عفيف لاحقا بها .. و هو يجذب الحقيبة التي تناولتها في طريق خروجها ليحملها عنها ..
وقفت لترتدى حذاءها الموحل و الذى خلعته تأدبا على عتبات الدار لتتوقف قبل ان تدس قدمها به لهتافه و هو ينحنى جاذبا الحذاء ليكسر كعبه في سهولة و كأنه ينتزع قشة عالقة بثيابه ..
وضع الحذاء أرضا بعد ان انهى مهمته لينظر اليها مؤكدا:- كِده هيريحك ف المشى ف الوحل دِه على طول الطريج للمعدية ..
دست قدميها في الحذاء بضيق و هي لا تصدق انه فعل ذلك بحذاءها الغالي الجديد و الذى اشترته مضحية بمرتب شهر كامل .. اللعنة عليه .. و على الأمطار و الوحل ..و على سيطرته الخانقة ..
استطاعت الوصول للمعدية و دخولها بسلام دون الحاجة لمعاونته .. و الحق يقال .. كان لديه كل الحق في خلع كعبىّ الحذاء و الذي اصبح المشى به اسهل كثيرا و ايسر مما مضى ..
عاودت الأمطار الهطول من جديد بعد ان توقفت لفترة .. لتشعر بالبرد و الماء يتخلل عظامها .. و تنبهت أخيرا انها قد نسيت سترتها الثقيلة التي خلعتها ما ان دخلت لسعدية الحجرة و أصبحت بحاجة للحركة بدون قيدها المحكم على جسدها ..
تنبه عفيف لارتجافاتها ليهتف حانقا:- فين الچاكت بتاعك ..!؟..
اكدت في خجل كطفلة يؤنبها ابوها:- قلعته في بيت مناع و نسيته..
زمجر في غضب ليتحرك بحذر داخل المعدية التي كانت تتمايل بعنف في تلك اللحظة حتى وصل اليها ليلقي عليها عباءته الصوفية و يعود ليجلس موضعه من جديد حتى يستقيم اتزان المركب ..
أغمضت عيناها و هي تشعر ان دفء عباءته وحده كان قادرًا على حمايتها بهذا الشكل الرائع ..
أحاسيس عجيبة تسربت لروحها و دفء العباءة المخلوط بعطره يدغدغ مشاعر مستترة ما خبرتها يوما و ما كانت على علم بوجودها من الأساس ..
و بدأ المركبي في الشدو من جديد:-
خلخال خطر ع الجدم ..
كل المحاسن فيه
والصايغ اسمه حسن..
صانع جميع مافيه
دايما على الحمل صبار
الـلـي أصـوله زكية
ويخشى من اللوم والعار
ومـن انكشاف الطوية..
تنهدت في راحة و تورد خداها بلون الزهر عندما ادركت انها الان تشعر و كانما هي بالفعل قابعة بين ذراعيه .. قريبة من قلبه .. تطلع على مكامن نبضه و تحاول الوصول لأعماق روحه التي تحيرها ..
انتفضت مستفيقة من رحلة المشاعر تلك بفعل دفء عباءته على ندائه باسمها ربما للمرة الثالثة ..
ابتسم في ثقة كعادته ابتسامة غيرت خريطة العالم في لحظات حتى انها ما عادت تدرك أين يمناها من يسراها.. و مد كفه ليخرجها من المركب فقد وصلا بالفعل حيث تركا الكارتة .. مدت كفها وهي تلتحف العباءة الثمينة و تضمها اليها وعاد حديث الأكف من جديد مرحبا و مودعاً في نفس ذات اللحظة ..
ركبا العربة التي ايقظ عفيف سائقها مناديا بإسمه لينتفض منتبها بكامل وعيه ليعودا لبيت النعمانى .. و على اعتاب المندرة حيث اصر على توصيلها دفعت بالعباءة الغالية مرغمة عن كتفيها و لم تعبء لاعتراضه بدورها و هي تضعها بين كفيه شاكرة إياه و تهرول في الدخول و الهرب منه فقدت اكتفت اليوم من محيا عفيف النعمانى الذي يؤرقها في صحوها و منامها ..
عاد لداخل البيت لتعاجله الخالة وسيلة:- حمدالله بالسلامة يا ولدي .. هااا .. مرت مناع چامت بالسلامة ..!؟..
أكد عفيف و هو يتوجه لاعلى الدرج:- اه .. الحمد لله .. بفضل الداكتورة .. چامت بالسلامة و ربنا رزج بعفيف الصغير ..
هتفت الخالة وسيلة:- الله اكبر .. الله اكبر .. عجبال ما يا رب يمد ف عمرى و اشيل عوضك و افرح بشوفته جادر يا كريم ..
ابتسم عفيف و هو يختفي باعلى الدرج هاتفا:- كله بأمره يا خالة .. كله بمشيئته ..
و تذكر فجأة امرا هام فعاد لاعلى الدرج منحنيا هاتفا باسمها:- خالة وسيلة ..!؟..
ظهرت من جديد ملبية في سرعة:- آمر يا عفيف بيه ..
أكد عليها هاتفا:- روحي للداكتورة دلال و خليكِ معاها و حطيلها اكل دى ملحجتش تتغدى و احنا اها داخلين ع المغرب ومش هوصيكِ عليها .. انتِ عارفة ..
هتفت في محبة:- لااه توصيني برضك .. دي ف عيني من چوه .. انا رايحة لها اهااا .. انت معيزش حاچة جبل ما اروح اعملهالك ..
أكد و هو يختفى بأعلى الدرج من جديد:- لااه يا خالة .. تسلمي ..
اندفعت الخالة وسيلة منفذة ما امرها به .. ليدخل هو لغرفته ملقيا جسده المرهق على كرسيه المفضل ليتنهد في راحة .. لحظات و شعر باسترخاء جسده طلبا للراحة فاتجه للحمام يدفع عن نفسه ذاك البرد الذى تخلل جسده من تلك الرحلة الطويلة لبيت مناع ذهابا و إيابا تحت المطر و كان بالفعل حماما من الماء الساخن كافيا ليشعر ان الدماء قد عادت تجرى في عروقه من جديد ليعود للغرفة مرتديا جِلْبابا نظيفا و ما ان هم بالتوجه لفراشه ليتمدد عليه قليلا قبل ان يحين موعد العشاء حتى وقعت عيناه على عباءته التي دثرتها و أحاطت جسدها الذى تراقص امام عيناه يوما كزهرة تمايلت على أغصانها وبتلاتها كانت تلك التنورة الواسعة التي رفرفت حولها في تمايل مُسكرلخطواتها المنتشية ..
اقترب في وجل لموضع العباءة على الكرسي حيث ألقاها عندما دخل الغرفة .. رفعها الى وجهه مغرقا إياه في طياتها يتحسس عطر روحها العالق بنسيجها لعله يبوح بمكنونات قلبها العصي ..
استنشق بعمق ما تبقى من عطرها من بين الثنايا لتهيم روحه في دوامات من الرغبة في البقاء قربها و ان لا يفارق محياها ابدا .. لكنه انتفض أخيرا مستغفرا و هو يدفع العباءة عنه ملقيا إياها بطول ذراعه.. فما عاد يحتمل مدى تأثيرها الدامى عليه ..