رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والثلاثون
ظهرت هكذا بجراءة -وبحضورها غير المرحب به- دون ميعاد سابق أمام باب منزلها، اكتسب وجه "همسة" تعابيرًا مصدومة، سريعًا ما تحولت للقلق الممتزج بالانزعاج، لكونها تعلم أن وجودها سيكون مصحوبًا بمشاكلٍ جمة، واربت الباب، وسألتها بلعثمةٍ ظاهرة في نبرتها:
-خير في إيه؟
بوجهٍ غائم، ونظرات تكسوها القتامة ردت عليها "خلود":
-عايزة اتكلم مع أختك.
ظلت "همسة" تسد بجسدها الباب، وممسكة بيدها الأخرى حافته، لتمنعها من رؤية من بالداخل، وقالت لها بلهجةٍ يشوبها التوتر:
-مافيش بينك وبين "فيروزة" حاجة، لو سمحتي آ..
قاطعتها بإصرارٍ عنيد:
-مش إنتي اللي هاتقولي!
ثم استخدمت قوتها الجسدية في إزاحتها عن طريقها، لتقتحم المكان، وصاحت منادية، بصوتٍ أقرب للصراخ:
-"فــــيروزة"!!
خرجت الأخيرة على إثر صوتها المرتفع لتتفاجئ بها تحتل صالة المنزل، رمقتها بتلك النظرة الحادة، قبل أن تسألها بجمودٍ:
-إنتي؟ بتعملي إيه هنا؟
لانت تعابير "خلود"، وغطتها تعاسة مبالغ فيها، لتقول لها بتوسلٍ، مستجدية مشاعرها:
-عشان خاطري رجعيلي جوزي.
تعقدت تعبيراتها بشدة، وسألتها باستنكارٍ واضح:
-جوزك؟ إيه الكلام اللي بتقوليه ده؟
انحنت للأمام لتمسك بيدها، جذبتها منها بقوةٍ، وادعت محاولتها لتقبيل ظهر كفها، وهتفت بنفس الأسلوب الرخيص في استنزاف عواطفها:
-أبوس إيدك، أنا مستعدة أعمل أي حاجة عشان أخليه يرجعلي...
لكن سريعًا ما لبث أن تحولت نظراتها للإظلام، وملامحها للقساوة، وهي تكمل باقي جملتها:
-وتبعدي عنه!
انتشلت "فيروزة" يدها بأعجوبة منها، تراجعت للخلف لمسافة آمنة، ثم صاحت معترضة على ما قالته:
-وأنا مالي بيه أصلاً؟ إنتو أحرار مع بعض!
استقامت "خلود" في وقفتها، ورمقتها بتلك النظرة الحقودة، قبل أن تنطق بغلٍ شَاب نبرتها:
-هو مش شايف غيرك دلوقتي، إنتي إيه؟ عملاله سحر؟!!!
ردت عليها "همسة" في لهجة مستنكرة:
-مايصحش اللي بتقوليه ده!!
تدخلت "آمنة" في الحوار المحتدم، وقالت:
-عيب يا بنتي الكلام ده، بنتي متربية، مالهاش دعوة لا بجوزك ولا بغيره...
توقفت للحظة لتقترب منها، وأنذرتها:
-وماتنسيش إنك هنا في بيتنا!
التفتت "خلود" لتواجهها، وهدرت:
-لأ، ليها!
ضاقت عينا "فيروزة" في رفضٍ تام لما صرحت به، ورغم صدمتها من وقاحتها الفجة، واتهامها غير المقبول، إلا أنها هتفت تحذرها بلهجةٍ صارمة، مستخدمة سبابتها في الإشارة نحوها:
-مش هاسمحك تقولي كلام زي ده عني، أنا واحدة متجوزة وآ...
قاطعتها "خلود" صارخة بهياجٍ منفعل:
-جوزي بيحبك، وإنتي واقفة في طريق سعادتنا!
تفاجأت من كلماتها المعترفة بحبٍ لا تعلم عنه شيءٍ، وممن؟ من آخر من يمكن أن تربطها به أي علاقة! ورغم هذا خفق قلبها بتوترٍ، حافظت "فيروزة" على جدية تعبيراتها المشدودة، وردت محتجة عليها، رافضة التفكير في احتمالية صدق أقوالها المزعومة:
-إيه؟ بيحبني؟ إنتي أكيد غلطانة!
أصرت على تأكيد حديثها بقولها المتعصب، وشرارات الحقد تتطاير من مقلتيها:
-لأ أنا متأكدة من اللي بأقوله، ده اعترفلي بحبه ليكي، عايزة أكتر من كده إيه؟
كان صوت أنفاسها مختنقًا وهي تسترسل بمرارةٍ وحنق، ملفقة المزيد من الأكاذيب:
-جوزي بيعترف لي وهو نايم على فرشتي، بأنه عاشق لواحدة تانية غير مراته، إيه جبروتك ده؟ شيلي السحر اللي عملاه ليه!!!
