رواية السماء تشهد أيها الماجن للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول
كانت تتمدد على الفراش في سكينة في انتظار وقت العشاء، سمعت حركة أمعائها معلنة تضورها جوعا فقد كانت اخر لقيمات قد نزلت بجوفها بصعوبة في الصباح الباكر وبعد ضغط من ابنة عمتها هي لقيمات إفطارها..
نهضت متطلعة لهيئتها في المرأة الطولية مؤكدة ان وزنها قد انخفض كثيرا مقارنة بالعام المنصرم..
ابتسمت في شجن محاولة التأكيد على نفسها ربما للمرة الالف انها هنا لكي تنسى وتعيش تجربة ممتعة وخبرة جديدة..
دخلت نهى فيلا جدها السعيد احد اكبر رجالات الاعمال ببلدتهم الساحلية والذي يعود اصله لأسرة عريقة وترجلت من سيارتها مندفعة باتجاه مجلسه بالحديقة لتنحني واضعة قبلة على خده هاتفة في مرح كعادتها: - هاقد أنجزت المهمة يا جدي وكل شئ على ما يرام..
هتف جدها متسائلا: - هل انتظرتي حتى تأكدتي من إبحار الباخرة وحياة على متنها!؟.
اومأت نهى مؤكدة: - نعم يا جدي، وقفت ألوح لها وهى على متن الباخرة حتى أبحرت، لا داع للقلق صدقني، لقد سافرت حياة بالفعل وانا متأكدة انها ستستمتع بوقتها بشكل جيد..
همهم جدها: - اتعشم في ذلك، لقد عانت بن خالك الكثير، لم تكن لتتحرك شبرا الا بالضغط عليها لترحل بعيدا فقد نصحها الطبيب بتغيير الأجواء..
تنهدت نهى في شجن: - صدقت يا جدي، فلقد كانت الفترة الماضية غير محتملة، اتمنى من كل قلبي ان تهنأ في رحلتها فهى بحاجة لبعض التغيير والمتعة..
حان وقت العشاء، عدلت حياة من وضع غطاء رأسها جيدا واندفعت في اتجاه المطعم الذي وصلته طبقا للإرشادات، وقفت على أعتابه وجالت ببصرها تختار طاولة نائية باحد الأركان..
توجهت اليها في هدوء وما ان جلست حتى جاءها النادل لخدمتها..
اختارت ما شعرت انها تشتهيه واومأ النادل برأسه في إيجاب مؤكدا ان عشاءها سيكون جاهزا خلال دقائق، تشاغلت بالنظر الي رفقاء الرحلة في محاولة لإضاعة الوقت الذي تشعر به طويلا لا ينقضي وتساءلت، هل كان من المناسب القيام بتلك الرحلة من الاساس!؟، لكنها تنهدت وقد ايقنت انه سؤال قد تأخر الوقت جدا على طرحه..
وقعت عيناها عليه، ذاك الشاب عاشق الشقراء الذي رأته بالميناء والذي يبدو انه تعافى سريعا من اوجاع وداعها وها هو يجلس مع شقراء جديدة لتكون هى الدواء لفراقه عن شقراء البر التي خلفها ورائه، مطت شفتاها في قرف وودت لو نهضت لتخبر تلك المغفلة التي تصاحبه انها مجرد حبة في مسبحة نسائه، لكنها اثرت الصمت متيقنة ان الامر يروق لتلك الشقراء وهى ترى تلك الابتسامة المرسومة على شفتيها بعرض وجهها وقد علت نبرتها لتصبح قهقهات متعاقبة محملة بالغنج، يبدو انه قادر تماما على إسعاد رفيقاته، ووجدت نفسها رغما عنها تتطلع اليه في فضول، لم يكن وسيم الملامح والقسمات لكن شيئا ما به يحمل جاذبية خاصة تجعل منه اشبه بالمغناطيس، كان متوسط الطول ذو جسد رياضي تظهر بنيته المتناسقة من خلال ذاك القميص الذي قُد على قده، مع ذقنه الحليق والذي يظهر بروزا عظميا على جانبيه يجعله منحوتا كما وجه تمثال روماني وكذا شعره السبط الحالك السواد الذي ظهرت أطرافه من تحت ذاك الكاب الذي يرتديه، بجانب تلك الابتسامة الخلابة مرسومة على شفتيه عابثا بُخلة أسنان يلوك طرفها في لامبالاة وهو يهمس في مرح لصديقته التي كانت تعيره اهتماما جما..
همست لنفسها في ضيق: - كفي، توقفي عن التحديق في ذاك الأحمق..
لكنها لم تستمع لذاك الامر الداخلي، ومتى استمعت!؟، لكنها كفت بالفعل وإدارت وجهها في اتجاه اخر مضطربة النظرات لكن بعد ان كان الوقت قد تأخر وشعر هو لا إراديا بالحصار فقد وجه نظراته اليها ليمسك بها متلبسة بالتحديق فيه كبلهاء..
