رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الخامس
تلفت حوله في حلقت دائرية باحثًا عنها، كانت هنا قبل قليل، وهو لم يغب كثيرًا .. فقط ما يقرب من نصف الساعة، أيعقل أن تختفي هكذا فجأة وكأنها لم تكن موجودة مطلقًا؟ ما زالت الحياة سائدة بالمكان، بل ربما زادت قليلاً بالرغم من الغيوم المتجمعة، إذًا أين اختفت؟ حك شعر رأسه الذي استطال قليلاً بيده وأزاح زخات المطر الخفيفة المتساقطة عليه .. اقترب أكثر ليدقق النظر فيما تبقى من آثارها، لا شيء أبدًا يدل على احتلال تلك البقعة في الكورنيش، وكأنها قد خلت من سواها.
سدد نظرة متفحصة للعربات المصطفة على مسافات متباعدة، كلها تعمل تقريبًا والشباب متجمهر أسفل مظلاتها الجلدية ليحتمي من المطر المتساقط. استنشق "تميم" الهواء البارد عله يرطب على صدره الحانق دون سببٍ معلوم، نفخ مجددًا بضيقٍ غير مفهوم وهو يردد لنفسه:
-أنا متأكد إنها كانت هنا!
تطلع إليه "ناجي" باستغرابٍ، ثم قال مُلطفًا:
-جايز يكون حد من برا منطقتنا بيجرب رزقه هنا.
رد عليه بنفس النبرة المدهوشة وقد ازداد انهمار المطر:
-بس دي كانت بنت اللي واقفة.
أزاح "ناجي" بكف يده المياه التي احتلت وجهه، ثم سأله مستوضحًا:
-بنت؟ ومين نعرفه هنا هيسمح لبنته تقف وسط الشارع تبيع نص الليل؟ ..
ثم تلفت حوله وهو يكمل بنبرة ذات مغزى:
-لأ وكمان أغلب الموجودين شباب!
عبث بذقنه النابتة قبل أن يرد في حيرةٍ:
-ما هو دي اللي مستغربه.
علق عليه "ناجي" مقتنعًا:
-أكيد حد مش من عندنا.
لاذ "تميم" بالصمت وحملق في الفراغ أمامه يفكر مليًا في تلك العربة المريبة التي ظهرت من العدم واختفت بعدها لتثير فضوله وريبته، ربما لم تكن لتلفت انتباهه لو لم يرَ بنفسه الشابة التي تعمل بها في تحدٍ صارخ للأعراف والتقاليد المتبعة هنا، وضع رفيقه يده على كتفه لينتبه له، ابتسم مضيفًا:
-عمومًا ماتشغلش بالك، هما تلاقيهم مشيوا عشان الجو وبكرة هيرجعوا.
تنهيدة متعبة خرجت من جوفه قبل أن يستطرد:
-أما نشوف..
لكن ما لبث أن اكتست نبرته بالجدية الآمرة وهو يكمل:
-بس عاوزك تجبلي أرارهم، وتعرفلي تبع مين.
رد محركًا رأسه بالإيجاب:
-تمام يا كبير.
ربتة خفيفة من "تميم" على ظهر رفيقه حثته على التحرك في الاتجاه المقابل لعبور الطريق، وبقي البال مشغولاً بتلك الأمور الغريبة التي حدثت معه وإن كانت مصادفة وبسيطة، لكنها استحوذت على تفكيره بشكلٍ يدعو للريبة، ناهيك عن انشغاله بما يخص أعمال الأسرة الهامة.
دس المفتاح في القفل الخاص به ليفتح باب المنزل بعد أن انقضت سهرته مع رفيقه، لم يكن بحالة مزاجية رائقة تمكنه من قضاء المزيد من الوقت مع أصدقائه القدامى .. لم يتوقع "تميم" أن يجد والدته في انتظاره، كانت متكأة على مرفقها وبالكاد مستيقظة، اقترب منها حتى أصبح بجوارها، انحنى نحوها يقبلها أعلى رأسها في حنوٍ، ثم هزها برفقٍ قبل أن يناديها هامسًا:
-يامه!
