رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الأول
أخطأت حين هاتفت ابنتها، لتعلمها وسط نوبة بكائها المُقطعة لنياط القلوب، بما آَلم بشقيقها الوحيد، حينها صرخت منادية باسمه، أنهت الاتصال بعد إلمامها بالتفاصيل البسيطة، لتذهب ركضًا إليه، وقلبها يدعو الله بتضرعٍ كبير ألا يضرها فيه. لم تعرف "هاجر" كيف ارتدت ثيابها، وكيف حملت رضيعها على ذراعها، بالكادِ صمدت وهي تهرول بها بها نحو أقرب سيارة أجرة، لتقلها للمشفى الراقد فيه "تميم". عجزت عن الوصول إلى زوجها، فهاتفه مغلق منذ ليلة الأمس؛ وكأن وجوده أصبح والعدم سواء، تحرك فكها ليتساءل تلقائيًا:
-فينك يا "محرز"؟
لم تلك في حالة صفاءِ ذهنٍ لتفكر في أمره، شاغلها الأكبر حاليًا بلوغ المشفى في أقصى سرعة. وما إن ولجت للاستقبال، حتى أسرعت نحو إحدى الموظفات تستعلم منها عن مكانه، أرشدتها إحدى الممرضات إلى مكان انتظار عائلات المرضى، وهناك لمحت والدتها الباكية تنتحب على أحد المقاعد المعدنية، خطت في اتجاهها، وصراخها الموجوع يقطع السكون المشحون بالأحزان، والسائد في الأرجاء:
-أخويا جراله إيه يامه؟
كلمة واحدة أجابتها بها "ونيسة" بصوتٍ اختلط ببكائها الحارق، وجعل قلبها ينقبض أكثر:
-ادعيله.
تعبيرات والدتها المكلومة، نهنهاتها المخيفة، وعيناها المنتفختان أكدت لها أن الجلل عظيم، كادت "هاجر" تُسقط رضيعها من ذراعها المرتخي، لولا إسراع "سراج" الذي كان لا يزال متواجدًا لالتقاطه منها، قبل أن يرتطم جسده الضئيل بالأرضية القاسية، وتزداد حسرة العائلة بفاجعة جديدة، نبهها وسط سرعة ردة فعله:
-خدي بالك!
وكأنه يُحادث الفراغ، لم تكن "هاجر" في وعيها، انتابتها نوبة من الصراخ المصحوب بالعويل واللطم، شعورها بالذنب نحوه كان عظيمًا، لكونها كانت على خلافٍ كبير معه، ظنت أنه على وشك مفارقة الحياة، وهو لم يُغضبها يومًا، لم يحمل قلبه نحوها أدنى ضغينة؛ وإن قست عليه كثيرًا، زادت حدة صرخاتها، فنهاها والدها عن ذلك بلهجته الصرامة:
-مش عايز ندب هنا! أخوكي لسه مامتش عشان تعددي عليه.
وضعت يدها على فمها تكتم شهقاتها التي تقاتل للخروج، بينما تابع "بدير" أوامره:
-مش عايز أسمع حِس حد فيكم، مفهوم؟
تخلل صوته ألمًا واضحًا عندما أكمل بإجهادٍ ظاهر عليه:
-ابني بين إيدين ربنا دلوقتي، مقدمناش حاجة نعملها غير ندعيله ربنا ينجيه.
انهارت "هاجر" جالسة على المقعد إلى جوار والدتها، ووقف "سراج" في مكانه ينظر بحيرةٍ للأم تارةً، ولرضيعها الذي ما زال بين ذراعيه تارة أخرى، في النهاية حسم أمره بإبقائه معه ريثما تتمالك والدته نفسها، وبدأ في هدهدته بتؤدةٍ وحنو، حتى استكان في أحضانه، وغفا بعمقٍ لنومٍ لن ينعم به من حوله لوقتٍ طويل.
قناع البرود الذي لطالما لازمه، سقط لتوه مع تهديدات "محرز" له، بإحراق الأرض ومن عليها، إن لم يتدخل بشكلٍ حاسم لإنقاذه، فالأخير لم يتوقف عن الاتصــال به طوال الساعات الماضية، من أجل الضغط عليه، لتخليصه من الكارثة التي زج بنفسه بها. استقر "آسر" في سيارته، وقادها بعيدًا عن الحي السكني القاطن به، عاود الاتصـال به، وعرف منه تفاصيل رعونته المهلكة، فهاج يعنفه بكل ما فيه من غضبٍ وحنق:
-هو أنا قولتلك اتصرف كده يا غبي؟ إنت ما بتفهمش؟!
رد "محرز" بسماجةٍ:
-أهوو اللي حصل.
سأله بحدةٍ، ويده الأخرى تقبض على المقود:
-والمطلوب مني إيه دلوقتي؟
أجابه ببرود مستفز للغاية؛ وكأن جريمته سهل التعامل معها:
-تساعدني أطلع من القرف ده.
بعصبيةٍ زادت في نبرته، علق عليه "آسر":
-يعني إنت تُعك الدنيا، وأنا أنضف وراك؟
أخبره بلهجةٍ لم تكن مازحة أبدًا، ومالت للتهديد أكثر:
-ماتنساش إني راجلك، ولو وقعت مش هاقع لوحدي.
توقف عن القيادة، وصف سيارته على جانب الطريق، ثم سأله مباشرة بعد أن فهم تلميحه الضمني:
-ده تهديد يا "محرز"؟!!!
ببساطة رد قائلاً بنوعٍ من التحذير:
-لأ مش تهديد، بس بأرسيك على الليلة هتمشي إزاي.
للحظات سكت "آسر" عن الكلام ليفكر مليًا في كارثته غير المتوقعة، وقبل أن يزعجه "محرز" بصوته السمج أمره:
-طيب إدارى في أي حتة، لحد ما أشوف هاعمل إيه.
