رواية بين الرذاذ للكاتبة أنستازيا الفصل الرابع
اشتدت قبضتي على قميصه بينما عيناه الزمردية بالكاد يطرف بهما!، قربت وجهي بحزم حتى شعرت بحرارة أنفاسه تلفحني وقد همست بوعيد: أخبرتك أن الموضوع منته تماماً فلماذا تصر على إهدار وقتي، لا تجرب جنوني دانيال لن أتردد في تنفيذ أي فكرة مجنونة للحصول عليك حتى لو عنى ذلك التهور والتصرف بحماقة.
فغر فمه قليلاً والذهول لا يغادر مقلتيه اللتان جحظتا بعدم تصديق، تعرق جبينه وطغى الإحمرار على وجهه وكلتا اذنيه ليزدرد ريقه سامحاً لتفاحة آدم بالصعود والنزول في عنقه الذي برزت عروقه، بالكاد خرجت الحروف من بين شفتيه مردداً: هل جننتِ!
أهدأ، وأنصت إلى لنغادر معاً في الوقت المناسب.
الانعكاس المتفاجئ في كلتا عينيه مُزج بشيء أشبه بالغضب للحظة قبل أن يغمض عينيه ويعقد حاجبيه بإنفعال مكبوت بوضوح ليقطع خط النظرات المتبادلة بيننا، أكملت حديثي بحزم: أنا بحاجة إليك، ستعمل معي لفترة مؤقتة وأعدك أن أختفي بعدها تماماً من حياتك، لن ترى وجهي لاحقاً ولكن عليك أن تفهم أنني اخترتك ولن أكلف نفسي عناء البحث عن غيرك، لا تعقد الأمر كثيراً إنه أبسط مما تتخيل. كل ما ستفعله هو حضور جلسات التصوير ولن يكون العمل بشكل يومي لذا الأمر لن يكون صعب عليك.
خففت من قبضتي على قميصه وابتعدت عنه لأجلس على الأرض بجانبه أردف بهدوء قدر المستطاع: الرئيس كوفمان في انتظار وصولنا في أي لحظة إلى المجلة لمقابلتك. دانيال تعاون معي من فضلك، دعني أخبرك أنك ستتقاضى أجراً كبيراً لمجرد أن تكون الوجه الإعلاني! هل حقاً لن يشكل هذا الأمر فارقاً لديك؟ ألا تحتاج المال لسبب أو لآخر؟ هل حقاً لا يوجد أي أمر تتمنى فعله بالمال!؟ هل تملك أدنى فكرة عن تكلفة كل عقد؟
عندما لم يستجب لي وظل على حاله بحثت عن أي كلمات أخرى قد تلفت اهتمامه لثواني قبل أن أضيف بجدية: ستلفت الأنظار دانيال ثق بي، قد تكون هذه فرصتك لتنطلق حقاً في مجال الإعلام وتكتسب ثروة تغنيك عن الكثير وتصلح عشرات الأمور التي تتمنى تغييرها للأفضل! فكر في عائلتك مثلاً! لا بد وأن كل منكم لديه طموح يرغب في تحقيقه لولا الظروف الصعبة!
ثواني قليلة بقي فيها مستلقياً على ظهره حتى رأيته يفتح عينيه ببطء يحدق إلى السقف بصمت! بل وومضت مقتليه ببريق غريب بينما يردد: لفت الأنظار.
عقدت حاجباي أحدق إليه بترقب، اعتدل في جلسته ونظر إلى الفراغ بجفاء وعندما استشعرت طاقته السلبية وعناده أسرعت أقول: لنتعاون، أنا أيضاً بحاجة إليك، لو لم أكن كذلك لما تكبدت عناء محاولة اقناعك! لنتبادل مصالحنا مؤقتا وبعد فترة مؤقتة سيذهب كل منا في طريقه ثق بي! حسناً لا سبب وجيه يدعوك للثقة بي ولكنني جادة!
طرف بعينه بجفاء واعتدل ليقف فوقفت بدوري فوراً، ابتعد بضع خطوات واستدار لأواجه ظهره: ما الذي قلته لأبي ليصر على رأيه ويوافق على عرضك؟ هل طلب منكِ مساعدتي بشأن موضوع معين؟
نظرت إلى الفراغ أبحث عن الجواب الأنسب! لا أدري إن كان على البوح بالأمر حتى!، رمقني بنصف عين ثم عاود ينظر للأمام لأواجه ظهره ليقول بحدة: هل طلب منك مساعدتي لأصبح أكثر مرونة في التعامل مع النساء؟
ارتفع حاجباي بإستغراب وترددت كثيراً! أردف يلوى شفته بإزدراء: لستُ بحاجة إلى مساعدتكِ أنتِ أو غيرك، ابقي بعيدة ولا تحشري أنفك.
