رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثاني عشر
إنجابها لا يعني بالضرورة عشقها لصغارها، ورغبتها في الفوز بلقب الأم الحنون؛ لكنه كان لإثبات أن بأحشائها أرض تصلُح للإنبات، ولهذا ألقت بعبء تربية أولادها على شقيقة زوجها، فكانت الأخيرة لهم أمًا بلا رحم، وكانت الأولى لقبًا بلا حق. وقفت حمدية في مكانها، وتركيزها بالكامل على اسماعيل، تشكو له هوانها المستضعف، ووحدتها القاتلة، علَّه يشفق عليها بعاطفةٍ تمنت أن تكون لها يومًا، لهذا لم تنتبه لـ هيثم الذي هرول ركضًا لمقابلة المحقق دون ميعادٍ مسبق، مُصرًا بحزم على البوح بشكوكه إليه.
في الطرف الآخر من الردهة الطويلة، استندت همسة بظهرها على الحائط الرمادي البارد، تحملق في بابٍ أُغلق خلف زوجها، تدعو الله بإخلاصٍ شديد، أن يجعله أحد أسبابِ نجاة والدتها، تأهبت في وقفتها وقد رأت شخصًا يرتدي حلة رسمية، يُعرف بنفسه كمحامٍ مكلف بمتابعة تحقيق أمها، ذاك الذي أرسله بدير للوقوف إلى جوارهما، تهللت تعابيرها المتجهمة قليلاً؛ لكنها لم تتمكن من الحديث معه، بسبب دخوله للحجرة لمعرفة التفاصيل. ظلت باقية في مكانها تترقب خروج أحدهما من الداخل لطمأنتها؛ لكن اكفهرت ملامحها مع إزعاج فضل السمج لها، عندما سألها بسخافته غير المحتملة:.
-واقفة لوحدك ليه؟ وفين النطع جوزك؟
رمقته بنظرة حادة، قبل أن ترفع إصبعها أمام وجهه تحذره، بجراءة تفاجأت من وجودها بها:
- فضل أنا مش ناقصة كلام يحرق الدم، ابعد عن وشي السعادي.
تحدث من زاوية فمه بمزيدٍ من الهراء المستفز:
-الحق عليا اللي سايب حالي ومالي وجاي أشوف اللي حصل لأمك.
ردت بحدةٍ أكبر:
-متشكرين، مكونتش تتعب نفسك.
ابتسم قليلاً، قبل أن يكمل ظرافته السمجة:.
-وأديني جيت، بس يكونش جوزك راح يجيب عيش وحلاوة، ما هو أمك باين هتطول في التخشبية كتير.
خرجت عن شعورها مع تهكمه الصارخ، وهاجمته بعصبيةٍ لفتت بها الأنظار:
-إنت إيه؟ معندكش دم؟ جاي تتريق على أمي وهي في الظروف دي؟
في تلك الأثناء، فُتح باب الغرفة، وخرج هيثم من الداخل، ليتفاجأ بانفعالِ زوجته، لم يضبط نفسه، أو يتريث لمعرفة التفاصيل، بل اندفع بغضبٍ شحذه ضده مسبقًا، نحو فضل ليلكزه بكوعه في أنفه، فآلمه بشدةٍ، وجعله ينزف الدماء من فتحتيه، ثم مد قدمه ليعرقله في لمح البصر من ساقه، وطرحه أرضًا، وسط ذهول المتواجدين. كان هيثم على وشك أن يجثو فوقه ليكيل له ما يستحق من لكماتٍ، لولا أن تجمع أفراد الأمن حوله، وفصلوا بينهم.
تدخل أحد الضباط متسائلاً بضيق، وبنبرته الجهورية:
-إيه المهزلة اللي بتحصل هنا؟
على الفور رد المحامي من ورائه معتذرًا، ومحاولاً فض الاشتباك قبل أن يتفاقم، ويتخذ شكلاً رسميًا لا داعي له الآن:
-أسفين يا فندم، ده سوء تفاهم بسيط.