كلماتها كانت باعثة على الغضب، والاستياء، زجرتها "فيروزة" بقوةٍ، نافية كل ما اتهمتها به بعصبيةٍ واضحة:
-الكلام ده مش مظبوط، إنتي بتخرفي؟
ودون تحذيرٍ، انقضت عليها "خلود" لتمسك بها من ذراعيها، غرزت أظافرها في لحمها، وهزتها منهما بعنفٍ، وهي تسألها بكل ما يعتريها من غيظٍ وانفعال:
-قوليلي عملتيله إيه عشان يحبك بالشكل؟
بأعجوبةٍ، انتزعت "فيروزة" نفسها من براثنها، ودفعتها بعيدًا عنها، لترد بتشنجٍ:
-إنتي مجنونة؟
عادت لتمسك بها من جديد، وسألتها بنفس الصوت الحانق:
-اشمعنى إنتي يحبك وأنا لأ؟!!!!
رفضت "فيروزة" تجرأها عليها، وهدرت دافعة إياها للخلف لتتخلص منها:
-ابعدي إيدك عني.
رفضت "خلود" تركها، وأصرت على الاعتداء عليها قائلة لها:
-وأنا مش هاسيبك إلا لما ترجعيه ليا...
ثم أطبقت حول عنقها بقبضتيها قاصدة خنقها، غلف نظراتها ظلامًا مهلكًا، وردت بشرٍ عظيم:
-حتى لو كان فيها موتك!
لم تستمر كلاً من "همسة" و"آمنة" في موقف المتفرج كثيرًا، تدخلتا لإبعادها عنها، والفض بينهما، وصوت "فيروزة" يتردد عاليًا:
-إنتي إنسانة مريضة في عقلك، استحالة تكوني طبيعية.
أومأت "خلود" برأسها لتؤكد لها صفات الجنون بها:
-أيوه، وهاقتلك، ومحدش هيحاسبني.
شحذت "فيروزة" كامل قواها الدفاعية، واستخدمتها لتنجو ببدنها منها، فجذبتها من حجاب رأسها للخلف، وعرقلتها بقدمها، لتطرحها أرضًا، ثم جثت فوقها لتثبتها، وهي تضربها بضربات عشوائية، في أماكن متفرقة، أصابتها بالألم، وجعلت مقاومتها لها تضعف، بينما أسرعت "همسة" لإحضار هاتفها المحمول، بحثت عن رقم زوجها، ودون أي مقدمات، استغاثت به فور إجابته على اتصالها:
-ألوو، الحقنا يا "هيثم"، أختك موجودة عند ماما، وماسكة في أختي، هاتقتلها لو مجاتش بسرعة!!!!
كالأفعى المنتظرة في جحرها المظلم، مترقبة بتلهفٍ لحظة هجومها على طريدتها، تتبعت "حمدية" خطوات زوجها، بحرصٍ شديد، راقبته من مسافة جيدة، لم تمكنه من رؤيتها؛ لكنها منحتها الأفضلية للحاق به، ادعت تصديقها بسذاجةٍ لكذبه المكشوف بشأن تلك المأمورية الطارئة، أتقنت في تمثيل دورها، وأوهمته أنها اقتنعت بكل ما ملأ به أذنيها، حتى صدق أن خدعته انطلت عليها، خرجت ورائه بعد ذهابه، استأجرت عربة أجرة، وأمرت السائق بالسير ورائه، مقابل المبلغ المادي الذي سيطلبه، استغرقها بضعة ساعات حتى وصل زوجها الخائن إلى وجهته الأخيرة، منطقة شعبية ضيقة، تتجاور فيها العمارات القديمة بشكل لا يترك مساحة كافية لمرور سيارتين معًا.
دفعت للسائق أجرته دون مفاوضة أو اقتطاع، ثم ترجلت من السيارة، وعيناها تلاحقان زوجها، رأته يعرج نحو أحد محال البقالة، انتظرته "حمدية" في مكانها، وتساءلت مع نفسها بصوت خفيض:
-يا ترى مخبي عني إيه تاني يا "خليل"؟!
بعد برهةٍ خرج منه، وقد ابتاع الكثير من الأشياء، في أكياسٍ بدا عاجزًا عن حملها، بسبب وزنها الثقيل، كزت على أسنانها تلعنه بسخطٍ:
-إن ما عملتها ودخلت عليا قبل كده، بشنط كتير زي دي، زي باقي مخاليق ربنا!
ظلت محاصرة في مكانها، إلى أن واصل حركته نحو بناية لم تكن بالبعيدة، اختفى عند مقدمتها، لذا لم تكن متأكدة من ولوجه بداخلها، تحفزت للمضي قدمًا، والتحري عنه من صاحب محل البقالة، وقفت أمامه، وألقت عليه التحية بهدوءٍ عجيب، مغاير لبراكين الغضب المتأججة بها حاليًا:
-سلامو عليكم.