شعرت بارتجافة تعتريها، وشتمت نفسها سرا عندما تأكد لها انه قد حان دوره ليتفرس بها لتصبح تحت مجهر عينيه النافذتين واللتان ضاقتا في فضول مسمرة نحوها كعين صقر لا يخطئ فريسته..
تململت في موضعها وكانت على وشك الاندفاع مبتعدة لتعود لقمرتها الا ان حضور النادل بطعامها جعلها تعود لتجلس ما ان همت باتخاذ قرار الرحيل، وُضعت الاطباق قبالتها على الطاولة وما ان همت بإمساك الملعقة حتى شعرت انها لاتزل محاصرة بتلك النظرات هناك..
لم يعد الامر يحتمل لذا قررت النهوض للحمام لغسل يدها والعودة لتغير موضع جلوسها لتوليه ظهرها..
نفذت واتجهت للحمام على عجالة، غسلت وجهها وكفيها وعادت لطاولتها لتجلس موضعها تتنفس الصعداء في راحة فقد اصبح بامكانها تناول طعامها في اطمئنان فقد رحل مصدر قلقها فيبدو انه غادر طاولته مع حسنائه الهيفاء..
بدأت تأكل في شهية كبيرة وقد بلغ بها الجوع مبلغا كبير جعلها تتناول طعامها بشراهة غير معتادة والتى عزتها الي تأثير البحر وهوائه...
وبخت نفسها كثيرا فقد شعرت بامتلاء رهيب يهدد راحتها، ما كان عليها ان تأكل بتلك الطريقة، كانت جوعى فألتهمت كل ما قدم لها وما راعت ان أمعائها المسكينة تتضرر سريعا..
حمدت ربها انها احضرت دواءها معها، دخلت قمرتها وبحثت عنه بداخل حقيبة يدها الصغيرة تناولت منه حبة ألقتها بجوفها مع قليل من الماء وقررت الصعود قليلا لسطح الباخرة لاستنشاق الهواء لعله يساعدها في التخلص من ثقل تلك الوجبة الدسمة المطبقة على انفاسها والتي ستحرمها النوم لساعات ان لم تعمل على هضمها..
تطلعت حولها لتجد ان السطح خال تماما وان الجميع لايزل بالمطعم يتناول طعامه ويستمتع بالموسيقى التي تنبعث قادمة اليها..
كان يمكنها البقاء، كانت تود ذلك بالفعل، ولو كانت لاتزل حياة القديمة التي خلفتها ورائها منذ بضعة اشهر لكانت قد استمرت في الجلوس، لكنها تحاول ان تلتزم على قدر استطاعتها بما يفرضه عليها زيها المحتشم ذاك، غطاء رأسها وبنطالها الفضفاض على ذاك القميص الطويل الواسع، فابتعدت عن ذاك الجو المشحون بالرقص وتناول المحرمات..
توقفت عند مقدمة السفينة التى كانت تمخر عباب البحر في سلاسة ادهشتها كنصل سكين حار يقتحم قالب من زبد فيصهره في لحظة..
شعرت بتوعك فهمست في توسل: - لا، ليس الان، لقد تناولت دوائي بالفعل..
لم تكن تدرك ان الامر لا علاقة له بالطعام بل له علاقة بركوبها البحر للمرة الاولى، شعرت بدوار يكتنف رأسها وبدأت معدتها في التأوه، اقتربت من حافة السور المعدنية وانثنى جزعها لاأراديا رغبة في التقيؤ وإفراغ محتويات معدتها المضطربة الا انها وجدت نفسها وقد تم جذبها بشدة بيد قوية مبعدة إياها عن السور وشخص ما يهتف بها في غضب: - لا، ما تفعلينه ليس حلا يا حمقاء..
دفعت به بعيدا رغبة في إطاعة امر معدتها التي لازالت تتلوى ولم تتخلص بعد مما يثقل كاهلها ولازال الدوار يكتنف رأسها المسكين وتمسكت بالسور المعدني من جديد ليعاود محاولته مانعا إياها بقوة اكثر حزما ممسكا بها لتواجهه صارخا في حنق: - الانتحار ليس حلا يا مجنونة، وإذا كان ولابد منه..
استطرد مازحا: - ها انا ذا، اعتبريني بحرا واغرقي بين أمواجي..
وفتح ذراعيه ليتلقفها وهى تترنح وقد قررت معدتها في التو افراغ محتوياتها على قميصه الثمين..
لحظات من الصمت مرت لم يقطعها الا هدير الباخرة التي تشق البحر، كانا كصنمان متصلبان احدهما في وهن والآخر في صدمة..
