رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الخامس عشر
في العمر لحظة، يحسم فيها الإنسان اختياراته؛ إما بالسير على طريق الصراط، أو الانحراف نحو غياهب الضلال، وقد كان اختياره! ما زالت قبضة محرز تعتصر فك ضحيته الجديدة، أكمل قطع لسانها في لمح البصر، مثلما اعتاد أن يقطع ثمار الفواكه عن أغصانها العالقة في سرعة وحرفية، ووسط الدماء المتفجرة من فمها تابع لومه لها:
-حياتكم مكانتش تسوى شوية دهب يا خالتي؟!
تلوت بثينة بألمٍ شديد، وعيناها تبكيان في حرقةٍ أشد، كتم بيده صراخها المبتور، وعلى وجهه تلك النظرة المظلمة، اعتدل في وقفته، ناظرًا في اتجاه خلود، وجدها تسير بتعثرٍ، تترنح في خطواتها كلما سارت للأمام، أدرك أنها تحاول الفرار منه قبل أن يطالها، كانت كلتا يديها حول عنقها النازف، همَّ باللحاق بها؛ لكن أوقفته بثينة بالتعلق في ذراعه، فما كان منه إلا أن غرز المدية مجددًا في صدرها، ليصدر منها خرير متحشرج.
تحرر منها بسهولةٍ، ولحق بابنتها التي أمسكت بالمقبض، وقبل أن تديره التف ذراعه حول رقبتها، جذبها بقوته الجسدية للخلف، وأعاد وضع النصل الحاد على جرحها الغائر ليكمل نحر عنقها، وهسيس صوته يُخبرها في أذنها:
-أمك حكمت عليكي بالموت!
اجتاحها ألمًا حارقًا ألهب أنسجتها الجريحة، مع زيادة تعميقه للنصل، حينها مر شريط ذكرياتها أمام عينيها، بكل حلوه ومُره: طفولتها المذبذبة، عزاء أبيها المحترق، آمال مراهقتها المُطعمة بالزواج من الرجل الوحيد الذي نذرت له قلبها، خطبتها لـ تميم ؛ فارس أحلامها، إيداعه السجن، انتظارها الطويل، لقائها معه الخالي من حرارة الاشتياق، ليلة زفافها، افتقارها لنشوة الحب في حياتها، تلهفها على الإنجاب، دسها لحبوب الدواء في طعام زوجها، شكوكها عن حبه لغيرها، خبر حملها، تلاه انفصالها، قتلها لما كان ينمو في أحشائها، انغماسها في أحزانها.
رن في أذنيها كلام تميم الأخير لها، فتسابقت عبراتها المقهورة، وامتزجت بالدماء الساخنة، كانت في أعماقها تخشي من مواجهة الحقيقة، لم يكن يُحبها، ومع رحيلها المؤسف لن يذرف العبرات لفراقها، ستغدو سرابًا بمضي الأيام؛ وإن حزن عليها قليلاً، غمرها المزيد من القهر، لتخرج بعدها شهقة أخيرة محملة برائحة الموت، بأهةٍ مفطورة الفؤاد على حياة سلبت منها عنوة، ولم تنل في نهايتها إلا الشقاء، فارقت خلود الحياة للأبد.
تراخت أطراف خلود، وهمد جسدها كليًا خلف ذراع محرز القابض عليها، لم يجفل للحظة، ولم تطرف عيناه رهبةً؛ وكأنما اعتاد على ذبح الأبرياء كلما تعارض وجودهم مع مصالحه. سحبها للخلف، وأسند ظهرها على الحائط، ليلقي نظرة أخرى على والدتها الغارقة في دمائها. جثا على ركبته ليتفقدها؛ لكن جذب أنظاره وهج الذهب البارز من حقيبتها، زحف سريعًا إليه؛ وكأنه تذكر سبب مجيئه منذ البداية بعد أن التهى بهما، نظر إلى القطعة المغرية بعينين طامعتين، قبض عليها بيده الملوثة بالدماء، برقت حدقتاه في توترٍ، عاد الآن إلى رشده، وأدرك أن بقائه في هذا المنزل قد طال كثيرًا.