ثم تحرك مبتعداً فراقبته بعيناي لأراه يدخل حيث المطبخ، تبعته فوراً وقد استنكرت رؤيته يفتح الثلاجة ليخرج منها بعض الأطعمة المغلفة!، بل وجلس على الكرسي واسند مرفقيه على طاولة الطعام وتمتم بجفاء دون ان ينظر نحوي: ماذا؟ أفرغ حنقي بتناول الطعام، لا يبدو أنني قادر على تفريغ غضبي بكِ لذا لا تقفي هكذا.
فغرت فمي أحدق إليه بحيرة شديدة!، يفرغ غضبه في تناول الطعام؟ ما الذي كان ينوي فعله بي؟ ان يهددني ويوسعني ضرباً كما يفعل مع زبائنه؟، هل هذا الرجل حقاً. لا يجرؤ على الاقتراب مني؟
تابعته بعيناي أتأمله للحظات والاستنكار يعتريني حتى تكتفت واسندت ظهري للحائط خلفي فقال بتثاقل يركز عينيه على الطعام: ما الذي تقصدينه بلفت الأنظار؟
فكرت قليلاً قبل أن أجيبه بهدوء واتزان: هل تدعي التواضع؟ هل حقاً تتظاهر بعدم الفهم دانيال؟
ظهرت تقطيبة انزعاج بين حاجبيه وبالفعل اشتعل غضباً ليقف ويرمقني بحدة: أبحث عن سبب وجيه لطردك كما تعلمين لذا لا تستفزيني أكثر.
أجفلت في مكاني لعلو صوته ولكنني زفرت وقلّبت عيناي مجيبة بنفاذ صبر: ربما تحب سماع الإطراء والثناء مراراً وتكراراً، سبق وقلت بأنك رجل جذاب وستحقق نجاحاً في التسويق وهذا ما أعنيه.
لسبب ما.
بدى الإنزعاج يتربع على ملامحه ولكنه سرعان ما ابتسم بإستخفاف واشاح بوجهه ليجلس مجدداً يتناول الطعام: المظهر الخارجي فقط؟ هذا كل شيء إذاً. ياللسطحية.
ازدردت ريقي وابتلعت الكلمات في جوفي محاولة عدم مجادلته لئلا يغضب ويصعب اقناعه أكثر، ومع ذلك نظرت إليه بجدية: انها الحقيقة، ما سيظهر للناس أمرين. مظهرك الخارجي، وقدرتك على الترويج والتألق وحسب!، لن أخدعك وأخبرك بوجود معايير أخرى قد تلفت الأنظار، كما ان الأمر يتوقف عليك بأكمله، ان اكتسبت الشهرة المطلوبة فسيكون قرار التأثير على الناس راجع لك، انت وحدك من سيسلك هذا الطريق.
جابت عينيه بملل شديد وتبرم على الطعام ثم مضغ اللقمة الأخيرة وابتسم بتهكم وجفاء: شهرة؟ هراء يثير الغثيان.
وقف وسحب من على الطاولة منديلاً ليستكمل حديثه بنبرة عدائية يتحاشى النظر إلي: المال.
رددت بعدم فهم: المال؟
رفع ذقنه بثقة ورمقني بنظرة متقطعة سريعة قبل ان تتجه مقلتيه الزمردية نحو الأرض ورأسه مرفوعة يلعق شفتيه بلسانه: قبولي عرضك يعتمد على المبلغ المالي الذي سأستلمه.
ان كان المال سيحركه. فلماذا موضوع لفت الأنظار استفزه للتو!، حسناً لا بأس. طالما يوجد سبب يدعوه للموافقة فلا مانع من مسايرته، كما ان المال الذي سيحصل عليه سيكون أكثر من كافي، هذا جيد.
رسمت ابتسامة هادئة لطيفة وأنا أميء برأسي إيجاباً: لك هذا، ستحصل على المبلغ الذي تريده. سوف ي.
قاطعني بلا اكتراث: الأهم، كما أسلفت للتو لا تحشري أنفك بأي أمر يتعلق بي وابقي بعيدة وحافظي على المسافة القانونية بيننا، آه صحيح. توقفي عن رسم هذه الابتسامة المزيفة.
ارتجفت شفتاي محاولة تمالك نفسي فأعقب وهو يتجه إلى غرفة المعيشة: ابتسامتك المزيفة تثير اشمئزازي.
اختفى عن ناظري فزفرت الهواء بقهر ومررت يدي في شعري بعصبية أضرب الأرض بقدمي بخفة.