همس مقتطعا الصمت وقد تجلت امامه الحقيقة: - هل كان ذلك ما..
قاطعته بدورها هامسة بغيظ من بين أسنانها: - نعم، كنت احاول التغلب على دوار رأسي، لا الانتحار ايها الذكي..
همس متحسرا في مزاح: - وانا الذي كنت آمل في تمثيل مشهد تايتانك..
همست بصدمة: - ذكر تايتانك الغارقة على سطح باخرة بعرض البحر!، يا له من فأل حسن!؟.
قهقه ولم يعقب وهو يشرع في فك أزرار قميصه المتسخ لتهتف في صدمة من جديد: - ماذا تظن نفسك فاعلا!؟.
هتف بهدوء: - اخلع قميصي المتسخ ام انه على السير حتى قمرتي بهذا الشكل المزري!؟.
أشاحت بكفها في لامبالاة هاتفة وهى تهم بالرحيل: - افعل ما يحلو لك، انا ذاهبة على اي حال..
عاودها الدوار من جديد وسارت تترنح كالسكيرة في اتجاه باب النزول عن السطح، لحق بها ممسكا برسغها وقد كادت تصطدم باحد العوارض الخشبية لتعاود معدتها الثورة من جديد ملقية محتوياتها على الجانب الاخر من القميص الذي لحسن حظه لم يكن قد خلعه بعد..
شتم في سره اوبالادق سب نفسه لائما لاهتمامه بأمر تلك الفتاة، فليتركها تفعل ما يحلو لها بعيدا عنه وعن قميصه..
بدأت تستعيد توازنها وهمست في وهن: - انا آسفة..
اكد بهدوء: - لا عليكِ..
وهنا خلع القميص ولم تعترض هى بل أشاحت بناظريها بعيدا عن صدره العار ولكنها شهقت في صدمة عندما وجدته يلق بالقميص من على سطح الباخرة هامسة: - ماذا فعلت!؟.
هتف مؤكدا في مزاح: - فعلت ما يجب فعله، لم يعد يصلح للاستخدام الآدمي بعد كل ما فعلته به، المسكين تحمل الكثير وان الأوان ان يستريح..
هتفت بحرج متجنبة النظر اليه: - كان يمكنني غسله وإعادته اليك نظيفا..
هتف بدوره: - لا عليك، لم يكن ليستخدم مرة اخرى على ايه حال، فهناك بعض الأشياء اذا ما اصابها العطب سيكون من الحمق اضاعة الوقت في محاولة إعادتها لسابق عهدها..
قال كلماته الاخيرة تلك بنبرة عجيبة اثارت كوامن نفسها لتتطلع اليه ناسية حذرها لترى ملامح وجهه والذي تبدل فجأة للوحة من الالم رسمها الوجع بريشته فأحسن تصويرها..
اضطربت واخيرا همست: - شكرًا..
واندفعت للداخل باحثة عن طريق العودة لقمرتها والتي ما ان عثرت على رقمها المدرج على بابها حتى دفعت بمفتاحها في الباب ودخلت مسرعة وكأنها تهرب من مجهول لا تعلم كنهه..
ألقى مهنى التحية في جدية كعادته ليرد السعيد في محبة: - مرحبا مهنى، اجلس لتتناول إفطارك معي..
مهنى محام العائلة ومدير أعمالها والذي يضع السعيد كل ثقته به فهو صديقه قبل ان يكون محاميه ويحمل عبء ادارة الاعمال منذ انهك السعيد المرض وازداد حدة بعد كل تلك الحوادث الموجعة التي مرت بالعائلة منذ عدة سنوات..
ابتسم مهنى في محبة مماثلة: - لقد تناولته بالفعل يا سعيد بيه، بالهناء والشفاء، هل سافرت حياة اخيرا!؟.
اكد السعيد في فرحة: - اخيرا اقتنعت ونهى اكدت انها لم تبرح الميناء حتى أبحرت باخرتها، كان يمكنني ان ادعها تسافر بالطائرة لكن فضلت الباخرة ليكون الاستمتاع مضاعفا..
هز مهنى رأسه موافقا وهتف باقتضاب: - هى في حاجة لرحلة كهذه بالفعل، لندعو لها بالذهاب والعودة سالمة..
هتف السعيد: - اللهم امين..
اخرج مهنى بعض الاوراق ووضعها امام السعيد مشيرا لها في اهتمام: - هذه الاوراق لابد من توقيعها بشكل عاجل فلقد تأخرت كثيرا في عرضها عليك نظرا للظروف التى تعرضت لها العائلة مؤخرا..
اومأ السعيد برأسه متفهما ومد كفه ملتقطا القلم ومزيلا إياها بتوقيعه وما ان انتهى حتى طواها مهنى ونهض مؤكدا على وجوب الرحيل فورا لان هناك عدة اجتماعات في انتظاره بالشركة التي يمتلكها السعيد ضمن مجموعة من الشركات والتي ترأس مهنى مجلس ادارتها خلفا للسعيد بعد أزمته الصحية الاخيرة..