مسح يده في سترته الداكنة، ليخفف من الحمرة العالقة بها، ثم خبأ الحقيبة بداخلها، أسفل إبطه، ليهرع بعدها خارج المنزل، دون أن يهتم بغلق الباب ورائه، هبط الدرجات بخطواتٍ قافزة، اصطدم بإحدى الجارات وهي في طريقها للصعود للأعلى، نهرته بتزمتٍ، محاولة رؤية ملامحه:
-ما تبص قدامك، متسربع على إيه؟
لم تتمكن من تبينه، فمصمصت شفتيها، وأمسكت بالدرابزين متابعة صعودها وهي تدمدم بتبرمٍ:
-معدتش حد بيراعي الأصول أبدًا.
وقفت تلتقط أنفاسها بعد هذا المجهود المرهق لجسدها المسن، عند بسطة الدور التالي، قطبت جبينها، وضاقت نظراتها في اندهاشٍ، فقد لمحت باب جارتها بثينة موارب، دفعها الفضول للاقتراب، ورؤية ما يدور بالداخل، خاصة مع انتشار بقع حمراء اللون على طول البلاط، وقبيل العتبة. أسندت يدها على الكتلة الخشبية لتحركها، وصوتها العالي يُنادي بألفةٍ:
-يا أم هيثم؟ إنتي جوا ياختي؟
وما إن فتحته، حتى اتسعت عيناها على آخرهما في فزعٍ لم تجابهه طوال سنوات عمرها، تراجعت للخلف وهي تنتفض، ثم صرخت صرخات متعاقبة بها استغاثات مليئة بالهلع:
-يا نصيبتي! الحقونا يا خلق هووووو! قتلوهم!
أحدث صراخها المرتفع صخبًا مدويًا، جعل الأبواب المغلقة تُفتح على مصرعيها.
بأعجوبةٍ أفلت من الإمســاك به، عبر تسلله الخفي من منور البناية الخلفي، ليجد نفسه في الشارع الجانبي، ومنه انتقل إلى الأزقة الضيقة، إلى أن بات في مأمنٍ من أي تهديد من السكان، ومع هذا لم تهدأ دقات قلبه. انزوى محرز في بقعة معتمة، مخفية عن الأعين، نظر إلى يده المرتعشة، كور أصابعه ليتحكم في تلك الحركة اللا إرادية، أمعن النظر في الحمرة العالقة بكفه، ليشرد لحظيًا ويتحول كل شيءٍ إلى أطيافٍ وذكرى، خُيل إليه أنه عاد إلى سنوات طفولته الأولى، وفي أذنيه ترن الهمهمات المألوفة لأناسٍ رحلوا منذ زمنٍ عنه، عندما كان يعطف عليه أثرياء بلدته بالقديم من الثياب، والفضلة من الطعام. لم يفهم شيئًا آنذاك؛ لكنه كان سعيدًا بما يجودون عليه، معتقدًا أن ذلك السخاء نابعًا من محبتهم له، فيما بعد أدرك أنه من إحسانهم عليه.
نقم محرز حياته الفقيرة المعدمة، تلك التي جعلته في أنظار الآخرين من ذوي العوز والحاجة، لا فارق بينه وبين المتسول المشرد سوى بأن والده يعمل كأجير لدى واحدًا من الأعيان، تصادق مع ابنه، ولازمه أغلب الوقت، فلم يعرف غيره. شاع التجهم في محياه وقد طفى في عقله ذكرى طمرها في أعماقه، تجسد المشهد بكامل تفاصيله في وعيه، ليجد نفسه في عمر الثانية عشر مع صديقه الوحيد، ينتظر منحه بالفتات المتبقي منه ليصير مثله، وعلى غير المتوقع نشب بينهما شجارًا من العدم، خلال تواجدهما بالقرب من المصرف الزراعي القديم، حينما مازحه رفيقه بنوعٍ من التفاخر، وهو ينظر للسماء التي اتشحت بالسواد:.
