رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والثلاثون
سرت حمى الغضب أم الجنون أم كلاهما معًا في كامل جسدها، اندفعت نحو الاستقبال تنتوي الثأر فورًا لمن تسبب في إيذاء توأمتها بذلك الشكل السافر بعد أن تركتها بصحبة الممرضة .. وإن كان ما بها حقيقيًا، فلا يجب تحت أي وضع أن تعلم هكذا، ومن تلك المرأة الوقحة منعدمة الذوق تحديدًا، تلفتت "فيروزة" حولها تبحث عمن تفرغ فيه غضبها الثائر، لمحت الحاجز الرخامي -لا يتعدى طوله المتر ونصف- والذي تقف خلفه بضعة ممرضات يتبادلن معًا الأحاديث الجانبية، اتجهت صوبهن، وبراحتي يديها طرقت بعنفٍ عليه صارخة فيهن:
-واحدة فيكم تقولي مكان الدكتور المسئول عن حالة أختي.
نظرن إليها الممرضات في تأفف قبل أن تبادر إحداهن بالرد:
-في إيه يا أستاذة، ماينفعش الزعيق ده هنا
صرخت بها بهياجٍ مبرر مستخدمة يدها في التلويح:
-محدش يقولي أسكت بعد اللي حصل من استهتار وقلة أدب.
علقت عليها أخرى مستنكرة أسلوبها الهمجي في التعامل:
-حضرتك في مرضى وآ...
قاطعتها وهي تضرب بيدها على الحاجز الرخامي في عصبيةٍ:
-وأنا عاوزة الدكتور اللي عملها العملية، قوليلي فين مكانه؟!
نظرت الممرضة بحيرة إلى زميلاتها، وأدركت أنها لن ترحل إن لم تطلعها على مكانه، فقالت على مضضٍ ريثما تستعين أخرى برجال الأمن ليتعاملوا معها:
-هو بيكشف على حالة هنا في غرفة 504، ثواني وهانبلغه.
نظرت لها بعينين ناريتين قبل أن ترد:
-ماتتعبيش نفسك، أنا ريحاله!
تركتهن في مكانهن وبحثت بعينيها عن رقم الغرفة المنشودة، واحترامًا منها لخصوصية المريض كتمت غضبها مؤقتًا وانتظرت بجوار باب الحجرة المتواجد بداخلها حتى خرج الطبيب منها غير متوقع لتلك الشابة الثائرة التي تنتظره على جمراتٍ متقدة، تطلع إليها يسألها بهدوئه المعتاد:
-في حاجة يا أستاذة؟
اندفعت تمسك به من ياقتي معطفه الطبي وهي تتهمه بصوتها الصارخ:
-إنت إزاي تطلع على أختي الكلام ده؟
تفاجأ من اعتدائه الشرس عليه، وحاول إزاحة يديها عنه مستفهمًا:
-كلام إيه؟ أنا مش فاهم حاجة!
ردت مهددة إياه بصياح مجلجل جذب الأنظار إليهما:
-ده أنا هوديك في داهية إنت وكل اللي معاك، هارتكب جناية هنا
قال في اندهاشٍ وهو يحاول إبعادها عنه:
-ما يصحش اللي بتعمليه ده، احنا هنا في مستشفى محترم.
هدرت فيه بانفعالها الشديد:
-بس يصح تطلعوا أسرار المرضى؟ هي دي الأمانة اللي بين إيديكم؟!
هتف الطبيب مستغيثًا بمن حوله:
-يا جماعة حد يشوف في إيه، مش هاينفع كده؟
تشبثت أكثر بياقتيه، وردت بنظرات تتوهج حنقًا:
-وأنا مش هاسيبك النهاردة، حق أختي هيرجع غصب عن عين أي حد.