رحل مهنى لتعود نهى لمجلس جدها امرة اياه بالدخول لينل بعض الراحة ليطاوعها ويدخل الى غرفته برفقة حفيدته..
هيا انهضي ايتها المتكاسلة، لدينا الكثير من الاعمال، هل ستظلين اليوم بطوله في الفراش!؟، من تعتقدين نفسك!؟.
همست بوهن: - لكن انا متعبة اليوم، اشعر أنني..
قاطعها الصوت الغليظ هاتفا في حدة: - كفاكِ تمثيلا وادعاء، هيا انهضي..
انتفضت حياة من نومها متطلعة حولها في تيه لتتنهد في راحة عندما ادركت انها بفراش قمرتها على الباخرة المتجهة بها حيث رحلتها لإيطاليا..
عادت لتتمدد من جديد تتنفس الصعداء ان ما رأته كان كابوس ومر ولم يعد له وقعا في الحقيقة..
نظرت الى توقيت جوالها الذي حرصت على تعديله لتتيقن انها استيقظت في الوقت المناسب لتأخذ حماما قبل موعد الإفطار..
نهضت في تثاقل وهى تمني نفسها ان الأيام القادمة ما ان تصل روما ستكون هي الأفضل وعليها ان تترك كل ما خلا المتعة خلف ظهرها، وقد قررت ان تفعل..
حاولت ان تتجاهل محياه اليوم بطوله واتخذت مكانا قصيا باحد الأركان على سطح الباخرة والذي نشرت بارجائه المظلات والمقاعد للتمدد وقد احضرت احدى رواياتها التي قررت جلبها معها لتعينها على رحلتها واستلقت بأريحية على احد المقاعد تستظل باحدى المظلات وقد تاهت تماما في احداث الرواية حتى انها لم تنتبه لوجوده قبالتها مستندا على السور المعدني الا عندما ارتفعت قهقهات الحسناء التي ترافقه كظله..
رفعت ناظريها بشكل لاإرادي عن الصفحات التي كانت غارقة داخلها لتجد نظراته مسلطة عليها وكأنه كان في انتظارها لتفعل..
رمقتهما بنظرة غير عابئة اثارت غيظه وعادت تدفن رأسها خلف ضلفتي الرواية من جديد، لكن ما جعلها تنتفض مبتعدة هو قهقهة الشقراء العالية والتي اطلقتها لتنتبه حياة انها تركز نظراتها عليها..
ساءها الامركثيرا، هل كان يقص لها ما حدث منها البارحة والأضرار التي لحقت بقميصه الثمين!؟.
شعرت ان ذلك لا يُحتمل فنهضت مبتعدة غير راغبة في سماع المزيد من تلك الضحكات السمجة التي بالتأكيد تطلقها الفتاة بعد نوبة من السخرية عليها من قبله..
ظلت حبيسة غرفتها طيلة النهار وما ان حان وقت العشاء حتى نهضت وتوجهت للمطعم وكالعادة بحثت عن الطاولة المنعزلة لكن هذه المرة لم تختر الانعزال فقط بل تأكدت ان طاولتها بعيدة عن محيا ذاك الرجل ودميته الشقراء..
توجهت بالفعل في اتجاه الطاولة التي وقع أختيارها عليها وجلست تطلب طعامها الذي اختارته بسيطا غير راغبة في تكرار تجربة الامس..
كادت ان تغص بأحدي اللقيمات عندما ظهر قبالتها فجأة منحنيا يهمس بابتسامة مهلكة وأريحية عجيبة كأنها صديقته منذ دهور: - احسنتِ الاختيار، طعام خفيف يصلح لمعدة منهكة، هل يمكنني الجلوس بصحبتك!؟.
تجرعت رشفة ماء محاولة التظاهر بالثبات وهى تتطلع خلفه باحثة عن ظله الأشقر لكنه كان وحيدا وتساءلت بنفسها: - اين ذهبت الشقراء يا ترى!؟
هتفت مدعية اللامبالاة: - انا لا اعرفك لتجالسني، هذا اولا، ثانيا اخشى غضب صديقتك الشقراء، فقد تأتي في اية لحظة..
تجاهل الشطر الأول من إجابتها وهتف مؤكدا في ثقة: - لا تقلقي، هى لا تملك حماقة الشرقيات وتملكهن المزعج..
ما ان هم بالجلوس دون حتى ان تسمح له حتى كانت هي التي تنهض تاركة الطاولة في عجالة ليبادرها متعجبا: - الي اين!؟.
لتتجاهله تاركة اياه على الطاولة وحيدا دونها..