رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني
ظلت حنين متسمرة مكانها لا تعلم كيف تتصرف، حتى إنها لم تملك الجرأة لإبعاد عينيها عن عينيه خوفا من أن يكون ذلك حلما كمئات الأحلام التي حلمت بها، وكل حلم كان يحمل طريقة مختلفة يتعرف بها اليها، الغريب في الأمر أنها لم تحلم يوما لأبعد من ذلك، فقط تحلم بفارسها وهو ينحني اليها مبتسما ليسألها عن اسمها...
لكن الآن، لم يسألها عن اسمها، فهو يعرفه، لقد نطق باسم حنين...
وعيناه تتأملانِها بشعورٍ جميل، ما تلك النظرة؟، وكيف تستطيع مجرد نظرة أن تدفيء ما تلامسه، أفاقت من أفكارها على صوته الرائع ذو النبرة العذبة و هو يقول مبتسما (يبدو أنكِ أصبحتِ بخيرٍ الآن، لكن من الأفضل أن تشربي شيئا).
تحررت خصلة ناعمة سوداء لتظلل إحدى عينيها، فرفعت يدها لتضعها بخجل خلف أذنها وهي تخفض نظرها عنه أخيرا، بينما يدوي قلبها بموسيقى صاخبة توشك على أن تخرق طبلة أذنيها من شدة الضغط الذي تشعر به، تابع عمر قائلا وهو ينظر الى رأسها المحني، (لما لا أصحبك الى المقهى لأجلب لك ما تشربينه).
توقفت أنفاسها و ارتعد قلبها، لكنها هزت رأسها نفيا دون أن تنظر اليه، لم ترى ابتسامته الحانية و هو يجيب برقة أشعلت شوقها اليه أكثر (حسنا اذن).
مد يده ليضغط على رقمي طابقيهما، ثم ابتعد عنها أخيرا فتنفست الصعداء، وظلت صامتة وهي تشعر بمراقبته المتسلية بمنظرها الذي لا بد و أنه مخزيا الآن، وصل بها المصعد أخيرا الى طابق مصممين الرسوم، فتنحى لها مفسحا المجال وهو يتعمد إبعاد قدمه بطريقةٍ واضحة مصحوبة بضحكةٍ صغيرةٍ مرحة...
فخرجت حنين بسرعةٍ وحقيبة حاسوبها لم يفتها أن تضيف نقطة النهاية لهذا اللقاء الفاشل الرائع، حين ضربته في ذراعه اثناء خروجها، فتأوه بوضوح وهو يضحك ضحكة مرحة بينما أنغلقت أبواب المصعد تحميها منه أخيرا...
توقفت مكانها و وضعت يدها على صدرها اللاهث تحاول أن تهدئه، ثم نظرت الى طابقها من حولها وهمست بداخلها بذعر.
إنه يعرفني، يعرفني فعلا و اسما، بدأت ابتسامة حالمة في إنارة وجهها تدريجيا حتى باتت صورة حية لفتاةٍ مشرقة بالعشق...
ثم اندفعت جريا الى مكتبها وما أن رمت حقيبتها وجلست حتى رفعت يديها الى وجنتيها الساخنتين وهي تعيد هامسة بذهول (إنه يعرف اسمي، ويعرف تخصصي و دعاني الى المقهى، لكني بغبائي المعتاد رفضت).
تحول الذهول، الى ضحكةٍ مذهولةٍ رقيقة، وهي تفكر بأن الفرصة لم تفت، فاليوم اقتربت منه كما لم تقترب من قبل، لذا كل ما عليها الآن أن تنتظر موعد الإستراحة مهدئة النار امندلعة بين ضلوعها شوقا لرؤيته من جديد...
مرت الدقائق ببطءٍ غادر تعمد أن ينسف أعصابها نسفا، الى أن وصلت الxxxxب لمكانها المنتظر، في موعد استراحة الموظفين، والذي يتجه فيه الجميع الى مقهى الشركة، وكانت حنين في شوقٍ للتوجه اليه اليوم اكثر من أي يومٍ مضى، فمن المؤكد أن عمر سيسلم عليها، سيدعوها للجلوس على طاولته، وهي لن تمانع هذه المرة، لذا حرصت على التوجه الى حمام السيدات و للمرة الأولى فكت شعرها الطويل و جمعته على هيئة ذيل حصان، بدلا من تلك الكتلة المستديرة التي تلفه كل يوم، وحقا كان التغيير يستحق عناء المحاولة...
نظرت الى نفسها في المرآة وهي تميل برأسها لليمين و اليسار لتختال بذيلِ حصانها الطويل، ثم قالت لصورتها بوضوح (اليوم، يومٌ تاريخي في حياتك، وليشهد هذا المكان)
نظرت حولها لحمام السيدات المحيط بها لكنها لم تهتم، بل أعادت نظرها الى صورتها صديقتها، وهي تتابع (حسنا بغض النظر عن طبيعة المكان الا أنه سيشهد على بدايةٍ جديدة في حياتك، بداية حكاية).
ابتسمت وهي تنظر لعينيها قائلة بعشق (لقد عرفك يا غبية، و أنتِ التي كنتِ تتسائلين)
رمشت بعينيها وهي تفكر بما لا يقبل الشك (مهندس مثله، في قسمٍ آخر تماما، يعرف مصممة رسوم مغمورة في قسم الدعاية، أكيد ليست مصادفة، لابد أنه سأل عنك، وأعلموه باسمك).
اتسعت ابتسامتها ثم رفعت نظارتها السوداء الاطار الى فوق رأسها حاجزة بها بعض الخصلات المتمردة، وقالت لصورتها في المرآةِ وهي ضامة قبضتها أمام وجهها (إنها فرصتك الأخيرة يا حنين، لقد قام بالخطوة الأولى وهو الآن ينتظرك فهيا انزلي الى أرض الملعب و آتني بقلبه، هيااااا. هيااااااااااااا).
لم تكد تنهي هتافها الخافت حتى وجدت باب إحدى حجرات الحمام يفتح و تخرج منه إحدى الموظفات، متحاشية النظر اليها بخجل بينما لمعان عينيها المغروقتان بالضحك كاد أن يوقف قلب حنين وهي تتسمر مكانها مبحلقة في صورتها، مدركة أن هناك من كان يشاركها أفكارها طوال دقائق الغباء الماضية، أغمضت عينيها بصدمةٍ ثم نظرت إلى الموظفة التي كانت تعدل من زينتها أمام المرآة، ثم همست متلعثمة (أنا أتدرب لدور تمثيلي).
أومأت الموظفة برأسها وهي مرتبكة تمنع نفسها من الإنفجار ضحكا، وفي نفس الوقت تنظر اليها بطرف عينيها متوجسة منها...
لذا لم تجد حنين سوى أن تنسحب ململمة ما تبقى لها من كرامة، فلتذهب الكرامة إلى الجحيم، فلديها ما هو أهم لتشغل بالها به.
اتجهت جريا الى المقهى وقلبها الخافق يسبق خطواتها شوقا اليه...
نظرت بطرف عينيها في أنحاء المكان، تتلهف لرؤيته، الى أن صدم قلبها بتلك الرؤية المنتظرة، لكنها لم تكن سعيدة كما توقعت، فحبيب القلب يجلس على أحد الطاولات و بجواره على نفس الطاولة تجلس تلك الجميلة من قسم هندسة العمارة، والمعروفةِ بدلالِ صوتها لدرجة تثير الحنق وتجعلها ترغب في خنقها لعل صوتها يعتدل قليلا بدلا من تلك الميوعة المصطنعة...
