رواية الحب أوس الجزء الأول تأليف منال سالم الفصل السابع
( الجزء الرابع من ذئاب لا تعرف الحب )
تلفتت حولها بنظرات حادة غاضبة وهي تمرق عبر البوابات الرئيسية لمطار القاهرة الدولي، بدت واثقة في خطواتها التي تشق الأرض شقًا أثناء سيرها المتعجل، لفتت الأنظار نحوها بأناقتها الواضحة ولون شعرها الجاذب للأعين رغم كونه مصبوغًا باللون الذهبي، وضعت نظارتها لتحجب عينيها وأكملت سيرها بنفس الثبات الجاد، بدت رنة كعب حذائها قوية تجبر من يمر بجوارها على النظر إليها، لاحظت أعين الضباط المركزة على بياض ساقيها المصبوبتين بحرفية، أظهرت جمودًا عجيبًا وعنجهية لا محدودة خلال تعاملها معهم حتى أنهت كافة المعاملات والإجراءات الرسمية ليصبح متاحًا لها الخروج منه، لوحظ عليها قوة الشخصية من نظراتها وطريقة استقامة جسدها واشتداد كتفاها، حتمًا هي ليست بالخصم السهل، فمنذ مكالمتها الأخيرة مع أخيها وقد انتابتها الهواجس باحتمالية فشله في الثأر لأجل والدهما، جرجرت رغد حقيبة سفرها خلفها، ثم وضع هاتفها المحمول على أذنها لتقول بلهجة قوية:
-أنا وصلت يا أكرم، وخلصت كل الإجراءات.
أتاها صوت زوجها متسائلاً:
-عرفتي يامن إنك رجعتي؟
أجابته على مضضٍ:
-مايستهلش، الواحد غلط من الأول إنه اعتمد عليه، اللي زيه أخره الهلس والديون، مش يتحمل مسئولية زي دي
تابع مضيفًا بلهجة جادة:
-اتكلمي مع المحامي وشوفي هايقولك إيه
علقت عليه قائلة بغموض مثير:
-هاعمل كده، ده غير إني في دماغي ترتيبات معينة للبيه أوس
أكمل بنفس جديته:
-أوكي يا رغد، وأنا هاكون على تواصل معاكي
-اتفقنا، وسلم على الأولاد، باي!
أنهت معه المكالمة متجاهلة تلاحق السائقين من حولها ليحصلوا على تلك الضيفة ذات المظهر الثري، ركزت أنظارها على واحد بعينه مشيرة له:
-تاكسي!
ركض السائق نحوها ليأتي بحقائبها مرحبًا بتهليل:
-ويلكم .. ويلكم
ردت عليه بتأفف ووجه عابس:
-أنا مش أجنبية، وبلاش دوشة
تحرج السائق من ردها الفظ، وضغط على شفتيه ممتعضًا وهو يكمل عمله في صمت، استقلت المقعد الخلفي مشيرة له بسبابتها:
-وديني على فندق (...)
رد بامتثالٍ:
-حاضر يا هانم!
تنفست رغد بعمق معيدة نثر خصلات شعرها المصبوغة للخلف، أشاحت بوجهها للجانب لتحدق في الطريق بنظرات مطولة غامضة مليئة بحقد مضاعف، غمغمت مع نفسها قائلة:
-وريني هاتضحك عليا إزاي يا أوس، وأنا أعرف عنك كل حاجة!
انبعثت أدخنة سيجارته غير البريئة من جوفه وأنفه لتعبق هواء ورشته المقفولة ليسرح بعدها في خيالات جامحة متذكرًا ما اعتاد ممارسته من أفعال مشينة مع رحمة، تلك الفتاة العابثة التي باعت جسدها للهوى من أجل الثراء السريع، سحب منسي نفسًا آخرًا انحبس في صدره فسعل بقوة وهو يلفظ بقاياه خارجه، تمدد باسترخاء على أريكته الجلدية الممزقة ليتجسد طيف وجه هالة أمامه، مسح على صدره وفرك شعره محدثًا نفسه:
-آه لو البت دي طلعت من نصيبي.
للحظة توهم تذليل كافة العقبات لتصير زوجته، بدأ في ترتيب أفكاره رغم رأسه المغيب عن الوعي مسردًا لنفسه ما سيقوم بفعله لاحقًا:
-أمها سهل يضحك عليها بكلمتين، والشقة هتزغلل عينها، ولو جبت للبت حاجة دهب كده هتوافق من غير تفكير
نفث منسي دخان السيجارة من جديد مكملاً الحديث عن طموحاته وآماله في الزواج بها وكأن الأمر بات مفرغًا منه::
-وزيها زي أختها، مش هاتفرق عنها!