على مضضٍ قال بإيجازٍ:
-ماشي.
شدد عليه "آسر" بصوته الذي تحول للقتامة:
-ومتكلمنيش، أنا اللي هاطلبك.
عقب عليه بتحذيرٍ واضح، بعد زفيرٍ ثقيل:
-طيب، بس ماتغيبش عليا، لأحسن الشيطان شاطر، وجايز يوزني أعمل حاجات متعجبكش!
لعنه "آسر" في سره، وأنهى معه المكالمة، ليشرد بعدها لبرهةٍ، محاولاً التفكير بعمقٍ في كيفية إيجاد حلٍ يزيح تلك المصائب عن كاهليه.
توقف محرك سيارته عن العمل، بعد قيادة استغرقت ما يقرب من الثلث ساعة، في الجراج الخارجي الواسع، والمخصص لخدمة المباني المتواجدة في هذه المنطقة الراقية، والخاصة بإدارة المؤسسات الاستثمارية والتجارية العملاقة، كانت الأجواء هادئة من حوله، حركة المارة والسير شبه محدودة، بسبب انقضاء أوقات العمل الرسمية قبل وقتٍ طويل...،
نظرة عابرة ألقاها على الواجهة الزجاجية لهذا المبنى الشاهق، بعد أن ترجل من سيارته، وعبر المسافة المتبقية متجهًا إليه. واصل "آسر" تقدمه نحو مدخله الفخم، وجهته كانت معروفة دون الحاجة للسؤال، لذا ظهر التردد والارتباك بقوة على قسماته، مهما حاول إخفاء ذلك، ولج لداخل المصعد، وضغط على زر الطابق العشرين بيدٍ ترتعش قليلاً، حتمًا لن يرضى رؤسائه عن الزلات المتكررة والمرتبطة به في هذه الفترة القصيرة، بالكاد نجا بأعجوبةٍ من قضية التهريب، وتكرار مثل تلك الأخطاء الجسيمة غير مقبولٍ في عالمهم! فماذا عن إخبارهم بأنه بات في موضع تهديد؟ لن يسمحوا بهذا مُطلقًا!
توقف المصعد عند الطابق المنشود، فخرج منه "آسر"، ليجد الحراسة الأمنية تحتل الردهة الطويلة، اقترب منه أحدهم بعد أن أشار له بالتوقف، قام بتفتيشه جيدًا، قبل السماح له بالمرور، وهو يخبره بلهجةٍ رسمية بحتة:
-الرئيس في انتظارك.
اكتفى بهز رأسه، راسمًا على شفتيه ابتسامة مصطنعة، حاول أن يخفي بها توتره المتصاعد بداخله، شعر بجفافٍ شديد يجتاح حلقه، ويزيد من شعوره بمرارة العلقم فيه، بلع ريقه غير الموجود، حين وقف أمام أحد الأبواب المغلقة، كور قبضة يده، ورفعها ليدق عليه بخفةٍ، منتظرًا السماح له بالدخول. حاول أثناء ذلك استدعاء شجاعة فارة منه، قبيل مواجهته المصيرية. بأعصابٍ مشدودة على الأخير، ســار "آسر" بساقين مهزوزتين نحو المكتب الخشبي الضخم، والذي يحتل منتصف الغرفة، ومن خلف حائط زجاجي حابس للأنفاس، حيث يمكن للمتواجد به رؤية معالم المدينة عبره. رفع عينيه بحذرٍ للأعلى، باحثًا عن وجه رئيسه؛ لكن الأخير لم يكن ينظر في اتجاهه، بل كان مديرًا مقعده الوثير ناحية المشهد الخلاف، يتأمله في صمتٍ، تضاعف توتر مرؤوسه من سكوته المريب، وبحرصٍ تنحنح بخفوتٍ ليلفت انتباهه إليه، ثم استطرد قائلاً باللغة الانجليزية:
-أعتذر عن إزعاجك سيدي.
استدار بمقعده رجل يبدو عليه السلطة والسيطرة، خمسيني العمر، ملامحه لم تكن عربية، وأكد على أجنبية جنسيته، لكنته الانجليزية الواضحة، حين رد عليه متسائلاً:
-ما الأمر الهام الذي أتى بك الآن؟
بجملٍ قصيرة مرتبة بعناية، أطلعه على المشكلة المهددة في الأفق، متوقعًا أن يثور في وجهه، وربما يوقع عليه بعض العقوبات الشديدة، كنوعٍ من التأديب له لتقصيره، ولسوء اختيار رجاله الأوفياء، بدا وكأن حظه الجيد تخلى عنه، واحتل مكانه طالع السوء، حدجه الرجل بنظراتٍ قاسية، قبل أن ينطق بجمودٍ جعل الخوف يقلص معدته:
-لم يكن ذلك اتفاقنا.
تلجلج وهو يبرر له:
-أعلم سيدي؛ ولكن حدثت بعض التطورات في الأيام الأخيرة، أجبرت أحد رجالي على التصرف برعونة.
هتف الرجل بأسلوبٍ متسائل، وبنبرة شبه حادة:
-مثل إهدار بضاعة تكلفت ملايين الدولارات؟ من سيعوض التنظيم عن تلك الخسارة الكبيرة؟
تضاعف اهتزاز صوته وهو يحاول توضيح ملابسات الموقف:
-للأسف لم يكن ذلك مقصودًا.
انتظر الأول لبرهةٍ، ثم سأله باقتضابٍ، وتلك النظرة الشريرة تكسو نظراته نحوه:
-وبعد؟
تعهد له برجفةٍ لم يتمكن من السيطرة عليها في نبرته:
-سأعمل بكل طاقاتي لـ ....