لكن يبدو أن صدىء القلب يرى غير ذلك، فهو ينظر اليها مبتسما، يميل برأسه ليسمع ماتقوله جيدا، حتى كادت جبهته أن تلامس خصلاتِ شعرها، عقدت حاجبيها بينما شعرت بلكمةٍ في صدرها، لم ينتظرها كما كانت تتوقع، لم يلتفت اليها أصلا حين دخلت، وفوق هذا كله يبدو بمنتهى السذاجة وهو يبتسم الى تلك المدعية، استدارت بعيدا بقلبها المجروح، وخاطرها المكسور، فبدت وكأنها تحتاج الى إحسان بنظرة عينيها المائلتين والتي تشبه نظرة الجراء الضائعة...
اتجهت لتأخذ صينية بلاستيكية، وضعت بها العديد من الأشياء وهي شاردة، حتى أنها لم تدرك حتى ماتضعه، ثم استدارت لتختار أي طاولة للجلوسِ اليها، لكن بعد عدة خطوات، أطلقت أحدى الموظفات شهقة عالية، يبدو أنها كانت تستمع ضاحكة الى شيءٍ همست به زميلاتها، لكن سبب الشهقة لا يهم، الذي يهم أن حنين ما أن سمعت تلك الشهقة من خلفها، حتى انتابها ما ينتابها منذ سنين، في لحظةٍ واحدة اختل توازنها وسقطت على الأرض الناعمة، وسقطت الصينية عليها بما تحتويه و قد انسكب العصير على سترتها وهي مرمية على ظهرها تنظر الى السقف بعينين متسعتين على أقصاهما...
تعالت الشهقات و تسارعت الخطوات، نزل عدة أشخاص بجوارها يحاولون إفاقتها، لكنها لم تصاب بالإغماء، و قال شخصٌ ما بجوارها، أنها ليست مصابة بالإغماء فعينيها مفتوحتين، وقتها تصاعدت التنهيدات لم تلبث أن تبعتها الضحكات بخفوت وصوتا يقول لها، هل ستبقين ممددة على الأرضِ مذهولة بهذا الشكل طويلا؟..
أخذت الهمهمات الحائرة تتزايد من وضعها الغريب، الى أن تعالى صوتا صارما (ابتعدو، ابتعدو من فضلكم).
ظلا كبيرا حجب ضوء المقهى الأبيض عن عينيها، وصوته يقترب من أذنها بينما كفه يمسك بكفها (انهضي معي حنين، أنتِ لستِ مغشيا عليك، لا توهمي نفسك، لاتخافي فقط خذي نفسا عميقا)
بمعجزة حاولت تنفيذ مايطلب، مرة، مرتين، ثلاث، الى أن سكن صدرها قليلا، ورمشت بعينيها أخيرا بعد أن ارتخى اتساعهما المؤلم...
شعرت به يجذب كفها برفق، ثم وضع يده خلف ظهرها ليساعدها على الجلوس، ثم أمسك بذارعيها لتنهض واقفة على قدميها...
وقفت أمامه بعد أن وعت ما حولها تماما، لم تجد الجرأة على النظر الى كلِ تلك الوجوه المحدقة بها ما بين تعجبٍ واستهجان، وظلت مطرقة برأسها، يطالعها مظهر سترتها المبللة بالكامل بالعصير...
لم تستطع التحمل أكثر فانطلقت تدفع المحيطين بها بذعر وهي تخرج من المقهى جريا، بينما تغرق الدموع وجهها لتكمل الصوة المخزية...
كانت حور متمددة في فراشها تتطالع هاتفها ذو الشاشة الواسعة، تتنقل بملل بين صفحات التسوق، لم يعد لديها ما تحتاجه، لكن ذلك لا يمنعها من شراء المزيد، لا تعلم لماذا يعطيها التسوق شعورا رائعا بالإكتفاء، أن تعود محملة بالحقائب الملونة والتي تحتوي على كافة الأشياء الأنثوية ذات الماركات العالمية فإن ذلك يعطيها احساسا دافئا، لكن بعد يومين اثنين فقط على الأكثر تعود الى شعورها بتلك الفجوة المتسعة بداخلها، رمت هاتفها بملل وهي تغمض عينيها، لتحلم بذكراه تداعبها من جديد، عينيه الجميلتين، ابتسامته الحنونة و التي لم تكن موجهة اليها يوما، ضحكته المدهوشة وهو ينظر الى معتز لأول مرة، وكل ضحكاته من بعدها الى معتز وحده، لكن تلك التي جلبت معتز الى هذه الدنيا لم يكن لها نصيبا من حنانه أبدا، انسابت دمعتانِ حزينتانِ من خلف أجفانها المطبقة على وجنتيها الناعمتين، دمعتانِ خفيتانِ على كلِ من حولها الا هو، فقد رآهما من قبل و لم يهتم، بل ظنهما من الاعيب النساء...
تسللت ذكرى كلماته القاسية اليها لتمحو تلك الذكريات الجميلة و التي لم تملكها يوما، لا أريدك ولم أردكِ يوما، ازداد انهمار دموعها الصامتة، لقد حصلت هي عليه بينما لم يردها هو يوما، أذاقها المرار و ذل روحها العاشقة له حتى ملته وكرهت حبه الذي ذلها بهذا الشكل المؤذي، إنها حور رشوان، ولم تكن حور رشوان لتعامل بهذه الطريقة، هددها مرارا بأنه سيأخذ معتز منها، فإن كانت تريد الذهاب فلتذهب بلا عودة لكنها لن تأخذ معتز معها أبدا، لكنه عاد و تخاذل خاصة بعد اكتشافهم لحالة معتز الخاصة، وقتها لم يستطع أن ينتزعه من أحضانها وهو في أشد الحاجة اليها في هذه الحالة وهذا السن تحديدا، وهذا أيضا ما أخره عن تطليقها الى هذه اللحظة، هل ينتظر أن تطلب منه؟، لأنها لن تطلب أبدا، و إن أراد أن يتخلص منها فليفعل بنفسه فهي لن تساعده على ذلك لتحسن من صورته أمام نفسه، لكن رغما عنها مجرد كلمة الطلاق تثير نارا تحرق أحشائها، حتى وإن كانت قد تعودت الإنفصال عنه طويلا، لكنها لازالت تحمل اسمه...
عادت اليها ذكرى رؤيتها له لأول مرة منذ أربعِ سنواتٍ، في زفاف أحدى صديقاتها، و قد أصرت على الذهاب بعد رفض عاصم القاطع، الا أنها بمساعدة والدتها التي استطاعت تليين قلب عاصم و الموافقة على ذهابها، على أن يوصلها و يعيدها بنفسه، و بعد مداولاتٍ عقيمة استسلم أيضا الا تذهب معها حنين كما طلب...
و كالعادة بدت حور كملكةٍ مشتعلةٍ متوجة، بثوبها الأحمر القاني الشبيه بلون الياقوت، وشعرها الأسود الغزير خلف ظهرها، كانت تبدو كحالةٍ شاذة وسط الجمع، فالحفل كان هادئا بسيطا تلائمه الأثواب محايدة اللون، الا ان هذه الأثواب تلائم الحفل لكن لا تلائم حور، وهي بطبعها تتخذ ما يلائمها دون النظر لما يريده من حولها...
حينها رأته من بعيد، أسرها شيئا ما في وقفته الطويلة المهيبة، أميرٌ راقي بكلِ ما تحمله الكلمة من معنى، ظلت مأسورة بهيبةِ هذا الغريب الى أن حانت منه التفاتة، والتقت أعينهما، حينها عرفت أن شيئا ما قد تغير، وأن حياتها لن تعود كسابق عهدها...