بادلها مالكه الترحيب متسائلاً:
-وعليكم السلام، طلباتك يا حاجّة؟
حدجته بنظرة مغتاظة من نعتها بالسيدة العجوز، فهمهمت بنقمٍ:
-كل ده وحاجّة؟ أعمى البصر بصحيح!!
على ما يبدو لم يفهم ما تفوهت به، فسألها بنبرة رسمية:
-لا مؤاخذة مش سامعك، أجيبلك إيه؟
تصنعت الابتسام، واستطردت متسائلة:
-أنا كنت عايزة أسأل عن الأستاذ "خليل"، اللي كان هنا من شوية.
أتبعت جملتها الأخيرة بإشارة من يدها للخلف، لتشير إلى اتجاه سيره؛ لكنه رد بغلظةٍ، وكأنه يحقق معها:
-إنتي قريبته؟
أجابت بابتسامتها المتكلفة:
-أنا من جيرانه القدام، وبقالنا ياما مشوفناهوش من ساعة ما عزل من حتتنا.
علق بسخافةٍ:
-خلاص روحي اسأليه، أنا مش شغال في الشئون الاجتماعية عشان أشغل بالي بكل من هب ودب!
لم يكن الرجل من النوع الثرثار المتطفل، وظهر هذا بوضوح من خلال أسلوبه الجاف، استشاطت "حمدية" غضبًا من وقاحته، وانعكس ذلك في نظراتها النارية نحوه، ما خفف من وطأة الأمر، قيام إحدى السيدات بالمبادرة بحديثها عنه بما يشبه المدح، من تلقاء نفسها، ودون دعوة لفعل ذلك:
-الأستاذ "خليل" هو في زيه! ونعم الجيرة والله!
ردت عليها تؤمن على كلامها، فأضافت:
-معاكي حق، ده راجل طيب وفي حاله.
دفعت المرأة ثمن ما اشترته، وحثت "حمدية" على التحرك معها خارج محل البقالة، لتثرثر كلتاهما بأريحيةٍ، فعقبت الأولى مسترسلة:
-الحق يتقال ياختي، معمرناش سمعنا عنه حاجة وحشة هو أو مراته!
رفعت "حمدية" حاجبها للأعلى، ورددت باندهاشٍ، صحبه المزيد من الغضب:
-مراته!!!
سألتها المرأة باستغرابٍ، حين لاحظت علامات الصدمة الجلية على محياها:
-هو إنتي متعرفيش إنه اتجوز ولا إيه؟
ادعت جهلها، وقالت:
-لا ياختي، ما أنا بقالي فترة مشوفتوش، بس كان قايل إنه هيخطب.
تأبطت المرأة ذراعها، وواصلت السير المتهادي معها، وهي تخاطبها:
-أهوو ربنا كرمه، واتجوز واحدة سُكرة، تتحط على الجرح يطيب.
بجهدٍ عظيم حافظت على ثبات بسمتها، ودعت لهما كذبًا:
-ربنا يباركله فيها.
استأنفت المرأة حديثها قائلة:
-من يوم ما سكنوا حارتنا، وهما قافلين بابهم على نفسهم، محدش يعرف عنهم حاجة.
علقت ساخرة من جملتها الأخيرة، والتي بدت صحيحة:
-مظبوط.
تنهدت المرأة، ثم زادت في قولها:
-إنتي عارفة، قليل في الزمن ده اللي في حاله.
على مضضٍ نطقت لتُجاريها:
-أيوه.
مصمصت شفتيها، وأثنت أيضًا على طفلته بعفويةٍ:
-ولا بنته، زي العسل، طالعة لأمها، أدب، وجمال، وتربية.
لكن ما لبث أن تبدل صوت المرأة للأسف وهي تغمغم:
-ربنا يعوض عليه بالولد، مراته بتحاول أديلها زمن تجيبله ابن يشيل اسمه.
عقبت باقتضابٍ، ونيران غيرتها وحقدها تزأر بداخلها:
-معلش
أكملت المرأة مضيفة:
-كل شيء بآوان.
ردت، وكأنها تؤيدها:
-أه طبعًا..
ثم لعقت شفتيها، وسألتها مباشرة:
-هو ساكن فين هنا عشان أعدي عليه؟ ما أنا لازمًا أزوره، وأسلم على جماعته.
بتلقائيةٍ أرشدتها إلى عنوانه:
-بيت نمرة 12، اللي هناك ده، الدور التالت، الشقة اللي على اليمين.
ابتسمت "حمدية" لتسهيلها الأمر عليها، وشكرتها:
-كتر خيرك يا حبيبتي، ماتحرمش منك.
قالت المرأة ببساطةٍ:
-على إيه، هو أنا عملت حاجة؟
أقبلت "حمدية" عليها لتحتضنها، وتعمق من روابط الود العجيبة بينها وبين تلك الغريبة التي تجهل حتى اسمها، وقالت بزيفٍ:
-والله قلبي اتفتحلك، ده إنتي وشك سِمح!