رفع بقايا سيجارته نصب عينيه الحمراوتين ليحدق بها متابعًا:
-سيجارة متكلفة .. على أبوها
تنحنح بخشونة وهو يعتدل في جلسته بعد أن سمع تلك الهمهمات النسائية التي لم تكن غريبة عليه بالمرة، استعاد وعيه الذي أوشك على التخدر كليًا مع صوتها المألوف له، تأهبت حواسه ونهض فجأة ليقترب بحذرٍ من تلك الفجوة الخفية الصغيرة في جدار ورشته والتي تجعله يتلصص على من بالخارج دون أن يراه أحد.
توقفت عن السير لتلتقط أنفاسها بعد ذلك المجهود الشاق والوقوف لساعات في طابور يمتد لمسافة لا بأس بها للحصول على المواد الغذائية الضرورية، هدهدت بطة رضيعها بقوة طفيفة ليكف عن البكاء وهي تقول بتبرمٍ:
-الفرن كان زحمة، ياباي الناس مش عاوزة تمشي ولا حد بيراعي حد
ردت عليها هالة بنبرة مرهقة:
-ما هو ده ميعاد صرفية التموين والنقط.
أضافت بطة قائلة بارتياح قليل:
-الحمد لله، أدينا خلصنا من المشوار ده، وجيبنا عيش يكفينا كام يوم
وافقتها الرأي وهي تخفض نظراتها لتتأمل الأكياس المعبأة بالمواد الغذائية:
-ايوه
انتبهت بطة لرنة هاتفها المحمول فضغطت على زر الإيجاب قائلة بصوتها اللاهث:
-ألو، أيوه يا عبده
ثم التفتت ورائها لتجد زوجها يلوح لها قائلاً:
-كويس إني لحقت.
اقترب عبد الحق منهما ملقيًا التحية على هالة التي ردت مبتسمة:
-وعليكم السلام، ازيك يا عبده؟
أجابها بصوته المرهق:
-في نعمة والحمد لله
سألته بطة باستغراب وقد انزوى ما بين حاجبيها:
-إنت خلصت المصلحة بتاعتك
رد بتذمرٍ:
-اتلغت، والدنيا مقشفرة على الآخر
حاولت زوجته التهوين عليه فربتت على كتفه قائلة:
-معلش يا سي عبده، بكرة ربنا يفرجها عليك.
لوى ثغره هاتفًا:
-ربنا كريم، مش يالا بينا بقى
سألته هالة مستفهمة:
-هو إنتو مش هاتطلعوا فوق شوية
اعتذر عبد الحق بلباقة:
-مرة تانية بقى لأحسن جاي همدان وعاوز أنام
وافقته بطة الرأي فأيدته قائلة:
-سلمي يا هالة على أمي وأخواتك، وقوليلها هابقى أجيلها وقت تاني
تفهمت الموقف ببساطة، فاكتفت بالابتسام مرددة:
-ماشي، سلام يا سمسم.
حمل عبد الحق الأكياس البلاستيكية التي تخص زوجته بعد أن طبع قبلة أبوية على طفله الرضيع، ثم أردف قائلاً وهو يشير بيده:
-تعالي ناخد مواصلة من على أول الشارع
-ماشي، مع السلامة يا هالة، خدي بالك من نفسك ومن مذاكرتك
قالتها بطة وهي تقبل أختها من وجنتيها لترد عليها الأخيرة بتنهيدة متعشمة:
-ربنا يسهل
أضافت أختها الكبرى بلهجة آمرة ومحذرة:
-اطلعي على طول، ماتتلكعيش
-حاضر.
ثم لوحت هالة بذراعها مودعة ثلاثتهم وبدأت في السير بتؤدة نحو الزقاق الجانبي لتختصر المسافة لتعود إلى منزلها، انقبض قلبها فجأة وشعرت ببرودة قوية تصيب بشرتها عندما أدركت أنها تسير بمفردها فيه، استجمعت جأشها وواصلت المشي ولكن بخطوات سريعة نسبيًا لتنهيه وهي تحاول طمأنة نفسها بعدم وجود ما يخيفها فيه، خرج من جوفها شهقة عفوية مذعورة حينما ظهر ذلك الشخص فجأة أمامها، تراجعت تلقائيًا للخلف محاولة تبين هويته من بين الظلام الذي غلف المكان، شخصت أبصارها مع رؤيتها لقسماته البغيضة، اهتزت شفتاها متمتمة باسمه:
-منسي.