تهادت من حوله وهي تختال ببهائها الفج، لكنه لم يعرها نظرة ثانية، وكأنها اختفت من الصورة، وحين يأست لجأت الى سلاحها الفعال، فاتجهت الى منسق الأغاني وهمست له بشيءٍ سرعان ما ابتسم مسحورا بها لتعم بعد لحظات أنغامٍ شرقيةٍ صادحةٍ رجت أرجاء القاعة، وتاهت في عالمها السحري الذي هي بطلته بلا منازع، حتى أن أحدهم قام بامساكِ يدها لتعتلي إحدى الطاولاتِ، وتكمل عرضها المتمايل وسط هتافات معظمِ الجمعِ من حولها و اللذين تخلوا عن وقار المكانِ و الحفل ليساندو تلك الشعلةِ الراقصةِ الحمراء، و قد التف الوشاح الأحمر الذي كان يغطي كتفيها، في حركةٍ خاطفةٍ ليُعقد حول وركيها المتمايلين بسحرٍ شرقي، مع خلخالها وأساورها التي لم تتخلى عنهم في حفلها الراقي، بينما طاردتها نظراتِ الدهشةِ الممتعضة مما تفعله ممن التزلمو أماكنهم باحترام...
واثناء انحنائها و سقوطِ شعرها حتى كاد أن يلامس سطحِ الطاولة، التقت أعينهما من جديد، وهو يقف بعيدا مستندا الى أحد الجدرانِ مكتفا ذراعيه يطالع العرض المجاني بعينينِ جامدتين...
لا انفعال، لا مبالاة، لا شيء، و بعد أربعِ سنواتٍ لا تزال تذكر تلك النظرة المتجمدة والتي أشعرتها بالفرقِ بينهما، والذي لا تزال تشعر به الى الآن، هي حور ابنة اسماعيل رشوان تشعر بالضآلةِ أمام شخصٍ واحد فقط، دون غيره.
المحتوى الان غير مخفيقامت من مكانها ببطءٍ تريد الذهاب الى معتز، لتراه، فقط لتراه، لاتملك أن تفعل سوى ذلك، تشعر بأن هناك ما يحجزها عنه، لا تستطيع التفاهم معه، بعض النساء لم تخلق لتكن أمهاتٍ معطيات...
ذهبت ببطء تجر خطواتها الى غرفته وما أن دخلت حتى نهضت المربية سعيدة بتلك الزيارة الخاطفة وقالت بأمل (هل ستجلسين مع معتز سيدة حور؟).
ابتسمت حور بتوتر وعينيها على ذلك الصغير الجالس في ركنه المعتاد معطيا ظهره اليها يلعب بألعابه، اتجهت اليه و انحنت لتقبل رأسه الجميل بشعره الأسود الناعم ثم نهضت واقفة على الفور، فقالت مربيته بيأس (لما لا تحاولين الجلوس معه قليلا، إنه يحتاج أن يراكِ)
رمشت حور بعينيها لمنع تلك الدموع الغادرة من الإنسياب على وجنتيها و ابتسمت قائلة بصوتٍ مرتجف (لا، أعتقد، أنتِ أفضل مني).
همست المربية بالحاح وهي تقترب منها (أنتِ أمه، لن يستطيع أحد تعويض مكانتك لديه، فقط امنحيه وامنحي نفسك الفرصة)
أومأت حور برأسها بدون اقتناع وهي تريد الخروج من هنا بأقصى سرعة لا لشيءٍ سوى لأن تتفادى لحظات اثبات فشلها كأمٍ لطفلٍ مميزٍ كمعتز، ثم همست بصوتها الرخيم الجرسي (غدا ربما سيكون الوضع أفضل، أنا مضطرة للذهابِ الآن).
سارت عدة خطوات ناحية الباب لكن المربية أوقفتها وهي تقول بهدوء (السيد نادر سيمر اليوم ليأخذ معتز)
التفتت حور اليها بسرعةٍ وهي تقول بلهفةٍ لم تستطع السيطرة عليها (سيمر نادر بنفسه؟)
أومأت المربية بصمت فاستعادت حور بعضا من هدوئها الظاهري وقالت برقةٍ مصطنعة (حسنا شكرا لك، هل تحتاجين الى مساعدةٍ في تحضيره؟).
أخذت تبتهل الا ترد بالإيجاب وحصلت على مبتغاها حين هزت المربية رأسها نفيا بصمت فابتسمت حور و خرجت سريعا من الغرفة، أمامها وقت محدود لتجهز نفسها، فنادر لا يتأخر عن موعده أبدا...
عند العاشرة تماما كان جرس الباب يرن باعثا رنينه الى قلبها الملهوف شوقا للقياه، فنزلت جريا وهي تعدل من خصلاتها المتطايره خلفها كستائر حريرية، بينما يقرقع كعبي صندالها الرائع على الأرضية الناعمة، يعلوه خلخالها الذهبي ذو الألعاب الصغيرة الرنانة و التي تكون مع أساورها الذهبية مقطوعة حور الخاصة، وما أن وصلت الى الباب حتى توقفت لتلتقط أنفاسها المبعثرة بشوق ثم أنهتها بنفسٍ عميق وهي ترسم أشد ابتساماتها إغراءا على شفتيها الرائعتين ثم فتحت الباب...
كان هو واقفا كصرحٍ عالٍ من الكبرياءِ و الغرور، نادر، زوجها الرائع، كم تحب هذه الكلمة، كانت يوما على وشكِ أن تيأس من نيلها، لكن حور رشوان لا يردعها رادع، وها هو لا يزال زوجها ولم تصل اليه يوما أية امرأة مثلما وصلت هي، حتى ولو رغما عنه، لكنها وصلت اليه، وأنجبت ابنه، ابنه الذي لازال هو القيد المسلسل الذي يجذبه و يعيده اليها دائما، وهي لن تتردد في استخدام هذا القيد الى أن تصل اليه مرة أخرى، ستعود لتلفه حول إصبعها من جديد، لن تكون حور إن لم تفعل...
رفع نظره اليها، وتأملها طويلا، تقف أمامه بكلِ خيلائها وجمالها، تلك من كانت زوجته يوما و لا تزال مع ايقاف التنفيذ، لم تتغير، ولن تتغير يوما، ستبقى أسوأ نموذجا لإمرأةٍ في عينه، ولولا معتز لكان نبذها من حياته منذ وقتٍ طويل...
وصله همسها المغوي يتسرب متطايرا كدخانِ لهبٍ ناعم (مرحبا نادر).
أرغم نفسه على رد سلامها وهو يقول بصلابةٍ دون أن يتأثر بمظهرها الذي تعبت في تحضيره (مرحبا حور، هل معتز جاهزا؟، أريد أن آخذه حتى لا نتأخر)
أمالت برأسها في دلالٍ متعمد ثم ابتسمت بنعومة هامسة (هكذا مباشرة، دون حتى أن تسألني عن حالي بعيدا عنك؟)
زفر نادر بقوة وهو ينظر الى الجهة الأخرى قائلا بجمود (احضري معتز من فضلك يا يا حور)
اتسعت ابتسامتها قليلا وهي تهمس بنعومة (لكم اشتقت لسماع اسمي من بين شفتيك).
نطقت بكلمتها الأخيرة بهمسٍ أجش وصل الى أذنيه بصعوبة ٍ جعلته يرغب في ضربها، فنظر الى عينيها بنظرةٍ أرسلت الرعب الى قلبها من جديد وقال بصوتٍ خافت مخيف (حور، نصيحة مني توقفي عن حركاتك المثيرة للشفقة ِ تلك، فهي لم تعد تناسبك، والآن فلتحضري معتز بكل هدوء).