انتفضت في خفة على إثر صوته الخافت رافعة عينيها إليه، سألته بصوتٍ ثقيل ناعس:
-إنت رجعت من بدري يا "تميم"؟
هز رأسه بالإيجاب وهو يرد متسائلاً:
-أيوه يا أمي، إنتي إيه اللي مسهرك في البرد ده؟
أجابته بغريزة أمومية صافية وعيناها تعبران عن حبها الفطري له:
-مستنياك يا ضنايا، قولت تكون عايز حاجة كده ولا كده.
أحنى رأسه على جبينها يقبله في امتنانٍ شاكر، ثم ضمها إليه وقال:
-حبيبتي يا أمي، ربنا يباركلي في عمرك، قومي ارتاحي إنتي
ربتت على كتفه في رفقٍ متابعة باهتمامٍ:
-يعني مش عاوز حاجة أعملهالك؟
رد نافيًا:
-لأ، أنا تمام، يدوب أخش أنام.
ابتسمت قائلة له في ودٍ:
-ماشي يا غالي، تصبح على خير.
مسح برفقٍ على كف يدها الذي رفعه إلى فمه ليقبله، وتطلع إليها مرددًا:
-وإنتي من أهله..
سارت "ونيسة" بضعة خطوات في اتجاه الردهة قبل أن تدير رأسها ناحيته تسأله:
-إنت كلمت "خلود"؟
أجابها بوجهٍ فاتر التعبيرات:
-لأ لسه .. أفوق كده وأكلمها
ردت مبتسمة:
-ماشي يا حبيبي، عمومًا أبوك اتفق مع جدك على جوازكم قريب، مالهاش لازمة تطولوا أكتر من كده
علق بدبلوماسية لم تفهمها:
-اللي عايزه ربنا هايكون.
لوحت له بيدها واستدارت مكملة سيرها نحو غرفة نومها، في حين تلكأ "تميم" في خطواته حتى تأكد من ولوجها وإغلاق الباب خلفها لتنقلب ملامح وجهه بامتعاضٍ مُحبط، لم يكن مستعدًا بعد لخطوة الزواج الجادة، هو ما زال يتعافي من آثار حبسه والذي انعكس بشكلٍ سيء على طباعه وأكسبه صفات الجمود والقسوة، عزز ذلك الشعور لديه إحساسه المحايد نحو "خلود"، لم يكن بالعاشق المتيم بها، القرابة فقط ما حتمت عليه موقفه من الزواج منها..
أخرج زفيرًا مطولاً من صدره واتجه إلى غرفته، أغلق الباب بهدوءٍ بعد أن ضغط على زر الإنارة، ثم استلقى على الفراش دون أن يبدل ثيابه، شعر بشيء مزعج في جيبه الخلفي يعوقه عن التمدد بأريحية، فرفع جسده ليعتدل في نومته ثم أخرج منه المنديل والمشبك.. كان قد نسيهما تمامًا في خضم ما رأه، تلك المرة تطلع إليهما بتفحصٍ مدقق، ابتسامة متهكمة لاحت على زاوية فمه.
أسندهما على الكومود الملاصق لفراشه، وبتباطؤ وكسل نهض من مكانه ليتجه إلى دولاب ملابسه، أخرج من ضلفته اليسرى منامة من تلك المجموعة التي رتبتها له والدته بعنايةٍ، وبهمة منخفضة وتثاؤبٍ متواصل انتزع ثيابه وألقاها بإهمالٍ على الأرضية ليرتدي منامته المريحة ويعود إلى فراشه، تمدد عليه وسرعان ما انخرط في نومٍ عميق أفسده اتصالٌ مزعج من "خلود"، بنبرة ثقيلة أجاب عليها متسائلاً بفظاظة:
-خير في حاجة؟
ورغم أسلوبه الجافي معها إلا أنها قالت برقةٍ:
-وحشتني..