قاطعه الرجل بخشونةٍ، ضاربًا بقبضته المضمومة بعنفٍ على سطح مكتبه:
-لا نريد وعودًا لا تقدر على الإيفاء بها، أريد شيئًا ملموسًا.
بتوترٍ أكبر قال، وعيناه ترمشان في رهبة:
-ما أملكه من مالٍ لا يمكن أن يغطي هذه الخسارة.
نظر في عينيه بقساوةٍ، ثم ابتسامة باردة ظهرت على زاوية فمه وهو يرد بلهجته الآمرة:
-ولكنه البداية، أفرغ ما ادخرته في خزانتك الآن، وحوله على رقم هذا الحساب، ألست من يدير الموقع الإباحي، ويجني أرباحًا منه؟
صدمه بتحريره المتقصي عن أخبار حساباته البنكية، ولما لا يفعل؟ وتلك المنظمة تدار بإشارةٍ من إصبعه الصغير، حاول أن يعترض على طلبه، فأردف بحذرٍ، منتقيًا كلماته:
-نعم، لكن دخله محدود، بعد إعطاء الممثلين والمصورين أجورهم، وإن سددت بأموالي الخاصة جزءًا من الخسارة، سأكون معدومًا، لن أستطيع أن أنفق على شخصي، وعلى زوجتي أيضًا، خاصة بوجودنا في هذا البلد الغالي.
بحاجبٍ مرفوع للأعلى، ونبرة ساخرة سأله:
-هل تزوجت من جديد؟
لعق شفتيه، ودمدم بنبرة متذبذبة:
-نعم.. لكنها فقيرة، ليست كالبقية.
احتد صوت الرجل وهو يعقب عليه، مكررًا ضربه لسطح المكتب:
-كل مرة تدعي ذلك، ونجد حين ندقق في حسابك ربحًا لا بأس به، قبل أن تحصل تعيسة الحظ على الطلاق منك.
اجتهد لإخفاء حنقه من تتبع تفاصيل حياته الخاصة، وقال بتمهلٍ، آملاً أن يتسبب في غضبه:
-سيدي، تكاليف المعيشة تقضي على أي مدخرات أنالها من تلك البائسات.
هتف بصرامةٍ، وقد قست عيناه:
-ليست مشكلتي، ادفع ثمن غباءك.
لم يكن أمامه سوى إظهار خنوعه، بجهدٍ أكبر رد على مضضٍ، وهذا العبوس يكسو تقاسيمه:
-حسنًا.
تهديده كان صريحًا وقاطعًا، عندما أخبره مرة أخرى، بابتسامته الهادئة:
-صدقني سيد "آسر"، إن لم تصلح خطأك، فلن أضمن لك بقاءك على قيد الحياة.
انقبض قلبه، وقد بات على يقين كامل بأن قراره غير قابل للمفاوضة، حينها أدرك أن رقبته موضوعة على المحك، إن لم يتخذ الخيار السليم الآن، ويعوض رؤسائه عما كبده لهم من خسائر غير مقصودة.
نال منها الإرهــاق بعد انتظــار طويل، لا تعرف كم امتد؛ لكنه جعل جسدها يسبح في سبات عميق، إلى أن شعرت بأنين شكوى من عظامها التي تيبست من نومها غير المريح، اعتدلت "فيروزة" في جلستها، على الأريكة الوحيدة الموجودة بصــالة منزلها، دعكت عينيها بقبضتين مضمومتين، لتزيح آثار النعاس من عليهما، لم تعتد بعد على فارق التوقيت بين الدولتين، فما بدا لها أنه المساء، كان تقريبًا قد تجاوز منتصف الليل، تحركت من مكانها، وتجولت بتأنٍ في الأرجاء المحدودة المحيطة بها، تأملت عن كثب المزيد من تفاصيل مسكنها، أو ما يطلق عليه مجازا عش الزوجية، وكان بالفعل كذلك، محدودا في كل شيء: مساحته، أثاثه الموجود به، وحتى في أدوات الطهي. تساءلت بصوتٍ متحشرجٍ، وقد تداركت أنها صارت متزوجة، ويشاركها غيرها في حياتها:
-أومال "آسر" راح كل ده فين؟
اتجهت إلى حقيبة يدها، أخرجت منها هاتفها المحمول، نظرت له بيأسٍ، وهي تعبث به، بدا لها كأنه أداة معدنية، لا فائدة منها، بالطبع لن تستطيع مهاتفة زوجها، بسبب افتقارها لرصيدٍ من العملة المحلية لتلك الدولة، يُمكنها من التواصل معه. تركته من يدها، واتجهت إلى الثلاجة، بعد أن شعرت بالجفاف المحمل بالعلقم يجتاح جوفها، فتحت بابها، وأمعنت النظر في رفوفها الفارغة تقريبًا، تبحث عن زجاجة مياه، لم تجد شيئًا يصلح للشرب، نفخت في سأمٍ، وأغلقت الباب بضيقٍ يكسو ملامحها، ثم دمدمت متسائلة مع نفسها:
-المفروض أعمل إيه دلوقتي؟
ســارت في اتجاه الشرفة، ووقفت خلف الزجاج، تتأمل السواد الحالك الذي يغطي السماء، أخفضت "فيروزة" عينيها، ونظرت إلى أضواء الشوارع الباهتة، كانت المنطقة من حولها خالية من المارة تقريبًا، وللمرة الثانية تجتاحها أحاسيس الوحدة، البعد، والغربة، ضمت ذراعيها إلى صدرها؛ وكأنها تبحث عن أمانها المفقود، في عزلتها القاسية. لوهلةٍ تسرب إليها مجددًا، شعورها العميق بالندم، على تسرعها في اتخاذ قرارها بشأن الزواج ممن أوهمها بتلهفه اللا محدود عليها. الهالة الساحرة المحاوطة به اختفت، بمجرد أن هبطت على أرض الواقع، وأدركت أن ما أخبرها به مجرد أحاديث واهية؛ ظاهرها مُخادع، وباطنها الكذب.