اشتكى فضل للضابط بنواحٍ، وهو مستلقي على ظهره، وواضعًا يده على أنفه النازف:
-اثبِتي عندك يا حكومة، بأضرب وأتهان على أرضك.
التفت المحامي ناظرًا إليه، وحذره بلهجته الجادة:.
-متكبرش الموضوع يا أستاذ.
رد بعنادٍ:
-هو كبر خلاص...
ثم هدر مناديًا والده الذي تفاجأ من الاعتداء على ابنه، متوقعًا أن يكون ابنه هو الطرف المستفز
-شوفت يابا؟ بيعمل إيه فيا النطع ده؟
هتف فيه هيثم متوعدًا إياه بشراسةٍ، وملوحًا بذراعه كتهديدٍ صريح:
-النطع ده هيقطع لسانك النهاردة.
هنا هدر الضابط بغضبٍ مبرر:
-هو أنا مش مالي عينكم؟
ثم أمر أحد رجالته بصرامته الواضحة:
-خدهم يا عسكري على الحجز لحد أما أشوف حكايتهم.
انزعج اسماعيل من قراره؛ وإن كان محقًا فيه، لعدم احترام كليهما لطبيعة الظروف، ومع هذا هتف معترضًا بما يشبه الرجاء:
-حقك علينا يا باشا، ده سوء تفاهم، وهيتحل.
قال له الضابط بوجهه المتجهم:
-إنتو في قسم، مش في سويقة!
تجاهله مجددًا، ووجه أوامره للفرد الأمني:
-اتحفظ عليهم يا عسكري.
احمر وجه اسماعيل، واستدار نحو ابنه يدمدم بغيظٍ:
-عاجبك كده يا فضل؟
علق عليه ابنه بحدةٍ:
-ده أنا اللي مضروب يابا.
غمغم أباه في استياءٍ لا يخلو من التبرم:
-ما هي المشرحة ناقصة قُتلى.
وبالفعل حاوطت قوة بسيطة الاثنين، وتم اصطحابهما لغرفة أخرى، ريثما يتفرغ أحد الضباط للتحقيق في أمرهما.
لم تتوقع أن يتم احتجازها هي الأخرى على ذمة التحقيقات، بعد نوبة الجنون الهيسترية التي أظهرتها للمحقق، على ما يبدو لم يأبه بكل ما قامت به، وأصدر أمره بإبقائها رهن الحجز، إلى أن يستكمل باقي التحقيق. وبين جدران تلك الحجرة، ذات الإضاءة الخافتة، افترشت النساء المحبوسات الأرضية والمصاطب الخشبية القصيرة، نظرة مذعورة كست وجه حمدية وقد دُفعت قسرًا للدخول إليها، انتفضت كالملسوعة نحو الباب المعدني وقت غلقه بصوتٍ قوي، تنظر إليه في صدمةٍ غير مصدقة، أن المطاف قد انتهى بها هنا، مع تلك النسوة العابثات، لحظة من الخوف القوي سرت في أوصالها، بلعت ريقها في حلقها الجاف، وسارت باحثة عن بقعة شاغرة لتجلس بها؛ لكن رؤيتها لـ آمنة تبكي في نفس الزاوية بمفردها، استفز غضبها، فهاجمتها دون مقدماتٍ، ملقية بكامل اللوم عليها:.
-إنتي السبب في اللي احنا فيه؟ إنتي اللي خربتي حياتي وموتي عيالي
نظرت لها آمنة بذهولٍ وهي تكفكف عبراتها المنسابة، قبل أن تنطق بصوتها المرتعش، بما يشبه السؤال:
-أنا يا حمدية؟ ده ربنا وحده اللي عالم بيا، وبالقهرة اللي عايشة فيها، من يوم ما...
قاطعتها بصوتٍ هادر، وهي تدنو منها لتتشاجر معها:
-اللي ماتوا دول عيالي مش عيالك، إنتي هيفرق معاكي إيه؟
تعلقت بياقتي عباءتها، جذبتها منها بعدوانيةٍ بحتة، لتجبرها على الوقوف، وأكملت إلقاء التهم عليها:
-وأخرتها اتحبس هنا بسببك إنتي وأخوك اللي اتجوز عليا.