حك الأخير ذقنه غير الحليقة وفرك جانب عنقه مرددًا بصوته المتحشرج:
-مظبوط يا حلوة
كافحت هالة لتخفي خوفها المبرر منه وتسلحت بقوة زائفة متسائلة بتشنجٍ:
-إنت واقف كده ليه؟ و...
قاطعها متسائلاً بنبرة أجفلت جسدها وجعلتها ترتعد من داخلها:
-بتهربي مني ليه يا غزال؟
توترت على الفور وتلاشت شجاعتها الزائفة مع صوته الذي أفزعها، استمرت في التراجع للخلف دون أن تبعد نظراتها عنه وهي ترد متسائلة بصوتٍ خائفٍ:
-عاوز إيه مني؟
أجابها بأنفاس كريهة تيقنت منها بأنه ليس في وعيه:
-القرب والوصال يا عسل
هددته بلا ترددٍ:
-ابعد أحسنلك بدل ما أصوت وألم عليك الناس
هز رأسه مستنكرًا تفكيرها في ذلك، ثم عقب بعبوسٍ يحمل الوعيد في طياته:
-طب وليه الفضايح بس؟ ده أنا غرضي شريف.
تلفظه بتلك الكلمات الأخيرة جعلها تتأكد من شكوكها التي ساورتها مؤخرًا من كونه يلاحقها لغرض ما في نفسه، هوى قلبها في قدميها وهي تتخيل انتهاء حياتها قبل أن تبدأ مع شخص مقيت مثله، زائغت عيناها، وشحب لون وجهها بخوفٍ مضاعف، استدارت بجسدها عاقدة العزم على العودة من حيث أتت، ولكن ركضًا لتهرب منه، صرخت مفزوعة حينما امتدت قبضته لتمسك بها من ذراعها وتجبرها الوقوف، نهرته بنبرة أقرب للبكاء:
-ابعد عني.
شدد من قبضته عليها محذرًا إياها بصوته الثقيل:
-اهدي كده وخلينا حبايب
توسلته بنحيبٍ وقد أدمعت مقلتاها بقوةٍ:
-سيبني أمشي
تجرأ عليها قاصدًا تلمس وجهها فتقززت من اقترابه المحرم منها وابتعدت برأسها نافرة منه وهي تستعطفه:
-اتقي الله، حرام عليك
رد بزفيرٍ ثقيل مركزًا نظراته الوقحة على تفاصيلها الأنثوية المخفية خلف ثيابها:
-ومش حرام عليكي تجنني بحلاوتك دي.
تضاعف خوفها من جرأته اللا متناهية، ارتجفت أكثر وهي ترجوه:
-خليني أمشي، أنا مش ناقصة فضايح
اكتفى منسي مضطرًا بالنظر إلى مفاتنها متخيلاً إياها بالمثير من الثياب التي تلهب العقول وتؤجج الحواس وتحرك النزعات الذكورية، دق قلبه بقوة وقاوم بصعوبة رغبته في الإقدام على شيء متهور ليرد قائلاً:
-هاسيبك المرادي بمزاجي، بس المرة الجاية هنشرب شرباتنا سوا وإلا...
بتر عبارته عمدًا ليثير في نفسها الخوف والهواجس المرعبة، لم يكن أمامها سوى الإيماء برأسها لتتجنب تهوره الأرعن، أرخى منسي قبضته عنها فاتحًا ذراعه في الهواء كتعبير عن تركه لها، هرولت هاربة من أمامه وهي تكاد لا تشعر بجسدها المنتفض ولا بقدميها، ظلت تردد بأنفاسٍ غير منتظمة:
-الحمد لله يا رب، الحمد لله
تجمدت أنظاره الملتهبة عليها داعكًا صدره بكفه، زفر قائلاً لنفسه بتمنٍ:
-هانت، فاضل على الحلو دقة!