غابت النعومة عن عينيها و اشتدت شفتيها بينما أخذت عضلةٍ نافرةٍ تنبض في فكها دون أن تستطيع السيطرة عليها، عادت تلك النار التي تكوي أحشائها من جديد كلما قابلها جفاؤه...
همست بفتور وهي تشعر بقلبها يهبط محبطا بعد أن كان يتأمل أن يرى ولو لمحةً من شوقٍ بعيد، في تلك العينانِ التي أسرتها منذ سنوات (تفضل على الأقل، ستغضب أمي، إن عرفت أنك قد أتيت إلى بابِ بيتنا ولم تدخله).
أخذ نفسا غاضبها وهي تذكره بتلك السيدة الفاضلة التي يكن لها كل احترام، وهي الوحيدة بعد معتز التي تجبره على محاولة التعامل ببساطة
لم يجد سوى أن يدخل، دقائق معدودة، حدث نفسه، دقائق معدودة وسيخرج مصطحبا معتز بعيدا
نظرت حور بوجومٍ إلى ظهره الصلب القوي بعد أن تخطاها دون أن يحاول ملامساتها، الى متى سيظل بهذه القسوة؟، والى متى سيظل يعذبها معه، مصيره اليها، فلما لا يختصر الوقت ويعلن إستسلامه...
اقتربت منه ببطءٍ تسمعه رنين خلخالها و أساورها الذهبية، تهديه عطرها المسكر و الذي تعرف بحاستها الأنثوية بأنه يسكره شوقا دون أن ينطق بهذا يوما...
وصلت الى بعدِ خطوة منه ثم لم تقاوم تهورا مجنونا وهي تمد يدها بخفة لتلمس ظهره بأصابع مرتجفة، تتنهد لوعة و اشتياقا مغمضة عينيها، وللحظة، للحظة واحدة شعرت بإنقباضةٍ خفيةٍ سرت في عضلاته القوية قبل أن يستدير اليها بحركةٍ بطيئة، ناظرا اليها بجمود قبل أن يقبض بكفه الساحقة على أصابعها الهشة بقوةٍ أوشكت على كسرهم، حتى أنها سمعت قرقعت مفاصلها الرقيقة بين أصابعه القاسية فشهقت ألما وعيناها تتسعانِ ناظرة اليه بخوف، لكنه لم يأبه لخوفها بل نظر اليها بصلابة وهو يهدر دون أن يرفع صوته (الا أمل بك أبدا؟، الى ماذا ترمين؟، حركة اغواء فاشلة جديدة؟).
كان صدرها يعلو و ينخفض بشدةٍ وهي تنظر اليه لاهثة بينما حاجبيها معقودانِ كطفلٍ خائف و غاضب في نفس الوقت لذا لم تستلم لخوفها طويلا وهي تتشبث بمقدمة قميصه بيدها الطليقة، تقف على أطراف أصابعها لتزيد من طولها حتى تستطيع النظر الى عمق عينيه، ثم همست تستجديه متخلية عن كبريائها (أحبك، أحبك يا نادر فلما لا ترحمني، أنا أموت بدونك كل ليلة، أرحمني أرجوك).
ثم اقتربت منه في حركةٍ مهووسةٍ تنوي تقبيله وقد فقدت السيطرة على نفسها، الا أنه أسرع ليمسك بساعديها بنفس القسوة ليبعدها بعيدا عنه حتى أنها كادت أن تسقط أرضا لولا أن حفظت اتزانها على كعبها العالي بأعجوبة، ثم رفعت رأسها تدفع شعرها إلى الخلف بحركةٍ مجنونة وهي تنظر اليه بعينين شرستين مبللتين، ثم همست بفحيح (ستعود إلى يا نادر، أعدك بأنك ستستجدي حبي يوما قريبا، قريبا جدا).
ابتسم بسخريةٍ، تكاد نظراته أن تحرقها حية وهي تجري على جسدها الرائع المغطى بثوبٍ يصل بصعوبةٍ الى ركبتيها البيضاوين ثم صعدت عيناه لعينيها لتخبرها برأيه بكل صراحة، دون الحاجة الى الكلام...
ظلا ينظرانِ الى بعضهما وذبذبات الكره تقابلها أخرى عاشقة غاضبة الى ان استدارت حور لتعطيه ظهرها لتسمح لدموعها بالتساقط على وجنتيها، غبية، غبية، ها قد سمحت له بإذاقتها كأس الذل من جديد...
رفعت رأسها بصلابة ودموعها تغطي الوجنتين الحمراوين بنعومةٍ تتناقض مع شراسة العينين الجميلتين، بينما هو يقف من خلفها ينظر اليها بكل ما لا تتمناه المرأة في نظراتِ حبيبها، لكنها شعرت بها تحرق ظهرها دون أن تلتفت، أخذت نفسا عميقا ثم مدت يدها لتمسح وجنتيها بقسوة ثم استدارت اليه، تمنحه تلك السعادة القصيرة بانتصاره في اجتذاب دموعها من جديد...
نظرت اليه بهدوء حديدي رافعة حاجبها بنظرة حور النجار المعروفة بقدرتها على تجميد من أمامها، ثم قالت بصوتٍ جليدي (سأذهب لأحضر معتز، أريده هنا في تمام السابعة)
اقترب منها ليمسك بأعلى ذراعيها بقبضتيه الحديديتين وهو ينظر اليها بخطر ويقول (لا تدفعيني كثيرا يا حور، فأنا أحاول جاهدا الا أحرمه من تلك الكلمة التي تجهلين معناها تماما، وصدقيني ذلك يتطلب مني مجهودا جبارا).
ابتلعت ريقها بضعفٍ حاولت الا تظهره، وهي تتوه بين عينيه و شفتيه اللتين تقذفانها بسهامه الطائشة الى أن سكت أخيرا، يمتع نفسه للحظةٍ عابرةٍ بنظرةِ الضياع التي تنتابها كلما اقترب منها او لمسها، ودون إرادة منه انتابته سعادة قاسية لا يعلم سببها، لا يعلم حقا لماذا كل ما يؤلم حور يرضيه، أيكون لديه جانبا ساديا لم تخرجه الا زوجته المجنونة أمامه...
تركها أخيرا بإزدراءٍ واضح ليبتعد عنها وهي من جانبها قد اكتفت من تلك المواجهة المعذبة لها فسارت من أمامه لتتخطاه بكبرياءٍ و تكبر...
صاعدة السلم، تتناغم خطواتها مع رنين الخلخال و الأساور، متمنية من كلِ قلبها أن يكون مأسورا بمنظرها ككلٍ من يأسر بها، لن يكون رجلا إن لم يفعل، ونادر بالتأكيد سيد كل الرجال الذين عرفتهم يوما...
ذهبت حور مسرعة الى غرفة معتز لتخبر المربية قائلة بتوتر (لقد وصل والد معتز، هل كل أغراضه جاهزة؟)
أجابت المربية بهدوء (نعم سيدة حور، حقيبته تحتوى على كل مستلزماته بالإضافة الى ورقة التعليمات، هل تريدين القاء نظرة على الحقيبة فلربما أردت اضافة شيء؟)
هزت حور رأسها نفيا بسرعةٍ وهي تقول بإحرج (لا، لا، أنتِ أفضل مني بالتأكيد، من المؤكد أنكِ لم تنسي شيئا).