في تلك الأثناء، تلكأت "خلود" وتعمدت أن تتباطئ في استعدادها للرحيل ريثما تنتهي والدتها من أمر أصرت على إنجازه قبل عودتها للمنزل، لم تعلم ما الذي يدور في جعبتها، لكنها كانت واثقة أنها ستفعل ما في صالح ابنها، أرادت "بثينة" أن تسكب الزيت على النيران، أن تلهب الوسط، أن تحرق الأعصاب وتدمرها بما لم تتحرَ صحته، أتمت فعلتها السوداء وعادت إلى ابنتها وتلك البسمة الشيطانية تداعب شفتيها، دنت منها الأخيرة وسألتها في فضول:
-إنتي كنتي فين يامه؟
أجابتها "بثينة" بصوتها الهامس:
-بعدين هاقولك..
ثم ركزت أنظارها على "تميم" الذي كان ملتهيًا بالحديث في هاتفه المحمول، وتابعت بنبرة خفيضة:
-بدل ما جوزك ياخد باله.
التقت نظراتها اللئيمة مع نظراته الثاقبة، لاحظ ربكتها وحركتها المتوترة، أنهى مكالمته دون أن يبعد عينيه متسائلاً:
-في حاجة؟
ردت عليه خالته نافية:
-لا مافيش.
وجه نظراته نحو زوجته يسألها بصيغة الجمع، حتى لا يُظهر انزعاجه من والدتها الفضولية:
-خلصتوا عشان نمشي؟
أجابت "خلود" برقةٍ:
-أه يا حبيبي.
ثم سارت في اتجاهه لتتأبط ذراعه وهي تبتسم له، وبالرغم من عبوسه إلا أنه لم يبعد يدها المتعلقة به، تحرك الثلاثة خارج الغرفة في اتجاه الممر نحو المصعد، لكن تلك الجلبة الصارخة بجوار الاستقبال لفتت أنظارهم، كان "تميم" أول من تعرف إلى صوت "فيروزة" الغاضب وفطن لكونها تتشاجر مع أحدهم، ولكن من يا تُرى؟ اشرأب بعنقه محاولاً رؤية المشهد بوضوح وسط التجمع الذي يحجبه عنه...،
استطاع أن يبصرها وهي تقاوم بضعة ممرضات يحاولن منعها من الفتك بالطبيب الذي يصرخ هو الآخر مهددًا بتحرير شكوى ضدها، أثار الأمر استغرابه ناهيك عن ضيقه من تعامل الأخريات معها، حثته رغبة عارمة للتدخل حتى يعرف ما الذي تجابهه الآن، وبتلقائية بحتة أزاح قبضة "خلود" التي جزعت من ابتعاده المفاجئ عنها، لحقت به بخطوات مهرولة، ثم أمسكت بذراعه لتوقفه عنوة وهي تسأله في قلقٍ:
-إنت سايبني ورايح فين؟
بخشونة طفيفة تحرر من قبضتها، وقال دون أن ينظر إليها:
-هاشوف في إيه.. خليكي مكانك.
لحقت بها "بثينة" وأجبرتها على البقاء قائلة لها:
-استني يا "خلود"، خلينا نفهم في إيه
ردت بحرقة، ونيران الغيرة تنبعث من عينيها وكامل حواسها:
-يامه ده رايحلها، إنتي مش شايفة ولا إيه؟
قفز قلب "بثينة" رعبًا في قدميها، خشيت من افتضاح أمرها إن كان الشجار القائم بسبب ما قالته، لم يخطر على بالها أن تكون "فيروزة" بتلك الرعونة والجراءة، ظنت أنها كسرت شوكتها، أحرقت كبدها، لكن طالتها نيران حقدها سريعًا، انكمشت في جلدها، ورددت لنفسها:
-استر يا رب.
وبلا ترددٍ أو تفكير حائر عقد "تميم" النية على مساعدتها، الأحرى أن يقال أنه كان كمن ألقيت عليه تعويذة قوية المفعول فانساق كالمغيب يدفع عن طريقه من يعوقه ليصل إليها، وبصوته الأجش تساءل عاليًا:
-إيه اللي بيحصل هنا يا أبلة؟
نظرت له أولاً بعينيها المشتعلتين غضبًا، ثم تركزت عيناها على الطبيب وأجابت بكلامٍ لم يفهمه:
-هوديه في داهية طالما مش مراعي حق ربنا في أختي.