رد عليها يلومها بجمودٍ ودون أن يحاول إزاحة آثار النوم عن صوته:
-وده وقت تتصلي فيه بردك يا "خلود"؟
أجابته ببساطة أظهرت عشقها له:
-ما هو إنت اتأخرت كتير برا، وأنا كان نفسي أشوفك قبل ما أمشي..
نفخ قائلاً بضيقٍ:
-وأنا هاروح منك فين؟ احنا هنشوف بعض كل يوم.
ساد للحظة الصمت بينهما قبل أن تسأله بترددٍ بنبرة تستطيع أن تتبين اهتزازها:
-"تميم" إنت لسه بتحبني؟
رد متسائلاً بغموضٍ ضاعف من حيرتها:
-تفتكري إيه؟
أجابته بخوفٍ محسوس:
-أنا خايفة تكون اتغيرت و...
قاطعها بنفاذ صبرٍ فلم يملك الطاقة الكافية لتحمل المزيد منها:
-أنا فهمتك على وضعي، وإنتي براحتك بقى.
استطاع "تميم" أن يسمع صوت نهنهة خافتة حاولت إخفائها، اعتدل في نومته وتمتم مستغفرًا بصوتٍ خفيض ليعتذر منها بهدوءٍ:
-معلش يا حبيبتي أنا تعبان ومش قادر أتكلم دلوقتي، حقك عليا.
وكأنه بكلماته المعتذرة تلك قد نجح في تبديد كل أحزانها فعادت الحيوية إلى صوتها وهي ترد بحماسٍ:
-حبيبتي.. الله! وحشاني الكلمة دي منك، دي كفاية عليا
رد ضاغطًا على شفتيه وكأنه مجبرٌ على الحديث معه:
-ماشي يا "خلود"، خدي بالك من نفسك.
قالت في سعادة:
-حاضر يا قلبي، تصبح على هنا
ودعها باقتضابٍ ودون أي إطالة:
-وإنتي من أهل الخير، باي.
ثم قام بإغلاق هاتفه نهائيًا حتى لا تزعجه هي أو غيرها خلال ساعات نومه القليلة.
هداها تفكيرها البسيط غير المدنس بالنوايا الخبيثة بإعداد صينية فطار شهية بكل ما لذ وطاب لتكون بادرة صلح طيبة بينها وبين أخيها، هي اتخذت جانب ابنتيها، لكنها غير راضية عن خسارة دعمه .. تأكدت "آمنة" من رص الأطباق وملأها بما يحبذه، ثم صعدت متهادية على الدرج حتى لا تفسد الشكل الجمالي لترتيب الطعام، وبحذرٍ مبالغ فيه رفعت يدها بعد أن ألصقت الصينية بصدرها لتتمكن من قرع الجرس، انتظرت بابتسامة بشوشة فتح الباب لها، استقبلتها "حمدية" بعبوسٍ مستنكر، رمقتها بنظرة احتقارية جابتها من رأسها لأخمص قدميها، تجاوزت "آمنة" عن نظراتها الوقحة لتستهل حديثها بودٍ:
-صباح الخير عليكي يا مرات أخويا.
زمت شفتيها مغمغمة بصوتٍ خفيض لكنه وصل لمسامعها:
-يادي القرف اللي على الصبح!
ثم منحتها نظرة دونية متعالية قبل أن تشيح بوجهها عنها وكأنها نكرة لتصيح عاليًا:
-تعالى كلم يا "خليل".
خرج الأخير من الحمام وبيده منشفته يجفف بها وجهه متسائلاً:
-في إيه؟
لم تجبه بل تغنجت بجسدها المتهدل لتظهر عدم ترحيبها بضيفتها ثم اقتربت من زوجها ولكزت كتفه تحذره:
-أختك يا سبع الرجالة.. اوعى تضحك عليك بمُحنها!