اعتبر نفسه سيد اللعبة الآن، بعد أن تغيرت مجريات الأمور، وأصبح في موقف المُهدد، عــاد "محرز" إلى مخبئه، متخفيًا عن الأعين، أغلق الباب من خلفه، وجلس على الحشايا التي تفترش الأرضية القاسية، يفكر مليًا في الخيارات المتاحة أمامه، بعد تضييق الخناق عليه، وقد كانت محدودة، تُعد على أصابع اليد الواحدة. اعتصر عقله اعتصــارًا، ليخرج بخطة طوارئ، تنجيه عند اللزوم، خاصة مع عدم ثقته في جدية "آسر" في تنفيذ وعوده، فاليوم أعطاه إشارة مبطنة بأنه ربما سيتخلى عنه، إن طال الخطر عنقه. طرد الهواء المعبأ بدخان سيجارته من رئتيه، وأخبر نفسه بتعهدٍ:
-هتردم على دماغ الكل لو ضيعت فيها.
انقلبت شفتاه عن تنمرٍ صريح، وهو يكمل:
-مش دي أخرتها بعد خدمة الغُرب، اتسجن وهما يعيشوا في النعيم والنغنغة.
احتقنت نظراته بمزيدٍ من الوعود المهلكة، لن يسمح لنفسه أبدًا بأن يكون كبش الفداء، وانتظر على أحرٍ من الجمر الخبر اليقين من "آسر".
من الجيد أن هاتفها المحمول، خلال تجربة غير مقصودة منها، لتشغيل خدمة (الواي فاي)، قد التقط إشارة بثية، متاحة للجميع، جعلته ينبض بالحياة، وكذلك قلبها المشتاق، تهللت تعابير "فيروزة" الحزينة، حين دلت الإشعارات المتعاقبة التي يستقبلها على استجابته، وأيضًا جودة وقوة الإشارة، لتمكنها من التواصل مع أحبابها. جال بخاطرها، أن تهاتف شقيقتها باستخدام خدمة الإنترنت، لتطمئن منها على أحوال والدتها، وبغض النظر عن اختلاف التوقيت، أجرت الاتصــال، وانتظرت بفارغ الصبر ردها عليها، وما إن سمعت صوتها حتى هتفت تناديها، بكل اشتياق الدنيا ولهفتها:
-"همسة"، وحشتيني أوي.
وعلى عكس ما توقعت، من لهفة مماثلة، وجدت صوتها يعكس حزنًا ثقيلاً وهي ترد ببطءٍ؛ وكأنها تجد صعوبة في الكلام:
-وإنتي كمان.
سألتها في تعجلٍ، ودقات قلبها تتصاعد في صدرها:
-إنتي عاملة إيه؟ وإزي ماما؟ كلكم كويسين؟
جاءها صوتها بطيئًا ومهمومًا:
-احنا كويسين.
لامست رنة الحزن الكثيفة في نبرتها، فألحت عليها بسؤالها:
-"همسة" قوليلي، هو حصل حاجة؟ صوتك متغير، وأنا حاسة بده.
صمتت توأمتها للحظةٍ قبل أن تجيبها بترددٍ:
-أنا مش عايزة أقولك عشان متزعليش...
سكوتها عن الكلام ضاعف من انتفاضة قلبها الملتاع، وبصوتٍ شبه لاهث، مليء بالجزع، سألتها "فيروزة":
-ماما جرالها حاجة؟
حبست أنفاسها، منتظرة ردها المحمل بالأخبار غير السارة؛ لكن توأمتها خيبت توقعاتها السيئة بشأن والدتها، بقولها الهادئ:
-لأ، هي الحمدلله بخير.
عادت لتتنفس الصعداء بشكلٍ طبيعي، كما تخلل تعبيراتها القليل من الارتياح، فأرتخت كثيرًا عن الأول؛ لكن ما لبث أن بدأ القلق يغزو عقلها، مع صمتها المتكرر، لذا بلعت ريقها بصعوبةٍ، وتساءلت بحذرٍ:
-أومال في إيه؟
سكون مخيف ساد بينهما لثوانٍ، إلى أن جاوبتها "همسة"، بغصةٍ خانقة غطت على صوتها:
-دكان المعلم "تميم" اتحرق، وهو فيه.
موجة كاسحة من المشاعر المرعوبة، الخائفة، والمصدومة جرفت روحها المنهكة دفعة واحدة، لمجرد سماعها بالفاجعة الأليمة، أحست "فيروزة" بقلبها يهوي بين قدميها بارتياعٍ عظيم، لم تشعر به من قبل تجاهه. تلقائيًا تجسدت نصب عينيها مشاهد الحريق القديمة، بكل ما فيها من أوجاع مهلكة، وأحزان ثقيلة، ذكريات أبت ألا تتركها حتى في غربتها الموحشة، تحرك فكها لينطق بلهاثٍ، وكأن صدرها يستجدي الهواء ليتنفس، بعد انقطاعه عن رئتيها:
-مين؟!!!
متألمة، حائرة، وغريبة في بلاد استقبلتها ببرودٍ لم تتأقلم معه بعد، خاضت دون استعدادٍ ما اعتقدت أنه لن يأتي بين عشية وضحاها، كانت المسافات الكبيرة كفيلة بتعزيز تلك المشاعر المهمومة عليها، تجمدت "فيروزة" في مكانها لوقتٍ طويل، عقلها مغيب عما حولها، فقط عيناها الباكيتان شردتا في بقايا الظلام المفترش السماء خارج شرفتها، دمعاتها الحارة تنساب في صمتٍ على وجنتيها، لا تعرف إن كان ذلك حزنًا عليه، أم أسفًا على حالها!