ودون أن يلم بأبعاد الموقف، انقض على الطبيب ممسكًا به من تلابيبه، سأله بصوتٍ عكس زمجرة متشنجة وهو يهزه في عنفٍ:
-إنت عملت فيها إيه؟
حاول الأخير المناص منه راجيًا:
-يا أستاذ افهم، بلاش شغل الفتوة دي هنا، الموضوع فيه سوء تفاهم.
ثم صاح عاليًا طالبًا النجدة:
-فين الأمن اللي هنا؟
رد "تميم" غير مبالٍ وبجسارة عجيبة دون أن يفلته من قبضتيه المحكمتين حوله:
-حتى لو جبتلي الداخلية كلها، حق الأبلة وأختها هيرجع!
لم تنكر "فيروزة" أنها تفاجأت بردة فعله المستبعدة عن ذهنها، وتطلعت إليه في اندهاشٍ مصدوم للحظة، بينما عمد الطبيب إلى تهدئة ثورته، فاستجداه بدبلوماسية واضحة عله يلين:
-لو ليكم حق هنرجعه، بس نفهم الأول في إيه، بالشكل ده مافيش حاجة هتتحل!
كان منطقيًا في تعامله مما اضطر "تميم" أن ينزع قبضتيه عنه ليفهم الحقيقة كاملة، استجمع نفسه، وقال:
-ماشي يا ضاكتور.. فهمنا بقى!
رد ساخرًا:
-مش أما أعرف أنا الأول!
هدرت فيه "فيروزة" من الخلف وهي تقاتل للتحرر من الممرضات المتكالبات عليها:
-أختي جاية تعمل الزايدة عنكم تطلعوها عقيمة؟!
هتف الطبيب في استنكارٍ عظيم:
-إيه التخاريف دي؟!
أدار "تميم" رأسه في اتجاهها وقد ارتسمت علامات الدهشة على قسماته، بينما تابعت "فيروزة" بنفس النبرة المتشنجة وقد اِربد وجهها بمزيد من الغضب:
-أنا مش جيباه من عندي، الكلام وصل لقريبة الأستاذ، وجاية تعاير أختي بقلب ميت وهي لسه يدوب بتفوق.
رد الطبيب نافيًا:
-محصلش مني حاجة زي كده أبدًا
قالت في تهكمٍ ونظراتها الاحتقارية تعلو حدقتيها:
-والمفروض أنا أصدقك؟!
شرد "تميم" للحظة مسترجعًا في ذاكرته لحظة اختفاء خالته من الغرفة لبعض الوقت قبل أن تعود وتلك التعابير الشامتة تغطيها، بدأ ذهنه يتفقه للأمر بعد أن أزيلت تلك الغمامة التي تحجب عنه تحليل الأحداث بصورة أكثر وضوحًا، أيعقل أن تكون أخلاقها قد انحدرت لتلك الدرجة لتقوم بذلك الأمر المشين؟ عكست تعابيره الحالية تحفزًا مبررًا، التفت برأسه باحثًا عن "بثينة" بالخلف، رمقها بنظرة نافذة ذات مغزى، وشعرت هي بغضبه المتواري، ابتلعت ريقها وجذبت ابنتها من ذراعها لتقول لها متحججة:
-خلينا نمشي أنا مش قادرة أقف على حيلي.
ردت "خلود" بعنادٍ وعيناها لا تفارقان وجه "فيروزة":
-لأ يامه، مش هتحرك من غير جوزي.
كزت على أسنانها تقول في غيظٍ حانق:
-جوزك هيوديني في داهية لو فضلت واقفة!
تعقدت تعبيراتها، وضاقت نظراتها نحوها قبل أن تسألها:
-قصدك إيه؟!