-أبويا أغنى واحد في الناحية دي، يقدر يشتري أي حتة يشاور عليها بالناس اللي فيها.
رد ساخرًا منه:
-مش للدرجادي.
أطلت نظرة احتقارٍ منه قبل أن يرد بوقاحةٍ؛ وكأنه يعايره:
-إيش فهمك إنت، إذا كان أبوك وعيلتك كلها شغالين عندنا بالأجرة.
بدأ الغضب يتصاعد في صدره، وحذره بأنفاسٍ مختنقة:
-بلاش الكلمة ده!
علق بنفس أسلوب الازدراء ليستفزه:
-ما دي الحقيقة، وإنت نفسك شاحت اللي لابسه مني.
هدر به في عصبيةٍ:
-أنا مش شحات.
ضحك ساخرًا منه قبل أن يهينه:
-بلاش النفخة دي، أومال جايب الجلاليب دي منين؟ من أبعدية أبوك؟
كور قبضته ضاغطًا على أصابعه حتى ابيضت مفاصله، تنفس بعمقٍ، وانعكس على وجهه حمرته الغاضبة، أطلق زفرة بطيئة –ومسموعة أيضًا- من بين أسنانه، أنذره بعدها بصدرٍ يطق فيه الحنق الشديد:
-متغلطش أحسنلك!
أولاه الأخير ظهره، بعد أن رمقه بنظرةٍ متعالية، ثم قال بنبرة غير مبالية، لا تخلو من الاحتقار:.
-اتكلم على أدك يا محرز، اللي زيك هايعيشوا ويموتوا خدامين عند اللي زينا.
بلغ غضب محرز أقصــاه، وبات يسمع دقات قلبه المتلاحقة، لم يتحمل إهاناته الجارحة، أراد إسكات صوته المقيت المحتقر لشخصه، فوقعت أنظاره على حجرٍ مهمل على الأرضية الطينية، انحنى ليلتقطه، كان قاسيًا، وحاد الأطراف في راحته. قبض عليه بشدةٍ، وتبع رفيقه المتغطرس رافعًا الحجر للأعلى، لم يتردد للحظة حينما هوى به على رأسه قاصدًا سحقها، صرخ الأخير من الألم المفاجئ، ووضع كلتا يديه على موضعه؛ لكن عاجله قاتله بضربة أخرى قوية، أفرغ فيها كل ما يحتويه صدره من حقدٍ وغل، ولسانه يصرخ فيه:.
-أنا مش خدام عندك، مش خـــــدام!
استمر في عنفه المميت حتى هشم عظم رأسه، وجعله يهلك صريع الغدر، أفاق من نوبة هياجه على منظر الدماء المتفجر، واللحم المتناثر. هلع في ارتعابٍ، وألقى بالحجر على الأرضية الطينية، ناظرًا إلى راحته التي امتلأت بالشقوق والجروح الغائرة.
انهار جالسًا قبالته، يحدق فيه بعينين ضائعتين، فاقدًا إحساسه بما حوله، تخشب كامل جسده، وبدا كالأصنام في جموده، استمرت تلك النظرات الشاردة على وجهه الشاحب، يراقب جثمان رفيقه الوحيد في صمتٍ، لا يعرف ماذا يفعل، غمره شعورًا عظيمًا بالندم، بكى مقتله، وأبدى حزنه على خسارته، لكن صدى كلماته الجارحة عاد ليفسد توبته قبل أن تبدأ، فتوقف عن البكاء، وتطلع إليه بوحشية، ليدمدم بعدها بصوته الباكي؛ وكأنه يلقي بالذنب عليه:.