شهقة عاجزة انفلتت من بين شفتيها، لم تمنعها، بل أضافت عليها ثانية، وثالثة، ورابعة. نهجان مؤلم ضرب صدرها بقوة، لم تقاومه، تركته يؤجج من حسرتها عليه، "تميم" بوجهه ذي التعابير الجادة احتل انعكاس الزجاج، ليذكرها بأنه لم يكن كغيره وضيعًا معها، رغم المضايقات، والمشاحنات الحادة بينهما، كان باقيًا على عهد الرجولة، والشهامة، مثالاً حيًّا لما يجب أن يكون عليه الرجل الحقيقي، لم يتخلَ عنها حين دعت الحاجة إلى ذلك، كان رفيقها الداعم، كان المدافع –باستماتةٍ- عنها، صدّق ما كذبه الآخرين، آمن ببراءتها؛ وإن كانت بلا دليل. قهرة أشد حرقة اعتصرت قلبها، أشعرتها بأن جدران بيتها الجديد تُطبق على أنفاسها، وهي تردد في صدمةٍ لم تستفق منها بعد:
-اشمعنى هو؟!
أحست بعجزها عن التنفس، لذا فتحت نافذة الشرفة، واندفعت للخارج، تلتقط من الهواء الجاف، ما يهدئ من الآلام النابضة بداخلها؛ لكنه لم يكن كافيًا لفعل هذا، تكالبت الأحزان الثقيلة عليها؛ وكأنها أبرمت اتفاقًا بزيارتها مبكرًا، لكسر بقايا روحها المستنزفة، بكت بنحيبٍ، وانخرطت في نوبة أشد، خشيت أنها كانت لأجله، خاصة حين رجت المولى باستجداءٍ نابع من القلب:
-يا رب نجيه!
أرادت بشدة أن يلتئم شرخها غير المرئي، على لمساتٍ حنونٍ تطيب جراحها، كانت أبسط أحلامها، وسط تلك العتمة المتسربة إليها، أن تحتوي أحضانه ما اعتراها من همومٍ مؤذية للروح، أن يكون السُكنى لوجعها غير المفهوم؛ لكن أمنيتها الضئيلة بقيت حبيسة فؤادها. بقلبٍ متألم، وعينين تخنقان عبراتها، انتظرت "فيروزة" بيأسٍ قدوم "آسر" بعد مرور ليلة طويلة موحشة عليها، تقاسي بشدة من الجفاء، والوحدة، انتظرته حتى شق النهار خيوطه، حينها فقط سمعت صوت المفتاح يُدار في قفله لينفتح الباب، رأته يطل عليها من فتحته المواربة، بملامح متجهمة، اقتربت منه، وسألته في قلقٍ يشوبه الضيق:
-كنت فين كل ده يا "آسر"؟
صاح بها بفظاظةٍ لم تتوقعها منه؛ وكأنها وسيلته المتاحة، للتنفيس عن غيطه المتراكم بداخله:
-وإنتي مالك؟ هتعملي معايا تحقيق؟
أدهشها رده الصادم، والذي بدا بعيدًا كل البعد عن الردود المحتملة منه، كان على النقيض من تلك الشخصية اللبقة، التي تنتقي عباراتها بدقة، تجاوزت عن إساءته الواضحة، لكونها مستنزفة عاطفيًا، وعقليًا، تنفست بعمقٍ، وضبطت بجهدٍ أعصابه، لتخاطبه بعدها بهدوءٍ:
-أنا كنت عايزة أطمن عليك، إنت كنت قايلي هاتجيب حاجة من تحت وطالع.
لم يرغب "آسر" في إفساد ما تبقى من يومه المشحون، لانت تعابيره المكفهرة، وحاول الابتسام معتذرًا منها:
-أسف يا حبيبتي...
تقدم نحوها، وانحنى برأسه على وجنتها ليطبع قبلة عادية عليه، لم تشعر بتأثيرها الحسي عليها، بدت فاترة، غير مليئة بمشاعرٍ دافئة تحتاج إليها بشدة، تراجع عنها، ووضع راحتيه على جانبي ذراعيها يمسدهما ببطءٍ، أسبل عينيه نحوها، وادعى كذبًا كعادته:
-بس حصل مشكلة كبيرة في الشغل، وكان لازم أحلها على طول.
رددت في دهشةٍ، وقد تقطب جبينها:
-بالليل كده؟
هز كتفيه مواصلاً كذبه المرتب:
-دي طبيعة شغلي هنا، مقدرش أقول لموكليني لأ.
لم تتشكك في أمره، وأومأت برأسها قائلة:
-طيب.
برزت ابتسامة أخرى، يُمكن وصفها بأنها لطيفة، وهو يستطرد موضحًا:
-أنا عارف إن النهاردة المفروض تكون دخلتنا، بس آ...
رغبتها في ممارسة أي نوعٍ من التقارب الحميمي معه كان مفقودًا، لذا قاطعته قائلة؛ وكأنها بذلك تُعلمه بتفهمها لما حدث:
-مافيش مشكلة، أنا أصلاً جاية تعبانة من السفر.
تحرك "آسر" ليقف بجوارها، ثم لف ذراعه حول كتفيها ليضمها إليه، ومسد بأصابعه –صعودًا وهبوطًا- على جانب ذراعها معقبًا عليها:
-الأيام قدامنا كتير.
تقوست شفتا "فيروزة" قليلاً لتظهر عليهما بسمة رقيقة، وسارت معه في اتجاه غرفة النوم، حيث من المفترض أن يتشاركا الفراش سويًا، وذلك ما لم تكن مستعدة له بعد؛ لكنها كانت بحاجة ماسة للشعور بدفء وجوده، عله بقربه يبدد شقائها المستبد بعقلها، وكذلك جوارحها.