لا يوجد فرصة لأتفاهم معه بهدوء ولطف، لن نكون على وفاق وهذا واضح جداً! لا يجب أن يسبب الاختلاف بيننا أي مشكلة او عائق في العمل. على تجاوز أي كلمة يقولها مهما حاول استفزازي. اعلم انني تهورت قبل قليل وتصرفت بطريقة غير متوقعة ولكنني سأحاول جاهدة ألا أكرر المسألة مجدداً. ولكن مهلاً كيف لي ان ابقى بعيدة عنه؟ ان فعلت هذا. فكيف سأستطيع مساعدته وتنفيذ شرط السيد هاريسون!
لحظة واحدة.
اردت منه الموافقة على العمل معي مقابل فعل أي شيء، والآن يخبرني بكل وضوح أنه سيعمل معي ولكن لا حاجة للإقتراب منه او مساعدته!
ربما لا يوجد أي جدوى من ذلك الشرط صحيح؟ ولكن. لقد اتفقت مع والده بالفعل!
ما الذي على فعله! تنفيذ شرط السيد هاريسون، أم الالتزام بشروط دانيال المناقضة لرغبة والده!
تنهدت بلا حيلة وخرجت من المطبخ وانتظرت في غرفة المعيشة، في النهاية وافق لأجل المال، يمكنني تفهم هذا، أنا أيضاً بحاجة إلى المال، ليس وكأنني سأكون قادرة مجدداً على التجرؤ لأنعم بأموال أبي.
كانت دقائق معدودة حتى رأيت ظلاً عند مدخل غرفة المعيشة، رأيته يقف بضجر وانزعاج ولم ينتظرني وانما اكتفى بتنبيهي بوجوده وابتعد فوقفت بسرعة أخذ حقيبتي وأتبعه.
كان يسبقني على الدرج فحدقت إلى مظهره دون ارتدائه الحزام المخصص للحلاقة وما شابه، بنطال جينز داكن وقميص أسود مشمراً كلتا يديه كما لو استلم مهمة لمرتزقة وُكل بقتل رجل أعمال فاسد!
كنت في منتصف الدرج عندما كان يضع يديه في جيب بنطاله وقال للسيد هاريسون الذي يحلق ذقن أحد الزبائن: تشعر بالفخر الآن بعد ارغامي على العمل معها؟
رمقه السيد هاريسون بنظرة باردة سريعة واستكمل عمله متمتماً: أفعل هذا لمصلحتك.
أكملت طريقي لأنزل ووقفتُ بترقب بينما أومأ دانيال بإستهزاء يتحرك نحو باب موجود أسفل الدرج وقد التفت نحو والده قليلاً: آه نعم لمصلحتي، خيبت أملي أبي وقمت بالإنصياع لكلمات هذه الفتاة المُزيفة، سنرى إن كنت ستعض أصابعك ندماً عندما تكتشف أنك قمت ببيعي.
لمحت الزبون يبتسم بهدوء على قوله فتساءل دانيال فجأة بجفاء: ما المضحك؟
انتفض الزبون بذعر ولم يعلق وقد محى ابتسامته فوراً! بينما لوى السيد هاريسون شفته بغضب ينظر حيث كان وقد دخل ذلك الباب فتساءلت بدوري: أين ذهب؟ هل أنتظره في الخارج؟
كاد يجيبني لولا ان اخرج دانيال رأسه من الباب وقال ممتعضاً: اسبقيني إلى مقر العمل، ارسلي لي الموقع.
ارتفع حاجباي بحيرة واقتربت أسأله باستغراب: لماذا!
رفع يده يشير لي الا اقترب أكثر فوقفت مكاني ليقول: سنلتقي هناك.
نلتقي هناك! ما الذي يقصده تحديداً؟ لماذا لا نغادر معاً وحسب!
نفيت بعدم فهم: الن ترافقني؟
نفي بحزم يشيح بوجهه عني: قلت بأنني أقبل عرضك ولكنني لم أقل بأنني سأرافقك في كل مكان!
هذا الكريه! ما المشكلة في أن نذهب معاً ونصل في الوقت آنه؟ طلباته قد بدأت تزداد غرابة! شعرت برغبة عارمة في مجادلته ولكنني تراجعت وتكتفت بإنزعاج: لا بأس، ولكنني سأذهب بسيارة أجرة، ماذا عنك؟ ستركب سيارة أجرة أخرى وتلحق بي؟ سيكون هذا مثيراً للسخرية!
دخل زبون آخر إلى المحل فبدى السيد هاريسون مشغول أكثر ويتجاهل كلينا، عاودت أوجه اهتمامي إلى دانيال الذي ابتسم بثقة يغمض عينيه: لست بحاجة إلى سيارة أجرة. لدي وسائلي الخاصة. أسرعي وارسلي الموقع.
قلت على مضض: أعطني رقمك أولاً.