-إنت اللي عملت في نفسك كده! أنا قولتلك بلاش، بس إنت ماسمعتنيش.
أخذ يردد تلك العبارات مرارًا وتكرارًا على أمل أن ينبعث مجددًا ليخبره بعفوه عنه؛ لكن فاضت الروح لبارئها، وبقيت يداه ملوثة بدمائه. فزع لرؤيتها على جلده، فغمسها في الطين علها تزيل آثارها القاتمة، وصوت أنفاسه اللاهثة يصدح في سكون الليل، يقاطعه صوت خرير المياه الجارية في المصرف. بقي على تلك الوضعية المضطربة لوقت طويل، استغرق في أفكاره السوداوية حتى لم يعد يدرك كم مضى عليه وهو جالس هكذا، في الأخير سول له شيطانه التخلص منه، ليواري الثرى عن جريمته، وإلا لهلك معه، لهذا استجمع نفسه، وقام بسحبه من ذراعيه نحو حافة المصرف، ليلقي بجثمانه في المياه، وما هي إلا لحظات وابتلعته ظلمتها الباردة.
وقتها عاد إلى كوخه مرتعشًا، محمومًا، في حالة من الهذيان والرعب، ظن والده أن مسًا من الجنون أصابه، بناءً على التخاريف المنتشرة آنذاك، ولم يظن أحدهم أن ما طاله جراء شعوره المتعاظم بالذنب. لاحقًا طفت جثة القتيل على سطح المياه في إحدى البلدات المجاورة، فاعتقدوا أنه تعرض للسرقة والقتل، على يد أحد قطاع الطرق، ولم يتم التوصل إلى شيء يدين شخصًا بعينه، لتؤيد بعدها القضية ضد مجهول.
أفــاق محرز من شروده على صوت أبواق متلاحقة، انتبه إلى نفسه، وانتظر هدوء الحركة من حوله، ليشرع بعدها في مواصلة هروبه قبل أن يتم الإمساك به.
كقنبلةٍ مدوية انتشر الخبر المفجع في أرجاء المنطقة، وتزاحم مئات الأشخاص حول البناية لرؤية ما حدث، وكأن سبقًا صحفيًا بالمكان، كما تواجدت عربات الإسعاف لنقل الضحيتين، وفرض أفراد الشطرة طوقًا أمنيًا حول مسرح الجريمة ريثما يتم الوقوف على أبعادها الغامضة، وبدأ المحققون في استجواب الجيران والمارة، لجمع المعلومات المتاحة، علها تفيد في سرعة القبض على مرتكبها.
روع هيثم وانفطر قلبه، مستعيدًا في ذهنه نفس الذكريات المؤلمة، فور سماعه لتلك الأخبار القاسمة للأظهر؛ هرع إلى منزل أبيه، لا يعرف كيف بلغه، اخترق الحشد، وقلبه يئن في حسرةٍ، بلغ الطوق الأمني، لكن منعته الشرطة من اجتياز الحواجز، صرخ بهياجٍ وهو يحاول المرور رغمًا عنهم:
-دي أمي وأختي.
أشفق عليه الحاضرون، وتدخل أحد الضباط ليهدئ منه، قائلاً بنوعٍ من المواساة:
-شِد حيلك، واحنا مش ساكتين.
هدر في ألمٍ شديد:.
-هتعملوا إيه؟ وسعوا خلوني أشوفهم.
تفهم الضابط لطبيعة انفعالاته، فالفاجعة ليست هينة، نظر إليه في أسفٍ، وربت على كتفه، بينما تجمع حوله عددًا من رجال عائلة حرب، ممن أرسلهم منذر لدعمه، الوقوف إلى جواره، وكبح جموحه ريثما يصل إليه، بعد أن اتخذت مؤامرة هذا القاتل شكلاً دمويًا رهيبًا.