كانت كلماتها تحمل تلميحًا بالإهانة، وعفويًا تتطلع إلى "آمنة" باندهاشٍ متعجب، لكن ما لبث أن تحولت كامل تعابيره للتجهم، وقف قبالتها يسألها بجمودٍ ونظراتٍ قاسية:
-خير؟ عاوزة إيه يا "آمنة"؟
أجابته بوديةٍ وصفاء وهي تضع الصينية على طاولة السفرة:
-أنا عملتلك يا خويا كل الأكل اللي إنت بتحبه.
نظر لها شزرًا قبل أن يقول بوقاحةٍ:
-مش عاوز منك حاجة.
ابتلعت غصة مريرة في حلقها متغاضية عن جفائه معها، تنهدت ترجوه:
-يا "خليل" متخليش الشيطان يدخل بينا، احنا إخوات وسند لبعض
أولاها ظهره قائلاً لها بحسمٍ:
-إنتي اللي اختارتي.
بررت له موقفها بنبرة أقرب للتوسل:
-ما هو غصب عني برضوه، أنا مقدرش أكسر بخاطر بناتي، هما مالهومش غيري!
التفت نحوها يسألها في حدة:
-لكن يجيبولنا العار عادي؟!
ردت بتمهلٍ علها تمتص انفعاله الظاهر على محياه
-إن شاءالله مافيش حاجة وحشة هتحصل، وبعدين لو إنت في ضهرهم ه ...
قاطعها قبل أن تكمل جملتها رافعًا يده أمام وجهها:
-ماليش دعوة بحد، أنا علاقتي اتقطعت بكل اللي يخصكم، اصرفوا بعيد عني
بدت وكأن الدمعات تتجمع في طرفيها لتغرقهما، انخلع قلبها وهي تستعطفه:
-بس آ...
استدار بعيدًا عنها ليقول بجمودٍ قاسٍ أشعرها بالمذلة:
-شرفتي يا "آمنة"، وخدي أكلك معاكي.
-بقى كده يا خويا؟
وكأنها تُحادث الفراغ، لم يأخذه بها شفقة أو أدنى عاطفة، اختفى بالداخل غير عابئ بمشاعرها ورجاواتها المستمرة .. أطرقت رأسها في حزن آسف وحملت الصينية من مكانها لتخرج من المنزل مفطورة القلب.
لم تدخر وسعها في إظهار بأن عودته تعني الكثير لها من خلال الاهتمام بكافة التفاصيل المتعلقة به، دقت على باب غرفته بهدوءٍ حتى لا توقظه إن كان لا يزال نائمًا، أطلت "ونيسة" برأسها من الباب فلم تجد ابنها على الفراش، دفعته بيدها لتزداد فرجته ودارت بعينيها في أرجاء الغرفة، كانت خالية منه، اعتقدت بوجوده في الحمام، ولجت للداخل وتلقائيًا انحنت على الفراش لترتبه .. ابتسمت لكون ابنها ما زال محتفظًا بعادته في الاستيقاظ باكرًا وإن تأخر في عودته للمنزل مساءً. التقطت عيناها دون قصدٍ منديل الرأس النسائي المسنود على الكومود، مدت يدها لتمسك به فرأت المشبك المثبت به، انعقد حاجباها في استغرابٍ سائلة نفسها:
-بتوع مين دول؟
سرعان ما تلاشى اندهاشها مع ظنها أنه يخص "خلود"، ربما أهدته إياه خلسة ليحتفظ بشيءٍ يخصها فتحرك المياه الراكدة في علاقتهما .. ابتسامة عبثية لاحت على ثغرها وهي تعيد وضعه في مكانه، اعتدلت في وقفتها مكملة حديث نفسها:
-ربنا يقرب ما بينكم.
التفتت لتجد "تميم" واقفًا عند أعتاب الغرفة، منح والدته نظرة مليئة بالحب وهو يلقي عليها التحية ليمرح بعدها معها قائلاً:
-إيه الدلع ده كله، بنفسك بتروقيلي الفرش.