لمحت "عائشة" الجدال الدائر في الردهة المتسعة، جحظت بعينيها حين رأت أخت المريضة تتشاجر مع الطبيب، وبالطبع التقطت أذناها بعض الكلمات المبهمة للغير لكنها مفهومة بالنسبة لها، مررت نظراتها المتوجسة بين الأوجه المتزاحمة إلى أن رأت "بثينة" في الخلف، اتجهت إليها وسألتها:
-خالتي إنتي عملتي إيه؟
ردت بتلعثمٍ وهي تجاهد لتمالك نفسها:
-ولا حاجة يا "عيشة"!
أحنت رأسها عليها لتهمس في أذنها بارتعابٍ:
-ده لوحد شم خبر إننا اللي ورا الحكاية دي هتجازى فيها!
حاولت طمأنتها فقالت بثقةٍ مشكوك فيها:
-مافيش حاجة، دلوقتي الخناقة تتفض
ألقت نظرة متأنية على الجدال المحتدم، وعلقت بقلقٍ أكبر:
-ماظنش يا خالتي.
لعقت "بثينة" شفتيها، وتعهدت لها:
-لو الموضوع كبر وحصلك حاجة، فأنا هاعوضك، وهراضيكي.
ردت بتبرمٍ:
-ربنا يعديها بس على خير، وبعد كده نتكلم.
وبنظرات محتقنة وغيظٍ مكبوت حملقت "خلود" في "فيروزة" التي نجحت في الإفلات من الممرضات وهجمت بشراسة على الطبيب تود الاعتداء عليه، منعها "تميم" من الوصول إليه بظهره الذي كان كالحاجز المتحرك يجاريها في حركتها المتعصبة، استفزها بتصرفه فصاحت فيه بنرفزةٍ:
-اوعى من سكتي، أنا مش هاسيبه النهاردة، هاصور قتيل في المستشفى دي!
استدار ناحيتها يشير لها بيديه مكررًا نفس حديث الطبيب:
-هنعمل اللي إنتي عاوزاه، بس نسمعه الأول.
توعدته مستخدمة سبابتها في الإشارة:
-كل واحد اتجرأ على أختي وعاب فيها هيتحاسب.
هز رأسه في تفهمٍ قبل أن يرد:
-حقك.. وأنا بنفسي هتأكد من ده.
توقعت ألا يقف في صفها، لكنها صدمها للمرة الثانية بدعمه المطلق وغير المشروط مما هدأ من انفعالاتها الغاضبة، كتفت ساعديها أمام صدرها وأضافت بتزمت:
-أنا عاوزة يتعمل تحقيق رسمي.
-ده اللي هايحصل.
ردد مدير المشفى تلك العبارة بنبرة واثقة فور أن وطأ الردهة ليستدير الجميع نحوه، جاب بنظراته العميقة على الوجوه الغاضبة، وتابع بصوته الثابت:
-طبعًا ده لو ليكي حق.
صاحت فيه "فيروزة" بحدة، ونظراتها الناقمة تسلطت عليه:
-أنا هنا عشان أختي، مش جاية أعمل قلق على الفاضي.
أكد عليها مدير المشفى بما لا يدع مجالاً للشك:
-تمام.. وهحاسب اللي غلط.
أوشكت "عائشة" أن تتوارى عن الأنظار بعد أن أنهت حديثها السري مع "بثينة" لولا أن لمحها الطبيب المتورط في تلك المشاجرة الغريبة، فصاح يناديها بعد أن ضاق خلقه من كم الإهانات التي تلقاها دون داعٍ:
-يا "عيشة"، تعالي هنا لو سمحتي.
ازدردت ريقها، وسارت في تباطؤ نحوه، أخفضت نظراتها وتساءلت بربكة عظيمة:
-أيوه يا دكتور.
التفت يُخبر مدير المشفى:
-أنا عاوز أستدعيها للتحقيق معانا، لأني شاكك في حاجة معينة
انخلع قلبها من جملته الأخيرة، الآن تأكدت من إقحامها في ذلك التحقيق الرسمي، استدارت برأسها للجانب لتحدق في توتر نحو "بثينة" التي أرسلت لها إشارة ضمنية برأسها حتى لا تجفل قبل أن تفر هاربة من المشفى.