دافعت عن نفسها بنبرتها المختنقة:
-أنا زيي زيك يا حمدية، معرفش حاجة عن جوازة خليل التانية، والله العظيم قلبي محروق على عيالك أكتر منك.
صرخت بها بانفعالٍ أشد؛ وكأن كل غضب الدنيا قد تجمع أمام عينيها في تلك اللحظة:.
-كفاية مُحن بقى، وسهوكة، ناقص إيه تاني تاخديه مني؟
حاولت آمنة إبعاد يديها عنها؛ لكنها واصلت هزها العنيف، مع صياحها المستمر بها:
-قضيتوا عليا وضيعتوا شبابي وحياتي.
تدخلت بعض السيدات للفصلِ بينهما، وهتفت بهما واحدة بصوتٍ أجش تقريبًا:
-ما كفاية بقى يا نسوان، صدعتونا.
استدارت حمدية تطالع المرأة بعينين مغلولتين، واتهمت آمنة علنًا ببكاءٍ مصحوبٍ بالعويل:.
-الولية دي قتلت عيالي، وعاملة فيها الملاك البريء، عايزني أسيبها إزاي؟
بمكرها الخبيث نجحت في شحن النساء الآخريات ضد تلك المغلوبة على أمرها، وبدأن في التكالب ضدها، وأوشت إحداهن عن ضربها، لولا أن تدخل أحد الضباط في اللحظة الأخيرة، بعد ارتفاع الصخب داخل غرفة الاحتجاز، فأصدر أوامره الصارمة بعدم تعرض أي واحدة للأخرى، وإلا لتلقت عقوبة قاسية، تُضاف إلى ملف تهمها، فأتي تهديده الصريح بنتائجه السريعة، وجلست النساء ملتزمات الصمت، رغم احتقان النفوس. وبصوتٍ لم يخرج من جوفها، رددت آمنة في عجزٍ يائس:.
-عملتي إيه يا آمنة في دنيتك، عشان يحصلك ده كله؟
بصعوبةٍ تمكن من إقناعها، لتتخلى عن رأيها العنيد، وتعود معه إلى منزل عائلة سلطان، بحجة رؤية الطفلة التي تحتاج إليها؛ لكنها كانت وسيلته لإبعادها عن القسم الشرطي، بعد التصالح الودي بينه وبين السمج فضل، لكون تواجدها هناك لا طائل منه. لم تجلس همسة منذ أن وطأت المنزل، وأصرت على أخذ الصغيرة رقية، رغم استغراقها في النوم في غرفة هاجر مع رضيعها. اعترض عليها بدير قائلاً بصوته الرخيم:.
-يا بنتي ماينفعش كده.
تشبثت بعنادها، وقالت:
-معلش، خلوها تصحى، وأنا هاخدها ونفضل قصاد القسم، مش هاسيب أمي لوحدها.
أخبرها بدير بتمهلٍ، علّها تنصت لصوت العقل، وتتوقف عن التصرف هكذا:
-وهي مش لواحدها، المحامي قال ده إجراء طبيعي في الظروف دي، وحتى مرات خالك محبوسة معاها، هنعمل إيه تاني؟
ردت عليه بتزمتٍ:
-ماليش دعوة بيها، أنا كل اللي يهمني أمي.
هتف بدير بزوجها طالبًا منه دعمه:
-ما تعقل مراتك يا ابني.
قال بيأسٍ:.
-غلبت معاها يا جوز خالتين هي راكبة دماغها.
هز بدير رأسه للجانبين، وعلق بعد زفيرٍ طويل:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، طب اطلعي شقتك فوق لحد ما أتصرف، وأكلم ناس حبايبي، جايز يقدروا يساعدوا.
جاءه ردها الأكثر عندًا عن ذي قبل:
-أنا عايزة أكون جمب أمي، مش هاروح في حتة إلا القسم.
غمغم في نفاذِ صبرٍ:
-أنا مش حِمل مناهدة في السن ده.