ربتت المرأة على كتفها، وأردفت بامتنانٍ:
-القلوب عند بعضها، قوليلي إنتي ساكنة فين بقى؟
راوغتها "حمدية" في جوابها حين عقبت:
-لأ، أنا مش من هنا، ده أنا كنت جاية في زيارة لجماعة قرايبي، وعديت بالصدفة من حارتكم وشوفت "خليل"، قصدي الأستاذ "خليل"، بس حظي حلو إني أشوفك وأتعرف عليكي.
ضحكت المرأة، وشكرتها:
-كل ذوقك يا حبيبتي، ده أنا الأسعد ..
اختتمت "حمدية" حديثها معها بوعودٍ كاذبة بلقاءٍ آخر، لتبتعد بعدها عنها، ثم دمدمت بوعيدٍ مرعب، وعيناها تقدحان بحمم حارقة:
-متجوز ومخلف! ماشي يا "خليل"، هاتشوف!!!!!
-بالعافية أخوها جابها هنا!
نفخت "بثينة" في إنهاكٍ، بعد أن قالت تلك العبارة، لتنهي سردها تفاصيل ما حدث من ابنتها من تصرفات مليئة بالرعونة لـ "محرز، حيث اقتحمت منزل عائلة "فيروزة"، واشتبكت معها بالأيدي، بعد وابلٍ من الاتهامات المجحفة، وبصعوبة نجحت نساء المنزل في تقييد حركتها، وإفقادها للوعي، مترقبات على أحر من الجمر وصول شقيقها لإخراجها منه.
قبل أن ينتهي التشابك العنيف بكارثة دموية أخيرة، لتعود إليها في حالة انهيار تامة، أجبرتها على ابتلاع بعض الأقراص المهدئة لتغفل بعد عناء .. كان ضيفها قد جاء لزيارتها، في وقت مبكرٍ، وعلى غير العادة، متعللاً بحجج واهية، لتبدو شاهدة على تواجده، إن حدث ما لم يتوقعه، وخرجت الأمور عن السيطرة، خاصة بعد قتله لـ "نوح"، صرف عن ذهنه مشهد موته، وأصغى باهتمامٍ لها، ثم علق معترضًا على طيشها:
-معلش، ما هي بردك مش تصرفات ناس عاقلين.
ردت عليه في حدةٍ:
-وهو المعدول خلى فيها عقل؟ داهية تاخده مطرح ما هو قاعد.
قال مبتسمًا ببرود:
-يا رب.
ثم أكمل تناول قهوته السادة، في هدوءٍ؛ وكأنه لم يقترف ما يجعل الولدان شيبًا، انتفاضة دبت في جسده، وقد سمع طرقًا عنيفًا عليه، ترك فنجانه، وشيع بنظراته "بثينة" التي اتجهت إليه لتفتحه، وصوتها اللائم يرن في جنبات الصالة:
-بالراحة يا اللي بتخبط، إيه هتهد الباب على دماغنا؟!
نظرات السخط والكراهية احتلت وجهها، عندما رأت "تميم" يقف قبالتها، في حالة تحفزٍ، وغضب مكتوم، وبكل برودٍ سألته:
-خير؟
تخلى عن أسلوب الوقار المصحوب باللين في التعامل معها، ودفعها ليدخل، وصوته المزمجر يسألها:
-بنتك فين؟
تعلقت خالته بذراعه لتبطئ من حركته، وهدرت به:
-اقف هنا وكلمني؟ عايز من "خلود" إيه؟
رمقها بنظرة لا تبشر بأي خيرٍ، وقال بوقاحةٍ:
-كلامي معاها مش معاكي.
هتفت محتجة بشراسةٍ:
-وأنا أمها يا ادلعدي!
في البداية لم يلمح "تميم" زوج شقيقته، حيث كان متواريًا في ظهر الأريكة العريض، استجمع الأخير شجاعته، ونهض من مكانه، ليظهر على مرمى بصره مُلطفًا بسماجته المعتادة:
-ما تصلوا على النبي يا جماعة.
ردت "بثينة" بامتعاضٍ، وهي تسد بجسدها الطريق على زوج ابنتها السابق:
-عليه الصلاة والسلام.
اعتلت الدهشة تعابير وجهه المشدودة؛ لكنها تلاشت سريعًا، ليسود الوجوم على قسماته وهو يسأله:
-"محرز"! بتعمل إيه هنا؟
عمدت خالته لصرف انتباهه عنه، وهتفت فيه بحدةٍ، وهي تلوح بيدها:
-ملكش دعوة بيه.
تركزت عينا "تميم" بالكامل عليه، فنفذت إليه؛ وكأنها تعريه من كافة الأقنعة، ثم علق بشكٍ واضح:
-أصلها غريبة إنك تكون هنا، وغايب عن الدكان!!
بلع "محرز" ريقه، وقد شعرت بالتخبط من نظراته المستريبة، واستنكر بعبوسٍ مفتعل:
-هو ممنوع أزور الجماعة ولا إيه؟
أجابه بوجهه الغائم، قاصدًا بث الخوف في نفسه الأمارة بالسوء:
-لأ مش ممنوع، بس أحوالك مش مريحاني، فيك حاجة مش فاهمها.