انهمرت الدموع من عينيها بغزارةٍ، وهي تجلس في مقاعد الانتظار بالمشفى تنتظر سماع ما يطمئنها عن شقيقتها وابنتها، بعد أن تم نقلهما إلى هنا، ذاك المكان الذي بات مستقرًا لكل من له صلة بها، لم يتوقف لسانها عن الدعاء، توسلت للمولى بكل ما تحفظه من عبارات مستجدية، على رجاواتها تستجيب، التفتت ونيسة نحو ابنتها هاجر، لم يختلف حالها عنها كثيرًا، فلطالما أحبت خلود وخالتها، على الرغم من عيوبهما، كانت بمثابة الأخت القريبة منها. انتفضت كلتاهما واقفتان عندما لمحتا الطبيب من على بعد، وجهه كان مرآة لأسفٍ كبير، ملامحه لم تنطق إلا بالوجوم، فالأخبار غير مبشرة، تحمل في طياتها الموت والحسرة، وقبل أن تصرخ إحداهما حذرهما بدير بلهجةٍ شديدة:.
-مش عايز صوات، ده مقدر ومكتوب.
هدرت فيه ونيسة بحرقةٍ متألمة:
-دي أختي وبنتها يا حاج.
قال رغم يقينه بأن الأسوأ قادم:
-ربنا قال فصبرٌ جميل.
بلعقت العلقم المرير في حلقها، وردت بنحيبٍ:
-ونعم بالله.
تقدم الطبيب بخطواتهٍ، أظهر وجهه وجومًا واضحًا، بحث بنظراته عمن يمكن أن يخبره بالتطورات، وكانت المبادرة من بدير الذي سأله:
-طمنا يا دكتور؟
في الخلف كان يقف هيثم مستندًا بظهره على الحائط، وإلى جواره زوجته، تردد بكلماتٍ مواسية مؤازرة، لم يسمع منها شيئًا، فعقله لم يكن معه، كان معلقًا بمن في الداخل، استقام في وقفته، واندفع نحو الطبيب بمجرد رؤيته، ليهتف بلوعةٍ:
-أخبارهم إيه يا دكتور؟ في جديد؟
نظرة الأسى في عيني الطبيب كانت غير قابلة للتشكيك، أنبئه قلبه بفجيعة أشد وطأة، وقد صار ما خمنه، فتكلم قائلاً بتمهيدٍ:.
-حضراتكم عارفين إن احنا عملنا اللي علينا وزيادة عشان ننقذهم؛ لكن مشيئة ربنا فوق كل شيء...
حبسوا أنفاسهم في ترقبٍ، فأكمل على مهلٍ، وقد أطرق رأسه للأسف متحاشيًا نظراتهم:
-للأسف مدام خلود كانت واصلة المستشفى ميتة، ومقدرناش نسعفها...
شهقات ما بين مكتومة وظاهرة خرجت من أفواه النساء، تبعها صوت بدير المردد في صدمة:
-لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
في حين تجمد هيثم في مكانه؛ وكأنه لم يستوعب بعد رحيل شقيقته، حملق فيه بعينين فارغتين، تحجزان العبرات في حسرةٍ، وضعت همسة يدها على كتفه تضغط عليه، وصوت نحيبها الصامت يتسلل إلى أذنه؛ لكنه بقي على حالته المنكسرة، غير واعٍ لما يُقال. لعق الطبيب شفتيه، وواصل الإضافة بحذرٍ:
-والوالدة في العناية، عندنا أمل كبير في نجاتها، ادعولها.
نظرة خاطفة مررها على الأوجه الناظرة إليه، قبل أن ينسحب في عجالةٍ بعد انتهاء مهمته الشاقة، تاركًا إياهم يتجرعون مرارة فقد الأحبة، وعذاب فراقهم.