لاحظ هيثم علامات الضيق البادية على وجه زوج خالته، فألح على زوجته بلطفٍ، محاولاً استمالة رأسها المتيبس:
-اسمعي الكلام يا همسة، وتعالي معايا.
نطقت بألمٍ ومرارة، وعيناها تفضيان بدموعٍ لا حصر لها:
-يا هيثم ماما مش وش بهدلة، بقى أخرت المتمة تروح أقسام وتنام مع المجرمين؟ الله أعلم عاملين فيها إيه دلوقتي.
حز في قلبه أن يراها هكذا، ويقف مكتوف اليدين، فربت على كتفها برفقٍ، ورجاها:.
-طب إهدي، كل اللي إنتي عايزاه هنعمله.
من الداخل أتت ونيسة وهي تحمل كوبًا يحوي مشروبًا باردًا، قدمته إلى همسة وهي تصر عليها:
-خدي اشربي العصير ده يا بنتي.
رفضت تناوله، وقالت بنحيبٍ:
-مش عايزة حاجة.
أصرت عليها، وأجبرتها على ارتشاف ما به بحنوها الأمومي:
-اسمعي بس الكلام، والله هازعل منك.
رغمًا عنها تناولت الكوب منها، وبدأت في تجرع ما به، لم تشعر بمذاقه الحلو، فالعلقم المنتشر في حلقها غطى على أي حلاوة به، التفتت بعدها تتطلع إلى بدير الذي شغلها بحديثه، فمالت ونيسة على هيثم تهمس له بصوتٍ خفيض:
-بأقولك إيه، أنا دوبتلها في العصير قرص منوم.
برقت عيناه، واستدار برأسه نصف استدارة مبديًا اندهاشه بتصرفها، فتابعت:
-كده أحسن بدل ما تفضل في المناحة دي للصبح.
أخفض نبرته معقبًا عليها في استحسانٍ:.
-خير ما عملتي يا خالتي.
أوصته بصوتها الخافت:
-إنت وشطارتك تخليها تشربه للآخر.
رد مؤكدًا، بابتسامةٍ أخفاها جيدًا:
-حاضر.
وقبل أن تفكر زوجته في التوقف عن تناول مشروبها، تقدم نحوها، وحاوط كفها الممسك بالكوب، ليرفعه إلى شفتيها وهو يصر عليها:
-اشربي يا همسة، دي شوية مياه.
لم تجادله، وتجرعت كامل ما في جوفها، شاعرة بثقلٍ خفيف يزحف نحو عينيها، التقط منها الكوب الفارغ بعد ارتشافه، وأجلسها على الأريكة مدعيًا حديثه الجاد عن قضية والدتها، إلى أن غامت الصور في عقلها، وغفت بعد دقائق، مستسلمة لتأثير النوم الإجباري الذي فُرض عليها. تعجب بدير مما أصابها، وتساءل:
-إنتو عملتوا فيها إيه؟
أجاب هيثم مبتسمًا في امتنانٍ:
-دي خالتي الله يباركلها.
تفقه ذهنه سريعًا للتفسير الغامض لحالتها، وسأل زوجته ليتأكد من شكوكه:
-إنتي إديتها يا ونيسة من اللي الأقراص بتاعتك؟
قالت ببساطة:
-مش كده أحسن يا حاج.
أومأ برأسه موافقًا، وأضاف:
-أيوه، خد يا ابني مراتك على شقتكم، ولينا كلام تاني لما المحامي يشوف تفاصيل حكايتها إيه.
رد هيثم بانصياعٍ واضح:
-ماشي يا جوز خالتي.
وقبل أن يحمل زوجته، أخبرته ونيسة بنوعٍ من التعاطف:.
-خلي البت رقية بايتة هنا، دي أخدت بحس هاجر من ساعة ما جت.
علق عليها بدير بدهشةٍ:
-سبحان الله، مين كان يصدق إن خليل متجوز وعنده بيت تاني.
هتفت زوجته في استنكارٍ:
-ولا كان يبان عليه، وربنا عاطيله بدل العيل تلاتة.