ارتخت أصابعه عن الكيس البلاستيكي المليء بالعصائر ليسقط من يده على الأرضية حين رأها تتلوى من البكاء والألم، اقتحم الغرفة ونظراته المرتاعة مرتكزة على شخصها فقط، تجمد "هيثم" في مكانه مدهوشًا وحائرًا، لا يعرف كيف يُطيب من خاطرها، أو حتى يهون من أوجاعها، نظرة جانبية حانت منه للممرضة التي كانت ترعاها قبل أن يسألها بصوته الخائف:
-حصلها إيه؟
جاء في ذهنه أنها تعاني من آثار انسحاب المسكن من جسدها، ولم يتصور الأسوأ، بينما ردت عليه الممرضة متصنعة الابتسام حتى لا توتره:
-متقلقش، هي هتبقى كويسة..
انخفضت نظراته على "همسة" ليتفحصها وهي في حالة الانهيار المريبة، وسألها مباشرة:
-إنتي حاسة بإيه يا "همسة"، أروح أشوفلك أي ضاكتور هنا لا آ...
قاطعته بمرارة وقهر، وبأنفاسٍ متقطعة:
-اشمعنى أنا؟! ليه ما سبتونيش على عمايا؟ ليه تعمل فيا كده؟
أفزعته جملها المتلاحقة، وهدر متسائلاً بعصبيةٍ لا يعرف من أين انفجرت فيه وانتشرت في كامل كيانه:
-إنتو عملتوا فيها إيه؟!
نظرت له الممرضة بوجهٍ مال للعبوس، وطلبت منه في جدية:
-لو سمحت ماينفعش الانفعال اللي إنت فيه ده! ده مش كويس على حالة المريضة، وأكيد هي مستحملة حد يوترها
صرخ بها:
-ما أنا مش هابقى واقف زي الأطرش في الزفة.
تركت الممرضة مريضتها لتتجه إليه، وقامت بدفع "هيثم" من ذراعه في رفقٍ وهي ترجوه:
-من فضل حضرتك تتفضل برا، خليني أعرف أتعامل مع المريضة
أجبرته على الخروج من الغرفة، وقبل أن يصل أعتابها أتاه صوت "همسة" التعيس، وكأنه يلومه:
-مش مسمحاها على أذيتها ليا، قولها ده، أنا مش مسمحاها!
استدار نحوها في غرابةٍ، ووجهه يعلوه تلك النظرة المستريبة، ابتلع ريقه وشعر أن الأمر له علاقة به بشكلٍ مباشر، اضطر أن يستخدم القليل من العنف ليبعد الممرضة عن طريقه، فلكزها في ذراعها وطرحها نحو الحائط، ثم عاد إلى "همسة" وسألها دون مراوغة:
-قصدك مين بكلامك ده؟
حاولت جمع قوة غير موجودة فيها، ونظرت في عينيه مباشرة بعينين تفيضان الدمع، وأجابته بنحيب:
-اسأل مامتك!
لا تعرف كيف انصاعت لرغبتها وانسحبت من الردهة صاغرة لتقف خارج المشفى وهي تحترق بنيران غيظها وغيرتها الواضحة، استطاعت أن تسمع صوت زفير والدتها المتكرر ليعبر عن سأمها من الانتظار كالمشردين على جنبات الطريق، لكنها تجاهلتها لتنظر كل ثانية نحو بوابة الدخول، هتفت "بثينة" توبخها بضجرٍ:
-ما كفاية وقفة في الطل، خلينا نتنيل نرجع بيتنا، أنا تعبت وزهقت
حدجتها بنظرة قاسية قبل أن ترد وهي تتنفس بأنفاس الضيق:
-وأنا المفروض أكون فوق مع جوزي مش قاعدة تحت هنا!
تصنعت والدتها البراءة، وعاتبتها بلومٍ:
-يعني عاوزة رجلي تيجي في الخاية؟ ترضي لأمك البهدلة من اللي يسوى وما يسواش! ده كويس إني نفدت منها.