تلكأت فيما تفعله من ترتيب للوسائد، وإعادة إعداد الفراش، ريثما ينتهي "آسر" من تبديل ثيابه في الحمام، وخلال ذلك لم تجرؤ على انتزاع روبها عنها. أزالت "فيروزة" عن بشرتها بقايا آثار مساحيق التجميل التي تزينت بها، وتأكدت من وضع طبقة كريم ترطيبية عليه، ثم مشطت شعرها، وسوت مقدمته، لتنهي ما تقوم به بنثر القليل من العطر على جانبي عنقها، استنشقت آثاره العالقة في الهواء باستمتاعٍ، فكانت شبه متأكدة أنه سيحوز على إعجابه، اقشعر بدنها وقد صدق حدسها حين علق على ذلك من بعيدٍ:
-البرفان اللي إنتي حطاه ريحته حلوة.
تخلل مشاعرها المرتبكة القليل من الثقة لحسن اختيارها، استدارت نحوه وشكرته:
-ميرسي.
أضاف وهو يتجه نحو الفراش ليستلقي عليه:
-بس في أنواع أحسن هابقى أشتريهالك، أكيد إنتي عملاه تركيب.
أفسد لحظة سعادتها المؤقتة بوقاحته، ولم تستطع ضبط لسانها وهي ترد:
-على الأقل أنا عارفة إنه تركيب، مقولتش عليه أصلي وهو مش كده.
لم يتفقه ذهنه للتلميح المبطن الذي شاب جملتها، على ما يبدو قصدت الإشارة لخداعه لها في مسألة سكنه، ومستواه الاجتماعي المرموق الذي ملأ رأسها به. تلقائيًا تحركت نحو الجانب الآخر من الفراش، وهي تنزع عنها روبها الحريري، توقعت "فيروزة" أن تكون أنظاره تتجول على تفاصيل جسدها الأنثوي بفضولٍ، وهذا أشعرها بالخجل؛ لكن سرعان ما تبدد ذلك الإحساس سريعًا، ليحل الجمود عليها وهو يتساءل بلهجةٍ منزعجة للغاية، لا تشكيك فيها:
-إيه اللي في ضهرك ده؟
استدارت نحوه، ورفرفت بعينيها محاولة إبقاء ثقتها بنفسها، وهي تجيبه بثباتٍ يناقض الصراعات المتواترة بداخلها:
-ده حرق حصلي وأنا صغيرة.
احتفظ وجهها بتلك النظرة المذهولة المتسعة، والمحملة بالصدمة والخزي، عندما تحرك فكه ليسألها بوقاحةٍ، بنبرةٍ مليئة بالاتهام، وخالية تمامًا من أدنى مظاهر الحب أو التعاطف:
-إنتي مقولتليش إنك مشوهة؟
بهتت ملامحها وهي تردد كلمته القاتلة بنبرتها مصدومة:
-مشوهة؟
بدا مستنكرًا لدهشتها، فقال بجمودٍ، وعلامات التقزز تطفو على صفحة وجهه:
-أيوه، إيه الغريب في كلامي؟
انخلع قلب "فيروزة" أكثر، مع قساوة كلامه الجارح، وبشاعته المفرطة، وقد أضــاف بنفورٍ بائن، وبنظراتٍ احتقارية، مشمئزة، أجبرتها على خوضِ إحساسٍ مرعب لم تعهده من قبل، أشعرها فيه، من حمل لقب زوجها، بقبحها الدميم:
-مُسخة ماتنفعش حتى يتبص عليها!!
اتسعت عيناها على آخرهما في صدمةٍ أشد، لم تتعرض مطلقًا لمثل ذلك التنمر المؤذي، وهتفت بكبرياءٍ مترفع يفوق ألمها:
-ماسمحلكش تقلل مني، أنا ...
-إنتي واحدة مقرفة، إزاي عايزاني ألمس بشرتك وهي كده؟
أظهرت هي الأخرى ازدرائها من شخصه المقيت، وردت بعزةِ نفسٍ لا تليق إلا بها:
-وأنا مش عايزاك تلمسني...
ثم زاد صوتها صلابة وهي تكمل:
-اللي حصلي زمان كان قضاء ربنا، أنا ماليش دخل فيه.
أراد التحقير أكثر منها، بل وإفراغ كتلة غضبه المكبوتة بداخله، ليس فقط لإشعار نفسه بأنه في موقف قوة؛ ولكن أيضًا لإخفاء عجزه، خرجت الكلمات من جوفه كالسهام القاتلة وهو يتفوه قائلاً:
-إنتي عاملة زي البضاعة البايظة، ماتنفعش لأي حد...
استشاطت غضبًا من وضاعته غير المحدودة، وقبل أن تبادر بالرد عليه، أضــاف بمزيدٍ من الفظاظة:
-لأ وكنتي عمالة تتأمري عليا، مش راضية بيا.
هدرت به بتشنجٍ، مُذكرة إياه، بما ظن أنها غفلت عنه، وعيناها تقدحان بحممٍ محتقنة:
-وأنا مطلبتش منك تتجوزي، إنت اللي فضل تلف ورايا لحد ما وافقت.
من زاوية فمه أخبرها باحتقارٍ باعث على الغثيان:
-كنت غلطان، فكرت هتجوز أميرة، ملكة جمال، مش مجرد نص ست، ابقي بصي لنفسك كويس في المراية، وشوفي جسمك عامل إزاي؟!
قال جملته الأخيرة، ونظرة الاستحقار موجهة إليها:
-ماظنش في راجل يقبل بكده.