جاءته الأخبار غير كاملة من رفيقه منذر، عن الاعتداء الغاشم من محرز على خالته وابنتها، ورغم ما بينهما من خلافات، إلا أنه لم يكن ليقبل أبدًا أن تنتقل المعارك لتضم النساء؛ كان رفيقه حذرًا في إطلاعه عليها لبشاعتها؛ لكن الأول لم يصمد لسماع المزيد. حاول تميم النهوض من رقدته التي طالت على فراش المرض، وقال بإصرارٍ عنيد، رافضًا المكوث بالمشفى، والإصغاء لصوت العقل:
-أنا عايز أخرج دلوقتي.
تدخل الطبيب لمنعه، وجاهد لإثنائه عن رأيه، فأخبره معترضًا
-مش هاينفع، في خطورة عليك، الكسور مش سهلة وآ...
قاطعه بعنادٍ أكبر:
-إن شاء الله أموت، مش هافضل هنا لثانية واحدة.
تعثر تميم في وقفته، وفقد اتزانه، فأسرع منذر لإسناده؛ لكنه لكزه رافضًا الشعور بالعجز، ربت عليه ورجاه:
-اهدى بس، واللي عايزه هيتعمل.
احتدت نظراته أكثر، والتفت يرمق الطبيب بعينين صارمتين، ليهتف بعدها بخشونة:
-سمعتني، أنا هاطلع حالاً!
وقف الطبيب حائرًا أمام إصراره، فاقترح منذر لتسوية الأمر:
-هو هيتابع من البيت، اطمن يا دكتور، كلنا جمبه.
استسلم قائلاً على مضضٍ:
-ماشي، بس لازم يبقى في متابعة.
رد تميم بفتورٍ، وهو يستند على عكازين طبيين:
-إن شاءالله.
أخفض منذر صوته طالبًا من رفيقه التعقل:
-ماتعملش في نفسك كده يا تميم.
بصوته المحتقن سأله:
-ناقص يحصلنا منه إيه تاني؟
أكد عليه مشددًا على كلماته:
-هيتجاب، والله هيتجاب!
نظر في عينيه قائلاً بحسم:.
-يبقى وأنا واقف على حيلي، مش مرمي هنا.
ساعده على ارتداء ملابسه، وإنهاء الأوراق المطلوبة للخروج من المشفى، وقبل أن يصل الاثنان إلى الخارج، التقيا بـ بدير، تطلع تميم إلى والده باندهاشٍ قلق، وسأله بوجهه المكتسب لعلامات الضيق:
-خير يابا؟ في حاجة تانية؟
أطرق رأسه للحظةٍ، كأنه يفتش عن كلمات مناسبة يستعين بها، لاحظ تميم تردد والده، فعمق من نظراته الفضولية نحوه؛ لكن لا مهرب من الحقيقة، رفع وجهه الحزين نحوه، وأخبره بوجومٍ:
-البقاء لله، بنت خالتك في ذمة الله.
وخزة مؤلمة اعتصرت قلبه، هتف غير مصدقٍ، بتعابيرٍ تحولت للشحوب:
-إيه؟ إزاي؟
مأتم وراء مأتم، اجتمع فيه الجيران قبل المعارف والأقرباء، لتقديم واجب العزاء فيمن له الصلة بتلك العائلة، وإن اختلفت أماكن التواجد، بالطبع كان على رأس الحاضرين اسماعيل وابنه، لمصاهرتهم مع هيثم. جلس كلاهما متلاصقين، بعيدًا عن الحشد المتجمهر عند مدخل السرادق؛ وكأنهم يخططون لأمر خطير. مال فضل على والده يهمس له للفت انتباهه:
-بأقولك إيه يا حاج؟
ضاقت نظراته نحوه متسائلاً بصوتٍ خفيض:
-خير يا فضل؟
قال بسماجةٍ وقحة:
-مش تحس كده إن قدم بنات عمي شؤم.
رمقه والده بنظرة مستنكرة، قبل أن يوبخه:
-إيه الكلام الماسخ ده؟ مايصحش كده!
تابع سخافته الثقيلة، غير مبالٍ باستهجانه:
-الصراحة من يوم شبكة البت همسة، والمصايب نازلة ترف، فتحسها كده أقدام.