أومأت المربية برأسها دون أن تتكلم فاقتربت حور من معتز لتجذبه برفق لينهض، ثم سحبته معها لتجلس على حافة الفراش و توقفه أمامها، أمسكت بوجهه بكلتا يديها و نظرت الى عينيه الشبيهتين بعيني أبيه للحظات ثم همست أخيرا وهي تبتلع غصة في حلقها (سأشتاق اليك، قد تكون لا تراني كثيرا، الا انك حين تبعد عني يوما كاملا أشعر بأنني ضائعة، لذا لا تتأخر من فضلك أنت من تحميني في هذه الحياة، بمجرد أن أنظر الى عينيك أشعر بأنني محمية من كلِ ما آذاني يوما).
لم يبد على معتز أنه فهم شيئا، لكن عينيه تعلقتا بعيني أمه طويلا، و كأنه يحاول جاهدا، فضمته حور الى صدرها بقوةٍ تمرغ أنفها في خصلاتِ شعره السوداء الناعمة و كأنها تتلمس القوة من رائحته الطفولية المحببة...
أنت قطعة من أبيك، همست بداخلها وقلبها ينزف دموعا مقهورة، لماذا كان الألم من نصيبها هي، حبٌ يبغضها و أمومة ٌ لاتفهمها...
أبعدته عنها أخيرا وهي تنظر اليه دامعة مبتسمة بألم، كم هي جميلة عيناه، آآآه يا قلبي الذي سيظل ممزقا بينك وبين والدك، لكم أحتاج الى مساندته الآن، بينما أنت المظلوم الوحيد...
نهضت من مكانها وهي تلتقط كفه الصغيرة بيد وحقيبته بيدها الأخرى لتأخذهما الى متحجر القلب أعمى الروح...
ظلت تنظر إلى عينيه اللتين تحولتا في لحظةٍ واحدةٍ من بركانِ كرهٍ وغضب الى بركتينِ حنانٍ حزين، وهو يمد يديه ليرفع معتز بلهفةٍ بين ذراعيه عاليا، ليحتضنه بشدةٍ بينما انفجر معتز في ضحكٍ صاخب، وهذه هي ردة الفعل الخاصة برؤيته لوالده، لكلِ شخصٍ في حياته ردة فعل خاصة، الا هي تحديدا، ردة الفعل الخاصة بها هي محاولة الفهم، والنظر الى عينيها بتركيزٍ شديد...
للحظة قاسية شعرت حور بغيرةٍ تدب في أعماقها لتحرق كيانها وهي تتأملهما، تتأمل تلك العاطفة الفطرية بينهما والتي طرداها منها بمنتهى القسوة، نعم هي الآن تَغِيرُ منهما معا، على كليهما...
استدارت حتى تبعد عينيها عن ذلك المنظر الذي يقتلها كمدا بدلا من أن يسعدها كما هو مفترض...
أقسمت بداخلها بكلِ دمعةٍ ذرفتها يوما من أجله، بأنها ستعيده راكعا متمنيا حبها، ووعدا منها أنها لن ستعذبه قبل أن يناله، بالرغم من أنه يستحق العذاب تماما...
فقط انتظرني يا معذبي، يا من أخذك غرورك لتتحدى قلب حور رشوان، فلتعلم أن اللعب بالنار كان أهون من تلاعبك بقلبي، فقط انتظرني، وسنرى من الرابح في نهاية لعبتنا، (حور).
رفعت عينيها التائهتين اليه حين سمعت نداؤه الهادىء على خلاف الدقائق الماضية و قبل أن تجيبه سبقها ليقول بجمود (هذا كله لن يفلح، لقد آن الأوان ليذهب كلا منا الى طريقه، أنتِ لازلتِ شابة و أنا لا أريد ايقاف حياتك بهذا الشكل، هذا ليس من شيمي)
اختفت دقات قلبها، وشعرت بأنها ماتت وعادت، وهي تهمس مقطوعة الأنفاس بما تنطق به عيناه (ماذا تعني؟).
أجاب بجموده المعتاد وهو يحمل معتز المتعلق بعنقه ضاحكا دون أن يسمع شيئا مما يجرى و حتى إن سمع لن يفهم (الطلاق).
يجلس في مكتبه غاضبا بشدةٍ يكاد يضرب أحدا، أي أحد، لم يستعصي شيء من قبل على عاصم رشوان...
يريد هذا المنزل، وسيحصل عليه، أنه منزلٌ قديمٌ من طابقين في أكثر المناطق الحيوية من المدينه، قديمٌ لكنه فني الطراز يكاد يكون غريبا على كل تلك الكتل الخرسانية المحاصرة له، لكن بالرغم من ذلك استطاع بكلِ مقدرةٍ فذة السيطرة على كل تلك الكتل المحاصرة، ليكون مدينته السكنية الراقية الخاصة في قلب المدينة الأم، ولم يبقى الا هذا المنزل الغبي في قلبها...
الورثة لا يقبلون بالبيع!، حسنا ليسو الورثة تحديدا، لا توجد سوى وريثة واحدة بعد أن سأل و بعث فريق تحقيقه الخاص لتقصي الأمر، ليعرف من ذلك الذي يجرؤ على تحدي عاصم النجار بكل تلك العنجهية...
نظر الى الورقة أمامه بغضبٍ أهوج، صبا عمران، الوريثة الوحيدة للمستشار محمود عمران، القاضي الذي لا غبار على سمعته...
تقيم بمفردها مع سيدة عجوز قد تكون خادمتها، بعد وفاة والدها ليست متزوجة و لا أقارب لديها، لذا فقد كان يظن أن الأمر سهلا و أن شابة في عمرها أكيد ستكون سعيدة بتلقي مبلغا مناسبا أكثر من كافٍ لتنتقل الى أرقى الأحياء في شقةٍ فاخرة يسهل التعامل معها أكثر من ذلك المنزل القديم الضخم...
ضحك ضحكة ساخرة غاضب، شابة في عمرها!، إنها تكاد أن تخرجه عن سيطرته التي يفرضها التحضر عليه منذ ستة أشهر، عشرات المرات يبعث اليها الوسيط ليقوم بالتفاهم معها لكن دون جدوى...
بالطبع حين بدأ في أول مرةٍ بدأ بعرض بثمن البيت الحقيقي دون زيادة أو نقصان، بالرغم من أن طريقة رجال المعمار المعتادة هي البدء بثمنٍ بخس، لكي حين يتم الفصال حتى لا يرتفع الثمن عاليا، الأ انه لا يفعل ذلك أبدا، إنه يقدر ثمن أي شيء يريد شراؤه بالعدل، ليستطيع استحقاق ما ناله فيما بعد...
وبالفعل تم الرفض كما توقع، فأخذ يزايد تدريجيا مع تكرر زيارات الوسيط لها، لكن ما لم يتوقعه أن يقابل وسيطه كل مرةٍ برفضٍ أشد و أعنف، حتى تعدى الثمن قيمة الأرض و المبنى، ولا يزال الرفض قائما مع اقترانه بالتهديد المباشر بعدم تكرار المحاولة...
ابنة المستشار، لطالما سمع تلك العبارة مراتٍ عديد، ابنة المستشار و ابن المستشار، لدى ابناء القضاة شخصية مختلفة، ينظرون الى الناس من حولهم نظرة غريبة، يكاد من هو مثله يشعر بأنها نظرة تعالي من فكرة الثراء عموما، و كأن القانون يرفض المال، حماقة، لم يخالف القانون يوما، و ها هو يقابل بتهديدٍ وقح من فتاةٍ سخيفة، تهدده بقوة القانون...
شتم بعنف وهو يضرب سطح المكتب بقبضته، ثم بعد لحظةٍ أخذ نفسا محاولا تهدئة نفسه، لقد دخل في منازعاتٍ وجدالاتٍ من قبل بعدد شعراتِ رأسه، فلن يبدأ في التهور الآن...