استغلت فرصة انشغال زوجها بمتابعة المزيد من الأعمال المسائية مع أخيها لتتحجج بعذرٍ واهٍ حتى تتمكن من القيام بتلك الزيارة الهامة والسرية، انتهت ليان من الفحص السريري للتأكد مما عرفته مؤخرًا، كانت في حالة توتر ممزوجة بالخوف وهي تتابع ما تفعله الطبيبة النسائية بانتباه تام، ضبطت ثيابها وأنزلت قدميها عن الفراش الطبي ثم اتجهت إلى مكتبها لتجلس في مواجهتها، ابتلعت ريقها وهي تسألها بترددٍ:
-إيه الأخبار؟
أجابتها بابتسامة صغيرة وهي تدون بعض الملحوظات في ورقة بيضاء تحمل اسم وشعار عيادتها:
-مبروك يا مدام، إنتي فعلاً حامل في شهرين
صاحت مستنكرة تلك الحقيقة التي نزلت على مسامعها كالصاعقة:
-إيه، طب إزاي؟
أجابتها ببساطة:
-إرادة ربنا
ردت غير مستوعبة حدوث الأمر بالفعل:
-مش معقول، أنا جوزي كان عنده مشاكل وحاجات تمنع ده!
علقت عليها الطبيبة بلهجة عملية:
-أنا أسفة إن كنت هاتدخل، بس هل جوزك اتعالج أو كان بيتابع مع دكتور أمراض ذكورة؟
صمتت للحظات لتفكر قبل أن تجيبها بترددٍ:
-أيوه، على ما أظن كان بيتابع
اعتلى ثغر الطبيبة ابتسامة مجاملة وهي تضيف:
-يبقى العلاج جاب نتيجة وربنا كرمكم
شردت ليان من جديد لتفكر في الأمر من منظور مختلف، هتفت فجأة بنزق وكأنها تعبر عما يعصف بعقلها من أفكار غير محسوبة العواقب ولكن بصوتٍ مسموع:
-دكتور، ينفع أعمل ... إجهاض؟
ضاقت نظرات الطبيبة لها وتشكلت علامات الاستنكار على صفحة وجهها الرائقة، تابعت ليان مضيفة بهمسٍ:
-أنا مستعدة للتكاليف كلها و...
قاطعتها الأخيرة بصرامةٍ وبلهجة تشوبها الحدة:
-يا مدام حضرتك جيتي عنوان غلط، أنا مش بأعمل النوع ده من العمليات
ردت عليها آملة أن تتمكن من إقناعها وتوضيح وجهة نظرها:
-يا دكتور إنتي مش فاهمة، أنا لسه بأدرس وعندي شغل كتير، مش هاقدر أتحمل مسئولية طفل وأنا مش عارفة أشيل مسئولية نفسي و...
تفهمت الطبيبة حالة الخوف التي اعترتها ووترها بشكلٍ مضاعف، حاولت تهدئتها بشرح ما تمر به قائلة بجدية ولكن بنبرة أقرب للين:
-اهدي يا مدام، الحالة اللي حضرتك فيها دي توتر وقلق بسبب التغيرات الهرمونية في جسمك، لكن صدقيني وقت ما البيبي يكبر جواكي وتحسي بحركته هتتمني تشوفيه وتستني اللحظة اللي يتولد فيها بفارغ الصبر.
وكأنها في عالم آخر لا تعي رفضها للمسألة من البداية، تيقنت ليان أنها لن تساعدها بأي حال من الأحوال، نهضت واقفة لترد بوجهٍ باهت التعبيرات:
-ميرسي يا دكتور، أنا هاتصرف
وقفت الطبيبة لتنظر لها باستغراب، ثم مدت يدها بالورقة المدون عليها بعض الأدوية الضرورية قائلة لها:
-طب مش هاتخدي الروشتة؟ المثبتات مهمة في الفترة الأولى من الحمل و...
قاطعتها ليان بعبوسٍ شديد:
-مش عاوزاها.
بدت كالتائهة وهي تخطو خارج العيادة النسائية، تهدل كتفاها وبهتت ملامحها أكثر مع ازدياد إحساسها بالرهبة مما هي مقبلة عليه، رفض عقلها الإصغاء لصوت المنطق ومصارحة زوجها بمسألة حملها، فضلت أن تخفي عليه تلك الحقيقة التي ربما ستسعده، لكنها ستقلب الموازين رأسًا على عقب بالنسبة لمخططاتها، رددت متسائلة مع نفسها بحيرةٍ:
-هاتصرف إزاي دلوقتي؟!