دمدم مغتاظًا منه:
-أعوذُ بالله منك.
انزعج من صده، وعاتبه:
-جرى إيه يا حاج؟ ده أنا بأفضفض معاك كده في كلمتين محشورين في زوري!
نهره والده بكلامٍ لاذع، وهو يصر على أسنانه:.
-شغل الحريم ده تفكك منه يا فضل، وخليك راجل، تعرف امتى تكلم وامتى تسكت.
اعتبرها إهانة ضمنية لفحولته، فغمغم بتشنجٍ:
-ده أنا راجل غصب عن التخين، أومال كوم العيال دول جبتهم إزاي؟
لمحة من السخرية غطت تعابيره، قبل أن يوضح له بكلماتٍ ذات مغزى، تمنى أن يعيها جيدًا:
-الرجولة مش الخلفة وبس يا فضل، الرجولة حاجات تانية، بتظهر في المواقف، وتبين معادن الرجالة اللي بجد...
تراجعت أنظاره عنه، واختتم حديثه:.
-يا ريت بس تفهمها.
في ركنٍ منزوٍ، اتخذ مقعده بعيدًا عن المعزيين، قاصدًا الاختلاء بنفسه، ووجهها اللائم بنظراتها الباكية يحتل مخيلته؛ وكأنها تدينه لتخليه عنها. توغل في أعماقه شعورًا كبيرًا بالذنب ناحيتها، اختنق صدره، واستبدت به هواجسه، فتفاصيل قتلها كانت مفزعة للأبدان، بدا على وجهه حزن راسخ، رفع تميم رأسه المنكس لينظر في اتجاه جده سلطان الذي استطرد قائلاً، وهو يجلس إلى جواره:
-وحد الله يا ابني.
أطلق زفيرًا طويلاً، وقال بغصةٍ موجعة:
-لا إله إلا الله.
تطلع الجد إلى وجه حفيده، رأى في عينيه ألمًا عميقًا، شعر بما يعتلي صدره من شجنٍ، فأردف يخبره وهو يربت على فخذه:
-ادعيلها يا تميم.
بعينين تحجزان العبرات الرقراقة سأله:
-تفتكر أنا ظلمتها يا جدي؟
أجابه بهدوءٍ؛ وكأنه يفهم ما يدور في نفسه:
-كله مقدر ومكتوب.
مسح تلك العبرة المتسللة من طرفه، وتابع باختناقٍ ظاهر عليه:.
-لو كانت فضلت على ذمتي مكانش الكلب ده مسها!
تطلع إليه الجد بنظراتٍ مطولة، ثم نطق بعد صمتٍ قليل:
-محدش يملك في نفسه حاجة، الأعمار كلها بيد اللي خلقها.
قال وشعوره بالذنب يعتصره:
-بس أنا قصرت معاها، جيت عليها جامد.
رد عليه بصوته الرخيم:
-يا ابني متحملش نفسك فوق طاقتها، كل واحد مولود ومعروف هيموت امتى وإزاي، وده نصيبها، مالناش دخل في اختيار ربنا.
طفرت العبرات بقوةٍ من عينيه، وقال بصوتٍ يملأه الشجن، باكيًا موتها:
-مش قادر يا جدي، حاسس إني ظلمتها أوي، لو كنت صبرت عليها، جايز كانت فضلت عايشة وسطنا.
هز رأسه معقبًا عليه:
-لا راد لقضاء الله، ادعيلها، وأذكرها بالخير.
لم يعد هناك ما يقال، ضغط تميم على شفتيه كاتمًا أنينه الحزين، بكاها في صمتٍ بمشاعرٍ صادقة. ارتفعت أنظاره للأعلى حينما حضر إليه منذر، ليخبره بلهجة جادة، وتلك النظرة الغائمة على وجهه:.
-عرفنا مكانه يا صاحبي...!