حاول أن يبدو مستقيمًا في وقفته خلال مجابهته، ورد بهدوءٍ، لم يكن مقنعًا:
-أنا زي ما أنا يا معلم، وبعدين الحاجّة كانت قصادني في الخير، وأنا الصراحة مقدرش اتأخر عنها.
أضافت عليه "بثينة" لتشد من أزره، فلا يظهر بمظهر الضعف أو التردد قصاده:
-ربنا يكرمك يا "محرز" يا ابني، ما هو أنا معنديش رجالة يقفوا في ضهري، ابني مراته بلفاه في عبها، متعرفش تاخد منه لا حق ولا باطل، أروح للغريب يعني؟
لم يحد "تميم" بنظراته القاسية عن وجهه، واقتضب معهما مرددًا بنبرة غير مبالية:
-براحتكم!
ضبط "محرز" طرفي ياقة جلبابه، وأطرق رأسه مخاطبًا مضيفته:
-طيب استأذن أنا، ولو احتاجتي أيتها حاجة كلمني على طول يا ست الكل.
ربتت على جانب ذراعه تشكره بامتنانٍ، متعمدة استفزاز ابن شقيقتها:
-تسلملي يا ابن الأصول! يا غالي!
لوح بيده، وهو يمرق سريعًا من أمام "تميم"، هاتفًا بأنفاس مضطربة:
-سلامو عليكم!
أوجز في رده إليه؛ وكأنه لا يستحقه:
-وعليكم..
ثم استدار برأسه في اتجاه خالته يأمرها بلهجة حاسمة:
-خشي نادي بنتك من جوا، ده لو عايزة اليوم يعدي على خير.
لم يكن بالمازح في تهديده، ازدردت ريقها، وضمت شفتيها في غيظٍ مكبوت، لم تعقب عليه، أو تجادله، بل انصرفت هاربة من نظراته النارية، لتذهب إلى غرفة ابنتها الغافلة، حتى تحثها على الاستفاقة، وكلها يقين أنها لن تتوانى عن النهوض من أجله.
أمنية حالمة، شكَّلها لا وعيها، فغابت في تفاصيلها الوردية، وعايشت ما تضمنته من لحظات رومانسية عميقة، مليئة بالجموح والرغبة، سعادة مزيفة؛ لكنها مزيلة بالآمال والأطماع، انتهت فجأة بهزة عنيفة اجتاحت جسدها، وانتشلتها رغمًا عنها من أحضانه الدافئة، لتعيدها إلى واقعها المؤلم، أفاقت "خلود" من غفوتها على صوت والدتها المتكدر، كادت أن تفرغ غضبها عليها، لولا أن أخبرتها بوجوده الفعلي..
تبددت الانفعالات الثائرة، بمشاعرٍ متلهفة، مشتاقة، تواقة إليه، هبت ناهضة من فراشها، وشددت على والدتها عدم التدخل بينهما، مهما اشتد الجدال، تحركت سريعًا، غير عابئة بمظهرها، وركضت نحو الخارج لتلتقيه .. وبنظراتٍ والهة تطلعت إلى وجهه، تأملته مطولاً، وتقدمت نحوه متسائلة، بصدرٍ ينهج:
-"تميم"! إنت هنا؟
اقتربت أكثر منه، لم تهتم بأمارات الحنق الظاهرة عليه، ورفعت يدها لتتلمس وجهه وهي تقول بابتسامة متسعة في سعادةٍ:
-أنا مش مصدقة إنك موجود، افتكرت نفسي بأحلم ...
وبكل جراءة ألقت بنفسها في أحضانه، محاولة الالتصاق به، أغمضت عينيها قائلة بتنهيدة اشتياقٍ:
-حبيبي، إنت رجعتلي، أنا بأحبك.
بغلظةٍ أبعدها عن صدره، ودفعها للخلف، فكادت تُطرح على ظهرها؛ لكنها تمالك نفسها، كان رافضًا اقترابها غير الجائز منه، ولو بدافع الشفقة، سلط نظراته القاتمة عليها، وهدر بخشونةٍ:
-هو سؤال واحد وعايز أعرف إجابته منك.
لم تنصدم من إقصائه لها، أبدت استعدادها التام لتحمل جفائه، ظلت ابتسامتها المتسعة مرسومة على محياها وهي ترد:
-أنا كلي ليك يا حبيبي.
لم يرف له جفن، وقست ملامحه أكثر، عندما سألها:
-روحتي عندها ليه؟
تجاهلت سؤاله، ولم تكترث لرنة الغضب المغلفة لصوته، بل تقدمت من جديد نحوه، وعاودت الكرة، ورفعت يدها متلمسة بأناملها ذقنه النابتة، تحسستها وهي تتنهد قائلة، ونظراتها تحوم على قسماته:
-يـــاه، إنت وحشتني أوي.