اختتم بدير الحديث في شأنه بقوله الحاسم:
-محدش عارف الظروف إيه، فُضنا من سيرته، والله يصلح حال عبيده، بنته أمانة عندنا لحد ما نشوف الليلة هتسرى على إيه.
أكدت عليه زوجته:
-اطمن يا حاج، دي في عينيا.
لم يجد هيثم ما يخبرهما به، فكلمات الشكر تعجز أمام عطائهما اللا محدود، وسعيهما الدائم في تقديم الخير للغرباء قبل الأقرباء، وهذا ما كان يجهله عنهما! دومًا كانت تبث والدته في نفسه بذور الكراهية والحقد نحوهما؛ لكنهما كانا ومازالا –رغم كل شيء- أبعد ما يكون عن تلك السمات الخبيثة! وبحذرٍ واضح عليه، مرر ذراعيه أسفل جسد زوجته، حملها برفقٍ، متجهًا بها نحو باب المنزل، ومن خلفه خالته، سبقته قبل أن يصل إليه لتفتحه له، وأوصته للمرة الأخيرة؛ كما لو كانت متنفسها لتتحدث بنوعٍ من التورية، عن ابنتها المتألمة بالداخل:.
-خد بالك منها يا هيثم، دي غلبانة، واحنا عندنا ولايا زيها.
أبعد نظراته عنها، ليحملق في وجه همسة النائم، وقال بحبٍ لا يحتاج لإثباتٍ مادي ملموس:
-أنا مش محتاج توصية على مراتي، هي في عينيا.
آخر ما تذكره قبل أن تستفيق من سباتها الذي شعرت أنه كان عميقًا، غريبًا، وربما امتد لساعاتٍ أطول من المعتاد، أنها عانتٍ من ألم مبرح، صاحبه إضاءة بيضاء طغت على عقلها، كصاعقة برقٍ مباغتة، قبل أن تختفي عنها المشاهد كليًا، ويتحول كل شيءٍ للإظلام. تململت فيروزة في فراشها الغريب، محاولة إجبار عينيها على اعتياد الإنارة القوية، تأويهة متألمة تسللت من بين شفتيها، تكررت بأنين موجوعٍ، وقد شعرت بمطارقٍ عنيفة تدق في رأسها، رفعت ذراعها ببطءٍ للأعلى، فالتقطت نظراتها المشوشة إبرة طبية موصلة بها، تغاضت عنها مؤقتًا، وأكملت طريقها للأعلى لتتحسس جبينها، شعرت بقماشٍ ما يحاوطه، فتساءلت مع نفسها بحيرة:.
-هو إيه اللي حصل؟
لحظات من التفكير والصمت مرت عليها محاولة استعادة ذاكرتها، تأملت الغرفة المتواجدة بها حاليًا، لم تكن فيما يُعتبر مكان إقامتها الحالي، بل الأدق أن يُقال أنها كانت فيما يشبه غرفة بالمشفى، بسبب التجهيزات الموجودة بها، مع انتشر لبعض المعدات الطبية بها، استرعى الأمر كامل انتباهها، وبدأت في اعتصار ذاكرتها لتستعيد ما هو منقوص عن المشهد، بعد محاولات مضنية تسربت إليها ذكرى مشادتها الأخيرة مع آسر، حينما استفزها الأخير بتلميحه القذر عن نشر مقاطعًا مزيفة لها، قبل أن تخرج عن شعورها، وتدمر حاسوبه المحمول. انتشلها من سرحانها العميق صوتًا بدا مشابهًا للغتها، وهو يقول:.
-حمدلله على السلامة يا مدام فيروزة.
وقع لقب (مدام) مع اسمها بدا شاذًا على مسامعها، ومع هذا التفتت نحو صاحب الصوت الذكوري، وسألته بحشرجةٍ بائنة في صوتها:
-إنت مين؟ وأنا بأعمل إيه هنا؟
تأملته بعينين فضوليتين، فرأته يرتدي زيًا طبيًا، ويراجع الأوراق المعلقة في حاملٍ معدني على حافة فراشها، توقف عن المطالعة، ونظر إليها مبتسمًا، ليعرف بنفسه بودٍ لطيف:
-أنا الدكتور هاني المتابع لحالتك هنا.