اخرجت هاتفي أسجل رقمه لأرسل له العنوان وما أن انهى كلماته حتى دخل عبر الباب أسفل الدرج مجدداً، والذي أعتقد أنه يقود إلى المأرب فلقد خمنت أنه يقود إلى باب خلفي للخروج. ولكن لماذا اتجه هناك تحديداً؟
عدلت من حقيبتي على كتفي وخرجت من المتجر مودعة السيد الهاريسون بلباقة. وقفت في الشارع أمام المتجر وانتظرت مرور سيارة أجرة، أشرت لإحداها لأستوقفها وقبل أن ادخل إلى السيارة نظرت من حولي بحيرة. أين هو؟
واصلت البحث بعيناي وقد فتحت الباب راغبة في الدخول، أظنني سأسبقه كما قال. ولكنني توقفت لسماع صوت قد لفت انتباهي، التفت نحو الزقاق المجاور للمحل لأراه يحرك دراجة نارية بقدميه ليخرجها ويتأبط خوذة زرقاء داكنة فاتسعت عيناي بدهشة!، ي. يملك دراجة؟ بحق؟ فغرت فاهي أحدق إليه حتى وقف على بعد مسافة كافية مني وهو يلوي شفتيه بإنزعاج: توقفي عن توجيه نظرات الإستصغار إلي! ماذا؟ لا أستحق دراجة كهذه؟ هل هذا ما تريدين قوله!
اللعنة لم أكن أرغب في التفكير بهذه الطريقة ولكن. هذه الدراجة.!
ازدردت ريقي ثم همست على مضض: لا أقصد الإهانة حقاً.
انفرجت زاوية فمه بسخرية يربت بيده على مقدمة الدراجة: نعم واضح. ليكن في علمك أنني بذلت جهدي لثلاثة أعوام كاملة لأجل شرائها لذا لا داعي لهذه النظرة الدونية يا آنسة.
حسناً أ. أنا فقط لم أتخيل أن يمتلك دراجة نارية خاصة به! كما أنه. يبدو جذاباً أكثر لمجرد وقوفه إلى جانب دراجته فكيف به عندما يقودها!، تنهدت بلا حيلة وقلت بهدوء: اتبعني دانيال، ولا تسيء فهمي ولكن. حسناً إنها دراجة جميلة وتستحقها، وبالمناسبة أنت من يستصغر من قيمة نفسه أنا لم أتفوه بحرف واحد وإن كنت ستجادلني في رأيي فهو رأيي ومن شأني الخاص ولي حرية التفكير، ولكنني لست وقحة لأقول لك مباشرة وأمام وجهك أن هذه الدرجة تبدو مُلفتة ولم أتوقع امتلاكك لوسيلة نقل خاصة بك.
أنهيت كلماتي الأخيرة بصوت حاد وولجت إلى السيارة لأغلق الباب وأصف العنوان للسائق.
بعد مضي لحظات من قيادته رفعت جسدي قليلاً أنظر للوراء فوجدته يتبعنا مرتدياً خوذته، هذا الأحمق. أعتقد أنني لو كنت رجلاً لما عاملني بهذه الطريقة.! آه ما الذي أقوله كما لو كان يعامل الرجال بلباقة وهدوء! على أي حال. يبدو أنني سأعاني لحين انتهاء هذا الموضوع.!
ترجلت من السيارة وأشرت لدانيال أن يكمل طريقه إلى مواقف السيارات وقلت له بصوت عالي: استمر، اكمل طريقك وستجد المواقف الداخلية هناك أسفل المبنى، سألاقيك أمام المدخل هنا في نهاية الدرج.
لم يعلق واكتفى بإكمال طريقه حيث أشرت، صعدت الدرجات التي تمتد على عرض المبنى الشاهق للمجلة، وصلت حيث المدخل ووقفت أمامه لأنتظر عودته. أتمنى أن لا يوقف دراجته في موقف بعيد، أنا بالكاد أحتمل هذه الرطوبة.
نظرت إلى السماء بشرود واعترفت لنفسي أنني.
ربما أشعر بالغبطة قليلاً.
لديه دراجته الخاصة التي تقله إلى أي مكان يشاء، في حين أكون مجبرة على استخدام المواصلات العامة دائماً بدلاً من استخدام سيارتي الخاصة. اللعنة وكأن سيارتي حتى سيكون لي الحق في استخدامها بعد كل شيء. ففي جميع الاحوال تعتبر إحدى ممتلكات أبي.
ولم يعد لي أي حق فيها.
حتى الشقة الفاخرة التي أسكن فيها، لربما يحين دورها يوماً ما وقريباً جدا. وأجد نفسي أتخلى عنها كما تخليت عن الكثير بمحض إرادتي. لا أستبعد هذا طالما ذلك اللعنة يطاردني في كل مكان بعد اعتقادي أنني تخلصت منه أخيراً وسأبدء من جديد.
أفقت من شرودي حين شعرت بتواجده، رأيته يقترب ويرفع عينيه الزرقاء يحدق إلى علو المبنى بتأمل ونظرات الإعجاب واضحة في كلتا مقلتيه.