و بعد أن هدأ قليلا، أرجع ظهره الى الخلف ليستريح مغمضا عينيه وهو يفكر، حسنا يبدو أنه حان الوقت ليتدخل بنفسه، وهذا بالتأكيد ليس من حسن حظ تلك الصبا، لكن ماذا يفعل؟، لقد أرغمته على ذلك بعندها الغبي، لكن أن يواجه فتاة؟ مجرد الفكرة تشعره بالدناوة، عاد ليتأفف بغضبٍ أحمق، وهو يفكر أن عاصم رشوان مضطرا للتحاور مع فتاة، مثل هذا الصنف من البشر ليس له وجود في عالم أعماله، لا وجود لأي فتيات، بل وهو أيضا مضطرا للتحاور و الإقناع!..
حتى تلك الغريبة الأطوار التي لا يتذكر اسمها و التي تقطن أحد المنازل التي يملكها و التي تصر على مقابلته منذ فترةٍ، يحولها الى مساعده دون أن يقابلها...
يبدو أن العمل قد ازداد تفاهة في هذه الأيام حتى يضطر الى التعامل مع فتاتين في فترةٍ لم تتجاوز أشهر قليلة، يكفيه المجنونة أخته و المزعجة ابنة عمه دون الحاجةِ الى المزيد...
قطع رنين الهاتف أفكاره بمنتهى الإزعاج، فرفعه لينظر الى الإسم بوجوم، ها هو المزيد!، دانا...
رغما عنه توترت أعصابه قبل أن يجيبها بهدوء (السلام عليكم)
وصله الصوت الرفيع الحاد الذي يكاد أن يخرق طبلة أذنه (السلام عليكم؟، فقط؟، هل هكذا تحيي خطيبتك دون دلال أو ألفاظٍ تحببية؟، ماذا لو كان أحدا بجوارك الآن؟، ماذا سيقول عن طريقة مخاطبتك لي؟).
أغمض عينه مرة أخرى وهو يتسائل سؤاله الذي يؤرقه منذ أن خطب دانا، والذي يعتبر الشيء المقلق الوحيد في تلك الزيجة...
كيف سيستطيع أن يتعايش مع صوتها؟..
كيف سيرجع كل ليلة ليستلمه هذا الصوت؟، كم سيكون رائعا لو اخترعو جهاز تحكم للبشر يستطيع كتم صوت من يتكلم، لكنه عاد ليلوم نفسه على هذا الشعور تجاه صوتها الذي خلقت به و لم تختاره...
أخذ نفسا آخر ثم رد بهدوء بعد لحظة (وماذا بها تحيتي؟، انسي تلك الألفاظ الأخرى يا دانا لأني لم أعتدها و لن أفعل)
أبعد الهاتف عن أذنه حين وصله ذلك الصوت الذي يشبه خربشة الطباشير على لوحِ الدراسة، حتى أن شعر ذراعيه وقف مستفزا من صوتها...
أنهى مكالمته بأن قال أخيرا (نعم يا دانا، سآتي الليلة، نعم، نعم، نعم يا دانا، لا تقلقي، حسنا الى اللقاء، نعم، سآتي، لا لا لن يشغلني شيء، ابعثي سلامي الى والدتك الى أن أراها، نعم، أراك الليله باذن الله، هلا أغلقتِ الخط من فضلك)
غطى عينيه بكف يده وهو يمنع نفسه من التأوه ثم قال بصبر (لقد كبرت يا دانا على لعبة، فلتغلق أنت أولا، اغلقي الخط من فضلك).
أخيرا تنهد براحةٍ حين سمع صوت إغلاق الخط، فوضع الهاتف على سطح المكتب وهو يرجع رأسه مرة أخرى، يا له من صوت!
عاد عاصم ليلوم نفسه على أفكاره، ليس ذنبها أن خلقت بهذا الصوت، ليست تلك مشكلة حيوية لتقلقه من الزواج بها...
لكن المشاكل الحيوية موجودة بينهما بالفعل، منذ بدء خطبتهما المتسرعة و الغير محسوبة العواقب من جانبه...
و المتأنية للغاية من قبل والدها و التي يدرك جيدا أنه قد درس مشروع زواج ابنته من عاصم رشوان بكل ما سيحققه له من نفعٍ في عدة مجالات، أولا، الأرض، وهو مضمار عاصم رشوان بلا منازع، فسياسي ك عثمان الراجي، يريد أن يمتلك المدينة كلها لو أمكنه، وحين تقرب لعاصم رشوان كان لهذا السبب في الأساس، فالسياسين ليست لهم تلك المقدرة الفذة على امتلاك الأراضي الا بمساعدة خبير، خبير من قلب المدينه وهذه هي حياته كعاصم رشوان...
ثانيا شخص بشعبية عاصم رشوان في المدينه يضمن له الفوز في الانتخابات بكل رجاله و أتباعه، عاصم ليس غبي لكي لا يرى الفائدة التي ستعم على حماه المستقبلي، لكن هو، هو ما الفائدة التي سيحصل عليها حقا من تلك الزيجة...
يشعر بأنه دخل نطاقا غير نطاقه، يشعر وكأنه يبني بيتا ليس له، ولا يشبه طرازه ما تربى عليه...
تهور و ارتبط بدانا في لحظةٍ تملكه فيها الغرور من اجتذاب عثمان الراجي له، لكن بعد مرور عدة أشهر، زال البريق و عاد الى أصوله، كان يريد من هي تشبه أمه، مهما ارتقى مستوى ملابسه ومهما زاد عدد سياراته، مهما تغيرت هيئته عن أيام الحي القديم، الا أن بداخله لا زال عاصم ابن اسماعيل رشوان قابعا بداخله...
لا ينكر أنه منذ فترةٍ طويلة وهو يفكر في حل نفسه من هذا الإرتباط، لكنه يؤجل الأمر محاولا الا يظلم فتاة ليس لها ذنب في تهوره، بالرغم من أنه يدرك جيدا أن دانا الراجي ليست لينة العريكة أبدا، فهي تشبه والدها الى حدٍ كبير...
يعلم الله أنه حاول تغييرها بما يتمناه في زوجته، تماما كما تحاول هي تغييره الى ما يلائم مجتمعها المزيف...
لكنه لم يستطع و هي لن تنجح...
أغمض عينيه مرجعا ظهره الى الوراء، وهو يحاول التعامل مع ذلك الشعور البغيض المتنامي بداخله...
ها قد عادت الى غرفتها الآمنة بعيدا عن ذلها وهوانِ النظراتِ مابين ساخرةٍ و مشفقة، كيف سقطت تلك السقطة، مرت فترة منذ أخر مرةٍ وقعت فيها و وقتها كانت وحيدة لم يرها أحدٌ الا الحارس الطيب الذي قام بمساعدتها الى أن نهضت، وهي لا تعلم الى الآن لماذا تقع بتلك الصورة، كان أهون عليها لو كانت قد أصيبت بالإغماء، على الأقل سيكون هناك عذرا مقبولا لسقوطها، لكن المخزي أنها في لحظةٍ واحدةٍ تفقد توازنها وتسقط أرضا، دون أي سببٍ معروف...
أخذت تبكي بشدةٍ غير قادرة على إيقاف فيضان دموعها، لم تمر يوما بموقفٍ مذلٍ كهذا من قبل، وأمام من؟، أمام الإنسان الوحيد الذي تحاول يائسة لفت انتباهه، لابد وأنها قد لفتت انتباهه اليوم بأقصر الطرق...