علقت تسألها في حنقٍ:
-ومين قالك تتصرفي كده يامه؟ أهوو جه على دماغنا في الآخر، و"تميم" بقى لوحده معاها!
زمت "بثينة" شفتيها وغمغمت في تهكمٍ، وتلك النظرة الساخطة تكسو تعبيراتها:
-تقولش قافلين عليهم باب الشقة، ياختي ده البت زي ضربة الدم قلبتها حريقة وجابت عاليها واطيها!
ضغطت "خلود" على أصابع يدها حتى ابيضت مفاصلها، ثم أضافت ونظراتها معلقة بالأعلى:
-يا عالم دلوقتي بيعملوا إيه سوا!
غلت الدماء في رأسها وكادت أن تذيبها، التفتت ناظرة إلى والدتها وهتفت وهي تندفع كالثور الهائج نحو درجات المشفى:
-أنا مش هاستنى أكتر من كده، إياكش الدنيا تولع، أنا مش هاسيبوهلها!
صاحت فيها "بثينة":
-يا بت استني، ماتبقيش غبية!
لم تصغِ لها وواصلت اندفاعها الأهوج للداخل وغيرتها تعميها بالكامل عن التصرف بتعقلٍ وروية، لم يظهر الندم على تعابير أمها التي قالت بتبرمٍ، وكأنها تتحدث مع نفسها:
-يعني عاوزاني أعرف إن البت مافيش منها رجا وأسكت؟ كان لازم أعمل كده عشان تلم الدور وتعرف إن مافيش حد هيبصلها، أنا مش عايزة واحدة زي دي لابني، ليه أتحرم من أحفاد يملوا عليا البيت؟!
جابت الممر الطويل جيئة وذهابًا بخطواتٍ متشنجة، منفعلة، متعصبة، أي شيء سوى أن تكون هادئة، دمدمت بتوعدات غير واضحة، وكزت على أسنانها لاعنة بكلمات لم يسمعها جيدًا، لكنها كانت فرصة جيدة له لتأملها عن قرب دون مقاطعة أو تردد، وضع "تميم" يده على شفتيه ليخفي تلك الابتسامة المستمتعة بمراقبتها، وبيده الأخرى فرك رأسه في توترٍ، بذل أقصى ما يستطيع محاولاً السيطرة على عينيه الناعستين اللاتين تواصلان تأملها وكأنها تسجل ما يخصها في ذاكرته، انتصاب في وقفته حين وجهت له الحديث لتنذره:
-لو اتأكدت إن الدكتور ده مطلع الكلام القذر إياه عن أختي هاخنقه بإيدي، وكمان الست قريبتك، مش هاسيبها، ومحدش هيحوشني، ماشي؟
رفع كفيه في الهواء كتعبير عن إذعانه لها، فتابعت "فيروزة" مفرغة فيه عصبيتها:
-إزاي جالها قلب أصلاً تعمل كده؟ افرض حصل ده مع بنتها!
وكأنها تداركت زلة لسانها بعد لحظة من نطقها، فمن تتحدث عنها هي زوجته، تنفست بعمقٍ، ولفظت الهواء دفعة واحدة، ثم رمقته بنظرة حرجة قبل أن تقول على مضضٍ وبنبرة أقل حدية:
-أنا مقصدش، بس مافيش حاجة بعيدة عن ربنا، المفروض نراعي بعض.
لم يكترث "تميم" للأمر مطلقًا، لتفصح بأريحية عما يجثم على صدرها ويزعجها، كان للمرة الأولى مستمتعًا للغاية وتسيطر عليه نشوة عارمة لاسترسالها في الحديث معه دون أن تهاجمه شخصيًا، وبشكلٍ لا إرادي وجد نفسه يسبل عينيه ناحيتها ليبدو أكثر تأملاً لتعبيراتها المشوقة وهو يسألها بنزقٍ:
-هو إنتي إزاي كده ...؟!