ابتسمت بهدوء وقلت: هيا بنا.
أشار لي نحو الأرض يرسم خطاً وهمياً: حافظي على مسافة الثلاثة أمتار هذه.
أغمضت عيناي للحظة قبل أن أتساءل بهدوئي الذي أعمل جاهدة للحفاظ عليه: حقاً؟ ماذا عن المصعد؟ ستطالب بتمديد حجمه ليتسع إلى ثلاثة أمتار عرضاً وطولاً؟
فكر قليلاً وقد مرر يده للأعلى في غرته السوداء بثقة: إلى أي طابق سنتجه تحديداً؟
أجبته أجز على أسناني: الطابق المؤدي إلى الجحيم!
عقد حاجبيه يستنكر ردي ثم قال بغيظ: لا تستعجلي ستذهبين إليه عاجلاً أو أجلاً! اللعنة لقد كنت جاداً بسؤالي!
أنا أيضاً كنت جادة. أخبرني. هل سيستمر الوضع هكذا حقاً؟ اسمح لي أن أسألك سؤالاً إذا، المسؤولة عن الأزياء هي صديقتي روز، هل ستطالب بإحضار رجل بدلاً منها مثلاً؟ وماذا عن المسؤولة عن المكياج؟ إنها امرأة أيضاً ومن الطبيعي أن تضطر للمسِك! وماذا عن شعرك؟ همم؟
بدى مرتاعاً وبشدة لما يسمعه وقد ردد بدهشة يسوقفني بتوتر: مهلاً، لماذا جميعهن نساء؟، هل يتم الإستيلاء على العالم! أين معشر الرجال بحق الإله؟ إذاً الإحصائيات التي تشير إلى كون عدد النساء أكثر من الرجال صحيحة!
أخفضت عيناي قليلاً ثم سايرته لئلا نهدر المزيد من الوقت: لنترك كل هذا جانباً الآن، لا تقلق لن نباشر العمل اليوم ولكننا سنتجه إلى رئيس التحرير مباشرة. كما أنني سأرتب لكل شيء، سأوضح له أنك لا تنتمي إلى أي وكالة فنية رسمية وإنما مستجد تتوفر فيك المعايير المطلوبة، لا داعي لتزوير أي شيء. الكثير من العارضين العالميين كانوا أشخاص عاديين يفتقرون إلى الخبرة ولكنهم رُزقوا بالمظهر والجاذبية التي تؤهلهم للعمل.
ابتسم لجملتي الأخيرة ووضع يده على خصره ينظر بعيداً بشموخ ويتنهد بلا حيلة: كوني شاكرة ممتنة مدى الحياة إذاً.
تجاهلت عظمته المفاجئة وأشرت له أن ندخل فتبعني.
ولكنني تذكرت أمراً وقد قلت بسخرية: آه صحيح. أرجو أن تخفي عنه أمر عقدتك هذه لئلا تثير شفقته.
احتدت عيناه وقد همس بكلمات خافتة بنبرة مغتاظة بشدة! ثم لكم أن تتخيلوا أنه يحافظ على الثلاثة أمتار وبحذر شديد! حتى عندما كنا ننعطف يميناً أو شمالاً!
إنه الجنون بعينه.
ظل يحدق إلى المكان من حوله بتمعن وتأمل، حيث كان في المكان الكثير من الصور الترويجية ذات الحجم الكبير والإعلانات لمختلف الألعاب هنا وهناك، كما ان تصميم المبنى شبابي ومريح للعين، فالألوان هنا داكنة وهادئة. كما يوجد في ردهة الإستقبال بعض الموظفين اللذين يرتدون ملابساً ترويجية لبعض الألعاب التي كانت من مسؤوليتنا التسويق لها.
إضافة إلى البعض اللذين يقفون بحيوية ويمسكون بالأجهزة اللوحية لجمع استطلاع الرأي للزوار، نعم هذا ما يميز المجلة. يوجد اقسام هنا للترفيه والتسالي برعاية بعض الشركات المعروفة، في حين الأقسام العلوية والأخيرة للموظفين العاملين على أقسام المجلة من تحرير وتصميم وانتاج وتنفيذ وتصوير وما إلى ذلك. إبداع في العمل والموازنة اليس كذلك؟ أن يتم دمج العمل الجاد في المجلة مع التسالي والترفيه لمختلف ألعاب الفيديو والعاب الأجهزة اللوحية، أرى أنها فكرة ذكية. السيد كوفمان رجل مبدع بالفعل.
ضغطت على زر المصعد انتظر وصوله وأنظر إلى أرقام الطوابق في الأعلى، لا يزال في الطابق السابع.
انتظرت متكتفة ثم استرقت نظرة إليه لأجده بجانبي على بعد ثلاثة أمتار، ولهذا بادرت أقول بلا حيلة: سنذهب إلى الطابق العاشر.