تأملته بنظرات مطولة وهو يعقد رابطة عنقه دون أن تقاطع ما يفعله بكلمة واحدة، تحركت أنظارها مع حركة يده وهو يمشط شعره، ثم مع نثره لعطره المميز على سترته غير مصدقة أنها بالفعل زوجة لرجل مثله يمتاز بالمهابة والقوة والنفوذ والسلطة رغم الفوارق الطبقية بينهما، لم تدرك تقى أنه كان ينظر لوجهها المتطلع إليه من خلال انعكاس صورتها بالمرآة، توهجت نظراته بوهجٍ متحمسٍ، فهو لم يكن ليحلم بأن يرى ذلك الشغف مقروءًا في حدقتيها بعد كل ما مرا به من تحديات ومعاناة امتزجت بالكثير من الصعاب والذكريات غير المحمودة، تشكل على ثغر أوس ابتسامة عذبة وهو مستمتع بتحديقها فيه، التقت نظراتهما سويًا فخجلت من إمساك عينيه بها، سألته بخفوتٍ وهي تعض على شفتها السفلى:
-إنت نازل؟
أجابها بهدوءٍ:
-أها، عندي شغل مع وكلاء من برا
سألته باهتمامٍ:
-هتتأخر؟
التفت ناحيتها ليتأمل وجهها متسائلاً باستغراب وقد لاح شبح ابتسامة عابثة على شفتيه:
-من امتى الاهتمام ده يا تقى؟
تحرجت من عفويتها التي كشفت عن تعلقها به ثم ردت معللة:
-لأ أنا بسأل عادي
اقترب منها لتتقلص المسافات مضيفًا بتساؤلٍ مهتم:
-تحبي تيجي معايا؟
أجابته بترددٍ وقد أخفضت نظراتها عن التطلع إلى حدقتيه:
-أنا مش بأفهم في شغلك؟
جلس بجوارها ثم مد يده نحو وجهها متلمسًا برقة طرف ذقنها، رفعه إليه قائلاً بإصرارٍ:
-مش لازم، تعالي معايا، وبالمرة نتعشى سوا بعد ما أخلص
هزت رأسها نافية بتوترٍ:
-لالالا، خليني أعدة هنا أحسن
لم يحبذ أوس الضغط عليها فابتسم لها معلقًا:
-زي ما تحبي
همست له فجأة من بين شفتيها بارتباكٍ:
-أوس.
طالعها بنظراتٍ متيمة مرددًا بتنهيدة حارة ومستمتعًا بتلفظها باسمه وكأنه معزوفة خاصة به:
-عيوني
سألته بعد لحظة من الصمت الحائر:
-إنت لسه بتحبني؟
تعقد جبينه معقبًا:
-ده سؤال؟
أجابته مبررة القلق الذي ينتابها من آن لآخر حينما تشرد في تفاصيل حياتهما معًا:
-خايفة يجي يوم وتندم إنك كملت معايا، ساعات بأحس إني دخلت حياتك غلط
وضع أوس إصبعه على شفتيها ليمنعها عن إضافة المزيد من اللغو المزعج، تصلبت تعابيره قائلاً بلهجةٍ صارمة رغم هدوئها:
-متكمليش.
تجمدت عيناها على وجهه المشدود ونظراته التي غاصت في ماضٍ لم يكن بالبعيد عنه، زفر معلقًا بمرارةٍ شبه بائنة:
-أنا كنت الغلط نفسه يا تقى
أشعرتها جملته الأخيرة بتلك النغصة التي ضربت قلبه ولمستها بقوة مؤكدة لها صدق إحساسه، وندمه الكبير، فكلاهما عانا كثيرًا، تابع أوس مضيفًا بهدوء جاد:
-ولو مكونتش قابلتك مكونتش اتغيرت عشانك!
ابتسمت قليلاً، فاستأنف بثباتٍ رغم قسوة ما يبوح به:
-إنتي شوفتي أسوأ ما فيا وأبشعه، وعيشتي معايا حاجات مابحبش أفتكرها لأنها صعب علينا احنا الاتنين!
كان محقًا في ذلك، تأثرت عيناها مع كلماته الصادقة، وزاد لمعانها وهو يكمل بفخرٍ:
-ومع كده ووسط كل ده إنتي طلعتي الحاجة الكويسة اللي جوايا، خليتني واحد تاني خالص غير اللي عرفته واتعودت عليه، وفوق ده كله اديتيني أجمل هدية، بنتنا حياة.