بقسوةٍ أزاح يدها عنه، وتجاهل بوحها بمشاعرها، ليرد متسائلاً بلهجته الصارمة المليئة بالحنق الشديد:
-كنتي عند "فيروزة" ليه؟
استفزها ترديد لسانه لاسمها، فتبدل هدوئها الناعم لعاصفة غاضبة، وصرخت في وجهه:
-برضوه بتنطق باسمها قدامي؟ ليه عايز تعذبني؟ إنت بتتبسط لما بتشوفني كده؟
رد عليها بنبرته المرتفعة:
-بطلي أوهامك دي، وجاوبي على السؤال، ليه روحتيلها؟
أجابت ببساطةٍ، ونظراتها عليه:
-عشان أرجعك لحضني.
عنفها بغيظٍ:
-وتقوليلها كلام محصلش؟
هزت كتفيها قائلة بأنفاسٍ هادرة:
-مش فارق معايا، أنا مستعدة أسف التراب، وأذلل نفسي ليها أو لغيرها، المهم تكون ليا في النهاية، وترجع لحضني، أنا بأحبك يا "تميم".
نظر لها بازدراء، وصاح بنبرة متصلبة:
-مهما عملتي يا "خلود"، استحالة نكون سوا، اللي بينا انتهى خلاص.
ردت عليه بعنادٍ، وبصوتها الصارخ:
-لأ مانتهاش يا "تميم"، إنت جوزي، وأبو عيالي.
سدد لها نظرة احتقارٍ، قبل أن ينطق بوجهه المتجهم:
-كنت.. يا بنت خالتي..
ثم أشار بإصبعه يحذرها بلهجة قوية:
-ولآخر مرة بأقولك إياكي تقربي من "فيروزة"، لأني ساعتها هاخش فيكي اللومان!
تغاضت عن ذكره لاسمها، حين رأته يدير ظهره، ويستعد للذهاب، هرولت ركضًا نحوه، وحاوطته من الخلف، لتحتضنه، اختنق صوتها وهي ترجوه:
-استنى! رايح فين؟ ماتسبنيش، أنا مصدقت إنك هنا.
من جديد انتزع قبضتيها عنه، وقال في سأمٍ واضح:
-كلامي معاكي مالوش أي فايدة، بأدن في مالطة!
رفضت تركه، والتصقت كالعلقة بذراعه، مما جعله يسحبها خلفه، اخترق صوتها المستفز أذنه وهي تردد على مسامعه عباراتها المستهلكة:
-إنت لسه بتحبني، كفاية قساوة عليا.
استل ذراعه منها، ودفعها بعنفٍ بعيدًا عنه، ولسانه ينطق باستياءٍ:
-أعقلي بدل ما أحطك بنفسي في السرايا الصفرا!
فتح الباب، واندفع خارجًا من منزلها، ليصفقه بعصبيةٍ من ورائه، ارتمت "خلود" على الكتلة الخشبية وهي تنتحب في إحباطٍ حزين، انهارت جالسة على الأرضية، لتجد والدتها تنظر إليها بسخطٍ، لم تتأثر ملامحها وهي ترجوها:
-ماتخليهوش يمشي يامه.
تجمدت "بثينة" في مكانها، تراقبها بعينين حاقدتين، تعكسان غلاً يتعاظم يوميًا بداخلها تجــاه "تميم"، بسبب ما يفعله في ابنتها الرافضة لتصديق أنهما ليسا معًا.
خلوة جديدة، انفرد بها مع نفسه، عند تلك الكتل الصخرية، حيث تتحطم من أسفلها، أمواج البحر العاتية، فهناك المتنفس الوحيد لكل ما يعتريه من مشاعر، يأبى تحريرها بسهولة، خرج من صدره زفيرًا بطيئًا، محملاً بالهموم والأثقال، وكلام "هيثم" يصدح في رأسه، عن ادعاء شقيقته بحبه الشغوف بـ "فيروزة"، لم تكذب حين أخبرتها –وسط دوامة غضبها الأعمى- بمشاعره المقدسة ناحيتها، واستثيرت أعصابه لاستباحة ما يخصه علنًا...
ما أزعجه حقًا، أنه تمنى لو امتلك من الشجاعة، القدر الكافي، لينطق شخصيًا باعترافه، وأمامها، وليس على لسان غيره، بذلك الأسلوب الرخيص، ألقى "تميم" بحصوة صغيرة ابتلعتها المياه في لمح البصر، متخيلاً أنه مثلها، غارقًا في قساوة الحياة، وهو يلوم نفسه:
-يا ترى هاتقول عني إيه بعد ما عرفت منها الحقيقة؟
توقع ألا تطيق النظر في وجهه مطلقًا، أن تزدريه، وتستحقره، وترفض حتى ملاقاته مصادفةً في عرض الطريق، زفير آخر تعيس لحق بما سبقه، قبل أن يدمدم في حزنٍ:
-ليه كده يا "خلود"؟ ضيعتي مني حتى حلمي المستحيل!