أومأ برضى وأسرع يضغط على زر المصعد المجاور لينتظر، ولكن مصعده قد وصل أولاً فلقد كان هناك موظف خرج منه من أحد الطوابق القريبة على ما يبدو، ولج إليه بينما أدك الأرض بقدمي بخفة و بملل حتى فُتح أخيراً.
تقدمت لأدخل المصعد وضغطت على الزر المطلوب، ولج معي موظف وزميلته يتحدثان في الداخل ومنهمكان تماماً، لذا تراجعت للخلف قليلاً لأنظر إلى نفسي في المرآة وأرتب مظهري. توقفنا عند الطابق الخامس ليخرج الإثنان وهذا ما أخرني، بقيت وحدي في المصعد للحظات حتى وصلت إلى الطابق العاشر أخيراً.
خرجت باحثة عنه بعيناي. وحينها وقفت في مكاني بحيرة وقد رأيت موظفتان في قسم الأزياء تضحكان وهو يقف في المنتصف! إنه هو بلا شك. يمكنني تمييزه من قامته وشعره الأسود! لقد كان ظهره مواجهاً للحائط خلفه مباشرة بينما الإثنتان تتحدثان معه بمرح!
اقتربت بعدم فهم واستغراب شديد، إحداهما كانت تضحك بلطف بينما الأخرى تبدو حائرة وهي تتساءل بنبرة فضولية: الطوابق الأخيرة مخصصة للعاملين في المجلة فقط! إن كنت هنا للفعاليات والأنشطة في الأسفل فعليك أن تغادر بسرعة.
أومأت الأخرى مبتسمة: لوهلة ظننتك أحد العارضين ولكنك لا تبدو مألوفاً!
حسناً. إن لم أتدخل فسيفقد وعيه حتماً! إنه ينظر إلى السقف بفك متصلب والتورد الطفيف يعتلي وجهه! يحكم قبضتيه بشدة حتى ابيضت يداه وشفتيه ترتجفان دون توقف.
مع الأسف.
أكره الاعتراف بهذا ولكن مظهره لطيف بعض الشيء، وربما أحمق قليلاً!
تقدمت أكبت رغبتي في الشماتة وقد قلت مبتسمة بهدوء: دانيال لنسرع. أرجو المعذرة ولكننا على عجلة من امرنا.
هذه الثغرة التي صنعتها كانت كفيلة بجعله ينسحب كما ينساب الماء على الأرضية الناعمة وقد اختفى تماماً من بينهما ليقف بعيداً يلهث بصعوبة!، اسرعت إليه في حين أسند يده على الحائط. يهمس بعدم تصديق وبصوت مرتاع: كارل كان محقاً، عندما يبعد الخصم عينيه سيكون من السهل الهرب والإفلات منه! ما ان يتم تشتيت انتباهه حتى أجد الفرصة الملائمة!
أعلنت عن وجودي بتنحنح خافت فنظر إلى بطرف عينه واعترض بشيء من التردد: هل سأكون مرغماً على المشي من بين الموظفات في كل مرة أكون فيها هنا؟ سحقاً. النساء عقاب إلهي بلا شك!
ابتسمت بتهكم: انت من قرر تركي خلفك لذا لا تعترض الآن.
لحظات حتى وصلت إلى مكتب رئيس التحرير حيث فُرشت أمامه بشكل طولي سجادة بطراز فندقي داكن، وعلى يميني وشمالي قسمين مختلفين، فعلى اليمين يعمل المحررين والمنفذين، وعلى اليسار كل ما يتعلق بالتصميم وكذلك مكتب المدير الفني.
أما القسم الذي أعمل فيه فهو في الطابق الذي يليه في الأسفل مباشرة. يشمل كل ما يتعلق بالتصوير والأزياء واستراحة العارضين وما إلى ذلك. بإختصار عملي أنا وروز يكون هناك في الطابق التاسع، بينما جانيت هنا على يميني في قسم تحرير الصور.
رفعت يدي أطرق على الباب فسمعت صوت رجولي يأذن بالدخول.
أشرت لدانيال برأسي فبدى متململاً غير مكترث وهو يترقب دخولي أولاً فبادرت بذلك، دخلت أرسم ابتسامة هادئة رسمية. وحينها التقط أنفي رائحة العطر القوية المختلطة بالسجائر وقد اعتدنا على هذه الرائحة التي لا ندري إن كانت جيدة أو مستفزة حقاً.
تقدمت أنظر إلى السيد كوفمان يقف أمام مكتبه يشمر قميصه إلى مرفقيه ومنهمك بالكثير من الأوراق والطباعات أمامه، وما أن رفع عينيه نحوي وانتبه لهويتي حتى ترك الأوراق من يده وراقبني بهدوء ولا تزال كلتا يديه على الطاولة ليحني ظهره قليلاً وقد انتبه إلى دانيال.