رمقته بنظرة دونية أشعلت بها حنقه، عندما ردت:
-بس إنت قبلت بيا، إلا لو مكونتش آ....
بترت كلمتها الأخيرة قاصدة إهانته بشدة، وإن لم تصرح بذلك علنًا، وصل إليه المغزى من تلميحها المبطن، فأصابت هدفها في مقتلٍ، وبأقل مجهودٍ، ظهر تأثير كلامها –رغم عدم معرفتها بحقيقة عجزه- واضحًا عليه، فحل الجمود على تعابيره، وغامت عيناه نحوها، حاول أن يرد بنفس الأسلوب المهين، ليزدريها أكثر، فقال:
-مكونتش أعرف عيبك قبلها، إنتي غشتيني!
على جميع المستويات لا يمكن أن يعد من اقترنت به كزوجٍ لها رجلاً، اللقب لا يستحقه أبدًا، ومع اتهاماته المجحفة نحوها، برزت كراهيتها الكاملة له، منذ البداية لم تكن له أي مشاعر، ولم تملك عاطفة حسية نحوه، لذا برأسٍ مرفوعٍ للأعلى في إباءٍ خاطبته، دون أن يظهر عليها بادرة ضعف، على الرغم من الشروخ التي هشمت ما تبقى من روحها:
-خلاص ملحوئة، صلح الغلط ده، وطلقني.
زوى ما بين حاجبيه معلقًا في وقاحةٍ لم تعهدها أبدًا:
-بالبساطة دي؟ واللي دفعته فيكي؟
وكأنها تُحادث نخاسًا في سوق الجواري والرقيق، وليس زوجًا من المفترض أنه محترمًا، استنكرت لهجته، وهاجمته ببغض أشد:
-نعم؟ دفعته فيا؟ إنت أصلاً مصرفتش حاجة على الجوازة دي، تقريبًا كانت جوازة ببلاش!!
لم يعترض على وصفها، بل أكد على كل كلمة نطقت بها، وأضاف:
-آه بس دفعت تذاكر سفر، وتأشيرة، ده غير مصاريف قبل الجواز، وده يدوب سعرك!
كررت عليه بإصرارٍ عنيد، ووجهها قد تحول للإظلام:
-طلقني يا "آسر"، احنا ماينفعش نكمل مع بعض.
ساومها بأسلوبه الفج:
-مش قبل ما تدفعي اللي صرفته عليكي.
منعت موجة من الغضب من الانفجار في وجهه، وهي تسأله:
-كام يعني؟
مط فمه للحظة، ونظراته تدور على جسدها؛ وكأنه يقيم بضاعة معروضة في فاترينا المعروضات، ليخبرها بعدها ببرودٍ:
-ممممم.. نقول تقريبًا نص مليون جنية.
استفزها بالسعر المبالغ فيه، وكأنه يثبت لها بالفعل أنه لا يفرق شيئًا عن تاجر الرقيق؛ ولكن في العصر الحديث، لهذا هدرت به:
-إيه؟ إنت اتجننت؟
استقام في وقفته، تطلع إليها بجفاءٍ، قبل أن يبتسم لها بسماجةٍ، أشعرتها برغبة عارمة في التقيؤ، لمجرد النظر في وجهه القميء، ثم تكلم قائلاً؛ وكأنه لم يعر عصبيتها أدنى اهتمام:
-أنا واحد عملي، مش معقول أطلع خسران من أي جوازة.
تصاعدت الدماء الحانقة إلى رأسها، فألهبت خلايا عقلها الثائر، كما شعرت بغليانٍ حارق يسري في عروقها، انتفض جسدها وهي تصرخ به، معيدة جزءًا من جملته الأخيرة في صورة تساؤل عكس صدماتها المتتالية:
-أي جوازة؟ هو إنت اتجوزت قبل كده؟
تقدم نحوها، ونظرة فخر غريبة تطل من عينيه، ليوضح لها حقيقة أخرى، اكتشفتها في ليلتها البائسة:
-يا حبيبتي! أنا بالبلدي كده عايش على قفا النسوان، وإنتي مش أول واحدة أتجوزها.
آخر ما قد يخطر ببالها، اعترف لها به هكذا ببساطة، وبغيرِ ندمٍ، ولا مقدماتٍ تمهيدية! عكست ردة فعله الهادئة اعتياده على مثل تلك الثورات النسائية، تصلب جسدها، وشعرت بقرب انهيارها، مع تحطم الصورة الوهمية، لشخصٍ ظنت أنه الاختيار السليم في وقتٍ حرج، النجاة من تعاسة فرضت عليها قسرًا، وانطلاقة لمستقبل أفضل في بلد كان مغايرًا عما اعتادت عليه في وطنها؛ لكن كانت الحقيقة -غير القابلة للتشكيك- أنه كالجحيم المستعر، اندفعت نحوه لتهجم عليه، ضربته بغيظٍ حانق في صدره بقبضتيها، وقد فقدت السيطرة على ضبط أعصابها، لتلعنه بعدها بإهانةٍ صريحة:
-آه يا واطي، يا حيوان!
قبض على رسغيها، ومنعها من التطاول باليد عليه، دفعها للخلف بعنفٍ، لتسقط على ظهرها، وهو يحذرها بخشونةٍ:
-إياكي تغلطي، وإلا لسانك ده هيخليكي تدفعي أكتر.
الألم البدني لا يقارن أبدًا بالألم المعنوي، وخزات الأخير أشد وطأة على النفس، إهلاكه لها يكمن في عمق تأثيره الغائر، ووسط أوجاعها المدمرة ردت "فيروزة" باستبسالٍ اندهشت هي منه:
-وأنا مش هادفع لواحد زيك مليم، ولو مطلقتنيش بالذوق، أنا هاروح السفارة هنا، وهاشتكي عليك، وهاعرف إزاي اتطلق منك.