احتضن أوس كفيها بيديه، ضغط عليهما بأصابعه ثم ركز نظره مع عينيها اللاتين تبرقان بوجهه، همس لها مؤكدًا:
-أنا هافضل أحبك لحد آخر نفس في عمري
ألصق كفيها بقلبه متابعًا عن ثقة ودون أن يرتد له طرف:
-وده يشهد على كلامي
ابتسمت بسعادة ظهرت على تعبيراتها أنستها الأوجاع والآلام، أحنى رأسه على رأسها لتشعر بقرب أنفاسه الحارة من بشرتها متسائلاً بخفوتٍ:
-مش هاسمعها منك بقى؟
سألته وهي ترمش بعينيها:
-إيه هي؟
أجابها بغموض وقد تلامست الشفاه:
-الكلمة اللي بأستناها كل يوم
ردت برقةٍ:
-بأحبك
قبل أوس شفتيها بعمقٍ ليبث لها مشاعره التي تشتعل دومًا بقربها منه وبوجودها في حياته، زاد من قوة قبلته ليتراجع بعدها لمسافة معدومة هامسًا لها:
-يا عمري كله
احتضن وجهها الذي تورد بدموية ساخنة بأنامله، داعب بشرتها بإبهاميه، ونظر لها بتمعنٍ قائلاً لها:
-مش هحاول أتأخر برا، هاخلص وأرجعلك، عندي كلام كتير عاوز أقوله ليكي.
أومأت برأسها مرددة:
-ماشي
لم يستطع الابتعاد عن تأثير شفتيها ومذاقهما المثير له، انحنى عليها لينهل منهما قبلة أخرى أشد عمقًا وتأثيرًا على كليهما واعدًا نفسه بالمزيد من المشاعر الحميمية حينما يفرغ من أعماله.
لم تصدق نفسها وهي بالكاد قد استطاعت الوصول إلى منزلها بعد لقاء غير متوقع مع آخر من تتمنى رؤيته، استندت هالة بظهرها على الباب لتلتقط أنفاسها التي انقطعت، تحسست دقات قلبها المتلاحقة بصدرها وهي تغمض عينيها، خطت بقدمين مرتعشتين نحو المطبخ لتضع ما أحضرته به ثم أسرعت بالاختباء داخل غرفتها، لم تبدل ثيابها بل دست نفسها في الفراش وألقت الغطاء على جسدها وكأنها تحتمي به، استغربت والدتها من الحالة المريبة الواضحة عليها، دنت منها وأزاحت الغطاء عن وجهها لتجدها ترتجف بقوةٍ، سألتها بقلقٍ:
-بتترعشي كده ليه يا بت؟ إيه شوفتي عفريت؟!
خشيت هالة من إخبارها بما تعرضت له فتفسر الأمر بصورة خاطئة وربما تلعب الأفكار الشيطانية برأسها فتنهال عليها بالضرب أو حتى تعاود مدح منسي بطريقة تصيبها بالغثيان، ضمت يديها إلى صدرها لتتكور على نفسها وهي ترد بخفوتٍ:
-مافيش حاجة، أنا عاوزة أنام، تعبانة
بدت غير مقتنعة بحجتها تلك فسألتها بإصرار:
-من إيه ياختي؟
أجابتها بتلعثمٍ:
-عندي .. مغص.
علقت عليها بتأفف وهي تمصمص شفتيها:
-ده اللي بأخده منك، وبعدين فين أختك
ردت عليها بحلقٍ جاف مليء بالعلقم المرير:
-رجعت مع عبده لبيتها
وضعت أم بطة إصبعيها أسفل طرف ذقنها متسائلة بفضولٍ:
-هو لحق يخلص المصلحة اللي كان طالعها؟
ردت باقتضاب وهي تسحب الغطاء عليها:
-معرفش، وسيبني أنام الله يكرمك.
نظرت لها والدتها شزرًا وهي تلوي فمها بامتعاضٍ جلي، تركتها بمفردها لتشعر هالة من جديد ببرودة قارصة تصيب أطرافها، أغمضت جفنيها بقوة لتقاوم تلك الذكرى الكريهة، لكنها ما لبثت أن زادت من هلعها، رغمًا عنها بكت بخوف وهي تشعر في قرارة نفسها بهاجس مرعب، بأنها ستكون الضحية القادمة لمطامع أمها ونزوات ذلك العاطل البغيض...!