قالت له في عتابٍ رقيق:
-هو أنا عندي أغلى منك؟ الظاهر السجن نساك كنت بأعلم إيه عشانك!
احتضنها وأحست بذراعيه تطوقان جسدها المسن، قبَّل أعلى رأسها يشكرها:
-ولا لحظة نسيت يامه، ده مكانش في حاجة بتهون عليا بُعدك عني يا ست الكل
ربتت على كتفه بحبٍ مضاعف، ثم رددت بابتسامتها الودودة:
-حبيبي يا ابني، ربنا ما يحرمني منك أبدًا، الحمدلله إن ربنا مد في عمري وشوفتك قصادي تاني..
وما لبثت أن تحولت نبرتها للجدية وهي تنذره:
-بس بالله عليك بلاش أمور اللبش دي تاني! أنا مش ناقصة يا ابني، العمر معدتش فيه باقية.
رد بإجابة محايدة:
-كله على الله.
سألته في اهتمامٍ:
-أعملك تفطر؟
رد نافيًا بهدوءٍ:
-لأ، ده أنا يدوب أنزل ألحق الحاج في الدكان، ورانا طلبية بحر لازم تخلص قبل الضهر.
دعت له بصدقٍ:
-ربنا يعينك يا ابني ويفتحها في وشك من وسع
لف "تميم" وشاحًا رفيعًا من الصوف حول عنقه حتى لا يلفحه الهواء الشمالي البارد الآتي من البحر، مشط شعره بمشطه ليتركه بعدها على التسريحة، ثم هذب ذقنه بيده ملقيًا نظرة أخيرة على هيئته، التفت متجهًا نحو باب غرفته لكن استوقفه طلب والدته القائل:
-ماتنساش تاخد "خلود" تفسحها، بنت خالتك صبرت كتير، حاسسها إنك رجعت، وأجبر بخاطرها بكلمتين.
استدار برأسه نصف استدارة وقد بدا الوجوم واضحًا على ملامحه، سألها في ضيقٍ معتقدًا أنها ربما قد تكون استفاضت في الحديث مع خالتها:
-هي اشتكتلك يامه ولا حاجة؟
نفت كليًا وبجدية تامة:
-قسمًا بالله ما حصل، بس أنا ست وأفهم في دماغ البنات، وهي صعبانة عليا، لا لحقت تفرح بيك ولا تتهنى بخطوبتها.
زفيرٌ بطيءٌ خرج من جوفه قبل أن يتصنع الابتسام وهو يعدها:
-حاضر، هاخلص اللي ورايا وأرتب معاها خروجة.
رفعت كفيها للسماء تدعو له:
-ربنا يراضيك زي ما بتراضيني كده على طول.
قال في إيجازٍ:
-يا رب، سلامو عليكم.