تعالى شهيقها المعذب ودفنت رأسها في الوسادة تودعها كلِ عذابها، ماذا سيقول عنها الآن، خرقاء لاتستطيع الوقوف...
تذكرت نظرة زميلته الساخرة اثناء خروجها جريا من أمامهم، لها كل الحق في أن تسخر منها، وهو، هو، لازالت تشعر بدفء كفه فوق يدها، تشعر بسخونة يده خلف ظهرها، كما لن تنسى أيضا نظرته المشفقة و التي أرادت أن تنشق الأرض من تحتها وتبتلعها ما أن رأت تلك النظرة...
أغمضت عينيها تريد أن تبعد نظرته عنها، فطالعتها الذكرى القديمة، لتنشب مخالبها في قلبِ فتاةٍ صغيرة...
اثنتان، متشبثتان بالسور الحجري الاحمر ينظرون بذهول، وصبيٌ يصرخ عاليا، نوااااار...
الذكرى نفسها حية أمام عينيها، لكن ما تلاها كان مبهما بالنسبة اليها، ذاكرتها تتشوش تماما عما يحيط بالمنظر المأسوي الذي شاهدته، أما الألم، فالعجيب في الأمر أن الألم كان أفظع من ذلك الذي عرفته يوم سماعها بخبرِ وفاةِ والديها، والمنظر، المنظر لن يضيع من عينيها أبدا، لكن التفاصيل ضاعت تحاول أن تتذكر الذي حدث بعد هذا اليوم لكنها لا تتذكر أبدا و كأن عقلها رفض تقبل الحاضر في ذلك الوقت، لكنها تذكر حربا، بل حروبا، مالك جريح مصاب، عاصم يصرخ جامعا عصبته القديمة، رجالٌ كبارٌ ذوي هيبةٍ في الحي القديم يجتمعون لينهون حربا بين عائلتين في هذا الحي...
وهي، يوما ما خرجت جارية كالمجنونة و ثوبها القديم يتطاير من فوق ركبتيها، بعد أن رأت مالك عائدا محملا على أذرع رجال الحاج اسماعيل...
لتصرخ عاليا ما أن رأت ظهره، (أنت)
وما أن استدار حتى انحنت لتلتقط حجرا ناتئا من الأرض لتستقيم قاذفة أياه بكلِ قوتها فتصيب ذقنه و تدميها، أغلقت وعيها لا تريد أن تتذكر أكثر، فما تلا قد مات، وقد أقسمت الا تحييه من جديد...
أغمضت عينيها بألم، فبعد فترةٍ، انتقلو الى المنزل الراقي الذي يسكنوه الآن، انتقلو وكلا منهم حاملا جراحه التي غيرتهم بقسوة، لكنها لم تتذكر مدة هذه الفترة، هل امتدت لعامٍ أم عامين؟، أم أكثر؟..
حور لم تعد حور، ضربتها قسوة لم يستطع أحدا فهم سببها و كأنها ترفض أن تستسلم للمنظر الحي في ذاكرتها، مالك، آآآآه يا مالك الصغير انطفأ شيئٌ في عينيه لم يستطع استعادته أبدا...
نفس السواد تتذكره لكن دون تفاصيل، أصواتِ عويلٍ وبكاء، مرارة خبرتها سابقا، مرارة الفقد، وبأقصى صوره...
فتحت حنين عينيها وقد بان فيهما ألم كل يوم، لتلتفت متنهدة بألم، أفيقي حنين، أفيقي، لقد مر على الأمر أكثر من أربعة عشر عاما، لابد و أن تغلبي تلك الصورة وتنسيها، لكن إن نسيتها فكيف ستنسى صاحبتها، نوار، أو، لا، كفى...
وضعت خدها على الوسادةِ تدفن جروحها القديمة، تلعق دموعها التي وصلت مالحة الى شفتيها، وهي تردد، لن أتذكر، لن أتذكر، وظلت ترددها الى أن سافرت هربا في سباتٍ عميق...
أنفاسه الساخنة كانت تلفح عنقها الناعم لتحرقه حيا، وذراعيه كانتا كفكي الكماشةِ حولها، أخذت تقاوم متلويةٍ بجسدها الغض البريء أمام هذا الطغيان، لم تجرؤ على النطق بحرف، حاولت و لم تجرؤ، ستقتل حية إن فعلت...
ظلت تتلوى وهو يرجع بها الى أن سقطت في هوةٍ سوداء، أرضها قاسيةٍ كالحجر، ورائحة دهانِ الحائط القديم المتهالك تزكم أنفها، مختلطة برائحة رجوليةٍ لم تعرفها من قبل، بشرة قاسية بلونها الأسمر تشد على أطرافها الضعيفة المحاربة بيأس شعيراتِ ذقنه الناميةِ حديثا تبدو كالأشواك تخدش بشرة فكها الناعمة، وشفتيه القويتين تطبقانِ على أنفاسِ شفتيها المرتجفتين في هجومٍ لم تعرفه من قبل، و من بينِ لهاثهما سمعته يهمس فوق أذنها وهي تحيط عنقه بذراعيها الفتيتين، (هذا لتعرفي من هو زوجك؟، ومن يجب عليكِ أن تهبي للدفاعِ عنه كنمرةٍ في غيابه).
انتفضت من نومها صارخة برعب، أخذت تنظر حولها وهي تشهق لاهثة بهلع، لتجد أنها لاتزال في غرفتها الآمنة، كان العرق يغطي جسدها المرتعش فالتصق به قميصِ نومها الخفيف، رفعت ركبتيها تضمهما إلى صدرها و تحيطهما بذراعيها بقوة، بينما خصلاتِ شعرها المتمردة المبللة تلتصق على جانبي وجهها...
همست لنفسها (كان كابوسا، كان مجرد كابوسا، لا تقلقي أنتِ في غرفتك الآن و لن يصيبكِ مكروه).
كان عاصم رشوان يجلس في سيارته مسترخيا و هو متجها الى، أرض المعركة، لا موعد مسبق و لا إخطار، لن يعطيها الفرصة لتتدبر نفسها قبل أن تصدم وجود عاصم النجار بنفسه أمامها، ليرى ماذا ستفعل ابنه المستشار...
وصل به السائق الى منزل المستشار محمود عمران، وقف أمامه شامخا يحاول تحدي شموخ ذلك المنزل المهيب أمامه، الحق يقال أنه رائع بكل المقاييس، نعم هو مثقف بما فيه الكفاية ليعلم أن منزلا كهذا قد يعتبر الأخير في المدينة على هذا الطراز بعد أن تم هدم أمثاله على مر العشر سنين الأخيرة، يستطيع تماما أن يقدر جمال بنائه، يستطيع الشعور بالذنب لقراره الحاسم بأن هذا المنزل سيتم هدمه خلال شهر على الأكثر رغما عن مالكته، نعم يشعر بكل ذلك، لكن الأمر لن يتعدى الشعور، لكن الأفعال شيئا آخر...
الكثير من الأسماء المهمة تنتظر ذلك المشروع الضخم، أي أنه بغض النظر عن الربح الخرافي الا أنه أيضا سيعود بالفائدة على إقتصاد المدينة عموما...
عدل عاصم نظارته الداكنة فوق عينيه، ثم اندفع ليصعد إلى مدخل المنزل والذي لا يضم حارس أو أى كائن حي غيرها كما أخبرته معلوماته المجموعة...
وصل الى الباب النحاسي المشغول بفن وخلفه شراعات من الزجاج الملون المرسوم، دق الجرس و الذي أصدر صوتا ناقوسي رائع أثار رهبة محببة في قلبه، وانتظر...