مكتبه كالعادة مزدحم بالمجلات والمسودات والنسخ الكثيرة هنا وهناك، يندر رؤية مكتبه مرتباً دون زحام كومة المجلات المطبوعة في كل مكان، اعاد ناظره إلى الطاولة وحرك سبابته على مساحة التحكم للحاسوب ليقول بصوته المبحوح بجمود: تأخرتِ أكثر من نصف ساعة.
أومأت بهدوء: أعتذر على هذا واجهت ازدحاما مرورياً.
انا مضطرة للتعذر.
نظرت إليه بترقب فبقي يحدق إلى شاشة الحاسوب، حسناً أنا عاجزة الآن عن تحديد مشاعره في وقت كهذا وقد رأى وجهي بعد مدة من ايقافي عن العمل. كل هذه الأجواء جعلتني أشعر بتصاعد تيار من الشحنات المتنافرة في جسدي رغماً عني.
ولكن لا بأس.
لا داعي للقلق!
أنا هنا مع ورقتي الرابحة.
لمجرد أن يرى دانيال جيداً سيفهم أنه لم يكن عليه الإستهانة بي عندما أخبرته أنني سأجلب عارض أفضل من السابق.
تنهد وترك الحاسوب أخيراً يبتعد عن مكتبه، نظر بعينه حيث يقف دانيال خلفي على بعد مسافة، التفتُ بدوري نصف التفاتة ورأيت دانيال يقف عند الباب بضجر واضح بل وأخرج من جيبه علكة ومضغها وعينيه تجوب على كوفمان بتثاقل.
أشرت لدانيال ليقترب: تفضل.
أعدت ناظري إلى كوفمان وسمعت خطوات دانيال الذي يقترب، وقد اكتفى بالوقوف بجانبي ولكن. هذه المرة متران على الأغلب وليس ثلاثة، ليس وكأنه سيجد المسافات حليفة له في كل مرة.
تكتف كوفمان مبتسماً بتهكم: مرحباً بعودة المصورة الموهوبة. دعيني أخمن. هل هذا هو العارض البديل؟
نظرت إلى دانيال بينما أبتسم بثقة: اسمه دانيال، أنا واثقة أنه سيكون عند حسن ظنك. ما رأيك به!
همس دانيال بإنزعاج: لا يعجبني هذا، توقفي عن التحدث عني وكأنني سلعة تجارية تباع وتشترى!
وضحت له بعيناي أنني لا أقصد إهانة نافية برأسي بخفة ولكنه قطع خط النظرات المتبادلة وهو يشيح بوجهه بسرعة.
اقترب السيد كوفمان منا وعيناه تتابع دانيال بتقييم وتمعن.
سار بإتجاه دانيال الذي وضع يديه في جيب بنطاله الجينز الداكن ولوى شفته بلا مبالاة. ولكن سرعان ما بدى منزعجاً جداً من تحديق الرئيس إليه. ظل يحوم حوله ويحملق فيه بتركيز وتأمل ولا زال مستمر في الحركة من حوله بشكل دائري بطيء وتمتم: القامة المطلوبة تماماً. ولكن لو لم تخبريني أنه العارض لظننت أنه جانح أتى للشجار معي.
أضاف بسخرية: أو سجين هارب حتى.
رفع الآخر حاجبه الأيسر وقد دق جرس الإنذار بداخلي يحذرني من كونه قد يرد على الرئيس ويتسبب بالفوضى فأسرعت أشير له بيداي برجاء وأنفي له برأسي مهدئة.
قلّب عينيه الزرقاء وأخرج يمناه من جيبه يمررها خلف عنقه وبدى يتمالك نفسه وهو يجز على أسنانه بوضوح.
استمر الرئيس في التقييم وهو يدور حوله: لديه المؤهلات التي نبحث عنها، يمكنني تخيله بملابس الجندي منذ الآن. يبدو وجهه أنسب من العارض السابق بعض الشيء.
ثم وقف أمام دانيال وظل يطرف ببطء وهو يحدق إليه بتمعن، تكتف واستقرت انامل يده اليمنى أسفل ذقنه بتركيز: بماذا ناديته للتو يا كتاليا؟ دانيال صحيح؟
اومأت بهدوء فتساءل بشيء من الشك: حسناً دانيال. إن كنت عارضاً وتعلم جيداً أن وجهك هو مصدر رزقك، فما سر الندبة السخيفة أسفل حاجبك!
تفاجأت بجملته الأخيرة مغتاظة بشدة وقد علا صوته أكثر، بدى دانيال سينفجر وهذا واضح من حركة يده فأسرعت أتدخل بمرح: وهذا ما يجعله مناسب أكثر!