استلت نفسها من أحضــان والدتها، لتنظر إليها بعينين تلمعان بعبراتٍ كثيفة، قاتلت لمنعها من الانسياب؛ لكنها طفت على أهدابها، وعلى عكسها انخرطت "آمنة" في بكاءٍ مؤلم، لتوديعها ابنتها عند المطار، وتساءلت بنشيجٍ:
-الوقت أوام كده عدى؟
خنقت "فيروزة" غصتها، وردت بابتسامةٍ، سعت لتكون مشرقة:
-غصب عني والله يا ماما إني أمشي، بس متقلقيش، أنا راجعة تاني.
جذبتها أمها لحضنها من جديد، شددت من ضمها لها، وهي تمسح على ظهرها، ثم أردفت قائلة:
-هتوحشيني أوي يا "فيروزة".
رغبت بشدة أن تظل هكذا، تحتويها أحضانها الحانية، بدلاً من الغربة التي تنتظرها؛ لكنها باتت الخيار الأمثل، لتهرب من كل التهديدات المدمرة لبقايا أطلال سلامها النفسي، والوجداني، تنفست ببطءٍ، ثم همست بنبرة أظهرت حبها الغريزي لوالدتها:
-وإنتي أكتر يا ماما.
ابتعدت عنها والدتها، وسألتها بصوتها الباكي:
-مكانش ينفع تفضلي شوية.
كانت صادقة حين أخبرتها بنبرة ذات مغزى:
-كده أحسن للكل.
تفهمت توأمتها رغبتها في الابتعاد عن محيط المشاكل المحاصرة بها، وآخرها اتهام "خلود" لها، بتورطها في تخريب علاقتها بزوجها السابق، لم تجد "همسة" من الكلمات ما تنطق به، دون أن تهطل دموعها، فالتزمت الصمت، مدعية الابتسام، وركزت عينيها مع صوتها القائل:
-وبعدين ما أنا هاكلمكم كل يوم، وكل شوية، لحد ما تزهقي مني.
عاتبتها "آمنة" برقةٍ:
-وحد يزهق من ضناه؟
توسلتهما "همسة" بعبوسٍ:
-كفاية بقى عشان هاعيط منكم.
وضعت "فيروزة" يدها على كتف توأمتها، وشجعتها بضحكة مبتورة:
-لأ اجمدوا كده.
مسحت "همسة" عبراتها المتسللة من طرفيها، وتساءلت:
-هو "آسر" عارف ميعاد وصولك؟
أجابتها "فيروزة" بإيماءة من رأسها.
-أيوه، وهيقابلني أول ما أنزل من الطيارة.
أكدت عليها والدتها بعينيها التعيستين:
-كلمينا يا "فيروزة" عشان نطمن عليكي.
حافظت على ثبات بسمتها المهزوزة، وهي ترد:
-حاضر يا ماما.
ثم مالت عليها، واحتضنتها لمرة أخيرة، لتقول بعدها، بابتسامةٍ أرادت أن تظل آخر ما يلمحاه في وجهها:
-هاسيبكم بقى، عشان يدوب ألحق أخلص الإجراءات جوا.
مسحت والدتها على وجنتها بنعومةٍ، ودعت لها بتضرعٍ:
-ربنا يحفظك يا حبيبتي، ويسلمك من كل شر.
-يا رب
ثم أضافت مختتمة حديثها معها:
-لا إله إلا الله.
ردت والدتها ببكاء مرير:
-محمد رسول الله!
رجتها "فيروزة" بصوتٍ متأرجح بين الضعف والجدية:
-عشان خاطري كفاية.
بررت لها صعوبة تماسكها، فقالت:
-غصب عني يا حبيبتي.
داعبتها بكلماتٍ لطيفة قاصدة تهوين الأمر عليها، قبل أن تجر حقيبة سفرها خلفها، وتختفي بداخل بوابة المطار، وضعت "همسة" ذراعها على كتفي والدتها لتحتضنها، وهتفت بابتسامةٍ منقوصة:
-أنا متفائلة خير يا ماما.
لم تنظر "آمنة" في اتجاهها، وظل بصرها متعلقًا بطيفها الذي رحل، وهي ترد:
-أنا لأ، قلبي مقبوض.. أول مرة بنتي تبعد عني المسافة دي كلها، يا ريتها كانت ساكنة هنا، ده بينا بلاد!
-إن شاءالله هترجعلنا قريب.
-يا رب.
انضم إليهما "هيثم" متسائلاً، بعد أن ترك لثلاثتهن مساحة من الخصوصية للحديث بأريحية، دون أن يتطفل عليهم:
-ها يا جماعة خلاص سلمتوا عليها واطمنتوا؟
ردت عليه "همسة" بهزة خفيفة من رأسها:
-أيوه.
أشــار بيده نحو موقف السيارات، وأضاف:
-طيب يالا بينا عشان ألحق أوصلكم، قبل ما أطلع على الدكان.