أسرع في خطاه خارجًا من الغرفة وكلمات والدته تلحق به قائلة له:
-وعليكم السلام يا "تميم"، ربنا يبعد عنك شر الطريق
ملأها الحماس لتنزل باكرًا إلى الأسفل وتحديدًا باحة المنزل الخلفية بعد تناول الإفطار حتى تتفقد عربتها، كانت على عكس طبيعتها كلها حيوية وإقبال على الحياة، صدمة مروعة أصابت أطرافها بالشلل مؤقتًا فتجمدت في مكانها وقد رأت التخريب المتعمد الذي أصاب حلمها، تدلى فكها السفلي في ذهولٍ وارتعاب، أحست بقلبها ينخلع في صدرها من قوة المفاجأة المحطمة لآمالها .. رمشت "فيروزة" بعينيها وهي بالكاد لا تصدق مدى الضرر الذي لحق بالعربة، تساءلت مع نفسها في استنكارٍ تام:
-إزاي ده حصل؟
أجبرت ساقيها على التحرك في اتجاهها، تلمست بيدٍ مرتعشة النافذة التي انتزعت بشراسةٍ وتركت ملاقاة على الأرضية، وارتفع ذراعها ليمسك بالمظلة الجلدية التي تمزقت إربًا، ناهيك عن تلطيخ جسم العربة بالزيت وألوان بشعة ليفسد مظهرها الخارجي، وبالتالي ستحتاج لطلاء جديد لإعادتها لهيئتها الأولى .. في أقل من ثوانٍ كانت عيناها تسبحان في أبحر من العبرات الحارقة، حلمها انتهى قبل أن يبدأ، أصيب ذهنها بالتشوش فلم تستطع في البداية أن تفكر بعقلانية، انهارت جاثية على ركبتيها تبكي في ألمٍ، حانت منها التفاتة تلقائية للأعلى لتجده محدقًا بها من النافذة في تشفٍ صارخ، أكدت تعابيره المرسوم عليها ابتسامة انتصار عريضة ونظراته المزهوة أنه من يقف وراء ذلك، رددت بذهولٍ محاولة استيعاب أنه الفاعل:
-خالي؟
اتسعت ضحكة "خليل" اللئيمة وهو يستعيد المشهد في عقله منذ البداية، انتظر صلاة الفجر وهبط من منزله متجهًا للباحة الخلفية وهو يضمر سوءًا نحو ابنتي أخته، لن يتركهما يحققان مآربهما، سينتقم منهما بقسوة ليعرفا جيدًا مع من يتعاملان، وخاصة بعد شحن زوجته له وإوغار صدره نحوهما، أمسك بعَتلةٍ قديمة لينتزع النافذة المعدنية من مفصلاتها، ثم قام بشق جلد المظلة بطرفها الحاد وخلعه من مكانه ليلقيه أرضًا.
تمكن من الصعود إلى بدن العربة، وبداخلها عاث فيها الفساد، خرب كل شيءٍ تقريبًا فباتت لا تصلح للاستخدام، ترجل منها ومسح العرق الساحن الذي غطى جسده بالكامل بالرغم من برودة الطقس، أحس بنيرانه المشتعلة تهدئ بعد أن حاز على انتقامه .. عاد "خليل" لأرض الواقع مبتسمًا بشكلٍ استفز "فيروزة" على الأخير، جفت دموعها ونهضت واقفة على قدميها تصيح به:
-ليه كده يا خالي؟
أجابها ببرودٍ ونظراته الشامتة تنعكس عليه:
-مشكلة وحلتها!
صرخت به بحرقةٍ شديدة:
-حرام عليك! ضيعت تعبي كله، أنا عملتلك إيه؟
قال غير مبالٍ قاصدًا أن يصل إليها مغزى ما فعل:
-محدش بيتعلم ببلاش، ففوقي لنفسك يا بنت "أبو المكارم"!
أتت "همسة" على صوت شقيقتها الصارخ والمنفعل لتتفاجئ هي الأخرى بالكارثة التي حلت بالعربة، وضعت يدها على فمها كرد فعل طبيعي كاتمة شهقة مصدومة تقاتل للخروج من جوفها وتعبر عن حسرتها، التفتت ناظرة إلى أختها التي تحترق حية من فرط انفعالها، وقفت إلى جوارها وحاوطتها من كتفيها، نظرت إليها بعينين حزينتين فرأتها محدقة بالأعلى، ارتفعت رأسها لتتطلع إلى من تتركز عيناها عليه، سددت "همسة" نظرة لائمة لخالها الذي كان يرقص محتفلاً بانتصاره الرخيص، أوصد الأخير النافذة في وجهي كلتيهما ليزداد حنق "فيروزة" ويندلع غضبها أكثر، أخفضت رأسها تصيح في وجه أختها:
-شايفة خالك المفتري عمل فينا إيه؟
توسلتها بصوتٍ يعبر عن قرب بكائها:
-اهدي طيب يا "فيرو"
توعدت "فيروزة" خالها بعدائية جمة:
-أنا مش هاسكتله، والله ما هاسيب حقي.