برزت عينا "آسر" في صدمةٍ مفاجئة له، بل ومهددة بقوةٍ لمركزه، وربما افتضاح أمره بالكامل، وهو لم يفق بعد من تهديدات رؤسائه، فماذا إن زاد الطين بلة ببلاغها المزعوم؟ دنا منها متسائلاً بلهجةٍ متشددة:
-إنتي بتقولي إيه؟
استندت على مرفقيها، ودفعت جسدها لتنهض، وقفت على قدميها تتحداه في عدم رهبة، كانت معتادة على التعنيف البدني، وبالتالي دفعاته القاسية لم تكن بالغريبة عليها، شحذت كل طاقاتها الغاضبة والناقمة منه ضده، وردت بجراءة أكبر:
-اللي سمعته، ومحدش هيقدر يمنعني، ما هو مش معنى إني في بلد غريب، إني مش هاعرف اتصرف، إنت متعرفنيش كويس يا سيادة الأفوكاتو!!
وصفها بدا أقرب للتهكم عن مجرد كلمة عابرة، بذل قدرًا كبيرًا من الجهد ليسيطر على نفسه، وهتف في استهزاءٍ مستخف بها:
-حلو أوي.. بتهددي كمان؟!
أومأت برأسها مؤكدة دون أن يرتد لها طرف، فزاد من حقده نحوها، وأخبرها مباشرةً كوسيلة أخرى للضغط عليها، وإخضاعها:
-طيب قبل ما تفكري تاخدي الخطوة دي، شوفي الفيديو ده.
تقلص وجهها في ارتيابٍ وهي تسأله:
-فيديو إيه؟
اعتلى زاوية فمه ابتسامة خبيثة، قبل أن يرد:
-حاجة تستاهلك.
قــام "آسر"
-إيه اللي موجود في الفيديو ده؟ دي مش أنا.
-ما أنا عارف، بس تفتكري وقت ما أمك تشوفه، ولا خالك، هيصدقوا إنها مش إنتي؟ طب إيه رأيك نبعته عند أهلك في البلد؟
هدرت به بجنونٍ، ملقية بالهاتف أسفل قدميها لتحطمه، ثم انقضت عليه لتطبق على عنقه:
-دي مش أنا، إنت واحد قذر، نجس، مش بني آدم أصلاً.
لكن قبل أن تصل إليه، سدد لها لكمة مباشرة في وجهها جعلت عقلها يضيء، وتشوش رهيب زحف على عينيها، ترنحت من قوة الضربة المباغتة، ومع هذا جاهدت للحفاظ على اتزانها. امتدت ساقه لتعرقلها وتطرحها أرضًا، حينها فقط خرج عن شعوره، بعد ذلك الكم الكبير من الضغوطات المتوالية عليه، جعلها تبدو أمامه ككيس الملاكمة، انهال عليها بما يقدر عليه من ضربات وركلات، جعلت عظامها تصرخ مستغيثة من عنفه المستبد بها، تعنيفه البدني فاق حدود ما تعرضت له خلال الفترة المنصرمة من حياتها، قاومت حتى الرمق الأخير، وإن عجزت عن صد ضرباته فعليًا، إلى أن أجبرها عقلها المهزوم، في معركة أخرى جديدة عليها، على الانسحاب من واقعها القاسي، وبقي مصير روحها الجريحة معلقًا بين يديه.
توقف "آسر" عن اعتدائه اللا أدمي عليها، بعد أن أفرغ فيها شحنته المجتمعة فيه، لم يعد يشعر بيديه، حرك كلتاهما في الهواء قبل أن يفركهما معًا، أنفاسه اللاهثة اخترقت السكون العجيب الذي احتل الغرفة، مسح عن وجهه العرق الغزير الذي تصبب منه، بيده المرتعشة، تراجع عنها، ونظراته لم تبتعد عن جسدها المتخشب، لم يظهر عليه أي إشفاقٍ نحوها، بل إلى حد ما شعر بنشوة عجيبة تجتاح روحه الميتة، كان بحاجةٍ لمن تكون ذبيحته في تلك الليلة المليئة بالصدامات، وقد كانت هي!
وكأن بين قلبيهما الضائعين خاطرًا غير محسوسٍ سوى منهما، فتح "تميم" عينيه محدقًا في سقف غرفته، كلوحِ الخشب لم يتحرك لثوانٍ، اعتصاره مقبضة نالت من قلبه، فشعر به، وكأن أحدهم ينتزعه نزعًا من بين ضلوعه، شهيق متحشرج شق طريقه بصعوبةٍ ليصل إلى رئتيه؛ لكنه كان مؤلمًا حد الموت. لحظة استفاق فيها عقله من سباته، فهمست شفتاه تناديه بحروفٍ تكاد تكون مقروءة:
-"فـ..ير..و..زة"!
إدراك حقيقة خسارتها للأبد أوهن روحه، جعله فاقدًا للرغبة في المواصلة، حتى عينيه ذرفتا الدموع في ألمٍ وحسرة، عجز جسده المتآذي عن مقاومة الانفعالات المتزايدة عليه، استسلم لضعفه الإجباري، فتشنجت أطرافه بشدة، مما جعل صوت صفير الأجهزة المربوطة به يزأر، لينذر بوجود خطرٍ جسيم محدق به، اقتحمت غرفته الممرضة على إثر الصوت الحاد، خطت نحو فراشه، لتفقد حالته، اعتراها قلق مبالغ فيه، وانعكس بوضوحٍ على تعبيرات وجهها، حين أدركت تدهوره غير المتوقع، هرولت ركضًا للخارج لتستدعي أحد أطباء الطوارئ لإسعافه، وهي ترجو الله ألا يكون في تأخيرها هلاكه...!