لحظات تمنى أن تنقضي سريعًا، حتى لا يقتله هذا الشعور المُهلك بالفقد، بذل المستحيل ليلتهي عن التفكير فيها؛ لكن كل خلية فيه تعي جيدًا أنها راحلة اليوم، وما أقساه من إحساسٍ تعاني فيه وحدك –وبجميع جوارحك- من ألم الفراق، دون أن يعلم الطرف الآخر عن عذابك شيء! تحولت الأرقام في عينيه إلى سرابٍ، تداخلت البيانات، وتلاشت قدرته على تفسير ما احتوته الأوراق..
توقف "تميم" عن المطالعة، وحملق بشرودٍ –وبعينين تحبسان الدمع فيهما- في الفراغ المعتم أمامه، بعد أن أطفأ المصباح، لم يرغب في رؤية أحدهم لدموعه العزيزة، التي دومًا ترفض الانصياع له، وتبوح بما يعجز اللسان عن قوله، وفي غمرة كل هذا، لم ينتبه للمتربص به في الظلام، جاء خلسة بعد انصــراف جميع العمال ليراقبه، منتظرًا بحقدٍ اللحظة المناسبة لقطع رأسه، والتخلص للأبد من تهديده الواضح.
وبخطواتٍ متسللة، ســار "محرز" على أطراف أصابعه في اتجاهه، بعد أن أخفى وجهه بوشاحٍ أسود، فيما عدا عينيه، استمر في تقدمه الحذر نحوه، رافعًا تلك العصا الغليظة للأعلى، بكلتا قبضتيه، ليضربه بها على رأسه، قاصدًا تهشيم جمجمته، في اللحظة التي هوى بها عليه، تحرك "تميم" من تلقاء نفسه، بضعة سنتيمترات للجانب، غير مدرك للشيطان المتواجد حوله، لتهبط العصا على كتفه، بدلاً من رأسه، فأصابه بإصابة مؤلمة...
جعلته يصرخ من شدة الوجع المباغت، التفت مقاومًا آنات ألمه، فتلقى ضربة أخرى على جبهته، أحدثت شرخًا نازفًا فيها، وطرحته أرضًا، مستلقيًا على ظهره، ومع ذلك جاهد لمقاومة المعتدي، مُغالبًا كل آلامه، استطاع أن يقف على قدميه، وهو يصيح به، بتوعدٍ؛ وكأنه الفائز في تلك المشاجرة المفاجأة، وغير المرتبة:
-فاكر نفسك غلتني؟ ده أنا هوريك!
اتخذ "تميم" موقفًا هجوميًا؛ لكن ضربة عنيفة مباغتة أصابته في معدته، من آخرٍ ظهر من العدم من خلفه، فـ "محرز" لم يأتِ بمفرده، استعان بأعوانه من حلفاء الشر، ومع هذا تصدى له "تميم"، تاركًا الشعور بالألم للضعفاء، وانتزع العصا من يد مهاجمه، وضربه بشراسةٍ بها، أحاط به ثلاثة آخرين، فاستدار في مكانه محاولاً التعرف على ملامحهم وسط تلك العتمة، وهدر بهم يلعنهم، بشجاعة منقطعة النظير:
-يا ولاد الـ ......، مش "تميم سلطان" اللي يكش ويخاف من شوية (...)!
وبالرغم من الصحوة التي دفعت الأدرينالين في عروقه، إلا أن كثرة المعتدين عليه، من زوايا متفرقة، جعلت كفة الميزان ترجح لصالحهم، فأصبحت الغلبة لهم، وتدحرج أرضًا مستقبلاً المزيد من الضربات المحطمة للضلوع، والكاسرة للعظام. شيئًا واحدًا فقط أبصرته عيناه رغم الغمامة التي اندفعت زاحفة إلى عقله، لتحجب الرؤية عنه، حين كان المعتدي الأول عليه جاثيًا على ركبته بالقرب منه، ليتأكد من هلاكه؛ حرقًا مميزًا يشبه الثقب، يحتل خياطة الجيب الأمامي لجلبابه، جعله يتعرف إليه، ويدرك حرفيًا أن وراء هذا القناع، شخصية نجسة، خائنة، لا أمان لها مطلقًا، وليؤكد له أنه قد علم هويته، همس "تميم" باسمه بأنفاسٍ واهنة:
-"مــ.. محرز"!
رأى عينيه تتسعان بغتةً في صدمة، قبل أن ينتفض مبتعدًا عنه، حتى وهو في حالته غير الواعية يهابه؛ كان آخر ما لمحه "تميم"، واشتم أنفه رائحته أيضًا، سكب هؤلاء الأوغاد للكروسين بأركان الدكان، الملاعين يريدون إحراق جسده حيًا! تفقه ذهنه المتأرجح بين اليقظة والهذيان لتصرفاتهم، من خلال الجلبة والصياح الآمر:
-عايزكم تجيبوا عاليه واطيه، يبقى كوم تراب!
عجز عن إجبار أطرافه المتآذية بشدة على التحرك، استسلم مرغمًا للسواد الذي تغلغل وانتشر في عقله، ليكون آخر ما احتل مخيلته لمحةً من ماضٍ بعيد، جمعته آنذاك بها...!