رجتها "همسة" من جديد:
-عشان خاطري اهدي الأول، هيجرالك حاجة من العصبية.
ردت عليها بحرقةٍ:
-ربنا يقهره زي ما قهرني..
أضافت عليها مؤكدة:
-ماما لازم تعرف باللي عمله.
-ده أنا هافضحه، مش هاعديها على خير، هو ده اللي خايف على مصلحتنا؟ بدل ما ياخدنا تحت جناحه ويتفاهم معانا بالعقل؟
ثم كزت على أسنانها مضيفة بحنقٍ أشد:
-أكيد الحيزبونة مراته ورا اللي حصل
أيدتها في رأسها قائلة:
-ماتستبعديش ده
ضاقت نظراتها بعزيمة أكبر وهي تعد أختها بما لا يدع مجالاً للشك أو التراجع:
-فكره إنه بكده هيمنعني أعمل اللي في دماغي؟ يبقى غلطان، أنا مش هاستسلم!
عادت لتحملق بالأعلى من جديد وصدرها الناهج يضج بغضبٍ أشد قوة، لن ينجح في تثبيط همتها أو تدمير أحلامها، ستقف له الند بالند إلى أن يرضخ بالأمر الواقع.
تأنقت بعباءةٍ جديدة سوداء اللون تنتهي أكمامها بشرائط مرصعة بالترتر قامت بتضييقها من عند الخصر ليظهر تناسق جسدها وامتلائه بشكلٍ مغرٍ، أما فتحة صدرها فمنقوشٌ عليها رسمة لقرص الشمس وأشعتها المتشعبة لتبدو لافتة للأنظار، تأبطت ذراعه في تفاخر وزهو، وكأنها ملكت الدنيا بأسرها بسيرها معه وسط العامة خلال ساعات الليل الأولى، تهادت في مشيتها بثقةٍ ودلال مستشعرة باكتمال أنوثتها في حضرته.
كم ادعت تعثرها لأكثر من مرة لتشعر بقوة قبضته حينما يمسك بها! كذلك كانت تثرثر بلا توقف، تحكي له عن توافه الأمور لتشعره بأهمية مشاطرته لها في كل ما يخصها، أما هو فقد اكتفى بهز رأسه من آن لآخر ليوحي لها بأنه متابع جيد للغوها الذي لم يلتقط منه إلا جملاً معدودة .. تنهدت "خلود" مرددة في بهجة محسوسة:
-أنا خلاص هاجيب مفرش العرايس بتاع أوضة نومنا، وأبقى بكده قفلت كل حاجتي.
قال باقتضابٍ وبوجهٍ خالٍ من التعبيرات:
-كويس.
-إنت لو ناقصك حاجة قول لخالتي عشان تجيبهالك، مش عايزين نضيع وقت
-ربنا يسهل
-بأفكر كمان لما العفش يجي أعمل الستاير لونين
نظر لها بفتورٍ وقد بدا نوعًا ما منزعجًا من تلك التفاصيل المملة عن تأسيس منزل الزوجية، سألته "خلود" من جديد وعيناها تدوران في الطريق المتسع:
-هانروح فين يا "تميم"؟
للحظة انتبه لسؤالها الأخير بعد أن كان شاردًا عنها نسبيًا، حتى سيره معها كان بلا وجهةٍ محددة .. احتدت نظراته في الطريق وهو يفكر مليًا في المكان الذي سيصطحبها فيه ليقضي سهرته الروتينية معها، جال بخاطره فجأة أن يتجه لمنطقة الكورنيش، ولما لا فهي فرصة مناسبة للتأكد من وجود العربة، استدار برأسه نحوها يقول ببسمة بدت متكلفة:
-هانقعد على الكورنيش شوية.
استغربت من اقتراحه ورددت متسائلة:
-في السقعة دي؟
أجابها بحماسٍ عجيب:
-ده أحسن وقت يا "خلود" ..