على الفور لاحقته بسؤالها المليء بالاستغراب:
-وأنا إيه اللي جابني هنا؟
بخطواتٍ متمهلة اقترب من فراشها، وأخبرها:
-جوزك.
تعقدت تعبيراتها بوجوم سقيم، فواصل إطلاعها على المزيد من الحقائق الغائبة عنها:
-إنتي بقالك هنا حاولي 10 أيام.
حلت الدهشة المصدومة على تعبيراتها، وكذلك نظراتها إليه، تحرك فكها ليهتف في ذهولٍ:
-إيه؟ 10 أيام؟ مش معقول.
تعمد أن يكون بطيئًا في حديثه وهو يتابع إعلامها بالمزيد مما تجهله:.
-ده اللي حصل، جوزك نقلك على هنا، وقال إنك اتزحلقتي لما كنتي بتنضفي الشقة، وخبطتي دماغك جامد.
أنكرت بعصبيةٍ آلمت رأسها:
-محصلش.
أشار لها بيده لتهدأ، وقال:
-أنا عارف
ضاقت عيناها بشكٍ، فأكمل تفسيره ليزيح الغموض السائد في الأجواء:
-اللي قصادك دكتور، وفاهم شغله كويس، وفي فرق أكيد بين حد اتزحلق، ومحاولة قتل، ده غير إن كاران حاكيلي عن ظروفك.
رددت في صدمةٍ أخرى:
- كاران؟
حرك رأسه بالإيجاب، وقال:
-أيوه...
تابعته بنظراتها المتوترة، وهو يتحرك ليقف على رأس فراشها، قبل أن يضيف:
-مدام فيروزة، أنا هنا عشان أساعدك.
لعقت شفتيها، وتساءلت في ارتباكٍ:
-أنا مش فاهمة حاجة، تساعدني إزاي؟
قال مبتسمًا في ثقةٍ:
-اللي هيفهمك أكتر على كل حاجة شخص جالك مخصوص، ومنتظر اللحظة دي أكتر من جوزك نفسه.
كان محقًا في كلماته الأخيرة، فعلى الأغلب يريد زوجها هلاكها ليفلت من جريمته النكراء، ويُصدق الجميع أكذوبته بأنها زلت قدمها حينما كانت تنظف المنزل، تركت أفكارها الحائرة جانبًا، وتساءلت بفضولٍ كبير عن هوية الزائر الغامض:
-مين ده؟
رد دون أن تفتر ابتسامته:
-المقدم ماهر.
اتسعت عيناها أكثر وهي تهتف في اندهاشٍ عجيب:
-بتقول مين؟
تابع مفسرًا لها:.
- كاران تواصل مع سفارة بلدك، وتقريبًا القدر كان مرتبلك لقاء بيه معاه، لأنه كان بيحاول يوصلك بأي شكل.
احتفظت بملامحها المدهوشة وهي تحاول استيعاب الأمر، بينما أكمل هاني مشددًا عليها:
-أنا عايزك ترتاحي لحد ما أتصل بيه عشان يجي يقابلك، هنا!
مزيدٌ من أمارات الدهشة ارتسمت على ملامحها المتعبة، ومع هذا قابلها بعبارته المؤكدة:
-واطمني جوزك مش هايعرف إنك فوقتي، إنتي بالنسباله لسه في غيبوبة.
تراءى لها -رغم قلقها والهواجس المستبدة بها- أن كاران لم يتخلَ عن وعده بمساعدتها، وإنقاذها من براثن شخصية وضيعة كزوجها، منحها كل الدعم لإبقائها في أمانٍ، وإن كان بتوفير مساعدة خفية من هذا الطبيب الغريب كليًا عنها، ناهيك عن النجدة الأخرى القادمة إليها، والمتمثلة في وجود الضابط ماهر ؛ وإن لم تعلم بعد السبب الحقيقي لقدومه...!