لحظات و سمع صوت صرير القفل وهو يفتح، ليتسمر مكانه ناسيا أن يزفر شهيقه للحظة...
فأمامه كانت حورية من حوريات الجنة، صبية في جمال البدر تنظر اليه بوداعة وهي تحاول تعديل حجابها الذي لفته بعجل، وما أن انتهت يديها، حتى سمع همس الحوريات (السلام عليكم، أي خدمة؟).
رفع نظارته الداكنة عن عينيه وهو ينظر الى العينين العسليتين المذهلتين، وبدلا من أن يرد التحية التي دأبها منذ أن كان طفلا همس يحدث نفسه (بسم الله ماشاء الله).
جالسا في هذا المكان الراقي، مع مدير أعماله و هو المكان المعتاد بالرغم من كرهه له ومن حزلقة كل أعضاؤه، نادي رجال الأعمال و صفوة المجتمع، ليس كالنوادي الرياضية بل هو مكان لالتقاء كل ما هو حقيقي من الماركات العالمية، وكل ما هو مزيف من النفوس...
أخذ نفسا من سيجارته بتأفف وهو لا يستطيع التركيز على كلمةٍ واحدةٍ مما ينطقها مدير أعماله، فخلفه مباشرة تجلس فتاة تتكلم متباهية ضاحكة بصوتٍ مزعج يوقف شعر الرأس، انها لم تصمت لحظة واحدة منذ ان جلست خلفه، و كل أحديثها من النوع المثير للإشمئئزاز...
عاد ليتأفف بنفاذ صبر، فتوقف مدير أعماله عن الكلام ناظرا اليه مستفهما، و سأله بحيرة (ماذا بك؟، لم تستمع الى كلمةٍ مما قلته).
رد عليه بحنقٍ يقول (وكيف أستطيع سماعك و خلفي توجد ماكينة نشر الأخشاب، الم تجد مكانا أفضل للجلوس به)
ضحك مدير أعماله بصوتٍ منخفض وهو يستطيل لرؤية من تجلس في الطاولة المجاورة ثم همس بتحذير مرح (أخفض صوتك، الا تعرف من هي تلك؟)
رد عليه بنفس الغضب (بالطبع أعرف، أكثر انسانة مستفزة قابلتها و بددت صبري خلال عشر دقائق).
عاد مدير أعماله ليضحك من جديد وهو يشير بإصبعه الى فمه حتى يخفض صوته، الا أن الآخر تابع (نصف ساعةٍ كاملة وهي تتحدث عن كلِ تفصيلةٍ لا تعجبها في خطيبها الذي لابد وأن يهذب مستواه، و لماذا خطبت له من الأساس؟، ماذنب عباد الله أن يجلسو ليستمعو الى مثل تلك التفاهات؟)
توتر مدير أعماله خوفا من أن تسمعهما، فقال بسرعة (أخفض صوتك أرجوك، إنها دانا عثمان الراجي، أوتعلم من هو خطيبها الذي تتحدث عنه؟).
أخذ نفسا من سيجارته وهو ينظر اليه حانقا ليقول (ماذا بك اليوم، الم تكفيني النصف ساعة الماضية حتى ننقل أحدايثها المهمة هنا؟، ابنة الراجي أو ابنه اسكافي، لا يهمني أبد، دعنا نذهب لمكانٍ آخر لنتحدث، أتعلم اشتقت الى المقاهي الشعبية، لما لا نجلس الى أحداها و سنشرب شاي بالنعناع يقوم بتظبيط ما أتلفته تلك المخلوقة من رؤسنا).
اقترب أكثر مدير أعماله ينحنى الى الطاولة ليهمس (لكن الأمر يهمنا، أنها خطيبة عاصم رشوان، وطبعا هو منافس من الكبار جدا بالنسبة لنا و الذين سنبدا في منافستهم ما أن نبدأ العمل).
سكن تماما، وبردت ملامحه وهو يتمعن كل كلمةٍ مما قالها مدير أعماله و كأن قلبه قد تجمد وهو يسمع اسم رشوان مقترنا بعينين سرحتا في خياله، عينانِ زيتونيتان براقتان. تلمعانِ كعيني نمرة صغيرة، و شفتانِ بطعمِ النبقِ الشتوى الملقى على الأرض بعد المطر...
رمش بعينيه مرةٍ ثم مال هو الآخر ليطفيء سيجارته و قال بعد لحظة، (حسنا، لما لا تذهب و تبعث الفاكس الذي كنت تتكلم عنه).
دهش من طلبه الا أنه ابتسم وهو يعلم أن تلك النظرة لا بد وأن تخفي شيئا مدروسا، فقام من مكانه غامزا...
عاد ليستند بظهره الى الخلف ليقترب أكثر من مصدر الصوت، و تابع كل معلومةٍ غبية تلقي بها دون خجل أمام صديقتها...
و استمر الكلام التافه الى أن وصل صوتها المتأفف عند نقطةٍ معينة وهي تقول (إنه رائع، لا أنكر، لكن لو تختفي أسرته من الوجود، أنهم يبدون، يالهي، أخجل أن أعرفهم الى أحد من معارفي، أمه لا تعرف معنى كلمة أزياء أصلا، تبدو كأمٍ من هؤلاء الاتي يظهرن في الحلقات التلفزيونية الشعبية، و أخته حور بالرغم من أنها تعتبر أفضلهم الا أنها أيضا ترث تلك الجينات الشعبية حتى من مجرد حركات وجهها، و ذلك مالك الذي لا يهتم بأي قيودٍ من أي نوع، أشعر أنه يتعمد استفزازي عند تواجدي معهم، لم تريه أثناء أكله، يأكل كتنين، ثم يرفع نظره إلى مبتسما وكأنه يتحداني أن أملي عليه طريقة تناول الطعام برقي...
هذا كله دون ذكر تلك الوضيعة التي كانت تعتقد أن عاصم سيتزوجها يوما)
في تلك اللحظة انقبضت كفه، حتى ابيضت مفاصل أصابعه، لو استطاع أحدا أن يدخل صدره في تلك اللحظة لهرب فزعا من شراسة ما اعتمل بداخله...
أكملت كلامها السفيه بعجرفة (أمه الساذجة اعترفت لي بمنتهى البساطة أنها كانت تريد خطبة تلك المخلوقة اليه لكن طالما انه اختارني فهي سعيدة بي بينهم، على أساس أنها تطريني بتلك الطريقة، حتى الكلام لا تعرف أصوله...
هل تتخيلين أن عاصم بنفسه يتزوج تلك التي تقوم على خدمتهم، يكفي أن تنظري الى ملابسها و شعرها الغير مهذب و كأن المقص لم يلمسه يوما، وجودها بينهم يزعجني و لن يهنأ لي بال حتى أخرجها من البيت، حتى وإن اضطررت أن اجد أي موظف يعمل لدى والدي ليتزوجها، و ننتهى من وجودها، أتعلمين آخر مرة كنت عندهم تعمدت الإرتطام بها وهي تسكب الطعام في الأطباق فانسكب على ملابسها، صحيح أنني أشعر بتأنيب الضمير الا أن وجودها يستفزني).
عينان جامدتان، يلوح منهما الغضب الأسود، تظهر من أعماقهما نزعة تملكية لشيءٍ ضاع منه منذ سنين، أو شيءٌ أضاعه بعد أن أساء اليه، وها هو يُساء اليه من جديد...
أقسم بداخله أن ذلك سرعان ما سيتغير، فما تركه خلفه منذ سنين آن أوانِ استرداده، لقد حان وقت التدخل، مطالبا بحقه...