نظرت له باسترابةٍ فأوضح لها:
-قصدي يعني هوا البحر مع أعدتنا سوا.
ورغم حالة التعجب المسيطرة عليها إلا أنها لم تعترض على فكرته، ظنت أنه يريد التودد إليها بشكلٍ حميمي ويحتاج لحجة زائفة لفعل ذلك والاقتراب منها مستغلاً برودة الجو، هكذا انطلقت في ذهنها الهواجس الوردية وتدفقت لتغزي عروقها.
عضت على شفتها السفلى في استحياءٍ مستنكرة جموح خواطرها، وأطرقت رأسها لتنظر إلى موضع قدميها وهي تكمل فسحتها الترويحية معه. دارت عينا "تميم" على مدى البصر في الكورنيش بحثًا عن تلك العربة، لم تكن موجودة مما أصابه بإحباطٍ عجيب، جاهد بصعوبة ليبدو طبيعيًا في تصرفاته مع خطيبته التي لو كانت منتبهة جيدًا له للاحظت التغيير الذي طرأ عليه وتملك منه، استنشق بعمقٍ الهواء الجليدي الذي اقتحم رئتيه فأنعشهما، أشار بعينيه إلى بقعة ما شبه خالية قائلاً:
-تعالي نقعد هناك.
-ماشي.
قالتها وهي ترفع طرف عباءتها الملامس للطريق قليلاً حتى تتمكن من صعود الرصيف والاتجاه إلى المنطقة الحجرية المخصصة لجلوس الأفراد، وقبل أن تجلس أخرجت من حقيبتها منديلاً ورقيًا مسحت به مكانها، ثم أعطت "تميم" واحدًا ليفعل مثلها، جلست معتقدة أنه سيحاول الالتصاق بها ليشعرها بحرارة جسده المضطرم فيه نيران الحب والغرام، لكنه ترك مسافة تتخطى السنتيمترات كفاصل بينهما مما أزعجها للغاية، سألها بصوته الأجش وقد نهض فجأة ليشعل سيجارته:
-عاوزة تأكلي إيه؟
أجابته في تردد وهي تهز كتفيها:
-مش عارفة
أومأ بعينيه نحو عربة قريبة منهما نسبيًا قائلاً لها:
-هاجيبلك شاورمة..
تطلعت إليه وقد أكمل جملته متسائلاً:
-مش إنتي لسه بتحبيها؟
ردت بقلب يدق في عنفٍ لكلماته التي أشعلت أكثر جذوة الحب المتقدة بداخلها:
-أيوه
-تمام..
بخفةٍ وسرعة تحرك "تميم" نحو العربة التي تبعد عدة أمتار ليقف أمام نافذتها، أملى على العامل الواقف بها طلبه ومنحه بقشيشًا إضافيًا ليعد له السندوتشات سريعًا، التفت نحو "خلود" ليراقبها عن كثب ليتأكد من عدم تعرضها للمضايقة من قِبل أحدهم، ولكن لكونه ذائع الصيت ومعروف لدى أغلب سكان المنطقة فلم يجرؤ أي شخص على الاقتراب منها، بل على العكس كان الترحيب الجلي به واضحًا طوال سيره..
أخذ "تميم" السندوتشات ذات الرائحة الشهية والمحفزة للمعدة من البائع وعاد بها إلى خطيبته، ناولها خاصتها وجلس إلى جوارها يقضم قطعة كبيرة وراء الأخرى، سكونٌ هادئ ساد بينهما لبعض الوقت، حاولت "خلود" استدراجه للحديث معها حينما طال صمته فقالت:
-فكرت في الميعاد اللي هنتجوز فيه؟
صدمها وجعل الطعام يعلق بحلقها فأصبح كالزقوم الحارق في جوفها حينما أجاب دون تفكيرٍ وكأنه يبوح بما يدور في مكنونات نفسه:
-لأ ...!