وقفت بجانب السيد كوفمان مشيرة إلى دانيال بنبرتي المرحة: هذه الندبة خصيصاً جعلتني أختاره فوراً. يا الهي لا أصدق أننا لسنا بحاجة إلى التفكير بأمر ندبة وهمية باستخدام المكياج، ألا توافقني الرأي؟
اعترض بإنزعاج: بالطبع لا أوافق! وماذا لو اضطررنا لاستخدامه في ترويج آخر؟ ماذا لو كان دوراً لا يجب أن يحوي أي ندوب في وجهه!
لدينا خافي العيوب!
جز على أسنانه بإمتعاض ثم نظر إلى دانيال الذي أعتقد أن مؤشر صبره على وشك الوصول إلى حده!
لا يجب أن يتهور أو يتصرف معه بعنف. حينها لن يقتصر الأمر على طردي فقط. قد يحدث ما هو أسوأً!
ابتلعت ريقي رغماً عني حين خفض السيد كوفمان نبرته وتساءل بجمود: لماذا أصبت بها؟ يفترض أن السبب يعود إلى حادثة عرضية. أنت لم تضطر إلى الشجار مع شخص أو آخر؟ سجلك نظيف أليس كذلك؟ لا بد وأنك تعلم أن السمعة الجيدة لكل من يساهم في المجلة هي أهم من أي شيء آخر.
ح. حسناً هذا سيء حقاً!
استمر دانيال في تحديقه إلى كوفمان والأخير يترقب رداً.
حتى انحنى بقامته نحوه قليلاً دون أن يقترب، مضغ العلكة قليلاً قبل ان ينفخ فقاعة بها وما ان انفجرت حتى قال بنبرة مستعارة من قاتل مأجور: لدي ندبة أخرى أعلى كتفي، تريد رؤيتها؟
اتسعت عيناي في حين انتفض الرئيس في مكانه!
كيف يكون هذا الشخص الذي يبدو أحد أفراد عصابة خطيرة. هو نفسه من يضع حاجزاً بينه وبين النساء ويخشى مجرد النظر إليهن كما لو كانوا وحوشاً على وشك التهامه! لا أصدق أنني أرى شخص بهذا التناقض. ولكن. الرئيس يستحق هذا! لماذا يصر على تقييم الوضع بينما نكون على صراع مع الوقت لننجز الغلاف الجديد وفقاً لإطار زمني محدد بحق الإله!
تنحنح كوفمان يعدل من ربطة عنقه ويرفع ذقنه بينما يشيح بناظره قليلاً قبل ان يقول: ع. على أي حال.
أكمل يعود إلى مكتبه ليجلس على كرسيه الجلدي: من أي وكالة فنية تكون دانيال؟ وأين هي أوراقك الرسمية للعمل؟ لنوقع العقد بأسرع ما يمكن لنباشر العمل.
حان دوري وقد تدخلت فوراً بجدية: أعتذر على المقاطعة، ولكن دانيال ليس عارض متمرس من وكالة محددة.
رفع حاجبيه متسائلاً: إذاً؟
إ. إنه.
حسناً ليس وكأن ما يحدث ممنوع أو مستحيل ولكن. لو كان من وكالة فنية فسيكون هذا أفضل بعشرات المرات. لا بأس. استجمعي قواكِ بسرعة وكوني واثقة من قراراتك أمامه!
لا تتزحزحي أبداً. كل ما في الأمر أن المجلة معتادة على التعاقد مع الممتثلين لوكالات معروفة ولكنها ليست ضوابط وشروط حتمية!
وضحت بهدوء وبإختصار: لديه وظيفته الخاصة ولا يعمل في مجال الفن أو العروض كما ليس وجه إعلاني وما شابه، شاب عادي توفرت به المعايير التي نبحث عنها، وكما ترى. إنه أفضل بكثير من العارض الذي يرقد في المشفى وليس من المهم أن ينتمي إلى أي جهة رسمية. قد لا يكون هذا أمراً معتاداً بالنسبة لمجلتنا ولكنه طبيعي جداً بالنسبة للمؤسسات الأخرى كما تعلم سيد كوفمان.
نظر بدوره إلى دانيال الذي بدى عليه الضجر الشديد وهو يتثاءب بنعاس، ثم قال بعدم اقتناع وتردد: لا أقول بأنه مستحيل أو ممنوع. ولكنك تعلمين أننا نفضل اللجوء إلى الجهات الرسمية! من سيكون مسؤولاً عن أعماله إذاً؟ من سيكون المسؤول عن إدارة جدوله ومهامه!
أنا.
قلتها بجدية فاتسعت عينيه بعدم تصديق: عفواً؟
كررتها بحزم: ثق بي سيد كوفمان، تصرفاته أعماله وأداؤه وكافة المهام الموكل بها، كل هذا سيكون تحت مسؤوليتي أنا.